مما يعد مثلة بنظر الناس) ولا تقتلوا وليدا. أي لأنه لا يقاتل، وهكذا النساء إذا كن لا يقاتلن فلا يجوز قتلهن. وقال بعض المفسرين إن هذه الآية نزلت بعد صلح الحديبية، وعلله بأن الأصحاب خافت أن لا تفي قريش بالمعاهدة وكرهوا أن يقاتلوهم إذا صدوهم عن المسجد الحرام أو الحرم ليرفع عنهم الحرج إذا بدءوهم بالقتال، لكنه بعيد، لأن صلح الحديبية وقع في السنة السادسة، وهذه في السنة الثانية، إلا أنه لا مانع من تطبيق حكمها عليها، إذ يجوز أن تكون آية واحدة لأسباب كثيرة كما مر غير مرة.
قال تعالى «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» أي في أي مكان وجدتموهم وأدركتموهم، وذلك إذا لم ينجع معهم معاملة الرسول لهم باللطف وبدأوكم بالتعرض سواء قاتلوكم أم لا، لأن إقسارهم إياكم على الهجرة يعد تعرضا لقتالكم «وَأَخْرِجُوهُمْ» من ديارهم «مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ» من دياركم لأنهم كافرون مفتونون في دينهم «وَالْفِتْنَةُ» أي الشرك بالله، وإنما سمي فتنة لأن فيه فساد الأرض، ولأنه يؤدي إلى الظلم وجميع الشرور، لذلك عدّت «أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» أي أن قتلكم إياهم دون الكفر الذي هم عليه، لأنه مما يوجب التخليد بالنار، والقتل دون استحلال لا يوجب ذلك، والكفر يخرج صاحبه من الأمة، والقتل لا يخرجه، فثبت أن الفتنة التي هي الشرك بالله والكفر به أشد من القتل «وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ» لما كان مبدأ هذه الآية عام استثنى الله تعالى منه المقاتلة في المسجد الحرام بشرط أن لا يبدءوهم بالقتال فيه «فَإِنْ قاتَلُوكُمْ» فيه فقد زال الحرج عنكم «فَاقْتُلُوهُمْ» فيه أيضا «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء «جَزاءُ الْكافِرِينَ» (١٩١) لأن الجزاء من جنس العمل، ولأن الشر بالشر والبادي أظلم. وقال بعض المفسرين إن الفتنة هنا بمعنى الإخراج من الوطن لأنه أعظم المحن التي يفتتن بها الإنسان وهو أصعب من القتل على النفس لدوام تعبه وبقاء ألمه، وهو وجيه، لكن ما جرينا عليه أوجه، لأن الغربة مهما كانت شاقة على النفس فهي دون القتل الذي فيه عدم الإنسان فضلا عن بقاء أمل الرجوع إليه.
وهذه الآية تشير إلى حادثة الحديبية وهي التي ثبطت عزم الرسول صلّى الله عليه وسلم وصمم على
قتالهم فيها، وبقي هو وأصحابه عازمين جازمين على القتال حتى وقع الصلح بينهم، وهي من قبيل الإخبار بالغيب لأنها نزلت قبل واقعة الحديبية بأربع سنين، ولولاها لما قال صلّى الله عليه وسلم ما قاله في قصة الحديبية الآتية في سورة الممتحنة، وحرض أصحابه على قتالهم عند منعهم لعلهم عدم جواز القتال في المسجد وحرمته في زمن الجاهلية، ولهذا قال بعضهم إنها نزلت في صلح الحديبية، وفي نقضهم هذا الصلح وتعرضهم لأصحاب الرسول. وهذه الآية محكمة أيضا، لأنها تأمر بعدم حل القتال في المسجد إلا لمن قاتل فيه، ولا سند لمن قال بنسخها ونسخ التي قبلها. قال تعالى «فَإِنِ انْتَهَوْا» عن القتال وتركوا الشرك وآمنوا «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما سلف منهم «رَحِيمٌ» (١٩٢) بعباده الذين تابوا وأتابوا إليه بعد عتوهم وعنادهم، ومن رحمته عدم تعجيل عقوبتهم لهذه الغاية. ولما رأى حضرة الرسول أن إمهال المشركين والعفو عنهم واللطف بهم لا يزيدهم إلا كفرا وبغيا وطغيانا طلب من غير طلب أن لا يرضى من مثلهم إلا الإسلام أو القتل، وكان هذا التمني الذي خطر على قلب الرسول مما هو ثابت في علم الله ومقدر نزوله عليه أنزل الله تعالى «وَقاتِلُوهُمْ» أي المشركين، لأن أهل الكتاب عصمهم دينهم وكتابهم الذي فيه شرائع وأحكام إلهية يرجعون إليها وان غيروا أو بدّلوا بعضه، فأمهلهم الله تعالى حرمة لكتابهم وما تمسكوا به من الدين، إلا أنه تعالى إذلالا لهم أمر أخيرا بأخذ الجزية منهم كما سيأتي بعد لعلهم يتدبرون ما في كتبهم من الحق فيتبعونه ويؤمنون بمحمد والقرآن «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» أي أديموا قتالهم واستمروا عليه إلى أن لا يبقى شرك على وجه الأرض، لأن المشركين كفرة لا كتاب لهم كي يؤمل فيهم الرجوع إليه، ولأن بقاءهم على الشرك يزيد في طغيانهم وبغيهم وضررهم على المؤمنين، لأنهم مهما تركوا لا يرجى منهم الرجوع إلى الحق، إذ لا دين لهم يسوقهم على سلوك سبل الرشد، لذلك عليكم بهم حتى يمحو نور الإيمان ظلمة الشرك «وَيَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ» وحده فلا يعبد من دونه شيء «فَإِنِ انْتَهَوْا» عما هم عليه وأسلموا لله وآمنوا برسوله وكتابه «فَلا عُدْوانَ» عليهم
صفحة رقم 145
إذ لا يكون العدوان «إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» (١٩٣) منهم المصرين على كفرهم والذين تابوا وآمنوا فلا سبيل لكم عليهم لأنهم صاروا مثلكم. وهذه الآية محكمة أيضا لأنها في حكم آخر أشمل من الأول كما أن الأول أشمل مما قبله، ولهذا قال بعض المفسرين إن الأولى منسوخة بالثانية، والثانية منسوخة بآية (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) والثالثة هذه منسوخة بآية السيف الآتية، وهو قول ضعيف لا يعول عليه، لأن النسخ رفع الحكم، وهذه الآيات الثلاث حكمهن باق فلا معنى للقول بالنسخ، وغاية ما في الأمر أن يقال آية مطلقة وأخرى مقيدة، والقيد يخصص الشيء ولا يرفع حكمه، وإذا راجعت ما قدمناه في المقدمة والآية ١٠٧ المارة علمت أن لا ناسخ في كتاب الله هذا الناسخ لما قبله، ومن البعيد على الحكيم أن يتابع آيات تكون كل منها ناسخة الأخرى. قال تعالى «الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ» لما كانت الجاهلية تحترم الأشهر الحرم فلا تقاتل فيها ولا تنتقم ممن قاتلها إذا وجدته فيها وقدرت على قتله أيضا تأثما، وبقيت هذه العادة مطردة عندهم إلى نزول هذه الآيات الثلاث دون أن يخرمها أحد، وقد أباح الله تعالى لهم قتال المشركين فيها خلافا لما كانوا عليه وآباؤهم من قبل، فلأجل أن لا يتأثموا من ذلك أنزل الله تعالى هذه الآية كالتفسير للآيات قبلها، أي إذا قاتلوكم بالشهر الحرام فلا تتأثموا من قتالهم فيه بل قاتلوهم فيه أيضا، لأن العداء يرد بمثله بأي مكان كان حرمة للنفس والمال. وقال أكثر المفسرين إنها نزلت في عمرة القضاء لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم خرجوا في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصدهم المشركون ووقع الصلح المشهور بالحديبية، ولما عاد في سنة سبع هو وأصحابه لقضاء تلك العمرة في شهر ذي القعدة أيضا أباح الله لهم في هذه الآية مقاتلتهم فيه إذا هم قاتلوهم كما قاتلوهم سنة ست وصدوهم عن البيت على أنه لم تقع مقاتلة بينهم، بل
وقع تلاحي وهو عبارة عن أخذ ورد وتهديد ووعيد في القتال ومنع من دخول مكة وشذوذ في المكالمة مما يؤدي إلى المقاتلة، وعلى فرض مقاتلتهم فقد أخبرهم الله تعالى في الآية الأولى بقوله (فقاتلوا الذين يقاتلونكم» لذلك فإن ما جرينا عليه أولى، ولأن عمرة القضاء هذه لم تكن عند نزول هذه الآية كما علمت من تاريخها.
مطلب المقابلة بالمثل وفضل العفو والإنفاق في سبيل الله والإحسان:
ثم قال تعالى «وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» مساواة ومماثلة كما فسر بقوله «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ» بقتال أو غيره «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ» قابلوه بالاعتداء سواسية على حد قوله تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) الآية ٤٠ من الشورى في ج ٢، ولهذا سماء اعتداء «بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» فإن زدتم عليه فقد ظلمتم، وإن نقصتم فقد عفوتم وصفحتم، ولأن يخطىء الإنسان بالعفو أحسن من أن يخطىء في القصاص، لأنه إذا جاوز استيفاء حقه فقد ظلم كما أن الخطأ في التبرئة خير من الخطأ في الحكم لأنه مما يوجب التوفي منه والابتعاد عنه «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الناس من مجاوزة حقوقكم إلى ظلم الغير «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (١٩٤) الذين يراعون في أمورهم حدود الله وحقوق الناس، ولا يتعدون في الانتقام فهؤلاء يكونون في حراسة الله تعالى وهو يصلح شأنهم بالنصر والتمكين، وإنما جمع الحرمات لأن القتال قد يجتمع فيه حرمات ثلاث حرمة الشهر إذا كان من الأشهر الحرم وحرمة البلد إذا كان في مكة وحرمة المتقاتلين إذا كانوا محرمين، أي إذا قاتلوكم في إحدى هذه الحالات الثلاث، أو حال اجتماعها، فقاتلوهم أنتم أيضا، لأن مقاتلتكم قصاص لمقاتلتهم، ولا إثم عليكم في ذلك. هذا، ولما أمر الله تعالى بالجهاد وكان أهم لوازمه المال أنزل الله جل شأنه «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي الجهاد والإنفاق صرف المال في وجوه البر، وأحسن أنواعه الجهاد ولا سيما عند الحاجة مثل ذلك الوقت، والذي يخصص المراد بهذا الإنفاق للجهاد مجيء هذه الآية بعد ذكره، على أنه مطلوب في الجهاد وغيره، ولكنه في الجهاد وزمن الحاجة أفضل وأكثر أجرا. والمراد بقوله جل قوله «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» التي هي التمسك بالأموال وترك الغزو في سبيل الله وعدم معاونة الغزاة بالمال لأنه يسبب تسلط العدو عليكم وإهلاككم. روى البخاري، ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات.
وأخرج الترمذي والنسائي عن خزيم بن فانك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أنفق
نفقة في سبيل الله كتب له سبعمئة ضعف. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق وروى البخاري عن حذيفة قال: أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.
قال نزلت في النفقة، أي لا تمسكوا عن الإنفاق خوف الفقر فتقولوا إن أنفقنا يذهب مالنا ونهلك، بل أنفقوا «وَأَحْسِنُوا» في الإنفاق والجهاد وغيره ولا تسرفوا بالنفقة ولا تبخلوا فتقتروا فيها على أنفسكم ومن تلزمكم نفقته الأقرب فالأقرب، لأنه صلة ونفقة وصدقة، ثم الأبعد فالأبعد عن طيب نفس وانشراح صدر، وهذا هو معنى الإحسان بالنفقة «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ١٩٥» ويزيدهم من فضله ويثيبهم على إحسانهم. روى سلمة عن أسلم بن عمران قال كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفّا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس سبحان الله يلقي بنفسه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال أيها الناس إنكم تؤولون هذه الاية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لمّا أعزّ الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصريه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه هذه الآية يردّ علينا ما قلنا، وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم في أصل صور قسطنطينة، فهم يتبركون في قبره فيزورونه احتراما، ويستشفعون به إلى الله في حوائجهم ويستسقون به حتى الآن، رحمه الله رحمة واسعة. قال تعالى «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» بأن تأتوا بجميع أركانها وشروطها وواجباتها وسننها ومندوباتها وتجتنبوا مكروهاتها وتبدءوها بالمال الحلال والنيّة الخالصة، وتختموها بالعزم على اجتناب ما نهى الله عنه وتكملوها «لِلَّهِ» وحده لا لسمعة ولا لرياء ولا لتجارة محضة. واعلم أن أركان الحج خمسة: الإحرام من المحل المعروف كرابغ والجحفة مثلا، والوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة جزءا من النهار وجزءا
من ليلة النحر، والطواف بالبيت للزيارة، والسعي بين الصفا والمروة، وحلق الرأس أو تقصيره. وأركان العمرة أربعة: الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، وبهذه يتم كل من الحج والعمرة إذا لم يعقكم عائق «فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ» ومنعتم من قبل عدو أو وحش أو حبس أو مرض أو عرضت لكم حاجة لا غنى لكم عنها تمنعكم من الحج أو من إكماله أو نفدت نفقتكم أو ضاعت ولم تجدوا من تستدينون منه فتحللتم من حجكم وعمرتكم «فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» عليكم وهو شاة لأن أعلى الهدي بدنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة يذبحها في المحل الذي أحصر فيه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية فيها، ولما أخرج البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحلق رأسه هناك. وقال أبو حنيفة:
يبعث بالهدي إلى الحرم ويواعد من يذبحه هناك على وقت مخصوص، حتى إذا غلب ظنه على وصوله يحل في ذلك استدلالا بقوله تعالى «وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» الذي يجب أن يذبح فيه عادة. وقال الشافعي وأحمد ومالك: يذبحه حيث أحصر مستدلين بما تقدم. وهذا إرشاد من الله تعالى إلى عباده لتدارك ما قد يعتريهم من العوارض المتوقعة المخلة بالحج، ومنها ما جاء في قوله «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً» وهذا بيان حكم الإخلال بنوع آخر غير الإحصار كجراح وبالأخرى كل ما يتوجع منه بدليل قوله «أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ» كصداع ودوخة أو قمل وغيره واحتاج إلى الحلق حال الإحرام فحلق رأسه «فَفِدْيَةٌ» عليه جزاء ذلك «مِنْ صِيامٍ» أقله ثلاثة أيام «أَوْ صَدَقَةٍ» أقلها إطعام عشرة مساكين كل واحد نصف صاع «أَوْ نُسُكٍ» ذبيحة أقله شاة، وأو هنا للتخيير فيفعل أيها شاء وهو الفدية التي يريدها الله تعالى وكل هدي أو إطعام يلزم المحرم فهو لمساكين الحرم إلا هدي المحصر فلأهل المحل الذي أحصر فيه على أحد القولين المتقدمين، روى البخاري، ومسلم عن كعب بن عجرة قال:
أتى عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر لي والقمل يتناثر على وجهي، فقال أيؤذيك هوام رأسك؟ قال قلت نعم يا رسول الله، قال فاحلق وصم ثلاثة
أيام وأطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة، لا أدري بأي ذلك بدأ. وفي رواية قال فيّ نزلت هذه الآية «فَإِذا أَمِنْتُمْ» من خوفكم وبرئتم من مرضكم وزال مانعكم من الإحصار الذي عاقكم «فَمَنْ تَمَتَّعَ» انتفع بالتقرب إلى الله تعالى «بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ» أي قبل انتفاعه بتقربه بالحج في أشهره أو من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج مجددا.
وهذا حكم آخر لغير المحصور إذا أراد التمتع وهو الإحرام أولا بالعمرة، وبعد أن يكملها يتحلل ثم يحرم بالحج «فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» عليه أي شاة، ويسمى هذا الهدي هدي المتعة «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» هديا يذبحه لضيق ذات يده «فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» عليه «فِي الْحَجِّ» في وقته وأشهره بين إحرام العمرة وإحرام الحج، والأحب أن يصوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة، وإن شاء فرقها، ولا يصح صوم يوم النحر ولا أيام التشريق «وَسَبْعَةٍ» أيام عليه أيضا «إِذا رَجَعْتُمْ» نفرتم وفرغتم من أعمال الحج. ولما كان النفر أو الفراغ سببا للرجوع أطلق الرجوع عليها على طريق إطلاق المسبب وإرادة السبب الخاص وهو النفر والفراغ، وله أن يصوما بعد الرجوع إلى أهله «تِلْكَ» الثلاثة أيام والسبعة «عَشَرَةٌ كامِلَةٌ» قائمة مقام الهدي الذي لزمكم ذبحه بسبب تحليلكم الإحرام بين العمرة والحج «ذلِكَ» الحكم الذي بيّن خاصّ «لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» لأن أهله وأهل مكة وما يشتمل عليها من المواقيت إذا تمتعوا أو قرنوا فلا هدي عليهم، لأنهم لا يجب عليهم الإحرام من الميقات كسائر أهل المدن الأخرى، لهذا فإن إقدامهم على التمتع لا يوجب خلال في حجهم، بل هذا على أهل الأرياف والبلاد الخارجة عن حدود الحرم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فيما يأمركم وينهاكم عنه في الحج وغيره «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ١٩٦» على من تهاون بحدوده وخالف أوامره، ومن علم أنه كذلك صده علمه عن كل ما نهى الله عنه، وقد جاء لفظ الجلالة مع اكتفاء الإشارة إليه بالضمير لتقدم ذكره، لإدخال الروعة على من تحدثه نفسه بالمخالفة، ولتربية المهابة في قلب غيره، ولإلهاب قلوب الطائعين للإخلاص بطاعته. قال تعالى «الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ»
مبدؤها شوال وذو القعدة، ومنتهاها اليوم العاشر من ذي الحجة، وكماله الثالث عشر منه، وجمعت الأشهر، مع أن أقل الجمع ثلاث، وهنا شهران وبعض الثالث، لأن الشهر الذي أوله من أشهر الحج فآخره كذلك، لأن الحاج لا يرجع إلى أهله قبل نهايته غالبا لاشتغاله بالزيارة، أو لأن اسم الجمع يطلق على ما وراء الواحد، قال تعالى (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) الآية ٥ من سورة التحريم الآتية، وقال تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية ٤٦ من سورة النمل في ج ١ وفيهما ما يرشدك لمثله، على أن السفر سيكون بالطائرات المحدثة، وعليه قد يكون الحج والزيارة بأسبوع واحد، والله أعلم. وجاء في الآية الأولى (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أي الأهلة بلفظ عام، وهذه الآية بلفظ خاص، والخاص مقدم ومفسر له، وتفيد هذه الجملة أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر المذكورة، لأن الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح، فالخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها قائمة مقام الركعتين من الظهر حكما، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة قبل وقته أولى، ولأن الإحرام لا يبقى صحيحا لأداء الحج إذا ذهب وقته، فلأن لا ينعقد قبل الوقت أولى، لأن البقاء أسهل من الابتداء، ولا يرد قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) هنا، لأن هذه الآية أخصّ منها، تدبر. واعلم أن الله تعالى فرض الحج على هذه الأمة دون غيرها واختلف في زمن فرضه والصحيح أنه سنة ست من الهجرة كما ذكره الطحاوي في حاشيته على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح.
مطلب في المحافظة على الأدب في الحج ولزوم التقوى فيه وجواز البيع والشراء في الموسم ودوام ذكر الله تعالى:
هذا، وما قاله تعالى «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ» بأن ألزم نفسه به بالنية والإحرام لزمه الحج، أما إذا فرض على نفسه الحج في غيرها بأن نوى أو أحرم فلا يلزمه، لأنه في غير وقته، ومن ألزم نفسه الحج فيها «فَلا رَفَثَ» أي يجب عليه أن لا يرفث، وهو هنا كناية عن ذكر الجماع ودواعيه في محضر النساء «وَلا فُسُوقَ» أي خروج عن طاعة الله فيدخل النهى في هذه الكلمة عن جميع المعاصي
«وَلا جِدالَ» مخاصمة مطلقة في قليل أو كثير بسبب وبلا سبب لإطلاق النهي عنها «فِي الْحَجِّ» في زمنه كله ومكانه جميعه، لأن الذنوب تضاعف هناك، كما أن الحسنات تضاعف أيضا لما ورد أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل ألف صلاة.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه. «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ» ويثيبكم عليه وفي هذه الجملة حث الحاج على عمل الخير وتحذير شديد من فعل الشر، وفيها إرشاد إلى البر والوفاق والآداب الحسنة والأخلاق العالية، وإيماء بملاطفة الغير ولين الجانب، وإشارة إلى اجتناب جميع ما يعد شيئا، والإقدام على سائر ما يعد حسنا ورمز عن التباعد عن كل ما لا يرضى الله به، وفعل ما رغّب فيه، بدلالة قوله «وَتَزَوَّدُوا» عباد الله من أعمال الخير والأفعال الصالحة ومن النفقة أيضا لإطعام المحتاجين والبائسين والتصدق على الفقراء والمساكين، واحذروا أن تقصروا في حمل النفقة لأنفسكم على الأقل بما يكفيكم لذهابكم وإيابكم لئلا تكونوا عالة على غيركم، لأن الله لم يكلّف غير المستطيع إلى زيارة حرمه، وكما يطلب التزود من الحاج في الزاد يطلب منه التزود في عمل الخير «فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» عن كل محظور، ومنه التثقيل على الناس بالاستطعام وخير الزاد الموصل إلى العبادة في الدنيا والآخرة. وبعد أن حث جل شأنه على البر الشامل إثر تحذيره عن الشر العام أرشد عباده بأن يكون قصدهم بحجهم وعملهم ونفقتهم رضاه فقال «وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ» (١٧٩) خصهم بالذكر لأنهم يعلمون حقائق الأمور، قال الأعشى في هذا المعنى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى | ولا قيت بعد الموت من قد تزودا |
ندمت على أن لا تكون كمثله | وأنك لم ترصد كما كان أرصدا |
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا | ندمت على التفريط في زمن البذر |
وريحا في مواسم الحج، روى البخاري عن ابن عباس قال كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا أن يتجروا في المواسم كما كانوا قبلا فنزلت هذه الآية. الحكم الشرعي: تباع التجارة في موسم الحج إن لم تحدث نقصا في أعماله، والأولى تركها لغير المحتاج ليتجرّد للعبادة. فيا أيها المؤمنون إذا أحرمتم ودخلتم مكة شرفها الله وطفتم طواف القدوم وخرجتم إلى عرفات يقول الله تعالى لكم «فَإِذا أَفَضْتُمْ» دفعتم ونفرتم بعد إكمال وقوفكم «مِنْ عَرَفاتٍ» بأن وجدتم فيها في جزء من نهارها وجزء من ليلة العيد، لأن أول الوقوف من زوال الشمس يوم عرفة، وآخره طلوع الفجر من يوم النحر، ووقت الإفاضة من المزدلفة من بعد غروب شمس يوم عرفه إلى طلوع فجر يوم النحر، ويؤخر صلاد المغرب بسبب الازدحام وقت النفر ليجمعها مع صلاة العشاء بالمزدلفة، كما أنه يقدم عصر يوم عرفه فيصله مع ظهره بسبب الانشغال بالخطّ والترحال، ولا يجوز الجمع في غير هذين الوقتين في مذهب أبي حنيفة، إذ لم يثبت عنده في غيرهما، خلافا للإمام الشافعي إذ يجوز عنده لجمع تقديما وتأخيرا، مطلقا في السفر وفي الحضر لمرض أو لحاجة ماسة كالخوف والمطر، ولكل وجهة، روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال: دفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب (بين مزدلفة وعرفات) نزل قبال ثم توضّأ (أي استنجى) ولم يسبغ الوضوء، فقلت الصلاة يا رسول الله، فقال الصلاة أمامك، ثم ركب، فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلّى المغرب ثم أناخ كلّ إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء، فصلّى ولم يصل بينهما شيئا. وجواب إذا الشرطية «فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ» في المزدلفة وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمى عرفة إلى وادي محسر، والمأزمان والوادي ليسا من المشعر الحرام، وسميت مزدلفة لأن الناس ينزلونها زلف الليل أي أوائله، وتسمى جمعا لأنهم يجمعون فيها المغرب والعشاء، وهذه التسمية الأخيرة بعد الإسلام إذ لا صلاة قبله تجمع فيه. والمأزمان هما المضيق بين جمع وعرفة، ويوجد مأزمان أيضا بين مكة ومنى، والمراد الأولان، وكل مضيق يطلق عليه مأزم. والمراد
صفحة رقم 153
بذكر الله تعالى دوام الدعاء بالتلبية والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. روى البخاري عن ابن عمرو بن ميمون قال: قال عمر كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع أي المزدلفة حتى تطلع الشمس، وكانوا يقولون أشرق بثير (جبل بمكة تشرق عليه الشمس فيرونها عليه من المزدلفة ويقولون بعده حتى نغير أن ندفع إلى النحر) فخالفهم النبي صلّى الله عليه وسلم فأفاض قبل طلوع الشمس. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن أسامة بن زيد كان رديف النبي صلّى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، وكلاهما قال لم يزل النبي صلّى الله عليه وسلم يلبي حتى يرمي جمرة العقبة.
وروى جابر عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما صلّى الفجر بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام (وهو جبل يقف عليه الإمام ويسمى قزح) دعا فيه، كبر وهلل، ولم يزل واقفا حتى أسفر الفجر «وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ» لدينه الحق وشرعه الصدق ومناسك حجه، وأكثروا من الدعاء والتكبير والتهليل «وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ» قبل هدى الله لكم على يد رسوله «لَمِنَ الضَّالِّينَ» (٩٨١) عن طريق السداد تائهين في سبيل العناد، ثم ألمع إلى وجوب الوقوف بعرفات، فقال جل قوله «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ» من عرفات، وقد أشار إلى الوقوف بمزدلفة أيضا، إلا أنه ليس على طريق الوجوب وجيء بثم لتفاوت ما بين الإفاضتين، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:
كانت قريش ومن دان بدينها يقعون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس (لتشددهم في دينهم) وكانت سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات فيقف فيها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا)، وروى البخاري ومسلم عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سئل أسامة بن زيد وأنا جالس كيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع، قال كان يسير العنق (نوع من السير أشد من المشي) فإذا وجد فجوة (فرجة) نصّ أي أسرع في مشيه بأقصى وسع ناقته. وروى البخاري عن ابن عباس أنه دفع مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبي صلّى الله عليه وسلم وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع (السير السريع الشديد)