آيات من القرآن الكريم

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜﰝﰞﰟﰠﰡ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ

لقرينة ذكر الأمرين فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهم ما قد سلف، واستدل به في البحر على قبول توبة قاتل العمد إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل، وقد أخبر سبحانه أنه يقبل التوبة منه وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ عطف على قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ والأول مسوق لوجوب أصل القتال، وهذا لبيان غايته، والمراد من «الفتنة» الشرك على ما هو المأثور عن قتادة والسدي وغيرهما، ويؤيده أن مشركي العرب ليس في حقهم إلا الإسلام أو السيف لقوله سبحانه تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح: ١٦] وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ أي خالصا له كما يشعر به اللام، ولم يجىء هنا كلمة- كله- كما في آية الأنفال لأن ما هنا في مشركي العرب، وما هناك في الكفار عموما فناسب العموم هناك وتركه هنا فَإِنِ انْتَهَوْا تصريح بمفهوم الغاية فالمتعلق الشرك- والفاء- للتعقيب فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه، والتقدير فَإِنِ انْتَهَوْا وأسلموا- فلا تعتدوا- عليهم لأن «العدوان على الظالمين» والمنتهون ليسوا بظالمين، والمراد نفي الحسن والجواز لا نفي الوقوع لأن «العدوان» واقع على غير الظالمين، والمراد من «العدوان» العقوبة بالقتل، وسمي القتل عدوانا من حيث كان عقوبة- للعدوان- وهو الظلم كما في قوله تعالى:
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠] وحسن ذلك لازدواج الكلام والمزاوجة هنا معنوية ويمكن أن يقال سمي جزاء الظلم ظلما لأنه وإن كان عدلا من المجازي لكنه ظلم في حق الظالم من عند نفسه لأنه ظلم بالسبب لإلحاق هذا الجزاء به وقيل: لا حذف والمذكور هو الجزاء على معنى فلا تعتدوا على المنتهين إما بجعل فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ بمعنى- فلا عدوان على غير الظالمين- المكنى به عن المنتهين، أو جعل اختصاص العدوان بالظالمين كناية عن عدم جواز العدوان على غيرهم وهم المنتهون، واعترض بأنه على التقدير الأول يصير الحكم الثبوتي المستفاد من القصر زائدا، وعلى التقدير الثاني يصير المكنى عنه من المكنى به، وجوز أن يكون المذكور هو الجزاء ومعنى الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن حد حكم القتال، كأنه قيل:
فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى المتجاوزين عما حده الله تعالى للقتال وهم المتعرضون للمنتهين، ويؤول المعنى إلى أنكم إن تعرضتم للمتقين صرتم ظالمين وتنعكس الحال عليكم- وفيه من المبالغة في النهي عن قتال المنتهين ما لا يخفى- وذهب بعضهم إلى أن هذا المعنى يستدعي حذف الجزاء، وجعل المذكور علة له على معنى فَإِنِ انْتَهَوْا فلا تتعرضوهم لئلا تكونوا ظالمين فيسلط الله عليكم من يعدو عليكم لأن- العدوان- لا يكون إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أو فَإِنِ انْتَهَوْا يسلط عليكم من يعدو عليكم على تقدير تعرضكم لهم لصيرورتكم ظالمين بذلك، وفيه من البعد ما لا يخفى فتدبر.

صفحة رقم 472

الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة قتالا خفيفا بالرمي بالسهام والحجارة، فاتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه فكرهوا أن يقاتلوهم لحرمته. فقيل: هذا الشَّهْرُ الْحَرامُ بذلك، وهتكه بهتكه فلا تبالوا به وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أي الأمور التي يجب أن يحافظ عليها ذوات قِصاصٌ أو مقاصة، وهو متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق، كأنه قيل: لا تبالوا بدخولكم عليه عنوة، وهتك حرمة هذا الشهر ابتداء بالغلبة، فإن الْحُرُماتُ يجري فيها- القصاص- فالصد قصاصه العنوة فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فذلكة لما تقدمه، وهو أخص مفادا منه لأن الأول يشمل ما إذا هتك حرمة الإحرام والصيد والحشيش مثلا بخلاف هذا، وفيه تأكيد لقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ولا ينافي ذلك فذلكيته معطوفا- بالفاء- والأمر للإباحة- إذ العفو جائز- و «من» تحتمل الشرطية والموصولية، وعلى الثاني تكون- الفاء- صلة في الخبر- والباء- تحتمل الزيادة وعدمها، واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح واستدل بها أيضا على أن من غصب شيئا وأتلفه يلزمه رد مثله، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة- كما في ذوات الأمثال- وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له وَاتَّقُوا اللَّهَ في الانتصار لأنفسكم وترك الاعتداء بما لم يرخص لكم فيه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالنصر والعون وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عطف على قاتلوا أي وليكن منكم إنفاق ما في سبيله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ بترك الغزو والإنفاق فيه، فهو متعلق بمجموع المعطوف والمعطوف عليه نهيا عن ضدهما تأكيدا لهما، ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحد- عن أبي عمران- قال: كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم فحمل رجل من المسلمين حتى دخل فيهم، فقال الناس: ألقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معاشر الأنصار، إنا لما أعز الله تعالى دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله تعالى قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ما يرد علينا ما قلنا وَأَنْفِقُوا إلخ، فكانت التَّهْلُكَةِ الإقامة في الأموال وإصلاحها، وترك الغزو. وقال الجبائي: التَّهْلُكَةِ الإسراف في الإنفاق، فالمراد بالآية النهي عنه بعد الأمر بالإنفاق تحريا للطريق الوسط بين الإفراط والتفريط فيه، وروى البيهقي في الشعب- عن الحسن- أنها البخل لأنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد فيكون النهي مؤكدا للأمر السابق، واختار البلخي أنها اقتحام الحرب من غير مبالاة، وإيقاع النفس في الخطر والهلاك، فيكون الكلام متعلقا ب قاتِلُوا نهيا عن الإفراط والتفريط في الشجاعة، وأخرج سفيان بن عيينة.
وجماعة عن البراء بن عازب أنه قيل له: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ هو الرجل يلقى العدو فيقاتل حتى يقتل، قال: لا، ولكن هو الرجل يذنب الذنب فيلقي بيديه فيقول: لا يغفر الله تعالى لي أبدا- وروي مثله عن عبيدة السلماني- وعليه يكون متعلقا بقوله سبحانه: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهو في غاية البعد، ولم أر من صحح الخبر عن البراء رضي الله تعالى عنه سوى الحاكم- وتصحيحه لا يوثق به- وظاهر اللفظ العموم- والإلقاء- تصيير الشيء إلى جهة السفل وألقى عليه مسألة مجاز، ويقال لكل من أخذ في عمل ألقى يديه إليه وفيه، ومنه قول لبيد في الشمس:

حتى إذا «ألقت» يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها
وعدي- بإلى- لتضمنه معنى الإفضاء أو الإنهاء- والباء- مزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي، لأن- ألقى- يتعدى بنفسه كما في فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ [الشعراء: ٤٥] وزيادتها في المفعول لا تنقاس، والمراد- بالأيدي-

صفحة رقم 474

الأنفس مجازا، وعبر بها عنها لأن أكثر ظهور أفعالها بها، وقيل: يحتمل أن تكون زائدة- والأيدي- بمعناها، والمعنى لا تجعلوا التَّهْلُكَةِ آخذة بأيديكم قابضة إياها، وأن تكون غير مزيدة- والأيدي- أيضا على حقيقتها ويكون المفعول محذوفا أي لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أنفسكم إِلَى التَّهْلُكَةِ وفائدة ذكر- الأيدي- حينئذ التصريح بالنهي عن الإلقاء إليها بالقصد والاختيار، والتَّهْلُكَةِ مصدر كالهلك والهلاك، وليس في كلام العرب مصدر على تفعلة- بضم العين- إلا هذا في المشهور، وحكى سيبويه عن العرب- تضره وتسره- أيضا بمعنى الضرر والسرور، وجوز أن يكون أصلها- تهلكة بكسر اللام- مصدر هلك مشددا كالتجربة والتبصرة فأبدلت- الكسرة ضمة- وفيه أن مجيء تفعلة- بالكسر- من فعل المشدد الصحيح الغير المهموز شاذ، والقياس تفعيل وإبدال- الكسرة بالضم من غير علة- في غاية الشذوذ، وتمثيله بالجوار- مضموم الجيم- في جوار مكسورها- ليس بشيء- إذ ليس ذلك نصا في الابدال لجواز أن يكون بناء المصدر فيه على فعال- مضموم الفاء شذوذا- يؤيده ما في الصحاح جاورته مجاورة وجوارا وجوارا- والكسر أفصح، وفرق بعضهم بين التَّهْلُكَةِ والهلاك بأن الأول ما يمكن التحرز عنه، والثاني ما لا يمكن، وقيل: الهلاك مصدر والتَّهْلُكَةِ نفس الشيء المهلك، وكلا القولين خلاف المشهور، واستدل بالآية على تحريم الإقدام على ما يخاف منه تلف النفس، وجواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين وَأَحْسِنُوا أي بالعود على المحتاج- قاله عكرمة- وقيل: أحسنوا الظن بالله تعالى وَأَحْسِنُوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ولعله أولى.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ويثيبهم وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي اجعلوهما تامين إذا تصديتم لأدائهما لوجه الله تعالى فلا دلالة في الآية على أكثر من وجوب الإتمام بعد الشروع فيهما وهو متفق عليه بين الحنفية والشافعية رضي الله تعالى عنهم، فإن إفساد الحج والعمرة مطلقا يوجب المضي في بقية الأفعال والقضاء، ولا تدل على وجوب الأصل، والقول بالدلالة بناء على أن الأمر- بالإتمام- مطلقا يستلزم الأمر بالأداء لما تقرر من أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب- ليس بشيء- لأن الأمر بالإتمام يقتضي سابقية الشروع فيكون الأمر بالإتمام مقيدا بالشروع وادعاء أن المعنى ائتوا بهما حال كونهما تامين مستجمعي الشرائط والأركان، وهذا يدل على وجوبهما لأن الأمر ظاهر فيه، ويؤيده قراءة «وأقيموا الحج والعمرة» ليس بسديد. «أما أولا» فلأنه خلاف الظاهر وبتقدير قبوله في مقام الاستدلال يمكن أن يجعل الوجوب المستفاد من الأمر فيه متوجها إلى القيد- أعني تامين- لا إلى أصل الإتيان كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «بيعوا سواء بسواء»
«وأما ثانيا» فلأن الأمر في القراءة محمول على المعنى المجازي المشترك بين الواجب والمندوب- أعني طلب الفعل- والقرينة على ذلك الأحاديث الدالة على استحباب العمرة،
فقد أخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن ماجة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «الحج جهاد والعمرة تطوع»
وأخرج الترمذي وصححه- عن جابر- أن رجلا سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن العمرة، أواجبة هي؟ قال: «لا، وأن تعتمروا خير لكم»
ويؤيد ذلك أن ابن مسعود صاحب هذه القراءة قال فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد: «الحج فريضة والعمرة تطوع» وأخرج ابن أبي داود في المصاحف- عنه أيضا- أنه كان يقرأ ذلك ثم يقول: والله لولا التحرج أني لم أسمع فيها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا لقلت: إن العمرة واجبة مثل الحج، وهذا يدل على أنه رضي الله تعالى عنه لم يجعل الأمر بالنسبة إليها للوجوب لأنه لم يسمع شيئا فيه- ولعله سمع ما يخالفه- ولهذا جزم في الرواية الأولى عنه بفرضية الحج واستحباب العمرة، وكأنه لذلك حمل الأمر في قراءته على القدر المشترك الذي قلناه لا غير بناء على امتناع استعمال المشترك في معنييه وعدم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز والميل إلى عدم تقدير فعل موافق للمذكور يراد به الندب، نعم لا يعد ما ذكر صارفا

صفحة رقم 475

إلا إذا ثبت كونه قبل الآية، أما إذا ثبت كونه بعدها فلا لأنه يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد لما أن الأمر ظاهر في الوجوب، وليس مجملا في معانيه على الصحيح حتى يحمل الخبر على تأخير البيان- على ما وهم- والقول- بأن أحاديث الندب سابقة ولا تصرف الأمر عن ظاهره بل يكون ذلك ناسخا لها- سهو ظاهر لأن الأحاديث نص في الاستحباب، والقرآن ظاهر في الوجوب فكيف يكون الظاهر ناسخا للنص، والحال أن النص مقدم على الظاهر عند التعارض. ثم إن هذا الذي ذكرناه- وإن لم يكن مبطلا لأصل التأييد إلا أنه يضعفه جدا، وادعى بعضهم أن الأحاديث الدالة على استحباب العمرة معارضة بما يدل على وجوبها منها، فقد
أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت»
وأخرج أبو داود والنسائي أن رجلا قال لعمر: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعا فقال: هديت لسنة نبيك، فإن هذا يدل على أن الإهلال بهما طريقة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأن الاستدلال بما حكاه الصحابي من سنته عليه الصلاة والسلام يكون استدلالا بالحديث الفعلي الذي رواه الصحابي، والقول بأن- أهللت بهما- جملة مفسرة لقوله وجدت فيجوز أن يكون الوجوب بسبب الإهلال بهما فلا يدل الحديث على الوجوب ابتداء ليس بشيء لأن الجملة مستأنفة كأنه قيل: فما فعلت؟ فقال: أهللت فيدل على أن الوجدان سبب الإهلال دون العكس لأن مقصود السائل السؤال عن صحة إهلاله بهما فكيف يقول وجدتهما مكتوبين لأني أهللت بهما فإنه إنما يصح على تقدير علمه بصحة إهلاله بهما، وجواب عمر رضي الله تعالى عنه بمعزل عن وجوب الإتمام لأن كون الشروع في الشيء موجبا لإتمامه، لا يقال فيه إنه طريقة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بل يقال في أداء المناسك والعبادات، ويؤيد ذلك ما وقع في بعض الروايات- فأهللت- بالفاء الدالة على الترتب، وما ذكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه معارض بما روي عنه من القول بالوجوب وبذلك
قال علي كرم الله تعالى وجهه وكان يقرأ: وأقيموا أيضا كما رواه عنه ابن جرير وغيره،
وكذا ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم انتهى. والإنصاف تسليم تعارض الأخبار، وقد أخذ كل من الأئمة بما صح عنده والمسألة من الفروع، والاختلاف في أمثالها رحمة وإن الحق أن الآية لا تصلح دليلا للشافعية ومن وافقهم كالإمامية علينا، وليس فيها عند التحقيق أكثر من بيان وجوب إتمام أفعالهما عند التصدي لأدائهما وإرشاد الناس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المخلة بذلك من الإحصار ونحوه من غير تعرض لحالهما من الوجوب وعدمه، ووجوب الحج مستفاد من قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: ٩٧] ومن ادعى من المخالفين أنها دليل له فقد ركب شططا وقال غلطا كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد،
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه إتمام الحج والعمرة لله أن تحرم بهما من دويرة أهلك، ومثله عن أبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما عن الآخر وأن يعتمر في غير أشهر الحج وقيل: إتمامهما أن تكون النفقة حلالا، وقيل: أن تحدث لكل منهما سفرا، وقيل: أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ونحوها، وقرىء «إلى البيت، وللبيت» والأول مروي عن ابن مسعود، والثاني عن عليّ كرم الله تعالى وجهه فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ مقابل لمحذوف أي هذا إن قدرتم على إتمامهما والإحصار والحصر كلاهما في أصل اللغة بمعنى المنع مطلقا، وليس الحصر مختصا بما يكون من العدو، والإحصار بما يكون من المرض، والخوف- كما توهم الزجاج- من كثرة استعمالهما كذلك فإنه قد يشيع استعمال اللفظ الموضوع للمعنى العام في بعض أفراده، والدليل على ذلك أنه يقال: حصره العدو وأحصره كصده وأصده فلو كانت النسبة إلى العدو معتبرة في مفهوم الحصر لكان التصريح بالإسناد إليه تكرارا ولو كانت النسبة إلى المرض ونحوه معتبرة في مفهوم الإحصار لكان إسناده إلى العدو مجازا وكلاهما خلاف الأصل، والمراد من الإحصار

صفحة رقم 476

هنا حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فإن الأمن لغة في مقابلة الخوف ولنزوله عام الحديبية ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا حصر إلا حصر العدو فقيد إطلاق الآية وهو أعلم بمواقع التنزيل. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن المراد به ما يعم كل منع من عدو ومرض وغيرهما، فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث الحجاج بن عمرو «من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل» وروى الطحاوي من حديث عبد الرحمن بن زيد قال: «أهل رجل بعمرة يقال له عمر بن سعيد فلسع فبينا هو صريع في الطريق إذ طلع عليه ركب فيهم ابن مسعود فسألوه فقال: ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة فإذا كان ذلك فليحل» وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس، وروى البخاري مثله عنه، وقال عروة: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار، وما استدل به الخصم مجاب عنه، أما الأول فستعلم ما فيه، وأما الثاني فإنه لا عبرة بخصوص السبب، والحمل على أنه للتأييد يأبى عنه ذكره باللام استقلالا، والقول بأن- أحصرتم- ليس عاما إذ الفعل المثبت لا عموم له فلا يراد إلا ما ورد فيه وهو حبس العدو بالاتفاق ليس بشيء لأنه وإن لم يكن عاما لكنه مطلق فيجري على إطلاقه، وأما الثالث فلأنه بعد تسليم حجية قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أمثال ذلك معارض بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عنه في تفسير الآية أنه كان يقول: «من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي» فكما خصص في الرواية الأولى عمم في هذه وهو أعلم بمواقع التنزيل والقول- بأن حديث الحجاج ضعيف- ضعيف إذ له طرق مختلفة في السنن وقد روى أبو داود أن عكرمة سأل العباس وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهما عن ذلك فقالا: صدق، وحمله على ما إذا اشترط المحرم الإحلال عند عروض المانع من المرض له وقت النية
لقوله صلّى الله عليه وسلّم لضباعة: «حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني»
لا يتمشى على ما تقرر في أصول الحنفية من أن المطلق يجري على إطلاقه إلا إذا اتحد الحادثة والحكم وكان الإطلاق والتقييد في الحكم إذ ما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فعليكم أو فالواجب أو فاهدوا ما استيسر أي تيسر فهو كصعب واستصعب، وليست السين للطلب، والْهَدْيِ مصدر بمعنى المفعول أي المهدي ولذلك يطلق على المفرد والجمع أو جمع هدية- كجدي وجدية- وقرىء هدي بالتشديد جمع هدية- كمطي ومطية- وهي في موضع الحال من الضمير المستكن، والمعنى أن المحرم إذا أحصر وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه من بدنة أو بقرة أو شاة، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: وما عظم فهو أفضل، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه خص الهدي ببقرة أو جزور فقيل له: أو ما يكفيه شاة؟ فقال: لا ويذبحه حيث أحصر عند الأكثر لأنه صلّى الله عليه وسلّم ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل، وعندنا يبعث من أحصر به ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليوم وغلب على ظنه أنه ذبح تحلل لقوله تعالى:
وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فإن حلق الرأس كناية عن الحل الذي يحصل بالتقصير بالنسبة للنساء، والخطاب للمحصرين لأنه أقرب مذكور، والهدي الثاني عين الأول كما هو الظاهر أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه وهو الحرم لقوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: ٣٣] هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: ٩٥] وما روي من ذبحه صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديبية مسلم لكن كونه ذبح في الحل غير مسلم، والحنفية يقولون: إن محصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في طريق الحديبية أسفل مكة، والحديبية متصلة بالحرم، والذبح وقع في الطرف المتصل الذي نزله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبه يجمع بين ما قاله مالك وبين ما
روى الزهري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نحر في الحرم
وكون الرواية عنه ليس

صفحة رقم 477

بثبت في حيز المنع، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلا كان أو حرما وهو خلاف الظاهر إلا أنه لا يحتاج إلى تقدير العلم كما في السابق، واستدل باقتصاره على الهدي في مقام البيان على عدم وجوب القضاء، وعندنا يجب القضاء لقضاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه عمرة الحديبية التي أحصروا فيها وكانت تسمى عمرة القضاء، والمقام مقام بيان طريق خروج المحصر عن الإحرام لا مقام بيان كل ما يجب عليه ولم يعلم من الآية حكم غير المحصر عبارة كما علم حكم المحصر من عدم جواز الحل له قبل بلوغ الهدي، ويستفاد ذلك بدلالة النص وجعل الخطاب عاما للمحصر وغيره بناء على عطف وَلا تَحْلِقُوا على قوله سبحانه: وَأَتِمُّوا لا على فَمَا اسْتَيْسَرَ يقتضي بتر النظم لأن فَإِذا أَمِنْتُمْ عطف على فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ كما لا يخفى. والمحل- بالكسر من حد ضرب يطلق للمكان كما هو الظاهر في الآية، وللزمان- كما يقال- محل الدين لوقت حلوله وانقضاء أجله.
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً يحتاج للحلق وهو مخصص لقوله سبحانه وَلا تَحْلِقُوا متفرع عليه.
أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ من جراحة وقمل وصداع. فَفِدْيَةٌ أي فعليه فدية إن حاق.
مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ بيان لجنس الفدية. وأما قدرها
فقد أخرج في المصابيح عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم وهو يوقد تحت قدر والقمل يتهافت على وجهه فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم: قال: فاحلق رأسك وأطعم فرقا بين ستة مساكين- والفرق ثلاثة آصع- أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة»
وفي رواية البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ فقال: لا قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك»
وقد بين في هذه الرواية ما يطعم لكل مسكين ولم يبين محل الفدية، والظاهر العموم في المواضع كلها كما قاله ابن الفرس، وهو مذهب الإمام مالك فَإِذا أَمِنْتُمْ من الأمن ضد الخوف، أو الأمنة زواله فعلى الأول معناه فإذا كنتم في أمن وسعة ولم تكونوا خائفين، وعلى الثاني فإذا زال عنكم خوف الإحصار، ويفهم منه حكم من كان آمنا ابتداء بطريق الدلالة- والفاء- للعطف على أُحْصِرْتُمْ مفيدة للتعقيب سواء أريد حصر العدو أو كل منع في الوجود، ويقال للمريض إذا زال مرضه وبرئ: آمن كما روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم من طريق إبراهيم فيضعف استدلال الشافعي ومالك بالآية على ما ذهبا إليه.
فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ الفاء واقعة في جواب- إذا والباء وإلى- صلة التمتع، والمعنى فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة إلى وقت الحج أي قبل الانتفاع بالحج في أشهره، وقيل: الباء سببية ومتعلق التمتع محذوف أي بشيء من محظورات الإحرام ولم يعينه لعدم تعلق الغرض بتعيينه، والمعنى ومن استمتع بسبب أوان العمرة والتحلل منها باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج، وفيه صرف التمتع عن المعنى الشرعي إلى المعنى اللغوي، والثاني هو الانتفاع مطلقا، والأول هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بمناسكها ثم يحرم بالحج من جوف مكة ويأتي بأعماله ويقابله القرآن وهو أن يحرم بهما معا ويأتي بمناسك الحج فيدخل فيها مناسك العمرة، والإفراد وهو أن يحرم بالحج وبعد الفراغ منه بالعمرة فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ الفاء واقعة في جواب مِنَ أي فعليه دم استيسر عليه بسبب التمتع فهو دم جبران لأن الواجب عليه أن يحرم للحج من الميقات فلما أحرم لا من الميقات أورث ذلك خللا فيه فجبر بهذا الدم، ومن ثم لا يجب على المكي ومن في حكمه، ويذبحه إذا أحرم

صفحة رقم 478

بالحج، ولا يجوز قبل الإحرام ولا يتعين له يوم النحر بل يستحب ولا يأكل منه، وهذا مذهب الشافعي وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه دم نسك كدم القارن لأنه وجب عليه شكرا للجمع بين النسكين فهو كالأضحية ويذبح يوم النحر فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي الهدي وهو عطف على فَإِذا أَمِنْتُمْ.
فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فعليه صيام وقرىء فصيام بالنصب أي فليصم، وظرف الصوم محذوف إذ يمتنع أن يكون شيء من أعمال الحج ظرفا له، فقال أبو حنيفة: المراد في وقت الحج مطلقا لكن بين الإحرامين إحرام الحج وإحرام العمرة وهو كناية عن عدم التحلل عنهما فيشمل ما إذا وقع قبل إحرام الحج سواء تحلل من العمرة أولا، وما وقع بعده بدليل أنه إذا قدر على الهدي بعد صوم الثلاثة قبل التحلل وجب عليه الذبح ولو قدر عليه بعد التحلل لا يجب عليه لحصول المقصد بالصوم وهو التحلل، وقال الشافعي: المراد وقت أداء الحج وهو أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل، ولا يجوز الصوم عنده قبل إحرام الحج، والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه لأنه غاية ما يمكن في التأخير لاحتمال القدرة على الأصل وهو الهدي، ولا يجوز يوم النحر وأيام التشريق لكون الصوم منهيا فيها، وجوز بعضهم صوم الثلاثة الأخيرة احتجاجا بما
أخرجه ابن جرير والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر قال: رخص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاته أيام العشر أن يصوم أيام التشريق مكانها،
وأخرج مالك عن الزهري قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن حذافة فنادى في أيام التشريق فقال: إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى إلا من كان عليه صوم من هدي» وأخرج الدارقطني مثله من طريق سعيد بن المسيب،
وأخرج البخاري وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم يرخص صلى الله تعالى عليه وسلم في أيام التشريق أن يصمن إلا لمتمتع لم يجد هديا،
وبذلك أخذ الإمام مالك ولعل ساداتنا الحنفية عولوا على أحاديث النهي وقالوا: إذا فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم ولا يقضيه بعد أيام التشريق كما ذهب إليه الشافعية لأنه بدل والأبدال لا تنصب إلا شرعا والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه أمر في مثله بذبح الشاة..
وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ أي فرغتم ونفرتم من أعماله، فذكر الرجوع وأريد سببه، أو المعنى إذا رجعتم من مني، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه- على ما هو الأصح عند معظم أصحابه: إذا رجعتم إلى أهليكم، ويؤيده ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه «إذا رجعتم إلى أمصاركم» وأن لفظ الرجوع أظهر في هذا المعنى، وحكم ناوي الإقامة بمكة توطنا حكم الراجع إلى وطنه لأن الشرع أقام موضع الإقامة مقام الوطن، وفي البحر المراد بالرجوع إلى الأهل الشروع فيه- عند بعض- والفراغ بالوصول إليهم- عند آخرين- وفي الكلام التفات، وحمل على معنى بعد الحمل (١) على لفظه في إفراده وغيبته وقرىء «سبعة» بالنصب عطفا على محل ثَلاثَةِ أَيَّامٍ لأنه مفعول اتساعا، ومن لم يجوزه قدر- وصوموا- وعليه أبو حيان.
تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ الإشارة إلى- الثلاثة، والسبعة- ومميز العدد محذوف أي «أيام» وإثبات- التاء- في العدد مع حذف المميز أحسن الاستعمالين، وفائدة الفذلكة أن لا يتوهم أن- الواو- بمعنى أو التخييرية، وقد نص السيرافي في شرح الكتاب على مجيئها لذلك، وليس تقدم الأمر الصريح شرطا فيه بل الخبر الذي هو بمعنى الأمر

(١) قوله: (وحمل على معنى بعد الحمل) كذا بخط المؤلف ولعله سقط (من) قلمه لفظ من سهوا أي وحمل على معنى من بعد الحمل إلخ اهـ مصححه.

صفحة رقم 479

كذلك، وأن يندفع التوهم البعيد الذي أشرنا إليه في مقدمة إعجاز القرآن، وأن يعلم العدد جملة- كما علم تفصيلا- فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم، ومن أمثالهم- علمان خير من علم- لا سيما وأكثر العرب لا يحسن الحساب، فاللائق بالخطاب العامي الذي يفهم به الخاص والعام الذين هم من أهل الطبع، لا أهل الارتياض بالعلم أن يكون بتكرار الكلام وزيادة الافهام والإيذان بأن المراد- بالسبعة- العدد دون الكثرة فإنها تستعمل بهذين المعنيين، فإن قلت: ما الحكمة في كونها كذلك حتى يحتاج إلى تفريقها المستدعي لما ذكر؟ أجيب بأنها لما كانت بدلا عن الْهَدْيِ والبدل يكون في محل المبدل منه غالبا جعل الثلاثة بدلا عنه في زمن الحج وزيد عليها السبعة علاوة لتعادله من غير نقص في الثواب لأن الفدية مبنية على التيسير، ولم يجعل- السبعة- فيه لمشقة الصوم في الحج، وللإشارة إلى هذا التعادل وصفت- العشرة- بأنها كامِلَةٌ فكأنه قيل: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ في وقوعها بدلا من الْهَدْيِ وقيل:
إنها صفة مؤكدة تفيد زيادة التوصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها كأنه قيل تلك عشرة كاملة فراعوا كمالها ولا تنقصوها، وقيل: إنها صفة مبينة كمال العشرة فإنها عدد كمل فيه خواص الأعداد، فإن الواحدة مبتدأ العدد، والاثنين أول العدد، والثلاثة أول عدد فرد، والأربعة أول عدد مجذور، والخمسة أول عدد دائر، والستة أول عدد تام، والسبعة عدد أول، والثمانية أول عدد زوج الزوج، والتسعة أول عدد مثلث، والعشرة نفسها ينتهي إليها العدد فإن كل عدد بعدها مركب منها ومما قبلها قاله بعض المحققين.
وذكر الإمام لهذه الفذلكة مع الوصف عشرة أوجه- لكنها عشرة غير كاملة- ولولا مزيد التطويل لذكرتها بما لها وعليها ذلِكَ إشارة إلى التمتع المفهوم من قوله سبحانه: فَمَنْ تَمَتَّعَ عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ لا متعة ولا قران لحاضري المسجد لأن شرعهما للترفه بإسقاط أحد السفرتين وهذا في حق الآفاقي لا في حق أهل مكة ومن في حكمهم، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: إنها إشارة إلى الأقرب وهو الحكم المذكور أعني لزوم الهدي أو بدله على المتمتع وإنما يلزم ذلك إذا كان المتمتع آفاقيا لأن الواجب أن يحرم عن الحج من الميقات فلما أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فقد حصل هناك الخلل فجعل مجبورا بالدم، والمكي لا يجب إحرامه من الميقات فإقدامه على التمتع لا يوقع خللا في حجه فلا يجب عليه الهدي ولا بدله، ويرده أنه لو كانت الإشارة للهدي والصوم لأتى- بعلى- دون اللام في قوله سبحانه:
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لأن الهدي وبدله واجب على المتمتع والواجب يستعمل بعلى- لا باللام، وكون اللام واقعة موقع على كما قيل به في «اشترطي لهم الولاء» خلاف الظاهر، والمراد بالموصول من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعي رضي الله تعالى عنه، ومن كان مسكنه وراء الميقات عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وأهل الحل عند طاوس، وغير أهل مكة عند مالك رضي الله تعالى عنه، والحاضر على الوجه الأول ضد المسافر، وعلى الوجوه الأخر بمعنى الشاهد الغير الغائب، والمراد من حضور الأهل حضور المحرم، وعبر به لأن الغالب على الرجل كما قيل: أن يسكن حيث أهله ساكنون، وللمسجد الحرام إطلاقان، أحدهما نفس المسجد، والثاني الحرم كله، ومنه قوله سبحانه: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الإسراء: ١] بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إنما أسري به من الحرم لا من المسجد، وعلى إرادة المعنى الأخير في الآية هنا أكثر أئمة الدين وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه كما يستفاد من ترك المفعول ويدخل فيه الحج دخولا أوليا وبه يتم الانتظام وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن لم يتقه أي استحضروا ذلك لتمتنعوا عن العصيان، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة وإضافة شديد من إضافة الصفة

صفحة رقم 480

المشبهة إلى مرفوعها الْحَجُّ أَشْهُرٌ أي وقته ذلك وبه يصح الحمل، وقيل: ذو أشهر أو حج أشهر، وقيل: لا تقدير، ويجعل الحج الذي هو فعل من الأفعال عين الزمان مبالغة، ولا يخفى أن المقصد بيان وقت الحج كما يدل عليه ما بعد فالتنصيص عليه أولى، ومعنى قوله سبحانه وتعالى: مَعْلُوماتٌ معروفات عند الناس وهي شوال وذو القعدة.
وعشر من ذي الحجة عندنا، وهو المروي عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وابن عمر والحسن رضي الله تعالى عنهم، وأيد بأن يوم النحر وقت لركن من أركان الحج- وهو طواف الزيارة- وبأنه فسر يوم الحج الأكبر بيوم النحر، وعند مالك الشهران الأولان وذو الحجة كله عملا بظاهر لفظ الأشهر، ولأنّ أيام النحر يفعل فيها بعض أعمال الحج من طواف الزيارة، والحلق، ورمي الجمار، والمرأة إذا حاضت تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيامه بعد العشرة، ولأنه يجوز- كما قيل- تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر، على ما روي عن عروة بن الزبير- ولأن ظواهر الأخبار ناطقة بذلك،
فقد أخرج الطبراني والخطيب وغيرهما بطرق مختلفة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عد «الثلاثة أشهر الحج»
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك. وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه الشهران الأولان وتسع ذي الحجة بليلة النحر لأن الحج يفوت بطلوع الفجر من يوم النحر، والعبادة لا تكون فائتة مع بقاء وقتها، قاله الرازي، وفيه أن فوته بفوت ركنه الأعظم- وهو الوقوف- لا بفوت وقته مطلقا، ومدار الخلاف أنّ المراد بوقته وقت مناسكه وأعماله من غير كراهة وما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا- أو وقت إحرامه- والشافعي رضي الله تعالى عنه- على الأخير- والإحرام لا يصح بعد طلوع فجر يوم النحر لعدم إمكان الأداء، وإن جاز أداء بعض أعمال الحج في أيام النحر، ومالك على الثاني فإنه- على ما قيل- كره الاعتمار في بقية ذي الحجة، لما روي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه كان يخوّف الناس بالدرّة وينهاهم عن ذلك فيهن، وإنّ ابنه رضي الله تعالى عنه قال لرجل: إن أطعتني انتظرت حتى إذا هلّ المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة.
والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على الأول لكون العاشر وقتا لأداء الرمي، والحلق وغيرهما، وغيرها من بقية أيام النحر- وإن كان وقتا لذلك أيضا- إلا أنه خصص بالعشر اقتضاء لما روي في الآثار من ذكر العشر، ولعل وجهه أنّ المراد الوقت الذي يتمكن فيه المكلف من الفراغ عن مناسكه بحيث يحل له كل شيء وهو اليوم العاشر وما سواه من بقية أيام النحر، فللتيسير في أداء الطواف، ولتكميل الرمي، و «الأشهر» مستعمل في حقيقته إلا أنه تجوز في بعض أفراده، فإن أقل الجمع ثلاثة أفراد عند الجمهور فجعل بعض من فرد فردا ثم جمع، وقيل: إنه مجاز فيما فوق الواحد بعلاقة الاجتماع، وليس من الجمع حقيقة بناء على المذهب المرجوح فيه لأنه إنما يصح إطلاقه على اثنين فقط، أو ثلاثة- لا على اثنين- وبعض ثالث، والقول- بأن المراد به اثنان والثالث في حكم العدم- وقيل: المراد ثلاثة، ولا تجوز في بعض الأفراد لأن أسماء الظروف تطلق على بعضها حقيقة لأنها على معنى- في- فيقال: رأيته في سنة كذا. أو شهر كذا أو يوم كذا. وأنت قد رأيته في ساعة من ذلك- ولعله قريب إلى الحق- وصيغة جمع المذكر في غير العقلاء تجيء- بالألف والتاء فَمَنْ فَرَضَ أي ألزم نفسه فِيهِنَّ الْحَجَّ بالإحرام، ويصير محرما- بمجرد النية- عند الشافعي لكون الإحرام التزام الكف عن المحظورات فيصير شارعا فيه بمجردها كالصوم، وعندنا- لا- بل لا بد من مقارنة التلبية لأنه عقد على الأداء فلا بد من ذكر كما في تحريمه الصلاة، ولما كان باب الحج أوسع من باب الصلاة كفى ذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية- فارسيا كان أو عربيا- وفعل كذلك من سوق الْهَدْيِ أو تقليده، واستدل بالآية على أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في تلك الأشهر، كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعطاء وغيرهما. إذ لو جاز في غيرها- كما ذهب إليه الحنفية- لما كان لقوله سبحانه: فِيهِنَّ فائدة، وأجيب بأن فائدة

صفحة رقم 481

ذكر فِيهِنَّ كونها وقتا لأعماله من غير كراهية فلا يستفاد منه عدم جواز الإحرام قبله، فلو قدّم الإحرام انعقد حجا مع الكراهة، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه يصير محرما بالعمرة، ومدار الخلاف أنه ركن عنده- وشرط عندنا- فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت، والكراهة جاءت للشبهة،
فعن جابر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج»
فَلا رَفَثَ أي لا جماع، أو لا فحش من الكلام وَلا فُسُوقَ ولا خروج عن حدود الشرع بارتكاب المحظورات، وقيل: بالسباب والتنابز بالألقاب وَلا جِدالَ ولا خصام مع الخدم والرفقة.
فِي الْحَجِّ أي في أيامه، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم فإن زيارة البيت المعظم والتقرّب بها إلى الله تعالى من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك، وإيثار النفي للمبالغة في النهي والدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون، فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه منهيا عنه مطلقا فهو للمحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر وأقبح كلبس الحرير في الصلاة وتحسين الصوت بحيث تخرج الحروف عن هيئاتها في القرآن، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأولين بالرفع حملا لهما على معنى النهي أي لا يكونن رَفَثَ وَلا فُسُوقَ والثالث- بالفتح- على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحج، وذلك أن قريشا كانت تقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة، وبعد ما أمر الكل بالوقوف في عرفة ارتفع الخلاف فأخبر به، وقرىء بالرفع فِيهِنَّ ووجهه لا يخفى.
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ بتأويل الأمر معطوف على فَلا رَفَثَ أي لا ترفثوا وافعلوا الخيرات- وفيه التفات- وحث على- الخير- عقيب النهي عن الشر ليستبدل به، ولهذا خص متعلق العلم مع أنه تعالى عالم بجميع ما يفعلونه من خير أو شر، والمراد من- العلم- إما ظاهره فيقدر بعد الفعل فيثيب عليه، وإما المجازاة مجازا وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن المنذر وابن حبان والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون ويقولون: نحن متوكلون، وثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت- فالتزوّد- بمعناه الحقيقي- وهو اتخاذ الطعام للسفر- والتَّقْوى بالمعنى اللغوي- وهو الاتقاء من السؤال- وقيل: معنى الآية اتخذوا التَّقْوى زادكم لمعادكم فإنها خير زاد، فمفعول تَزَوَّدُوا محذوف بقرينة خبر إن- وهو التقوى بالمعنى الشرعي- وكان مقتضى الظاهر أن يحمل خَيْرَ الزَّادِ على التَّقْوى فإن المسند إليه والمسند إذا كانا معرفتين يجعل ما هو مطلوب الإثبات مسندا، والمطلوب هنا إثبات خَيْرَ الزَّادِ للتقوى لكونه دليلا على تزوّدها إلا أنه أخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر للمبالغة لأنه حينئذ يكون المعنى إن الشيء الذي بلغكم أنه خَيْرَ الزَّادِ وأنتم تطلبون نعته هو التَّقْوى فيفيد اتحاد خَيْرَ الزَّادِ بها وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي أخلصوا لي التقوى فإن مقتضى العقل الخالص عن الشوائب ذلك وليس فيه- على هذا- شائبة تكرار مع سابقه لأنه حث على الإخلاص بعد الحث على التقوى.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج في أَنْ تَبْتَغُوا أي تطلبوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي رزقا منه تعالى بالربح بالتجارة في مواسم الحج،
أخرج البخاري وغيره- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم فسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فنزلت،
واستدل بها على إباحة التجارة والإجارة وسائر أنواع المكاسب في الحج وإن ذلك لا يحبط أجرا ولا ينقص ثوابا، ووجه الارتباط أنه تعالى لما نهى عن الجدال في الحج كان مظنة للنهي عن التجارة فيه أيضا لكونها مفضية في

صفحة رقم 482

الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها فعقب ذلك بذكر حكمها، وذهب أبو مسلم إلى المنع عنها في الحج، وحمل الآية على ما بعد الحج، وقال: المراد واتقون في كل أفعال الحج ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح إلخ كقوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: ١٠] وزيف بأن حمل الآية على محل الشبهة أولى من حملها على ما لا شبهة فيه ومحل الاشتباه هو التجارة زمان الحج. وأما بعد الفراغ فنفي الجناح معلوم وقياس الحج على الصلاة فاسد فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في أثنائها، وأيضا الآثار لا تساعد ما قاله فقد سمعت ما أخرجه البخاري،
وقد أخرج أحمد وغيره عن أبي أمامة التيمي قال سألت ابن عمر فقلت: إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوما يزعمون أنه لا حج لنا قال: ألستم تلبون ألستم تطوفون بين الصفا والمروة ألستم ألستم؟؟ قلت: بلى قال: إن رجلا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عما سألت عنه فلم يدر ما يرد عليه حتى نزلت لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية فدعاه فتلا عليه حين نزلت وقال:
«أنتم الحجاج»
وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ فيما أخرجه البخاري وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عنه لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج، وكذلك روي عن ابن مسعود، وأيضا- الفاء- في قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك مؤذن بأن المراد وقوع التجارة في زمان الحج، نعم قال بعضهم: إذا كان الداعي للخروج إلى الحج هو التجارة أو كانت جزء العلة أضر ذلك بالحج لأنه ينافي الإخلاص لله تعالى به- وليس بالبعيد- وأَفَضْتُمْ من الإفاضة من فاض الماء إذا سال منصبا، وأفضته أسلته والهمزة فيه للتعدية، ومفعوله مما التزم حذفه للعلم به، وأصله أفيضتم فنقلت حركة- الياء- إلى- الفاء- قبلها فتحركت- الياء- في الأصل وانفتح ما قبلها الآن فقلبت الفا ثم حذفت، والمعنى هنا فإذا دفعتم أنفسكم بكثرة من عرفات ومِنْ لابتداء الغاية وعَرَفاتٍ موضع بمنى وهي اسم في لفظ الجمع فلا تجمع قال الفراء: ولا واحد له بصحة، وقول الناس: نزلنا عرفة شبيه بمولد- وليس بعربي محض- واعترض عليه
بخبر «الحج عرفة»
وأجيب بأن عرفة فيه اسم لليوم التاسع من ذي الحجة كما صرح به الراغب والبغوي والكرماني، والذي أنكره استعماله في المكان، فالاعتراض ناشىء من عدم فهم المراد ومن هنا قيل: إنه جمع عرفة وعليه صاحب شمس العلوم، والتعدد حينئذ باعتبار تسمية كل جزء من ذلك المكان عرفة كقولهم: جب مذاكيره فلا يرد ما قاله العلامة: من أنه لو سلم كون عرفة عربيا محصنا فعرفة وعرفات مدلولهما واحد، وليس ثمة أماكن متعددة كل منها عرفة لتجمع على عرفات، وإنما نون وكسر مع أن فيه العلمية والتأنيث لأن تنوين جمع المؤنث في مقابلة نون جمع المذكر فإن النون في جمع المذكر قائم مقام التنوين الذي في الواحد في المعنى الجامع لأقسام التنوين وهو كونه علامة تمام الاسم فقط، وليس في النون شيء من معاني الأقسام للتنوين فكذا التنوين في جمع المؤنث علامة لتمام الاسم فقط، وليس فيها أيضا شيء من تلك المعاني سوى المقابلة وليس الممنوع من غير المنصرف هذا التنوين بل تنوين التمكين لأنه الدال على عدم مشابهة الاسم بالفعل وأن ذهاب الكسرة على المذهب المرضي تبع لذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف، وهنا ليس كذلك- قاله الجمهور- وقال الزمخشري: إنما نون وكسر لأنه منصرف لعدم الفرعيتين المعتبرتين إذ التأنيث المعتبر مع العلمية في منع الصرف إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث بل علامة الجمع، وإما أن يكون بتاء مقدرة كما في زينب، واختصاص هذه التاء بجمع المؤنث يأبى تقدير تاء لكونه بمنزلة الجمع بين علامتي تأنيث فهذه التاء كتاء بنت ليست للتأنيث بل عوض عن الواو المحذوفة، واختصت بالمؤنث فمنعت تقدير التاء فعلى هذا لو سمي بمسلمات، وبنت مؤنث كان منصرفا، وقول ابن الحاجب: إن هذا يقتضي أنه إذا سمي بذلك منع صرفه ليس بشيء إذ الاقتضاء غير مسلم، وكذا ما قاله عصام الدين من أن التأنيث لمنع الصرف لا يستدعي قوة ألا

صفحة رقم 483

يرى أن طلحة يعتبر تأنيثه لمنع الصرف ولا يعتبر لتأنيث ضمير يرجع إليه لأن بناء الاستدلال ليس على اعتبار القوة والضعف بل على عدم تحقق التأنيث، نعم يرد ما أورده الرضي من أنه لو لم يكن فيه تأنيث لما التزم تأنيث الضمير الراجع إليه، ويجاب بأن اختصاص هذا الوزن بالمؤنث يكفي لإرجاع الضمير ولا يلزم فيه وجود التاء لفظا أو تقديرا
وإنما سمي هذا المكان المخصوص بلفظ ينبىء عن المعرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فعرفه، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه
وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو لأن جبريل كان يدور به في المشاعر فلما رآه قال: قد عرفت، وروي عن عطاء أو لأن آدم وحواء اجتمعا فيه فتعارفا، وروي عن الضحاك والسدي أو لأن جبريل عليه السلام قال لآدم فيه: اعترف بذنبك واعرف مناسكك قاله بعضهم، وقيل: سمي بذلك لعلوه وارتفاعه، ومنه عرف الديك، واختير الجمع للتسمية مبالغة فيما ذكر من وجوهها كأنه عرفات متعددة وهي من الأسماء المرتجلة قطعا عند المحققين، وعرفة يحتمل أن تكون منها وأن تكون منقولة من جمع عارف ولا جزم بالنقل إذ لا دليل على جعلها جمع عارف والأصل عدم النقل فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالتلبية والتهليل والدعاء، وقيل: بصلاة العشاءين لأن ظاهر الأمر للوجوب ولا ذكر واجب عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ إلا الصلاة، والمشهور أن المشعر مزدلفة كلها، فقد أخرج وكيع وسفيان وابن جرير والبيهقي وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي الرواحل بالمزدلفة قال: هذا الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وأيد بأن الفاء تدل على أن الذكر عِنْدَ الْمَشْعَرِ يحصل عقيب الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة، وذهب كثير إلى أنه جبل يقف عليه الإمام في المزدلفة ويسمى قزح. وخص الله تعالى الذكر عنده مع أنه مأمور به في جميع «المزدلفة» لأنها كلها موقف إلا وادي محسر كما دلت عليه الآثار الصحيحة لمزيد فضله وشرفه وعن سعيد بن جبير- ما بين جبلي مزدلفة فهو الْمَشْعَرِ الْحَرامِ ومثله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإنما سمي- مشعرا- لأنه معلم العبادة، ووصف- بالحرام- لحرمته، والظرف متعلق باذكروا أو بمحذوف حال من فاعله وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي كما علمكم المناسك والتشبيه لبيان الحال وإفادة التقييد أي اذكروه على ذلك النحو ولا تعدلوا عنه، ويحتمل أن يراد مطلق الهداية ومفاد التشبيه التسوية في الحسن والكمال أي اذْكُرُوهُ ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها.
وما- على المعنيين تحتمل أن تكون مصدرية فمحل كَما هَداكُمْ النصب على المصدرية بحذف الموصوف أي ذكرا مماثلا لهدايتكم، وتحتمل أن تكون كافة فلا محل لها من الإعراب، والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة، ولذا لا تطلب عاملا تفضي بمعناه إلى مدخولها. وذهب بعضهم إلى أن- الكاف- للتعليل. وأنها متعلقة بما عندها وما- مصدرية لا غير أي اذْكُرُوهُ وعظموه لأجل هدايته السابقة منه تعالى لكم وَإِنْ كُنْتُمْ أي وإنكم كُنْتُمْ فخففت أَنْ وحذف الاسم وأهملت عن العمل ولزم اللام فيما بعدها، وقيل: إن أَنْ نافية، واللام بمعنى إلا مِنْ قَبْلِهِ أي- الهدي- والجار متعلق بمحذوف يدل عليه لَمِنَ الضَّالِّينَ ولم يعلقوه به لأن ما بعد- ال- الموصولة لا يعمل فيما قبلها وفيه تأمل، والمراد من الضلال الجهل بالإيمان ومراسم الطاعات، والجملة تذييل لما قبلها كأنه قيل: اذْكُرُوهُ الآن إذ لا يعتبر ذكركم السابق المخالف لما هَداكُمْ لأنه من الضلالة، وحمله على الحال توهم بعيد عن المرام ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي من عرفة لا من- المزدلفة- والخطاب عام، والمقصود إبطال ما كان عليه الحمس من الوقوف بجمع، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكانت سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم

صفحة رقم 484

يفيض منها فذلك قوله سبحانه: ثُمَّ أَفِيضُوا الآية ومعناها ثُمَّ أَفِيضُوا أيها الحجاج من مكان أفاض جنس الناس منه قديما وحديثا، وهو عرفة لا من مزدلفة، وجعل الضمير عبارة عن الحمس يلزم منه بتر النظم إذ الضمائر السابقة واللاحقة كلها عامة والجملة معطوفة على قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ ولما كان المقصود من هذه التعريض كانت في قوة ثم لا تفيضوا من المزدلفة وأتى- بثم- إيذانا بالتفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما صواب، والأخرى خطأ، ولا يقدح في ذلك أن التفاوت إنما يعتبر بين المتعاطفين لا بين المعطوف عليه وما دخله حرف النفي من المعطوف لأن الحصر ممنوع، وكذا لا يضر انفهام التفاوت من كون أحدهما مأمورا به، والآخر منهيا عنه كيفما كان العطف لأن المراد أن كلمة ثُمَّ تؤذن بذلك مع قطع النظر عن تعلق الأمر والنهي، وجوز أن يكون العطف على- فاذكروا- ويعتبر التفاوت بين الإفاضتين أيضا كما في السابق بلا تفاوت، وبعضهم جعله معطوفا على محذوف أي أفيضوا إلى منى ثُمَّ أَفِيضُوا إلخ وليس بشيء كالقول بأن في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم- ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واستغفروا» وإذا أريد بالمفاض منه المزدلفة وبالمفاض إليه منى- كما قال الجبائي- بقيت كلمة ثُمَّ على ظاهرها لأن الإفاضة إلى منى بعيدة عن الإفاضة من- عرفات- لأن الحاج إذا أفاضوا منها عند غروب الشمس يوم عرفة يجيئون إلى المزدلفة ليلة النحر ويبيتون بها فإذا طلع الفجر وصلوا بغلس ذهبوا إلى قزح فيرقون فوقه أو يقفون بالقرب منه ثم يذهبون إلى وادي محسر ثم منه إلى منى، والخطاب على هذا عام بلا شبهة، والمراد من الناس الجنس كما هو الظاهر- أي من حيث أفاض الناس كلهم قديما وحديثا، وقيل: المراد بهم إبراهيم عليه السلام وسمي ناسا لأنه كان إماما للناس، وقيل: المراد هو وبنوه، وقرىء- «الناس» - بالكسر أي الناسي والمراد به آدم عليه السلام لقوله تعالى في حقه:
فَنَسِيَ [طه: ١١٥] وكلمة- ثم- على هذه القراءة للإشارة إلى بعد ما بين الإفاضة من عرفات والمخالفة عنها بناء على أن معنى ثم أفيضوا عليها ثم لا تخالفوا عنها لكونها شرعا قديما كذا قيل فليتدبر وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من جاهليتكم في تغيير المناسك ونحوه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للمستغفرين رَحِيمٌ بهم منعم عليهم فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ أي أديتم عباداتكم الحجية وفرغتم منها فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أي كما كنتم تذكرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخر، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أهل الجاهلية يجلسون بعد الحج فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم أجمع فأنزل الله تعالى ذلك أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً إما مجرور معطوف على الذكر بجعل الذكر ذاكرا على المجاز والمعنى- واذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ- أو على ما أضيف إليه بناء على مذهب الكوفيين المجوزين للعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الخافض في السعة بمعنى- أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا- وإما منصوب بالعطف على آباءَكُمْ وذِكْراً من فعل المبني للمفعول بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آبائكم، أو بمضمر دل عليه المعنى أي ليكن ذكركم الله تعالى أشد من ذكركم آباءكم أو كونوا أشد ذكرا لله تعالى منكم لآبائكم كذا قيل، واختار في البحر أن يكون أَشَدَّ نصب على الحال من ذكرا المنصوب- باذكروا- إذ لو تأخر عنه لكان صفة لو وحسن تأخر ذِكْراً لأنه كالفاصلة ولزوال قلق التكرار إذ لو قدم لكان التركيب فاذكروا الله كذكركم آباءكم، أو اذكروا ذكرا أشد، وفيه أن الظاهر على هذا الوجه أن يقال أو أشد بدون ذِكْراً بأن يكون معطوفا على كذكركم صفة للذكر المقدر وأن المطلوب الذكر الموصوف بالأشدية لا طلبه حال الأشدية فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ جملة معترضة بين الأمرين المتعاطفين للحث والإكثار من ذكر الله تعالى وطلب ما عنده، وفيها تفصيل للذاكرين مطلقا حجاجا أو غيرهم كما هو الظاهر إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب خير الدارين، وما نقل عن بعض المتصوفة من قولهم إن عبادتنا لذاته تعالى فارغة من

صفحة رقم 485

الأغراض والاعراض جهل عظيم ربما يجر إلى الكفر كما قاله حجة الإسلام قدس سره لأن عدم التعليل في الأفعال مختص بذاته تعالى على أن البعض قائل بأن أفعاله سبحانه أيضا معللة بما تقتضيه الحكمة، نعم إن عبادته تعالى قد تكون لطلب الرضا لا لخوف مكروه أو لنيل محبوب لكن ذا من أجل حسنات الأخرى يطلبه خلص عباده قال تعالى:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: ٧٢] وقرن سبحانه الذكر بالدعاء للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر وتوجه باطن كما هو حال الداعي حين طلب حاجة لا مجرد التفوه والنطق به، وذهب الإمام وأبو حيان إلى أن التفصيل للداعين المأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك، وبدأ سبحانه وتعالى بالذكر لكونه مفتاحا للإجابة ثم بين جل شأنه أنهم ينقسمون في سؤال الله تعالى إلى من يغلب عليه حب الدنيا فلا يدعو إلا بها ومن يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة حطا لطالب الدنيا عن ساحة عن الحضور، ولا يخفى أن الأول هو المناسب لإبقاء الناس على عمومه والمطابق لما سيأتي من قوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ إلخ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نعم سبب النزول- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- طائفة من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيطلبون الدنيا، وطائفة من المؤمنين يجيئونه فيطلبون الدنيا والآخرة وهذا لا يقتضي التخصيص رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا أي اجعل كل إيتائنا ومنحتنا فيها فالمفعول الثاني متروك ونزل الفعل بالقياس منزلة اللازم ذهابا إلى عموم الفعل للإشارة إلى أن همته مقصورة على مطالب الدنيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ إخبار منه تعالى ببيان حال هذا النصف في الآخرة يعني أنه لا نصيب له فيها ولا حظ، والخلاق- من خلق به إذا لاق، أو من الخلق كأنه الأمر الذي خلق له وقدر، وقيل: الجملة بيان لحال ذلك في الدنيا فهي تصريح بما علم ضمنا من سابقه تقريرا له وتأكيدا أي ليس له في الدنيا طلب خلاق في الآخرة، وليس المراد أنه ليس له طلب في الآخرة للخلاق ليقال: إن هذا حكم كل أحد إذ لا طلب في الآخرة وإنما فيها الحظ والحرمان، ويجاب بمنع عدم الطلب إذ المؤمنون يطلبون زيادة الدرجات والكافرون الخلاص من شدة العذاب، ومَنْ صلة، وله- خبر مقدم والجار والمجرور بعده متعلق بما تعلق به أو حال مما بعده وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني العافية والكفاف قاله قتادة، أو
المرأة الصالحة قاله علي كرم الله تعالى وجهه،
أو العلم والعبادة قاله الحسن، أو المال الصالح قاله السدي، أو الأولاد الأبرار، أو ثناء الخلق قاله ابن عمر، أو الصحة والكفاية والنصرة على الأعداء والفهم في كتاب الله تعالى، أو صحبة الصالحين قاله جعفر، والظاهر أن الحسنة وإن كانت نكرة في الإثبات وهي لا تعم إلا أنها مطلقة فتنصرف إلى الكامل والحسنة الكاملة في الدنيا ما يشمل جميع حسناتها وهو توفيق الخير وبيانها بشيء مخصوص ليس من باب تعيين المراد إذ لا دلالة للمطلق على المقيد أصلا وإنما هو من باب التمثيل وكذا الكلام في قوله تعالى: وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً فقد قيل هي الجنة، وقيل: السلامة من هول الموقف وسوء الحساب،
وقيل: الحور العين وهو مروي عن علي كرم الله تعالى وجهه،
وقيل: لذة الرؤية (وقيل، وقيل..) والظاهر الإطلاق وإرادة الكامل وهو الرحمة والإحسان وَقِنا عَذابَ النَّارِ أي احفظنا منه بالعفو والمغفرة واجعلنا ممن يدخل الجنة من غير عذاب، وقال الحسن: احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى عذاب النار،
وقال علي كرم الله تعالى وجهه: عذاب النار الامرأة السوء
أعاذنا الله تعالى منها وهو على نحو ما تقدم وقد كان صلّى الله عليه وسلّم أكثر دعوة يدعو بها هذه الدعوة كما
رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه وأخرجا عنه أيضا أنه قال: «إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له صلّى الله عليه وسلّم: هل كنت تدعو الله تعالى بشيء؟ قال: نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلا قلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ودعا له فشفاه» الله تعالى

صفحة رقم 486

أُولئِكَ إشارة إلى الفريق الثاني والجملة في مقابلة وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ والتعبير باسم الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بما سبق علة للحكم المذكور ولذا ترك العطف هاهنا لكونه كالنتيجة لما قبله، قيل: وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى علو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل، وجوز أن تكون الإشارة إلى كلا الفريقين المتقدمين فالتنوين في قوله تعالى: لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا على الأول للتفخيم وعلى الثاني للتنويع أي لكل منهم نصيب من جنس ما كسبوا، أو من أجله، أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه، ومن- إما للتبعيض أو للابتداء، والمبدئية على تقدير الأجلية على وجه التعليل، وفي الآية على الاحتمال الثالث وضع الظاهر موضع المضمر بغير لفظ السابق لأن المفهوم من رَبَّنا آتِنا الدعاء لا الكسب إلا أنه يسمى كسبا لأنه من الأعمال وقرىء- مما اكتسبوا- وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب العباد على كثرتهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، وروي بمقدار فواق ناقة، وروي بمقدار لمحة البصر أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات، والجملة تذييل لقوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ إلخ والمحاسبة إما على حقيقتها كما هو قول أهل الحق من أن النصوص على ظاهرها ما لم يصرف عنها صارف أو مجاز عن خلق علم ضروري فيهم بأعمالهم وجزائها كما وكيفا، أو مجازاتهم عليها هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» ولَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا بيوت قلوبكم من طرف حواسكم ولو ماتكم البدنية المأخوذة من المشاعر فإنها ظهور القلوب التي تلي البدن وَلكِنَّ البر من اتقى شواغل الحواس وهواجس الخيال ووساوس النفس الأمارة وأتوا هاتيك البيوت مِنْ أَبْوابِها التي تلي الروح، ويدخل منها الحق واتقوا الله عن رؤية تقواكم لعلكم تفوزون به وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ من قوى نفوسكم ودواعي بشريتكم فإن ذلك هو الجهاد الأكبر وَلا تَعْتَدُوا بإهمالها والوقوف مع حظوظها أو لا تتجاوزوا في القتال إلى أن تضعفوا البدن عن القيام بمراسم الطاعة ووظائف العبودية فرب مخمصة شر من التخم. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الواقفين مع نفوسهم أو المتجاوزين ظل الوحدة وهو العدالة وَاقْتُلُوهُمْ حيث وجدتموهم أي امنعوا هاتيك القوى عن شم لذائذ الشهوات والهوى حيث كانوا وَأَخْرِجُوهُمْ عن مكة الصدر كما أخرجوكم عنها واستنزلوكم إلى بقعة النفس وحالوا بينكم وبين مقر القلب وفتنتهم التي هي عبادة الهوى والسجود لأصنام اللذات أشد من الإماتة بالكلية أو بلاؤكم عند استيلاء النفس أشد عليكم من القتل الذي هو محو الاستعداد وطمس الغرائز لما يترتب على ذلك من ألم الفراق عن حضرة القدس الذي لا يتناهى وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وهو مقام القلب إذا وافقوكم في توجهكم حتى ينازعوكم في مطالبكم ويجروكم عن دين الحق ويدعوكم إلى عبادة عجل النظر إلى الأغيار فإن نازعوكم فَاقْتُلُوهُمْ بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ الساترين للحق فَإِنِ انْتَهَوْا عن نزاعهم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقاتِلُوهُمْ على دوام الرعاية وصدق العبودية حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ولا يحصل التفات إلى السوي وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ بتوجه الجمع إلى الجناب الأقدس والذات المقدس فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إلا على المجاوزين للحدود الشَّهْرُ الْحَرامُ الذي قامت به النفس لحقوقها بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الذي هو وقت حضوركم ومراقبتكم وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فلا تبالوا بهتك حرمتها وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ما معكم من العلوم بالعمل به والإرشاد- ولا تلقوا بأيديكم إلى تهلكة التفريط وأحسنوا- بأن تكونوا مشاهدين ربكم في سائر أعمالكم إن الله يحب المشاهدين له،- وأتموا حج- توحيد الذات وعمرة توحيد الصفات لله بإتمام جميع المقامات والأحوال فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ بمنع أعداء النفوس أو مرض الفتور فجاهدوا في الله بسوق هدي النفس وذبحها بفناء كعبة القلب، ولاختلاف النفوس في الاستعداد قال: ما استيسر ولا تحلقوا رؤوسكم ولا تزيلوا آثار الطبيعة وتختاروا فراغ الخاطر حتى يبلغ هدي النفس محله فحينئذ تأمنون من التشويش وتكدر الصفاء فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً ضعيف

صفحة رقم 487

الاستعداد أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ أي مبتلى بالتعلقات ولم يتيسر له السلوك على ما ينبغي فعليه فدية من إمساك عن بعض لذاته وشواغله أو فعل بر أو رياضة تقمع بعض القوى فَإِذا أَمِنْتُمْ من المانع المحصر فمن تمتع بذوق تجلي الصفات متوسلا
به إلى حج تجلي الذات فيجب عليه ما أمكن من الهدي بحسب حاله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ لضعف نفسه وانقهارها فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فعليه الإمساك عن أفعال القوى التي هي الأصول القوية في وقت التجلي والاستغراق في الجمع والفناء، وهي العقل والوهم والمتخيلة وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى مقام التفصيل والكثرة، وهي الحواس الخمسة الظاهرة والغضب والشهوة لتكون عند الاستقامة في الأشياء بالله عز وجل تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ موجبة لأفاعيل عجيبة مشتملة على أسرار غريبة ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
من الكاملين الحاضرين مقام الوحدة لأن أولئك لا يخاطبون ولا يعاتبون ومن وصل فقد استراح الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وهي مدة الحياة الفانية أو من وقت بلوغ الحلم إلى الأربعين كما قال في البقرة لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة: ٦٨].
ومن هنا قيل: الصوفي بعد الأربعين بارد نعم العمش خير من العمى والقليل خير من الحرمان فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ على نفسه بالعزيمة فَلا رَفَثَ أي فلا يمل إلى الدنيا وزينتها وَلا فُسُوقَ ولا يخرج القوة الغضبية عن طاعة القلب بل لا يخرج عن الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي ولا ينازع أحدا في مقام التوجه إليه تعالى إذ الكل منه وإليه ومن نازعه في شيء ينبغي أن يسلمه إليه ويسلم عليه وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: ٦٣] وما تفعلوا من فضيلة في ترك شيء من هذه الأمور يعلمه الله ويثيبكم عليه، وتزودوا من الفضائل التي يلزمها الاجتناب عن الرذائل فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وتمامها بنفي السوي وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ فإن قضية العقل الخالص عن شوب الوهم وقشر المادة اتقاء الله تعالى ليس عليكم حرج عند الرجوع إلى الكثرة أن تطلبوا رفقا لأنفسكم على مقتضى ما حده المظهر الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا دفعتم أنفسكم من عرفات المعرفة فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أي شاهدوا جماله سبحانه عند السر الروحي المسمى بالخفي وسمي مشعرا لأنه محل الشعور بالجمال، ووصف بالحرام لأنه محرم أن يصل إليه الغير وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ إلى ذكره في المراتب وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها لَمِنَ الضَّالِّينَ عن هذه الأذكار في طلب الدنيا ثُمَّ أَفِيضُوا إلى ظواهر العبادات مِنْ حَيْثُ أَفاضَ سائر الناس إليها وكونوا كأحدهم فإن النهاية الرجوع إلى البداية.
أو أفيضوا من حيث أفاض الأنبياء عليهم السلام لأجل أداء الحقوق والشفقة على عباد الله تعالى بالإرشاد والتعليم وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ فقد كان الشارع الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم يغان على قلبه ويستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة، ومن أنت يا مسكين بعده إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ وفرغتم من الحج فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قبل السلوك أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً لأنه المبدأ الحقيقي فكونوا مشغولين به حسبما تقتضيه ذاته سبحانه فمن الناس من لا يطلب إلا الدنيا ولا يعبد إلا لأجلها وما له في مقام الفناء من نصيب لقصور همته واكتسابه الظلمة المنافية للنور ومنهم من يطلب خير الدارين ويحترز عن الاحتجاب بالظلمة والتعذيب بنيران الطبيعة أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا من حظوظ الآخرة والأنوار الباهرة واللذات الباقية والمراتب العالية والله سريع الحساب وَاذْكُرُوا اللَّهَ أي كبروه إدبار الصلوات وعند ذبح القرابين، ورمي الجمار وغيرها.
فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ
وهي ثلاثة أيام التشريق وهو المروي في المشهور عن عمر وعلي
وابن عباس رضي الله

صفحة رقم 488

تعالى عنهم، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها أربعة أيام بضم يوم النحر إليها، واستدل بعضهم للتخصيص بأن هذه الجملة معطوفة على قوله سبحانه فَاذْكُرُوا اللَّهَ إلخ فكأنه قيل فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله في أيام معدودات، والفاء للتعقيب فاقتضى ذلك إخراج يوم النحر من الأيام، ومن اعتبر العطف والتعقيب وجعل بعض يوم يوما استدل بالآية على ابتداء التكبير خلف الصلاة من ظهر يوم النحر، واستدل بعمومها من قال: يكبر خلف النوافل واستشكل وصف أيام بمعدودات لأن أياما جمع يوم وهو مذكر، ومَعْدُوداتٍ واحدها معدودة وهو مؤنث فكيف تقع صفة له فالظاهر معدودة ووصف جمع ما لا يعقل بالمفرد المؤنث جائز، وأجيب بأن معدودات جمع معدود لا معدودة، وكثيرا ما يجمع المذكر جمع المؤنث كحمامات وسجلات، وقيل: إنه قدر اليوم مؤنثا باعتبار ساعاته، وقيل: إن المعنى أنها في كل سنة معدودة، وفي السنين معدودات فهي جمع معدودة حقيقة ولا يخفى ما فيه فَمَنْ تَعَجَّلَ أي عجل في النفر أو استعجل النفر من منى، وقد ذكر غير واحد أن عجل واستعجل يجيئان مطلوعين بمعنى عجل يقال: تعجل في الأمر واستعجل، ومتعديين يقال: تعجل الذهاب، والمطاوعة عند الزمخشري أوفق لقوله تعالى: وَمَنْ تَأَخَّرَ كما هي كذلك في قوله:

قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون من «المستعجل» الزلل
لأجل المتأني، وذهب بعض أرباب التحقيق إلى ترجيح التعدي لأن المراد بيان أمور- العجل- لا التعجل مطلقا، وقيل: لأن اللازم يستدعي تقدير فِي فيلزم تعلق حرفي جر أحدهما المقدر والثاني فِي يَوْمَيْنِ بالفعل وذا لا يجوز- واليومان- يوم القر. ويوم الرؤوس. واليوم الذي بعده. والمراد فمن نفر في ثاني أيام التشريق قبل الغروب- وبعد رمي الجمار عند الشافعية- وقبل طلوع الفجر من اليوم الثالث إذا فرغ من رمي الجمار عندنا- والنفر في أول يوم منها لا يجوز- فظرفية «اليومين» له على التوسع باعتبار أن الاستعداد له في اليوم الأول، والقول بأن التقدير في أحد يَوْمَيْنِ إلا أنه مجمل فسر باليوم الثاني، أو في آخر يَوْمَيْنِ خروج عن مذاق النظر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ باستعجاله وَمَنْ تَأَخَّرَ في النفر حتى رمى في اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده عندنا، وعند الشافعي بعده فقط فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بما صنع من التأخر، والمراد التخيير بين- التعجل والتأخر- ولا يقدح فيه أفضلية الثاني خلافا لصاحب- الإنصاف- وإنما ورد- بنفي الإثم- تصريحا بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا مختلفين فيه، فمن مؤثم للمعجل، ومؤثم للمتأخر لِمَنِ اتَّقى خبر لمحذوف- واللام- إما للتعليل أو للاختصاص، أي ذلك التخيير المذكور بقرينة القرب لأجل- المتقي- لئلا يتضرر بترك ما يقصده من- التعجيل والتأخر- لأنه حذر متحرز عما يريبه، أو ذلك المذكور من أحكام الحج مطلقا نظرا إلى عدم المخصص القطعي، وإن كانت عامة لجميع المؤمنين مختصة- بالمتقي- لأنه الحاج على الحقيقة، والمنتفع بها، والمراد من- التقوى- على التقديرين التجنب عما يؤثم من- فعل أو ترك- ولا يجوز حملها على التجنب عن الشرك لأن الخطاب في جميع ما سبق للمؤمنين، واستدل بعضهم بالآية على أن الحاج إذا اتقى في أداء حدود الحج وفرائضه غفرت له ذنوبه كلها، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن جرير عنه أنه فسر الآية بذلك ثم قال: إن الناس يتأولونها على غير تأويلها، وهو من الغرابة بمكان.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في جميع أموركم التي يتعلق بها العزم لتنتظموا في سلك المغتنمين بالأحكام المذكورة، أو احذروا الإخلال بما ذكر من أمور الحج وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء على أعمالكم بعد الإحياء والبعث، وأصل- الحشر- الجمع وضم المفرق وهو تأكيد للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به، فإن من علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من أقوى الدواعي له إلى ملازمة التقوى، وقدم إليه للاعتناء بمن يكون الحشر إليه ولتواخي الفواصل

صفحة رقم 489

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ عطف على قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ والجامع أنه سبحانه لما ساق بيان أحكام الحج إلى بيان انقسام الناس في الذكر والدعاء في تلك المناسك إلى الكافر، والمؤمن تممه سبحانه ببيان قسمين آخرين- المنافق والمخلص- وأصل- التعجب- حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه، وهو هنا مجاز عما يلزمه من الروق والعظمة فإن الأمر الغريب المجهول يستطيبه الطبع ويعظم وقعه في القلوب، وليس على حقيقته لعدم الجهل بالسبب أعني الفصاحة والحلاوة، فالمعنى ومنهم من يروقك ويعظم في نفسك ما يقوله: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي في أمور الدنيا وأسباب المعاش- سواء كانت عائدة إليه أم لا- فالمراد من الْحَياةِ ما به الحياة والتعيش، أو في معنى الدُّنْيا فإنها مرادة من ادعاء المحبة وإظهار الإيمان- فالحياة الدنيا- على معناها، وجعله ظرفا للقول من قبيل قولهم في عنوان المباحث الفصل الأول في كذا والكلام في كذا أي المقصود منه ذلك ولا حذف في شيء من التقديرين على ما وهم وتكون الظرفية حينئذ تقديرية كما في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «في النفس المؤمنة مائة من الإبل»
أي في قتلها فالسبب الذي هو القتل متضمن للدية تضمن الظرف للمظروف وهذه هي التي يقال لها إنها سببية كذا في الرضي قاله بعض المحققين، وجوز تعلق المجرور بالفعل قبله أي يعجبك في الدنيا قوله لفصاحته وطراوة ألفاظه ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة واللكنة أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك، والآية كما
قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة «أقبل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة فأظهر له الإسلام وأعجب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك منه وقال: إنما جئت أريد الإسلام والله تعالى يعلم إني لصادق ثم خرج من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فمر بزرع من المسلمين (١) وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر»
وقيل: في المنافقين كافة وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ أي بحسب ادعائه حيث يقول الله يعلم أن ما في قلبي موافق لما في لساني وهو معطوف على يُعْجِبُكَ وفي مصحف أبيّ ويستشهد الله، وقرىء ويشهد الله بالرفع، فالمراد بما في قلبه ما فيه حقيقة، ويؤيده قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والله يشهد على ما في قلبه على أن كلمة على لكون المشهود به مضرا له، والجملة حينئذ اعتراضية.
وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أي شديد المخاصمة في الباطل كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واستشهد عليه بقول مهلهل.

إن تحت الحجار حزما وجورا وخصيما ألد ذا مقلاق
فألد صفة كأحمر بدليل جمعه على لد ومجيء مؤنثه لداء لا أفعل تفضيل والإضافة من إضافة الصفة إلى فاعلها كحسن الوجه على الإسناد المجازي وجعلها بعضهم بمعنى في على الظرفية التقديرية أي شديد في المخاصمة ونقل أبو حيان عن الخليل أن ألد أفعل تفضيل فلا بد من تقدير، وخصامه ألد الخصام أو ألد ذوي الخصام، أو يجعل وهو راجع إلى الخصام المفهوم من الكلام على بعد، أو يقال الخصام جمع خصم كبحر وبحار وصعب وصعاب، فالمعنى أشد الخصوم خصومة، والإضافة فيه للاختصاص كما في أحسن الناس وجها، وفي الآية إشارة إلى أن شدة المخاصمة مذمومة،
وقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم»
وأخرج أحمد عن أبي الدرداء «كفى بك إثما أن لا تزال مماريا وكفى بك ظالما أن لا تزال مخاصما وكفى بك كاذبا أن لا تزال محدثا إلا حديث في ذات الله عز وجل» وشدة الخصومة من صفات
(١) قوله: (بزرع من المسلمين) كذا بخطه اهـ.

صفحة رقم 490

المنافقين لأنهم يحبون الدنيا فيكثرون الخصام عليها وَإِذا تَوَلَّى أي أدبر وأعرض قاله الحسن، أو إذا غلب وصار واليا- قاله الضحاك- سَعى أي أسرع في المشي أو عمل فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ما أمكنه وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ كما فعله الأخنس، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف، أو بالظلم الذي يمنع الله تعالى بشؤمه القطر، والْحَرْثَ الزرع وَالنَّسْلَ كل ذات روح يقال نسل ينسل نسولا إذا خرج فسقط، ومنه نسل وبر البعير أو ريش الطائر، وسمي العقب من الولد نسلا لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه، وذكر الأزهري أن الْحَرْثَ هنا النساء وَالنَّسْلَ الأولاد،
وعن الصادق أن الحرث في هذا الموضع الدين والنسل الناس،
وقرىء ويهلك الحرث، والنسل على أن الفعل للحرث والنسل، والرفع للعطف على سَعى وقرأ الحسن بفتح اللام وهي لغة- أبى يأبى- وروي عنه ويهلك على البناء للمفعول وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ لا يرضى به فاحذروا غضبه عليه، والجملة اعتراض للوعيد واكتفى فيها على الفساد لانطوائه على الثاني لكونه من عطف العام على الخاص، ولا يرد أن الله تعالى مفسد للأشياء قبل الإفساد، فكيف حكم سبحانه بأنه لا يحب الفساد، لأنه يقال: الإفساد- كما قيل في الحقيقة- إخراج الشيء عن حالة محمودة- لا لغرض صحيح- وذلك غير موجود في فعله تعالى ولا هو آمر به، وما نراه من فعله جل وعلا إفسادا فهو بالإضافة إلينا، وأما بالنظر إليه تعالى فكله صلاح، وأما أمره بإهلاك الحيوان مثلا لأكله فلإصلاح الإنسان الذي هو زبدة هذا العالم، وأما إماتته فأحد أسباب حياته الأبدية ورجوعه إلى وطنه الأصلي، وقد تقدم ما عسى أن تحتاجه هنا.
وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ في فعلك أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ أي احتوت عليه وأحاطت به، وصار كالمأخوذ بها، والْعِزَّةُ في الأصل خلاف الذل وأريد بها الأنفة والحمية مجازا. بِالْإِثْمِ أي مصحوبا أو مصحوبة به أو بسبب إثمه السابق، ويجوز أن يكون- أخذ- من الأخذ بمعنى الأسر، ومنه الأخيذ للأسير، أي جعلته الْعِزَّةُ وحمية الجاهلية أسيرا بقيد الإثم لا يتخلص منه فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر أي كافيه جَهَنَّمُ وقيل: جَهَنَّمُ فاعل لحسبه ساد مسد خبره، وهو مصدر بمعنى الفاعل وقوي لاعتماده على- الفاء- الرابطة للجملة بما قبلها، وقيل:
«حسب» اسم فعل ماض بمعنى كفى- وفيه نظر- وجَهَنَّمُ علم لدار العقاب أو لطبقة من طبقاتها ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث، وهي من الملحق بالخماسي بزيادة الحرف الثالث ووزن فعنلل، وفي البحر إنها مشتقة من قولها: ركية جهنام- إذا كانت بعيدة القعر- وكلاهما من الجهم، وهي الكراهية، والغلظ، ووزنها فعنل. ولا يلتفت لمن قال: وزنها فنعلل كعرندس، وأن فعنلا مفقود لوجود فعنل نحو دونك وخفنك وغيرهما، وقيل: إنها فارسي وأصلها كهنام فعربت- بإبدال الكاف جيما وإسقاط الألف- والمنع من الصرف حينئذ للعلمية والعجمة وَلَبِئْسَ الْمِهادُ جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف لظهوره وتعينه، والْمِهادُ الفراش، وقيل: ما يوطىء للجنب- والتعبير به للتهكم- وفي الآية ذم لمن يغضب إذا قيل له: اتَّقِ اللَّهَ ولهذا قال العلماء: إذا قال الخصم للقاضي:
اعدل ونحوه له أن يعزره، وإذا قال له: اتَّقِ اللَّهَ لا يعزره. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «إنّ من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله تعالى فيقول: عليك بنفسك عليك بنفسك» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ أي يبيعها ببذلها في الجهاد على ما روي عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في سرية الرجيع، أو في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على ما أخرج ابن جرير عن أبي الخليل قال: سمع عمر رضي الله تعالى عنه إنسانا يقرأ هذه الآية فاسترجع وقال: قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلبا لرضاه، ف ابْتِغاءَ مفعول له، ومَرْضاتِ مصدر بني- كما في البحر- على التاء كمدعاة، والقياس تجريده منها، وكتب في المصحف- بالتاء- ووقف عليه- بالتاء والهاء- وأكثر الروايات أن الآية نزلت في

صفحة رقم 491

صهيب الرومي رضي الله تعالى عنه، فقد أخرج جماعة أنّ صهيبا أقبل مهاجرا نحو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فاتبعه نفر من المشركين فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلا وايم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا: دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أبا يحيى ربح البيع ربح البيع» وتلا له الآية. وعلى هذا يكون الشراء على ظاهره بمعنى الاشتراء.
وفي الكواشي أنها نزلت في الزبير بن العوام وصاحبه المقداد بن الأسود لما
قال عليه الصلاة والسلام: «من ينزل خبيبا عن خشبته فله الجنة»
فقال: أنا وصاحبي المقداد- وكان خبيب قد صلبه أهل مكة- وقال الإمامية وبعض منا: إنها نزلت في على كرم الله تعالى وجهه حين استخلفه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على فراشه بمكة لما خرج إلى الغار، وعلى هذا يرتكب في السراء مثل ما ارتكب أولا وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ أي المؤمنين حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وجعل النعيم الدائم جزاء العمل المنقطع وأثاب على شراء ملكه بملكه.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً
أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام فعظموا السبت وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا:
إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إن التوراة كتاب الله تعالى فدعنا فلنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية،
فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب، والسِّلْمِ بمعنى الإسلام، وكَافَّةً في الأصل صفة من كف بمعنى منع، استعمل بمعنى الجملة بعلاقة أنها مانعة للأجزاء عن التفرق- والتاء- فيه للتأنيث أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية كعامة وخاصة وقاطبة أو للمبالغة. واختار الطيبي الأول مدعيا أن القول بالأخيرين خروج عن الأصل من غير ضرورة، والشمول المستفاد منه شمول الكل للأجزاء لا الكلي لجزئياته ولا الأعم منهما، ولا يختص بمن يعقل، ولا بكونه حالا ولا نكرة خلافا لابن هشام- وليس له في ذلك ثبت- وهو هنا حال من الضمير في ادْخُلُوا والمعنى ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تدعوا شيئا من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه بحيث لا يبقى مكان لغيره من شريعة موسى عليه السلام، وقيل: الخطاب للمنافقين، والسِّلْمِ بمعنى الاستسلام والطاعة على ما هو الأصل فيه، وكَافَّةً حال من الضمير أيضا، أي استسلموا لله تعالى وأطيعوه جملة واتركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا، وقيل:
الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان بشريعتهم، والمراد من السِّلْمِ جميع الشرائع بذكر الخاص وإرادة العام بناء على القول بأن الإسلام شريعة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، وحمل- اللام- على الاستغراق، وكَافَّةً حال من السِّلْمِ والمعنى ادخلوا أيها المؤمنون بشريعة واحدة في الشرائع كلها ولا تفرقوا بينها، وقيل: الخطاب للمسلمين الخلص، والمراد من السِّلْمِ شعب الإسلام، وكَافَّةً حال منه، والمعنى ادْخُلُوا أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فِي شعب الإيمان كلها ولا تخلوا بشيء من أحكامه، وقال الزجاج في هذا الوجه: المراد من السِّلْمِ الإسلام، والمقصود أمر المؤمنين بالثبات عليه، وفيه أن التعبير عن الثبات على الإسلام بالدخول فيه بعيد غاية البعد، وهذا ما اختاره بعض المحققين من ستة عشر احتمالا في الآية حاصلة من ضرب احتمالي السِّلْمِ في احتمالي كَافَّةً وضرب المجموع في احتمالات الخطاب، ومبنى ذلك على أمرين، أحدهما أن كَافَّةً لإحاطة الأجزاء، والثاني أن محط الفائدة في الكلام القيد كما هو المقرر عند البلغاء، ونص عليه

صفحة رقم 492

الشيخ في دلائل الإعجاز، وإذا اعتبرت احتمال الحالية من الضمير والظاهر معا كما في قوله:

خرجت بها نمشي تجر وراءنا على أثرينا ذيل مرط مرحل
بلغت الاحتمالات أربعة وعشرين، ولا يخفى ما هو الأوفق منها بسبب النزول. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي «السلم» بفتح السين والباقون- بكسرها- وهما لغتان مشهورتان فيه، وقرأ الأعمش بفتح السين واللام وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بمخالفة ما أمرتم به، أو بالتفرق في جملتكم، أو بالتفريق بالشرائع أو الشعب إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة أو مظهر لها، وهو تعليل للنهي والانتهاء.
فَإِنْ زَلَلْتُمْ أي ملتم عن الدخول فِي السِّلْمِ وتنحيتم، وأصله السقوط وأريد به ما ذكر مجازا.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أي الحجج الظاهرة الدالة على أنه الحق، أو آيات الكتاب الناطقة بذلك الموجبة للدخول فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره لا يعجزه شيء من الانتقام منكم حَكِيمٌ لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المجرمين هَلْ يَنْظُرُونَ استفهام في معنى النفي، والضمير للموصول السابق إن أريد به المنافقون أو أهل الكتاب، أو إلى مَنْ يُعْجِبُكَ إن أريد به مؤمنو أهل الكتاب أو المسلمون. إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بالمعنى اللائق به جل شؤونه منزها عن مشابهة المحدثات والتقيد بصفات الممكنات. فِي ظُلَلٍ جمع ظلة كقلة وكقلل وهي ما أظلك، وقرىء ظلال كقلال مِنَ الْغَمامِ أي السحاب أو الأبيض منه وَالْمَلائِكَةُ يأتون، وقرىء «والملائكة» بالجر عطف على ظلل أو الغمام والمراد مع الْمَلائِكَةُ أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء وينزل الله تعالى في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن عمر في هذه الآية قال: يهبط حين يهبط وبينه وبين خاتمه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك العظمة صوتا تنخلع له القلوب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن من الغمام ظللا يأتي الله تعالى فيها محفوفات بالملائكة، وقرأ أبيّ «إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل» ومن الناس من قدر في أمثال هذه المتشابهات محذوفا فقال: في الآية الإسناد مجازي، والمراد يأتيهم أمر الله تعالى وبأسه أو حقيقي، والمفعول محذوف أي يأتيهم الله تعالى ببأسه، وحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله سبحانه: أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فإن العزة.
والحكمة تدل على الانتقام بحق، وهو البأس والعذاب، وذكر الملائكة لأنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة، ويكون ذكر الله تعالى حينئذ تمهيدا لذكرهم كما في قوله سبحانه: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: ٩] على وجه وخص الغمام بمحلية العذاب لأنه مظنة الرحمة فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير، ولا يخفى أن من علم أن الله تعالى أن يظهر بما شاء وكيف شاء ومتى شاء وأنه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق منزه عن التقيد مبرأ عن التعدد كما ذهب إليه سلف الأمة وأرباب القلوب من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يحتج إلى هذه الكلفات، ولم يحم حول هذه التأويلات وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أتم أمر العباد وحسابهم فأثيب الطائع وعوقب العاصي وأتم أمر إهلاكهم وفرغ منه وهو عطف على هَلْ يَنْظُرُونَ لأنه خبر معنى ووضع الماضي موضع المستقبل لدنو وتيقن وقوعه. وقرأ معاذ بن جبل وقضاء الأمر عطفا على الملائكة وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تذييل للتأكيد كأنه قيل: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ التي من جملتها الحساب أو الإهلاك، وعلى قراءة معاذ عطف على هَلْ يَنْظُرُونَ أي لا ينظرون إلا الإتيان وأمر ذلك إلى الله تعالى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم- ترجع- على البناء للمفعول على أنه من الرجع، وقرأ

صفحة رقم 493

الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع، وقرىء أيضا بالتذكير وبناء المفعول سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أمر للرسول صلّى الله عليه وسلّم كما هو الأصل في الخطاب أو لكل واحد ممن يصح منه السؤال، والمراد بهذا السؤال تقريعهم وتوبيخهم على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا أن يجيبوا فيعلم من جوابهم كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد يقول لمن حضر سله كم أنعمت عليه، وربط الآية بما قبلها على ما قيل: إن الضمير في هَلْ يَنْظُرُونَ إن كان لأهل الكتاب فهي كالدليل عليه وإن كان لمن يُعْجِبُكَ فهي بيان لحال المعاندين من أهل الكتاب بعد بيان حال المنافقين من أهل الشرك كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي علامة ظاهرة وهي المعجزات الدالة على صدق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال الحسن، ومجاهد، وتخصيص إيتاء المعجزات بأهل الكتاب مع عمومه للكل لأنهم أعلم من غيرهم بالمعجزات وكيفية دلالتها على الصدق لعلمهم بمعجزات الأنبياء السابقة وقد يراد بالآية معناها المتعارف وهو طائفة من القرآن وغيره، وبينة من بان المتعدي، فالسؤال على إيتاء الآيات المتضمنة لنعت الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتحقيق نبوته والتصديق بما جاء به. وكَمْ إما خبرية والمسئول عنه محذوف، والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لاستحقاقهم التقريع كأنه قيل: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد- آتيناهم آيات كثيرة بينة- وزعم لزوم انقطاع الجملة على هذا التقدير- وهم كما ترى، وإما استفهامية والجملة في موضع المفعول الثاني ل سَلْ وقيل: في موضع المصدر أي سلهم هذا السؤال، وقيل: في موضع الحال أي سلهم قائلا- كم آتيناهم- والاستفهام للتقرير بمعنى حمل المخاطب على الإقرار، وقيل: بمعنى التحقيق والتثبيت، واعترض بأن معنى التقريع الاستنكار والاستبعاد وهو لا يجامع التحقيق، وأجيب بأن التقريع إنما هو على جحودهم الحق وإنكاره المجامع لإيتاء الآيات لا على الإيتاء حتى يفارقه، ومحلها النصب على أنها مفعول ثان- لآتينا- وليس من الاشتغال كما وهم أو الرفع بالابتداء على حذف العائد، والتقدير- آتيناهموها- أو آتيناهم إياها، وهو ضعيف عند سيبويه، وآيَةٍ تمييز، ومِنْ صلة أتي بها للفصل بين كون آيَةٍ مفعولا- لآتينا- وكونها مميزة ل كَمْ ويجب الإتيان بها في مثل هذا الموضع فقد قال الرضي: وإذا كان الفصل بين- كم- الخبرية ومميزها بفعل متعد وجب الإتيان بمن لئلا يلتبس المميز بمفعول ذلك المتعدي نحو كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ [الدخان: ٢٥] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ [الحجر: ٤] وحال- كم- الاستفهامية المجرور مميزها مع الفصل كحال- كم الخبرية في جميع ما ذكرنا انتهى. وحكي عنه أنه أنكر زيادة من في مميز الاستفهامية وهو محمول على الزيادة بلا فصل
لا مطلقا فلا تنافي بين كلاميه وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ أي آياته فإنها سبب الهدي الذي هو أجل النعم، وفيه وضع المظهر موضع المضمر بغير لفظه السابق لتعظيم الآيات، وتبديلها تحريفها وتأويلها الزائغ، أو جعلها سببا للضلالة وازدياد الرجس، وعلى التقديرين لا حذف في الآية، وقال أبو حيان حذف حرف الجر من نِعْمَةَ والمفعول الثاني ل يُبَدِّلْ والتقدير ومن يبدل بنعمة الله كفرا، ودل على ذلك ترتيب جواب الشرط عليه وفيه ما لا يخفى، وقرىء- ومن يبدل- بالتخفيف مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ أي وصلته وتمكن من معرفتها، وفائدة هذه الزيادة- وإن كان تبديل الآيات مطلقا مذموما- التعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها، وفيه تقبيح عظيم لهم ونعي على شناعة حالهم واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا بعد المعرفة وبهذا يندفع ما يتراءى من أن التبديل لا يكون إلا بعد المجيء فما الفائدة في ذكره فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ تعليل للجواب أقيم مقامه والتقدير ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة لأنه شديد العقاب، ويحتمل أن يكون هو الجواب بتقدير الضمير أي شديد العقاب له وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا أي أوجدت حسنة وجعلت محبوبة في قلوبهم فتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار وأعرضوا عما سواها ولذا أعرض أهل الكتاب عن الآيات

صفحة رقم 494

وبدلوها، وفاعل التزيين بهذا المعنى حقيقة هو الله تعالى وإن فسر بالتحسين بالقول ونحوه من الوسوسة كما في قوله تعالى: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ [الحجر: ٣٩] كان فاعل ذلك هو الشيطان والآية محتملة لمعنيين، والتزيين حقيقة فيهما على ما يقتضيه ظاهر كلام الراغب وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الموصول للعهد، والمراد به فقراء المؤمنين كصهيب وبلال وعمار أي يستهزئون بهم على رفضهم الدنيا. وإقبالهم على العقبى، ومِنَ للتعدية وتفيد معنى الابتداء كأنهم جعلوا لفقرهم ورثاثة حالهم منشأ للسخرية وقد يعدى السخر بالباء إلا أنه لغة رديئة، والعطف على زين وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار، وجوز أن تكون الواو للحال ويسخرون خبر لمحذوف أي وهم يسخرون، والآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من رؤساء قريش بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من فقراء المؤمنين ويقولون لو كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا لاتبعه أشرافنا، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وقيل: نزلت في ابن سلول، وقيل: في رؤساء اليهود، ومن بني قريظة، والنضير وقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين وعن عطاء لا مانع من نزولها في جميعهم وَالَّذِينَ اتَّقَوْا هم الذين آمنوا بعينهم وآثر التعبير به مدحا لهم بالتقوى وإشعارا بعلة الحكم، ويجوز أن يراد العموم ويدخل هؤلاء فيهم دخولا أوليا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مكانا لأنهم في عليين وأولئك في أسفل السافلين، أو مكانة لأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض الذل والمهانة، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، والجملة معطوفة على ما قبلها، وإيثار الاسمية للدلالة على دوام مضمونها، وفي ذلك من تسلية المؤمنين ما لا يخفى وَاللَّهُ يَرْزُقُ في الآخرة مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي بلا نهاية لما يعطيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: هذا الرزق في الدنيا، وفيه إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزأ بهم أموال بني قريظة والنضير، ويجوز أن يراد في الدارين فيكون تذييلا لكلا الحكمين كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً متفقين على التوحيد مقرين بالعبودية حين أخذ الله تعالى عليهم العهد، وهو المروي عن أبيّ بن كعب، أو بين آدم وإدريس عليهما السلام بناء على ما في روضة الأحباب أن الناس في زمان آدم كانوا موحدين متمسكين بدينه بحيث يصافحون الملائكة إلا قليل من قابيل ومتابعيه إلى زمن رفع إدريس، أو بين آدم ونوح عليهما السلام على ما روى البزار وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان بينهما عشرة قرون على شريعة من الحق، أو بعد الطوفان إذ لم يبق بعده سوى ثمانين رجلا وامرأة ثم ماتوا إلا نوحا وبنيه حام وسام ويافث وأزواجهم وكانوا كلهم على دين نوح عليه الصلاة والسلام فالاستغراق على الأول والأخير حقيقي، وعلى الثاني والثالث
ادعائي بجعل القليل في حكم العدم، وقيل: متفقين على الجهالة والكفر بناء على ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا كفارا وذلك بعد رفع إدريس عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث نوح أو بعد موت نوح عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث هود عليه الصلاة والسلام فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ أي فاختلفوا فبعث إلخ وهي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وإنما حذف تعويلا على ما يذكر عقبه مُبَشِّرِينَ من آمن بالثواب وَمُنْذِرِينَ من كفر بالعذاب وهم كثيرون،
فقد أخرج أحمد وابن حبان عن أبي ذر أنه سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كم الأنبياء؟
قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قلت: يا رسول الله كم الرسل؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير»
ولا يعارض هذا قوله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ [النساء: ١٦٤] الآية لما سيأتي إن شاء الله تعالى، والجمعان منصوبان على الحال من النبيين، والظاهر أنها حال مقدرة، والقول بأنها حال مقارنة خلاف الظاهر.
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ اللام للجنس ومعهم حال مقدرة من الكتاب فيتعلق بمحذوف، وليس منصوبا بأنزل والمعنى أنزل جنس الكتاب مقدرا مقارنته ومصاحبته للنبيين حيث كان كل واحد منهم يأخذ الأحكام إما من كتاب

صفحة رقم 495

يخصه أو من كتاب من قبله، والكتب المنزلة مائة وأربعة في المشهور وأنزل على آدم عشر صحائف وعلى شيث ثلاثون وعلى إدريس خمسون وعلى موسى قبل التوراة عشرة والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وجوز كون اللام للعهد وضمير معهم للنبيين باعتبار البعض أي أنزل مع كل واحد من بعض النبيين كتابه ولا يخفى ما فيه من الركة بِالْحَقِّ متعلق ب أَنْزَلَ أو حال من الْكِتابَ أي متلبسا شاهدا به لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ علة للإنزال المذكور أوله وللبعث، وهذا البعث المعلل هو المتأخر عن الاختلاف فلا يضر تقدم بعثة آدم وشيث وإدريس عليهم الصلاة والسلام بناء على بعض الوجوه السابقة والحكم بمعنى الفصل بقرينة تعلق بين به ولو كان بمعنى القضاء لتعدى بعلى والضمير المستتر راجع إلى الله سبحانه ويؤيده قراءة الجحدري فيما رواه عنه مكي لنحكم بنون العظمة أو إلى النبي وأفرد الفعل لأن الحاكم كل واحد من النبيين، وجوز رجوعه إلى الكتاب والإسناد حينئذ مجازي باعتبار تضمنه ما به الفصل، وزعم بعضهم أنه الأظهر إذ لا بد في عوده إلى الله تعالى من تكلف في المعنى أي يظهر حكمه وإلى النبي من تكلف في اللفظ حيث لم يقل ليحكموا، ومما ذكرنا يعلم ما فيه من الضعف، والمراد من الناس المذكورون والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التعيين.
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في الحق الذي اختلفوا فيه بناء على أن وحدة الأمة بالاتفاق على الحق وإذا فسرت الوحدة بالاتفاق على الجهالة والكفر يكون الاختلاف مجازا عن الالتباس والاشتباه اللازم له والمعنى فيما التبس عليهم وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الحق بأن أنكروه وعاندوه أو في الكتاب المنزل متلبسا به بأن حرفوه وأولوه بتأويلات زائغة والواو حالية إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف وإزاحة الشقاق أي عكسوا الأمر حيث جعلوا ما أنزل مزيحا للاختلاف سببا لرسوخه واستحكامه، وبهذا يندفع السؤال بأنه لما لم يكن الاختلاف إلا من الذين أوتوه- فالاختلاف لا يكون سابقا على البعثة- وحاصله أن المراد هاهنا استحكام الاختلاف واشتداده، وعبر عن- الإنزال بالإيتاء- للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق فإن- الإنزال- لا يفيد ذلك، وقيل:
عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي رسخت في عقولهم الحجج الظاهرة الدالة على الحق، ومِنْ متعلقة ب اخْتَلَفُوا محذوفا، والحصر على تسليم أن يكون مقصودا مستفاد من المقام أو من حذف الفعل، ووقوع الظرف بعد حرف الاستثناء لفظا، أو من تقدير المحذوف مؤخرا- وفي الدر المصون تجويز تعلقه بما اختلف قبله- ولا يمنع منه إلا كما قاله أبو البقاء، وللنحاة في هذا المقام كلام محصله أنّ استثناء شيئين بأداة واحدة بلا عطف غير جائز مطلقا عند الأكثرين، لا على وجه البدل ولا غيره- ويجوز عند جماعة مطلقا- وفصل بعضهم إن كان المستثنى منه مذكورا مع كل من المستثنيين وهما بدلان جاز- وإلا فلا- واستدل من أجاز مطلقا بقوله تعالى: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وأجاب من لم يجوّز بأن النصب بفعل مقدر أي «اتبعوا» وبأن الظرف يكفيه رائحة الفعل فيجوز فيه ما لا يجوز في غيره- قاله الرضيّ- وهو مبنى الاختلاف في الآية، وقوله تعالى: بَغْياً بَيْنَهُمْ متعلق بما تعلق به مِنْ والبغي- الظلم أو الحسد، وبَيْنَهُمْ متعلق بمحذوف صفة بَغْياً وفيه إشارة- على ما أرى- إلى أن هذا- البغي- قد باض وفرخ عندهم، فهو يحوم عليهم ويدور بينهم لا طمع له في غيرهم، ولا ملجأ له سواهم، وفيه إيذان بتمكنهم في ذلك وبلوغهم الغاية القصوى فيه- وهو فائدة التوصيف بالظرف- وقيل: أشار بذلك إلى أن البغي أمر مشترك بينهم وأنّ كلهم سفل، ومنشأ ذلك مزيد حرصهم في الدنيا وتكالبهم عليها فَهَدَى اللَّهُ

صفحة رقم 496
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية