آيات من القرآن الكريم

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ
ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ

وعشرة أفعال تمال لحمزة فجاء وشاء ضاق ران وكملا
بزاد وخاب طاب خاف معا وحا ق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا
[البقرة: ١١- ٢٠] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ اختلف في هذه الجملة فقيل معطوفة على- يكذبون- لأنه أقرب وليفيد تسببه للعذاب أيضا وليؤذن أن صفة الفساد يحترز منها كما يحترز عن الكذب. ووجه إفادته لتسبب الفساد للعذاب أنه داخل في حيز صلة الموصول الواقع سببا إذ المعنى في قولهم: «إنما نحن مصلحون» إنكار لادعائهم أن ما نسب لهم منه صلاح وهو عناد وإصرار على الفساد والإصرار على ذلك فساد وإثم، وهذا الذي مال إليه الزمخشري- وهو مبني على عدم الاحتياج إلى ضمير في الجملة- يعود إلى «ما» فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإلا يكون التقدير- ولهم عذاب أليم- بالذي كانوا إذا قيل لهم إلخ وهو غير منتظم وكأن من يجعل «ما» مصدرية يجعل الوصل «بكان» حيث لم يعهد وصلها بالجملة الشرطية نعم يرد أن قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ كذب فيؤول المعنى إلى استحقاق العذاب بالكذب وعطف التفسير مما يأباه الذوق والاستعمال (١) ومن هنا قيل: بأن هذا العطف وجيه على قراءة يكذبون بالتشديد على أحد احتمالاته ليكون سببا للجمع بين ذمهم بالكذب والتكذيب. وقول مولانا مفتي الديار الرومية في الاعتراض: أن هذا النحو من التعليل حقه أن يكون بأوصاف ظاهرة العلية مسلمة الثبوت للموصوف غنية عن البيان لشهرة الاتصاف بها عند السامع أو لسبق الذكر صريحا أو استلزاما، ولا ريب في أن هذه الشرطية غير معلومة الانتساب بوجه- حتى تستحق الانتظام في سلك التعليل- لا يخفى ما فيه على من أمعن النظر، وقيل: معطوفة على يقول لسلامته مما في ذلك العطف من الدغدغة ولتكون الآيات حينئذ على نمط تعديد قبائحهم وإفادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالا وقصدا ودلالتها على لحوق
(١) فقد قالوا عطف التفسير بالواو في الجمل خلاف الظاهر اهـ منه.

صفحة رقم 154

العذاب بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم فما ظنك بسائرها؟ ولكون هذا الماضي لمكان إذا مستقبلا حسن العطف، وفيه أن مآل هذه الجملة الكذب كما أشير إليه فلا تغاير سابقها ولو سلم التغاير بالاعتبار وضم القيود فهي جزء الصلة أو الصفة وكلاهما يقتضي عدم الاستقلال، وأيضا كون ذلك الكذب أدنى أحوالهم لا يقبل عند من له أدنى عقل على أن تخلل البيان والاستئناف وإن لم يكن أجنبيا بين أجزاء الصلة أو الصفة لا يخلو عن استهجان فالذي أميل إليه وأعول دون هذين الأمرين عليه ما اختاره المدقق في الكشف، وقريب منه كلام أبي حيان في البحر أنها معطوفة على قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لبيان حالهم في ادعاء الإيمان وكذبهم فيه أولا ثم بيان حالهم في انهماكهم في باطلهم ورؤية القبيح حسنا والفساد صلاحا ثانيا، ويجعل المعتمد بالعطف مجموع الأحوال وإن لزم فيه عطف الفعلية على الاسمية فهو أرجح بحسب السياق ونمط تعديد القبائح، وما قيل عليه إنه ليس مما يعتد به وإن توهم كونه أو في بتأدية هذه المعاني وذلك لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر التي فيها إليهم- كما يشهد به سلامة الفطرة لمن له أدنى دربة بأساليب الكلام- كلام خارج عن دائرة الإنصاف كما يشهد به سلامة الفطرة من داء التعصب والاعتساف فإن عود الضمائر رابط للصفات بهم وسوق الكلام مناد عليه، وقد يأتي في القصة الواحدة جملة مستأنفة بغير عطف فإذا لم ينافه الاستئناف رأسا كيف ينافيه العطف على أوله المستأنف، والعطف إنما يقتضي مغايرة الأحوال لا مغايرة القصص وأصحابها وما أخرجه ابن جرير عن سلمان رضي الله تعالى عنه- من أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد- ليس المراد به أنها مخصوصة بقوم آخرين كما يشعر به الظاهر بل إنها لا تختص بمن كان من المنافقين وإن نزلت فيهم إذ خصوص السبب لا ينافي عموم النظم. ثم القائل للمنافقين في عصر النزول هذا القول إما النبي صلّى الله عليه وسلّم تبليغا عن الله سبحانه المخبر له بنفاقهم أو أنه عليه الصلاة والسلام بلغه عنهم ذلك ولم يقطع به فنصحهم فأجابوه بما أجابوه أو بعض المؤمنين الظانين بهم المتفرسين بنور الإيمان فيهم أو بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله منهم لأمر ما فينقلب واعظا لهم قائلا لا تُفْسِدُوا، والفساد التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة ونقيضه الصلاح، والمعنى لا تفعلوا ما يؤدي إلى الفساد- وهو هنا الكفر كما قاله ابن عباس- أو المعاصي- كما قاله أبو العالية- أو النفاق الذي صافوا به الكفار فأطلعوهم على أسرار المؤمنين فإن كل ذلك يؤدي- ولو بالوسائط- إلى خراب الأرض وقلة الخير ونزع البركة وتعطل المنافع، وإذا كان القائل بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله ممن شاركهم في الكفر يحمل الفساد على هيج الحروب والفتن الموجب لانتفاء الاستقامة ومشغولية الناس بعضهم ببعض فيهلك الحرث والنسل. ولعل النهي عن ذلك لخور أو تأمل في العاقبة وإراحة النفس عما ضرره أكبر من نفعه مما تميل إليه الحذاق. على أن في أذهان كثير من الكفار إذ ذاك توقع ما يغني عن القتال من وقوع مكروه بالمؤمنين وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: ٣٢]، ولا يخفى ما في هذا الوجه من التكلف والمراد من- الأرض- جنسها أو المدينة المنورة، والحمل على جميع الأرض ليس بشيء إذ تعريف المفرد يفيد استيعاب الأفراد لا الأجزاء، اللهم إلا أن يعتبر كل بقعة أرضا، لكن يبقى أنه لا معنى للحمل على الاستغراق باعتبار تحقق الحكم في فرد واحد وليس ذكر الأرض لمجرد التأكيد بل في ذلك تنبيه على أن الفساد واقع في دار مملوكة لمنعم أسكنكم بها وخولكم بنعمها.

وأقبح خلق الله من بات عاصيا لمن بات في نعمائه يتقلب
وإنما للحصر كما جرى عليه بعض النحويين وأهل الأصول، واختار في البحر أن الحصر يفهم من السياق ولم تدل عليه وضعا، وجعل القول بكونها مركبة من «ما» النافية دخل عليها «أن» التي للإثبات فأفادت الحصر قولا ركيكا

صفحة رقم 155

صادر عن غير عارف بالنحو. ومعنى إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ مقصورون على الإصلاح المحض الذي لم يشبه شيء من وجوه الفساد وقد بلغ في الوضوح بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه، والقصر إما قصر إفراد أو قلب وهذا إما ناشىء عن جهل مركب فاعتقدوا الفساد صلاحا فأصروا واستكبروا استكبارا.

يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وإما جار على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وقرأ هشام والكسائي «قيل» بإشمام الضم ليكون دالا على الواو المنقلبة، وقول: بإخلاص الضم وسكون الواو لغة لهذيل ولم يقرأ بها.
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ رد لدعواهم المحكية على أبلغ وجه حيث سلك فيه مسلك الاستئناف المؤدي إلى زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع مع تأكيد الحكم وتحقيقه «بأن، وألا» بناء على تركبها من همزة الاستفهام الإنكاري الذي هو نفي معنى «ولا» النافية فهو نفي نفي فيفيد الإثبات بطريق برهاني أبلغ من غيره- ولإفادتها التحقيق- كما قال ناصر الدين: لا يكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم «كان، واللام، وحرف النفي» والذي ارتضاه الكثير أنها بسيطة لا لأنها تدخل على أن المشددة ولا النافية لا تدخل عليها إذ قد يقال: انفسخ بعد التركيب حكمها الأصلي بل لأن الأصل البساطة، ودعوى لا يكاد إلخ لا تكاد تسلم كيف وقد دخلت على رب وحبذا ويا النداء في- ألا رب يوم صالح لك منهما- وألا حبذا هند وأرض بها هند- وألا يا قيس والضحاك سيرا- وضم إلى ذلك تعريف الخبر وتوسيط الفصل وأشار ب لا يَشْعُرُونَ على وجه إلى أن كونهم من المفسدين قد ظهر ظهور المحسوس بالمشاعر وإن لم يدركوه، وأتى سبحانه بالاستدراك هنا ولم يأت به بعد المخادعة لأن المخادعة هناك لم يتقدمها ما يتوهم منه الشعور توهما يقتضي تعقيبه بالرفع بخلاف ما هنا فإنهم لما نهوا عما تعاطوه من الفساد الذي لا يخفى على ذوي العقول فأجابوه بادعاء أنهم على خلافه، وأخبر سبحانه بفسادهم كانوا حقيقين بالعلم به مع أنهم ليسوا كذلك فكان محلا للاستدراك. وما يقال: من أنه لا ذمّ على من أفسد ولم يعلم وإنما الذم على من أفسد عن علم، يدفعه أن المقصر في العلم مع التمكن منه مذموم بلا ريب بل ربما يقال: إنه أسوأ حالا من غيره، وهذا كله على تقدير أن يكون مفعول لا يَشْعُرُونَ محذوفا مقدرا بأنهم مفسدون، ويحتمل أن يقدر أن وبال ذلك الفساد يرجع إليهم، أو أنا نعلم أنهم مفسدون ويكون أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ لإفادة لازم فائدة الخبر بناء على أنهم عالمون بالخبر جاحدون له كما هو عادتهم المستمرة، ويبعد هذا إذا كان المنافقون أهل كتاب، ويحتمل أن لا ينوي محذوف وهو أبلغ في الذم. وفيه مزيد تسلية له صلّى الله عليه وسلّم إذ من كان من أهل الجهل لا ينبغي للعالم أن يكترث بمخالفته، وفي التأويلات- لعلم الهدى- إن هذه الآية حجة على المعتزلة في أن التكليف لا يتوجه بدون العلم بالمكلف به وأن الحجة لا تلزم بدون المعرفة فإن الله تعالى أخبر أن ما صنعوا من النفاق إفساد منهم مع عدم العلم فلو كان حقيقة العلم شرطا للتكليف ولا علم لهم به لم يكن صنيعهم إفسادا لأن الإفساد ارتكاب المنهي عنه فإذا لم يكن النهي قائما عليهم عن النفاق لم يكن فعلهم إفسادا فحيث كان إفسادا دل على أن التكليف يعتمد قيام آلة العلم والتمكن من المعرفة لا حقيقة المعرفة فيكون حجة عليهم. وهذه المسألة متفرعة على مسألة مقارنة القدرة للفعل وعدمها، وأنت تعلم أنه مع قيام الاحتمال يقعد على العجز الاستدلال وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ إشارة إلى التحلية بالحاء المهملة- كما أن لا تفسدوا إشارة إلى التخلية بالخاء المعجمة- ولذا قدم، وليس هنا ما يدل على أن الأعمال داخلة في كمال الإيمان أو في حقيقته- كما قيل- لأن اعتبار ترك الفساد لدلالته على التكذيب المنافي للإيمان وحذف المؤمن به لظهوره أو أريد افعلوا الإيمان و «الكاف» في موضع نصب، وأكثر النحاة يجعلونها نعتا

صفحة رقم 156

لمصدر محذوف- أي إيمانا كما آمن الناس- وسيبويه لا يجوّز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في هذا الموضع ويجعلها منصوبة على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل ولم تجعل متعلقة بآمنوا والظرف لغو بناء على أن الكاف لا تكون كذلك و «ما» إما مصدرية أو كافة ولم تجعل موصولة لما فيه من التكلف، والمعنى على المصدرية آمنوا إيمانا مشابها لإيمان الناس، وعلى الكف حققوا إيمانكم كما تحقق إيمان الناس وذلك بأن يكون مقرونا بالإخلاص خالصا عن شوائب النفاق، والمراد من الناس الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين مطلقا- كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وهم نصب عين أولى الغين، وملتفت خواطرهم لتأملهم منهم، وقد مر ذكرهم أيضا لدخولهم دخولا أوليا في الذين آمنوا فالعهد
خارجي، أو خارجي ذكرى، أو من آمن من أبناء جنسهم- كعبد الله بن سلام- كما قاله جماعة من وجوه الصحابة، أو المراد الكاملون في الإنسانية الذين يعد من عداهم في عداد البهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل، فاللام إما للجنس أو للاستغراق.
واستدل بالآية على أن الإقرار باللسان إيمان وإلا لم يفد التقييد، وكونه للترغيب يأباه إيرادهم التشبيه في الجواب، والجواب عنه بعد إمكان معارضته بقوله تعالى وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ أنه لا خلاف في جواز إطلاق الإيمان على التصديق اللساني لكن من حيث إنه ترجمة عما في القلب أقيم مقامه إنما النزاع في كونه مسمى الإيمان في نفسه ووضع الشارع إياه له مع قطع النظر عما في الضمير على ما بين لك في محله، ولما طلب من المنافق الإيمان دل ذلك على قبول توبة الزنديق.

فإن لا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها
نعم إن كان معروفا بالزندقة داعيا إليها ولم يتب قبل الأخذ قتل كالساحر ولم تقبل توبته كما أفتى به جمع من المحققين.
قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أرادوا لا يكون ذلك أصلا فالهمزة للإنكار الإبطالي- وعنوا بالسفهاء إما أولئك الناس المتقدمين أو الجنس (١) بأسره وأولئك الكرام والعقلاء الفخام داخلون فيه بزعمهم الفاسد دخولا أوليا وأبعد من ذهب إلى أن اللام للصفة الغالبة كما في العيوق لأنه لم يغلب هذا الوصف على أناس مخصوصين إلّا أن يدعي غلبته فيما بينهم قاتلهم الله أنى يؤفكون- والسفه- الخفة والتحرك والاضطراب، وشاع في نقصان العقل والرأي وإنما سفهوهم جهلا منهم حيث اشتغلوا بما لا يجدي في زعمهم ويحتمل أن يكون ذلك من باب التجلد حذرا من الشماتة إن فسر الناس بمن آمن منهم، واليهود قوم بهت، وقد استشكل هذه الآية كثير من العلماء بأنه إذا كان القائل المؤمنين- كما هو الظاهر- والمجيب المنافقين يلزم أن يكونوا مظهرين للكفر إذا لقوا المؤمنين فأين النفاق وهو المفهوم من السباق والسياق؟ وأجيب بأن هذا الجواب كان فيما بينهم وحكاه الله تعالى عنهم ورده عليهم، وليس الجواب ما يقال مواجهة فقط فقد استفاض من الخلف إطلاق لفظ الجواب على رد كلام السلف مع بعد العهد من غير نكير، وقيل: «إذا» هنا بمعنى لو تحقيقا لإبطانهم الكفر وأنهم على حال تقتضي أنهم لو قيل لهم كذا قالوا كذا- كما قيل مثله في قوله- وإذا ما لمته لمته وحدي، وقيل: إنه كان بحضرة المسلمين لكن مسارّة بينهم وأظهره عالم السر والنجوى، وقيل: كان عند من لم يفش سرهم من المؤمنين لقرابة أو لمصلحة ما، وذكر مولانا مفتي الديار الرومية أن الحق الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونهم من المجاهرين
(١) أي جنس السفيه على ما يريد به بعض الأصوليين من بطلان الجمعية أو جنس السفهاء بوصف الجمعية على ما هو قانون العربية اهـ منه.

صفحة رقم 157

فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق لأنه كلام محتمل للشر- كما ذكره في تفسيره- وللخير بأن يحمل على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكار ما اتهموا به من النفاق على معنى- أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا- ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك، وقد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وهم معولون على الأول، والشرع ينظر للظاهر وعند الله تعالى علم السرائر، ولهذا سكت المؤمنون ورد الله سبحانه عليهم ما كانوا يسرون، فالكلام كناية عن كمال إيمانهم وليكن في قلب تلك الكناية نكاية فهو على مشاكلة قولهم اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [النساء: ٤٦] في احتمال الشر والخير ولذلك نهى عنه، وجعل رحمه الله تعالى قوله تعالى في الحكاية عنهم إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ من هذا القبيل أيضا، وإلى ذلك مال مولانا الشهاب الخفاجي وادعى أنه من بنات أفكاره، وعندي أنه ليس بشيء لأن أَنُؤْمِنُ لإنكار الفعل في الحال وقولهم كَما آمَنَ السُّفَهاءُ بصيغة الماضي صريح في نسبتهم السفاهة إلى المؤمنين لإيمانهم فلا تورية ولا نفاق، ولعله لما رأى صيغة الماضي زاد في بيان المعنى لو آمنوا، ولا أدري من أين أتى به. ولا يصلح العطّار ما أفسد الدهر. فالأهون بعض هاتيك الوجوه، وقوله: إن إبراز ما صدر عن أحد المتحاورين في الخلاء في معرض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهد به في الكلام- فضلا عما هو في منصب الإعجاز لا يخفى ما فيه- على من اطلع على محاورات الناس قديما وحديثا وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: ٤] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ رد وأشنع تجهيل حسبما أشير إليه فيما سلف، وإنما قال سبحانه هنا: لا يَعْلَمُونَ وهناك لا يَشْعُرُونَ لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد وهو مما يدرك بأدنى تأمل ولا يحتاج إلى كثير فكر، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر مبالغة في تجهيلهم، والمثبت هنا السفه والمصدر به الأمر بالإيمان وذلك مما يحتاج إلى نظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه خفة العقل والجهل بالأمور- على ما قيل- فيناسبه أتم مناسبة نفي العلم، وهذا مبني على ما هو الظاهر في المفعول وعلى غير الظاهر غير ظاهر فتدبر. ثم اعلم أنه إذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو السفهاء، ألا ففي ذلك أوجه، تحقيق الهمزتين وبذلك قرأ الكوفيون وابن عامر وتحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا وبذلك قرأ الحرميان وأبو عمرو، وتسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو. وتحقيق الثانية وتسهيل الأولى وإبدال الثانية واوا، وأجاز قوم جعل الهمزتين بين بين ومنعه آخرون.
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا بيان لدأب المنافقين وأنهم إذا استقبلوا المؤمنين دفعوهم عن أنفسهم بقولهم آمنا استهزاء فلا يتوهم أنه مكرر مع أول القصة لأنه إبداء لخبثهم ومكرهم وكشف عن إفراطهم في الدعارة وادعاء أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وأنهم أحاطوه من جانبيه على أنه لو لم يكن هذا لا ينبغي أن يتوهم تكرار أيضا لأن المعنى- ومن الناس من يتفوه بالإيمان نفاقا للخداع- وذلك التفوّه عند لقاء المؤمنين وليس هذا من التكرار بشيء لما فيه من التقييد وزيادة البيان وأنهم ضموا إلى الخداع الاستهزاء، وأنهم لا يتفوهون بذلك إلا عند الحاجة، والقول بأن المراد ب آمَنَّا أولا الإخبار عن إحداث الإيمان وهنا عن إحداث إخلاص الإيمان مما ارتضاه الإمام- ولا أقتدي به- وتأييده له بأن الإقرار اللساني كان معلوما منهم غير محتاج للبيان وإنما المشكوك الإخلاص القلبي- فيجب إرادته- يدفعه النظر من ذي ذوق فيما حررناه، واللقاء استقبال الشخص قريبا منه وهو أحد أربعة عشر (١) مصدرا للقي، وقرأ أبو

(١) وهي لقيا ولقية ولقاء ولقاة ولقاء ولقي ولقي ولقيا ولقيا ولقيانا ولقيانة وتلقاء اهـ منه.

صفحة رقم 158

حنيفة وابن السميقع لاقوا، وجعله في البحر بمعنى الفعل المجرد، وحذف المفعول في آمنا قيل اكتفاء بالتقييد قيل بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وقيل: المراد آمنا بما آمنتم به، وأبعد من قال أرادوا الإيمان بموسى عليه السلام دون غيره وحذفوا تورية منهم وإيهاما: هذا ولم يصح عندي في سبب نزول هذه الآية شيء، وأما ما ذكره الزمخشري والبيضاوي ومولانا مفتي الديار الرومية وغيرهم فهو من طريق السدي الصغير وهو كذاب، وتلك السلسلة سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب، وآثار الوجه لائحة على ما ذكروه فلا يعول عليه ولا يلتفت بوجه إليه وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ من خلوت به، وإليه إذا انفردت معه أو من قولهم في المثل: اطلب الأمر وخلاك ذم- أي عداك- ومضى عنك ومنه قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران: ١٣٧] وعلى الثاني المفعول الأول هاهنا محذوف لعدم تعلق الغرض به أي إذا خلوهم، وتعديته إلى المفعول الثاني إِلى لما في المضي عن الشيء معنى الوصول إلى الآخر واحتمال أن يكون من خلوت به أي سخرت منه، فمعنى الآية إذا أنهوا السخرية معهم وحدثوهم كما يقال أحمد إليك فلانا وأذمه إليك مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام رب العزة وإن ذكره الزمخشري والبيضاوي وغيرهما إذ لم يقع صريحا- خلا- بمعنى سخر في كلام من يوثق به، وقولهم: خلا فلان بعرض فلان يعبث به ليس بالصريح إذ يجوز أن يكون خلا على حقيقته أو بمعنى تمكن منه على ما قيل، والدال على السخرية يعبث به، وزعم النضر بن شميل أن إِلى هنا بمعنى مع ولا دليل عليه كالقول بأنها بمعنى الباء على أن سيبويه والخليل لا يقولان بنيابة الحرف عن الحرف، نعم إن الخلوة كما في التاج تستعمل ب «إلى، والباء، ومع» بمعنى واحد ويفهم من كلام الراغب أن أصل معنى الخلو فراغ المكان والحيز عن شاغل وكذا الزمان وليس بمعنى المضي، وإذا أريد به ذلك كان مجازا وظاهر كلام غيره أنه حقيقة. وضعيفان يغلبان قويا. والمراد ب شَياطِينِهِمْ من كانوا يأمرونهم بالتكذيب من اليهود- كما قاله ابن عباس- أو كهنتهم كما قاله الضحاك وجماعة- وسموا بذلك لتمردهم وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن أو لأن قرناءهم الشياطين إن فسروا بالكهنة- وكان على عهده صلى الله تعالى عليه وسلم كثير منهم- ككعب بن الأشرف من بني قريظة، وأبي بردة من بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وابن السوداء في الشام.
وحمله على شياطين الجن- كما قاله الكلبي- مما لا يختلج بقلبي، والشياطين جمع تكسير وإجراؤه مجرى الصحيح- كما في بعض الشواذ- تنزلت به الشياطون لغة غريبة جدا والمفرد شيطان وهو فيعال عند البصريين فنونه أصلية من شطن أي بعد لبعده عن امتثال الأمر ويدل عليه تشيطن وإلا لسقطت، واحتمال أخذه من الشيطان لا من أصله على أن المعنى فعل فعله خلاف الظاهر، وعند الكوفيين وزنه فعلان فنونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك أو بطل أو احترق غضبا والأنثى شيطانة وأنشد في البحر:

هي البازل الكوماء لا شيء غيرها وشيطانة قد جن منها جنونها
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن الشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب».
قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي معية معنوية وهي مساواتهم لهم في اعتقاد اليهودية وهو أم الخبائث، وأتى بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث مع ترك التأكيد فيما ألقى على المؤمنين المنكرين لما هم عليه أو المتمردين، وبالجملة الثبوتية مع التأكيد فيما ألقى إلى شياطينهم الذين ليسوا كذلك لأنهم في الأول بصدد دعوى إحداث الإيمان ولم ينظروا هنا لإنكار أحد وتردده إيهاما منهم أنهم بمرتبة لا ينبغي أن يتردد في إيمانهم ليؤكدوا لعله أن يتم لهم مرامهم بذلك في زعمهم وفي الثاني بصدد إفادة الثبات دفعا لما يختلج بخواطر شياطينهم من مخالطة المؤمنين ومخاطبتهم بالإيمان، وقيل: إلى التأكيد كما يكون لإزالة الإنكار والشك يكون لصدق الرغبة وتركه كما يكون لعدم ذلك يكون

صفحة رقم 159

لعدم اعتناء المتكلم فللرغبة أكدوا ولعدمها تركوا، أو لأنهم لو قالوا إنا مؤمنون كان ادعاء لكمال الإيمان وثباته، وهو لا يروج عند المؤمنين مع ما هم عليه من الرزانة وحدة الذكاء ولا كذلك شياطينهم، وعندي أن الوجه هو الأول إذ يرد على الأخيرين قوله تعالى فيما حكي عنهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: ١] إلا أن يقال إنهم أظهروا الرغبة هناك وتبالهوا عن عدم الرواج لغرض ما من الأغراض والأحوال شتى، والعوارض كثيرة ولهذا قيل: إنهم للتقية والخداع، ودعوى أنهم مثل المؤمنين في الإيمان- ليجروا عليهم أحكامهم ويعفوهم عن المحاربة- أكدوا بالباء فيما تقدم حيث قالوا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. والقول بأن الفرق بين آية الشهادة وآية الإيمان هنا ظاهر لأنهم لو قالوا إنا لمؤمنون لكانوا ملتزمين أمرين: رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم، ووجوب إيمانهم به بخلاف آية الشهادة فإن فيها التزام الأول ولا يلزم من عدم الرغبة في أمرين عدمها في أحدهما ظاهر الركاكة للمنصفين كما لا يخفى، وقرأ الجمهور مَعَكُمْ بتحريك العين وقرىء شاذا بسكونها وهي لغة ربيعة وغنم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ.
الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، واستفعل بمعنى فعل تقول هزأت به واستهزأت بمعنى كاستعجب وعجب، وذكر حجة الإسلام الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وبالإشارة والإيماء، وأرادوا مستخفون بالمؤمنين. وأصل هذه المادة الخفة يقال: ناقته تهزأ به أي تسرع وتخف- وقول الرازي إنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطال ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية- غير موافق للغة والعرف. والجملة إما استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم- لما قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إن صح ذلك- فما بالكم توافقون المؤمنين- فأجابوا بذلك. أو بدل من إنا معكم، وهل هو بدل اشتمال، أو كل، أو بعض؟ خلاف، أما الأول فلأن هذه الجملة تفيد ما تفيده الأولى وهو الثبات على اليهودية لأن المستهزئ بالشيء مصر على خلافه وزيادة وهو تعظيم الكفر المفيد، لدفع شبهة المخالطة وتصلبهم في الكفر فيكون بدل اشتمال.
«وأما الثاني» وبه قال السعد: فللتساوي من حيث الصدق ولا يقتضي التساوي من حيث المدلول، وأما الثالث فلأن كونهم معهم عام في المعية الشاملة للاستهزاء والسخرية وغير ذلك، أو تأكيد لما قبله بأن يقال: إن مدعاهم بأنا معكم الثبات على الكفر وإنما «نحن مستهزئون» لاستلزامه رد الإسلام ونفيه يكون مقررا للثبات عليه إذ رفع نقيض الشيء تأكيد لثباته لئلا يلزم ارتفاع النقيضين، أو يقال يلزم إِنَّا مَعَكُمْ إنا نوهم أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الإيمان فيكون الاستخفاف بهم وبدينهم تأكيدا باعتبار ذلك اللازم، وأولى الأوجه- عند المحققين- الاستئناف لولا ما ذكره الشيخ في دلائل الإعجاز من أن موضوع إِنَّما أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته فإنه يقتضي أن تقدير السؤال هنا أمر مرجوح ولعل الأمر فيه سهل، وقرىء مُسْتَهْزِؤُنَ بتخفيف الهمزة وبقلبها ياء مضمومة، ومنهم من يحذف الياء فتضم الزاي اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ حمل أهل الحديث وطائفة من أهل التأويل الاستهزاء منه تعالى على حقيقته وإن لم يكن المستهزئ من أسمائه سبحانه، وقالوا: إنه التحقير على وجه من شأنه أن من اطلع عليه يتعجب منه ويضحك ولا استحالة في وقوع ذلك منه عز شأنه ومنعه من قياس الغائب على الشاهد، وذهب أكثر الناس إلى أنه لا يوصف به- جل وعلا- حقيقة لما فيه من تقرير بالمستهزأ به على الجهل الذي فيه، ومقتضى الحكمة والرحمة أن يريه الصواب فإن كان عنده أنه ليس متصفا بالمستهزأ به فهو لعب لا يليق بكبريائه تعالى، فالآية على هذا مؤولة إما بأن يراد بالاستهزاء جزاؤه لما بين الفعل وجزائه من مشابهة في القدر وملابسة قوية ونوع سببية مع وجود المشاكلة المحسنة هاهنا، ففي الكلام استعارة تبعية أو مجاز مرسل، وإما بأن يراد به إنزال الحقارة، والهوان فهو مجاز عما هو بمنزلة الغاية له فيكون من إطلاق المسبب على السبب نظرا إلى التصور وبالعكس

صفحة رقم 160

نظرا إلى الوجود، وإما بأن يجعل الله- تعالى وتقدس- كالمستهزىء بهم على سبيل الاستعارة المكنية وإثبات الاستهزاء له تخييلا، ورب شيء يصح تبعا ولا يصح قصدا وله سبحانه أن يطلق على ذاته المقدسة ما يشاء تفهيما للعباد. وقد يقال إن الآية جارية على سبيل التمثيل والمراد يعاملهم سبحانه معاملة المستهزئ: إما في الدنيا بإجراء أحكام الإسلام واستدراجهم من حيث لا يعلمون، وإما في الآخرة بأن يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيقال:- هلم هلم- فيجيء بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال: هلم هلم- فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له باب فيقال:- هلم هلم- فما يأتيه، وقد روي ذلك بسند مرسل جيد الإسناد في المستهزئين بالناس، وأسند سبحانه الاستهزاء إليه مصدرا الجملة بذكره للتنبيه على أن الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جانب علمه وقدرته وأنه تعالى كفى عباده المؤمنين وانتقم لهم وما أحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما لشأنهم لأنهم ما استهزىء بهم إلا فيه ولا أحد أغير من الله سبحانه، وترك العطف لأنه الأصل وليس في الجملة السابقة ما يصح عطف هذا القول عليه إلا بتكلف وبعد، وقيل: ليكون إيراد الكلام على وجه يكون جوابا عن السؤال عن معاملة الله تعالى معهم في مقابلة معاملتهم هذه مع المؤمنين، وقولهم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ إشعار بأن ما حكي من الشناعة بحيث يقتضي ظهور غيرة الله تعالى ويسأل كل أحد عن كيفية انتقامه منهم ويشعر كلام بعض المحققين أنه لو ورد هذا القول بالعطف ولو على محذوف مناسب للمقام- كهم مستهزئون- بالمؤمنين لأفاد أن ذلك في مقابلة استهزائهم فلا يفيد أن الله تعالى أغنى المؤمنين عن معارضتهم مطلقا وأنه تولى مجازاتهم مطلقا بل يوهم تخصيص التولي بهذه المجازاة، وأيضا لكون استهزاء الله تعالى- بمكان بعيد من استهزائهم إلى حيث لا مناسبة بينهما- يكون العطف كعطف أمرين غير متناسبين، وبعضهم رتب الفائدتين اللتين ذكرناهما في الإسناد إليه تعالى على الاستئناف مدعيا أنه لو عطف- ولو بحسب التوهم- على مقدر بأن يقال المؤمنون مستهزؤون بهم والله يستهزىء بهم لفاتت الفائدتان هذا، ولعل ما ذكرناه أسلم من القيل والقال وأبعد عن مظان الاستشكال فتدبر، وعدل سبحانه عن- الله مستهزىء
بهم المطابق لقولهم- إلى قوله اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ لإفادته التجدد الاستمراري وهو أبلغ مع الاستمرار الثبوتي الذي تفيده الاسمية لأن البلاء إذا استمر قد يهون وتألفه النفس كما قيل: (١)

خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وقد كانت نكايات الله تعالى فيهم ونزول الآيات في شأنهم أمرا متجددا مستمرا أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التوبة: ١٢٦] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ [التوبة: ٦٤] وهذا نوع من العذاب الأدنى «ولعذاب الآخرة أشد لو كانوا يعلمون» (٢) وصرح بالمستهزأ به هنا ليكون الاستهزاء بهم نصا وإنما تركه المنافقون فيما حكي عنهم خوفا من وصوله للمؤمنين فأبقوا اللفظ محتملا ليكون لهم مجال في الذب إذا حوققوا فجعل الله تعالى- كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا- وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
معطوف على قوله سبحانه وتعالى: يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ كالبيان له على رأي، والمدّ من مد الجيش وأمده بمعنى
(١) هو المتنبي.
(٢) نص الآية ١٢٧ من سورة طه: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى وفي الزمر والقلم: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ

صفحة رقم 161

أي ألحق به ما يقويه ويكثره، وقيل: مد زاد من الجنس وأمد زاد من غير الجنس، وقيل: مد في الشراء وأمد في الخير عكس وعد وأوعد، وإذا استعمل أمد في الشر فلعله من باب فبشرهم بعذاب أليم، وقد ورد استعمال هذه المادة بمعنيين، أحدهما ما ذكرنا، وثانيهما الإمهال، ومنه مد العمر، والواقع هنا من الأول دون الثاني لوجهين، الأول أنه روي عن ابن كثير من غير السبعة يَمُدُّهُمْ بالضم من المزيد وهو لم يسمع في الثاني، والثاني أنه متعد بنفسه والآخر متعد باللام والحذف والإيصال خلاف الأصل فلا يرتكب بغير داع فمعنى يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يزيدهم ويقويهم فيه، وإلى ذلك ذهب البيضاوي وغيره، والحق أن الإمهال هنا محتمل وإليه ذهب الزجاج وابن كيسان والوجهان مخدوشان، فقد ورد- عند من يعول عليه من أهل اللغة- كل منهما ثلاثيا ومزيدا ومعدى بنفسه وباللام وكلاهما من أصل واحد ومعناهما يرجع إلى الزيادة كما أو كيفا، وفي الصحاح مد الله في عمره ومده في غيه أمهله وطول له، وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن مد الله تعالى في طغيانهم التمكين من العصيان. وعن ابن عباس الإملاء ونسبة المد إلى الله تعالى- بأي معنى كان عند أهل الحق- حقيقة إذ هو سبحانه وتعالى الموجد للأشياء المنفرد باختراعها على حسب ما اقتضته الحكمة ورفعت له أكفها الاستعدادات، ونسبته إلى غيره سبحانه وتعالى في قوله عز شأنه: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الأعراف: ٢٠٢] نسبة التوفي إلى الملك في قوله تعالى: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: ١١] مع قوله جل وعلا اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: ٤٢] وذهبت المعتزلة أن الزيادة في الطغيان والتقوية فيه مما يستحيل نسبته إليه تعالى حقيقة وحملوا الآية على محامل أخر، وقد قدمنا ما يوهن مذهبهم- فلنطوه هنا على ما فيه «والطغيان» بضم الطاء على المشهور، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بكسرها وهما لغتان فيه، وقد سمعا في مصدر اللقاء، وقد أماله الكسائي، وأصله تجاوز المكان الذي وقفت فيه ومن أخل بما عين من المواقف الشرعية والمعارف العقلية فلم يرعها فقد طغى، ومنه طغى الماء أي تجاوز الحد المعروف فيه، وإضافته إليهم لأنه فعلهم الصادر منهم بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى فالاختصاص المشعرة به الإضافة إنما هو بهذا الاعتبار لا باعتبار المحلية والاتصاف فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة ولا باعتبار الإيجاد استقلالا من غير توقف على إذن الفعال لما يريد فإنه اعتبار عليه غبار بل غبار ليس له اعتبار فلا تهولنك جعجعة الزمخشري وقعقعته، ويحتمل أن يكون الاختصاص للإشارة إلى أن طغيان غيرهم في جنبهم كلا شيء لادعاء اختصاصهم به وليس بالمنحرف عن سنن البلاغة «والعمه» التردد والتحير، ويستعمل في الرأي خاصة- والعمى فيه وفيه البصر- فبينهما عموم وخصوص مطلق في الاستعمال وإن تغايرا في أصل الوضع، واختص العمى بالبصر على ما قيل، وأصله الأصيل عدم الإمارات في الطريق التي تنصب- لتدل من حجارة- وتراب ونحوهما وهي المنار ويقال عمه يعمه- كتعب يتعب- عمها وعمهانا فهو عمه وعامه وعمهاء (١) فمعنى يعمهون على هذا يترددون ويتحيرون، وإلى ذلك ذهب جمع من المفسرين، وقيل: العمه العمى عن الرشد، وقال ابن قتيبة: هو أن يكب رأسه فلا يبصر ما يأتي، فالمعنى يعمون عن رشدهم أو يكبون رؤوسهم فلا يبصرون وكأن هذا أقرب إلى الصواب لأن المنافقين لم يكونوا مترددين في الكفر بل كانوا مصرين عليه معتقدين أنه الحق وما سواه باطل إلا أن يقال التردد والتحير في أمر آخر لا في الكفر، وجملة يَعْمَهُونَ في موضع نصب على الحال إما من الضمير في- يمدهم- وإما من الضمير في- طغيانهم- لأنه مصدر مضاف إلى الفاعل، وفي- طغيانهم- يحتمل أن يكون متعلقا- بيمدهم- وأن يكون متعلقا- بيعمهون- وجاز على خلاف (٢) كون في طُغْيانِهِمْ ويَعْمَهُونَ

(١) قوله وعمها. كذا بخط المؤلف اهـ.
(٢) المخالف أبو البقاء قال: العامل لا يعمل في حالين اهـ منه. [.....]

صفحة رقم 162

حالين من الضمير في يمدهم أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى إشارة إلى المنافقين الذين تقدم ذكرهم الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى الصلاح وهم المفسدون، ونسبة السفه للمؤمنين- وهم السفهاء- والاستهزاء- وهم المستهزأ بهم- ولبعد منزلتهم في الشر وسوء الحال أشار إليهم بما يدل على البعد، والكلام هنا يمكن أن يكون واقعا موقع أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: ٥] فإن السامع بعد سماع ذكرهم وإجراء تلك الأوصاف عليهم كأنه يسأل من أين دخل على هؤلاء هذه الهيئات؟ فيجاب بأن أولئك المستبعدين إنما جسروا عليها لأنهم اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى حتى خسرت صفقتهم وفقدوا الاهتداء للطريق المستقيم ووقعوا في تيه الحيرة والضلال، وقيل: هو فذلكة وإجمال لجميع ما تقدم من حقيقة حالهم أو تعليل لاستحقاقهم الاستهزاء الأبلغ والمد في الطغيان أو مقرر لقوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وفيه حصر المسند على المسند إليه لكون تعريف الموصول للجنس بمنزلة تعريف اللام الجنسي وهو ادعائي باعتبار كمالهم في ذلك الاشتراء، وإن كان الكفار الآخرون مشاركين لهم في ذلك لجمعهم هاتيك المساوئ الشنيعة والخلال الفظيعة، فبذلك الاعتبار صح تخصيصهم بذلك، والضلالة الجور عن القصد، والهدى التوجه إليه، ويطلقان على العدول عن الصواب في الدين والاستقامة عليه، والاشتراء كالشراء استبدال السلعة بالثمن- أي أخذها به- وبعضهم يجعله من الأضداد لأن المتبايعين تبايعا الثمن والمثمن فكل من العوضين مشترى من جانب مبيع من جانب، ويطلق مجازا على أخذ شيء بإعطاء ما في يده عينا كان كل منهما أو معنى، وهذا يستدعي بظاهره أن يكون ما يجري مجرى الثمن- وهو الهدى- حاصلا لهؤلاء قبل، ولا ريب أنهم بمعزل عنه فإما أن يقال: إن الاشتراء مجاز عن الاختيار لأن المشتري للشيء مختار له فكأنه تعالى قال: اختاروا الضلالة على الهدى ولكون الاستبدال ملحوظا جيء بالباء على أنه قيل: إن التوافق معنى لا يقتضي التوافق متعلقا، ولا يرد على هذا الحمل كونه مخلا بالترشيح الآتي كما زعمه مولانا مفتي الديار الرومية لأن الترشيح المذكور يكفي له وجود لفظ الاشتراء وإن كان المعنى المقصود غير مرشح- كما هو العادة في أمثاله- أو يقال ليس المراد بما في حيز الثمن نفس الهدى بل هو التمكن التام منه بتعاضد الأسباب وبأخذ المقدمات المستتبعة له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامع المشاركة في استتباع الجدوى، ولا مرية في أن ذلك كان حاصلا لأولئك المنافقين بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة والإرشاد العظيم والنصح والتعليم لكنهم نبذوا ذلك فوقعوا في مهاوي المهالك، أو يقال: المراد بالهدى الهدى الجبلي وقد كان حاصلا لهم حقيقة- فإن كل مولود يولد على الفطرة- وقول مولانا مفتي الديار الرومية: إن حمل الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أن إضاعتها غير مختصة بهؤلاء، ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم المختصة بهم فليس في إضاعتها فقط من الشناعة ما في إضاعتها مع ما يؤيدها من المؤيدات النقلية والعقلية على أن ذلك يفضي إلى كون- ما فصل من أول السورة إلى هنا ضائعا- كلام ناشىء عن الغفلة عن معنى الإشارة فإنها تقتضي ملاحظتهم بجميع ما مر من الصفات، والمعنى أن الموصوفين بالنفاق المذكور، هم الذين ضيعوا الفطرة أشد تضييع بتهويد الآباء ثم بعد ما ظفروا بها أضاعوها بالنفاق مع تحريضهم على المحافظة والنصح شفاها ونحو ذلك مما لا يوجد في غيرهم كما يشير إليه التعريف، أو يقال: هذه ترجمة عن جناية أخرى من جناياتهم، والمراد بالهدى ما كانوا عليه من التصديق ببعثته صلى الله تعالى عليه وسلم وحقية دينه بما وجدوه عندهم في التوراة ولهذا كانوا يستفتحون به ويدعون بحرمته ويهددون الكفار بخروجه فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة: ٨٩] وأما حمل الهدى على ما كان عندهم ظاهرا من التلفظ بالشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والغزو فمما لا يرتضيه من هدى إلى سواء السبيل، وما ذكرناه من أن أُولئِكَ إشارة إلى المنافقين- هو الذي ذهب إليه أكثر المفسرين- والمروي عن مجاهد، وهو الذي يقتضيه النظم الكريم- وبه أقول-

صفحة رقم 163

وروي عن قتادة أنهم أهل الكتاب مطلقا، وعن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم الكفار مطلقا، والكل عندي بعيد، ولعل مراد من قال ذلك أن الآية بظاهر مفهومها تصدق على من أرادوا لا أن
الآية نزلت فيهم، وقرأ يحيى ابن يعمر وابن إسحاق اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بالكسر لأنه الأصل في التقاء الساكنين، وأبو السماك اشْتَرَوُا بالفتح اتباعا لما قبل، وأمال حمزة والكسائي «الهدى» وهي لغة بني تميم وعدم الإمالة لغة قريش.
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ عطف على الصلة، وأتى بالفاء للإشارة إلى تعقب نفي الربح للشراء وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح، وزعم بعضهم أن الفاء دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء لمكان الموصول- فهو على حد الذي يدخل الدار فله درهم- وليس بشيء لأن الموصول هنا ليس بمبتدأ كما في المثال بل هو خبر عن أُولئِكَ وما بعد الفاء ليس بخبر بل هو معطوف على الصلة فهو صلة ولا يجوز أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ مبتدأ وفَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ خبر عن الثاني وهو وخبره خبر عن الأول لعدم الرابط في الجملة الثانية ولتحقق معنى الصلة، وإذا كانت الصلة ماضية معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها ولا أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ بدلا منه والجملة خبرا لأن الفاء إنما تدخل الخبر لعموم الموصول والمبدل من المخصوص مخصوص فالحق ما ذكرناه، ومعنى الآية عليه ليس غير كما في البحر. والتِّجارَةِ التصرف في رأس المال طلبا للربح ولا يكاد يوجد- تاء- أصلية بعدها جيم إلا نتج وتجر ورتج وارتج، وأما تجاه ونحوه فأصلها الواو، و «الربح» تحصيل الزيادة على رأس المال، وشاع في الفضل عليه، و «المهتدي» اسم فاعل من اهتدى مطاوع هدى ولا يكون افتعل المطاوع إلا من المتعدي، وأما قوله:

حتى إذا اشتال سهيل في السحر كشعلة القابس ترمي بالشرر
فافتعل فيه بمعنى فعل تقول: شال يشول واشتال يشتال بمعنى، وفي الآية ترشيح لما سمعت من المجاز فيما قبلها، والمقصد الأصلي تصوير خسارهم بفوت الفوائد المترتبة على الهدى التي هي كالربح وإضاعة الهدى الذي هو- كرأس المال- بصورة خسارة التاجر الفائت للربح المضيع لرأس المال حتى كأنه هو على سبيل الاستعارة التمثيلية مبالغة في تخسيرهم ووقوعهم في أشنع الخسار الذي يتحاشى عنه أولو الأبصار، وإسناد الربح إلى التجارة- وهو لأربابها- مجاز للملابسة، وكني في مقام الذمّ بنفي الربح عن الخسران لأن فوت الربح يستلزمه في الجملة ولا أقل من قدر ما يصرف من القوة، وفائدة الكناية التصريح بانتفاء مقصد التجارة مع حصول ضده بخلاف ما لو قيل خسرت تجارتهم فلا يتوهم أن نفي أحد الضدين إنما يوجب إثبات الآخر إذا لم يكن بينهما واسطة وهي موجودة هنا فإن التاجر قد لا يربح ولا يخسر، وقيل: إن ذلك إنما يكون إذا كان المحل قابلا للكل كما في التجارة الحقيقية أما إذا كان لا يقبل إلا اثنين منها فنفي أحدهما يكون إثباتا للآخر، والربح والخسران في الدين لا واسطة بينهما على أنه قد قامت القرينة هنا على الخسران لقوله تعالى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ وقد جعله غير واحد كناية عن إضاعة رأس المال فإن من لم يهتد بطرق التجارة تكثر الآفات على أمواله، واختير طريق الكناية نكاية لهم بتجهيلهم وتسفيههم، ويحتمل على بعد أن يكون النفي هنا من باب قوله: على لاحب لا يهتدى بمناره، أي لا منار فيهتدى به فكأنه قال لا تجارة ولا ربح.
والظاهر أن وَما كانُوا مُهْتَدِينَ عطف على ما ربحت للقرب مع التناسب والتفرع باعتبار المعنى الكنائي، وبتقدير المتعلق لطرق الهداية يندفع توهم أن عدم الاهتداء قد فهم مما قبل فيكون تكرارا لما مضى وهو إما من باب التكميل والاحتراس كقوله:

صفحة رقم 164

أو من باب التتميم كقوله:

فسقى ديارك غير مفسدها صوب الغمام وديمة تهمي
كأن عيون الوحش حول خبائنا وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
وقال الشريف قدس سره: إن العطف على اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أولى لأن عطفه على فَما رَبِحَتْ يوجب ترتبه على ما قبله بالفاء فيلزم تأخره عنه، والأمر بالعكس إلا أن يقال ترتيبه باعتبار الحكم والأخبار، وفيه أنه لو كان معطوفا على اشْتَرَوُا كان الظاهر تقديمه لما في التأخير من الإيهام، وحينئذ يكون الأحسن ترك العطف احتياطا كما ذكر في نحو قوله:
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
على أن بين معنى اشْتَرَوُا إلخ ومعنى وَما كانُوا إلخ تقاربا يمنع حسن العطف كما لا يخفى على من لم يضع فطرته السليمة، وجوّز أن تكون الجملة حالا، ولا يخفى سوء حاله على من حسن تمييزه. وقرأ ابن أبي عبلة- تجاراتهم- على الجمع ووجهه أن لكل واحد تجارة، ووجه الإفراد في قراءة الجمهور فهم المعنى مع الإشارة أن تجاراتهم وإن تعددت فهي من سوق واحدة وهم شركاء فيها مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً جملة مقررة لجملة قصة المنافقين المسرودة إلى هنا فلذا لم تعطف على ما قبلها، ولما كان ذلك جاريا على ما فيه من استعارات وتجوزات مجرى الصفات الكاشفة عن حقيقة المنافقين وبيان أحوالهم عقبه ببيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في صورة المشاهد بضرب المثل تتميما للبيان، فلضرب المثل شأن لا يخفى ونور لا يطفى يرفع الأستار عن وجوه الحقائق ويميط اللثام عن محيا الدقائق ويبرز المتخيل في معرض اليقين ويجعل الغائب كأنه شاهد، وربما تكون المعاني التي يراد تفهيمها معقولة صرفة، فالوهم ينازع العقل في إدراكها حتى يحجبها عن اللحوق بما في العقل فبضرب الأمثال تبرز في معرض المحسوس فيساعد الوهم العقل في إدراكها، وهناك تنجلي غياهب الأوهام ويرتفع شغب الخصام وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: ٢١] وقيل: الأشبه أن تجعل موضحة لقوله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا إلخ ولا بعد فيه، والحمل على الاستئناف بعيد لا سيما والأمثال تضرب للكشف والبيان.
والمثل- بفتحتين- كالمثل- بكسر فسكون- والمثيل في الأصل النظير والشبيه، والتفرقة لا أرتضيها، وكأنه مأخوذ من المثول- وهو الانتصاب- ومنه
الحديث «من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار»
ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إما على تشبيه بلا شبيه، أو استعارة رائقة تمثيلية وغيرها، أو حكمة وموعظة نافعة، أو كناية بديعة، أو نظم من جوامع الكلم الموجز، ولا يشترط فيه أن يكون استعارة مركبة خلافا لمن وهم، بل لا يشترط أن يكون مجازا، وهذه أمثال العرب أفردت بالتآليف وكثرت فيها التصانيف وفيها الكثير مستعملا في معناه الحقيقي ولكونه فريدا في بابه، وقد قصد حكايته لم يجوزوا تغييره لفوات المقصود وتفسيره بالقول السائر الممثل مضربه بمورده يرد عليه أمثال القرآن لأن الله تعالى ابتدأها وليس لها مورد من قبل، اللهم إلا أن يقال: إن هذا اصطلاح جديد أو أن الأغلب في المثل ذلك، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة. ومن ذلك وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النحل: ٦٠] ومَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: ٣٥] وهو المراد هنا في المثل دون التمثيل المدلول عليه بالكاف. والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا إلخ فيما سيكشف عن وجهه إن شاء الله تعالى، فالكاف حرف تشبيه متعلقة بمحذوف خبر عن المبتدأ، وزعم ابن عطية أنها اسم مثلها في قول الأعشى:
أينتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذا مذهب ابن الحسن، وليس بالحسن إلا في الضرورة والقول بالزيادة كما في قوله: فصيروا مثل كَعَصْفٍ

صفحة رقم 165

مَأْكُولٍ
[الفيل: ٥] زيادة في الجهل، والذي وضع موضع- الذين- إن كان ضمير بِنُورِهِمْ راجعا إليه وإلا فهو باق على ظاهره إذ لا ضير في تشبيه حال الجماعة بحال الواحد وجاز هنا وضع المفرد موضع الجمع، وقد منعه الجمهور فلم يجوزوا إقامة القائم مقام القائمين لأن هذا مخالف لغيره لخصوصية اقتضته فإنه إنما وضع ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل فلما لم يقصد لذاته توسعوا فيه، ولأنه مع صلته كشيء واحد، وعلامة الجمع لا تقع حشوا فلذا لم يلحقوها به ووضعوه لما يعم- كمن، وما، والذين- ليس جمعا له بل هو اسم وضع مزيدا فيه لزيادة المعنى، وقصد التصريح بها ولذا لم يعرف بالحروف كغيره على الأفصح، ولأن استطال بالصلة فاستحق التخفيف حتى بولغ فيه إلى أن اقتصر على اللام في نحو اسم الفاعل، قاله القاضي وغيره، ولا يخلو عن كدر لا سيما الوجه الأخير، وما روي عن بعض النحاة من جواز حذف نون- الذين- ليس بالمرضي عند المحققين، ولئن تنزل يلتزم عود ضمير الجمع إليه كما في قوله تعالى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: ٦٩] على وجه، وقول الشاعر:

يا رب عيسى لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا فيمن قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد
وإفراد الضمير لم نسمعه ممن يوثق به ولعله لأن المحذوف كالملفوظ، فالوجه أن يقال إنه نظر إلى ما في- الذي- من معنى الجنسية العامة إذ لا شبهة في أنه لم يرد به- مستوقد- مخصوص ولا جميع أفراد المستوقدين والموصول كالمعرف باللام يجري فيه ما يجري فيه. واسم الجنس وإن كان لفظه مفردا قد يعامل معاملة الجمع ك:
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ [الإنسان: ٢١] وقولهم: الدينار الصفر، والدرهم البيض، أو يقال: إنه مقدر له موصوف مفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق فيحسن النظام، ويلاحظ في ضمير- استوقد- لفظ الموصوف، وفي ضمير بِنُورِهِمْ معناه، «واستوقدوا» بمعنى أوقدوا، فقد حكى أبو زيد أوقد واستوقد بمعنى- كأجاب واستجاب- وبه قال الأخفش- جعل الاستيقاد بمعنى طلب الوقود وهو سطوع النار كما فعل البيضاوي- محوج إلى حذف، والمعنى حينئذ طلبوا نارا واستدعوها فأوقدوها فَلَمَّا أَضاءَتْ لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب وإنما تتسبب عن الإيقاد والنار جوهر لطيف مضيء محرق، واشتقاقها من نار ينور نورا إذا نفر لأن فيها- على ما تشاهد- حركة واضطرابا لطلب المركز، وكونه من غلط الحس كأنه من غلط الحس، نعم أورد على التعريف أن الإضاءة لا تعتبر في حقيقتها وليست شاملة- لما ثبت في الكتب الحكمية- أن النار الأصلية حيث الأثير شفافة لا لون لها وكذا يقال في الإحراق، والجواب أن تخصيص الأسماء لأعيان الأشياء حسبما تدرك أو للمعاني الذهنية المأخوذة منها، وأما اعتبار لوازمها وذاتياتها فوظيفة من أراد الوقوف على حقائقها وذلك خارج عن وسع أكثر الناس، والناس يدركون من النار التي عندهم الإضاءة والإحراق ويجعلونهما أخص أوصافها، والتعريف للمتعارف وعدم الإحراق لمانع لا يضر على أن كون النار التي تحت الفلك هادية غير محرقة وإن زعمه بعض الناس أبطله الشيخ، واحتراق الشهب شهاب على من ينكر الإحراق، وأغرب من هذا نفي النار التي عند الأثير وقريب منه القول بأنها ليست غير الهواء الحار جدا، وقرأ ابن السميقع- كمثل الذين- على الجمع وهي قراءة مشكلة جدا، وقصارى ما رأيناه في توجيهها أن إفراد الضمير على ما عهد في لسان العرب من التوهم كأنه نطق بمن- الذي- لها لفظا ومعنى كما جزم بالذي على توهم من الشرطية في قوله:
كذاك الذي يبغي على الناس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع
أو أنه اكتفى بالإفراد عن الجمع كما يكتفي بالمفرد الظاهر عنه فهو كقوله:

صفحة رقم 166

أي كراكرهم، أو أن الفاعل في استوقد عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل كما في قوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ [يوسف: ٣٥] على وجه، والعائد حينئذ محذوف على خلاف القياس- أي لهم- أولا عائد في الجملة الأولى اكتفاء بالضمير من الثانية المعطوفة بالفاء، وفي القلب من كل شيء فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «لما» حرف وجود لوجود، أو وجوب لوجوب كما نص عليه سيبويه، أو ظرف بمعنى حين. أو إذ، والإضاءة جعل الشيء مضيئا نيّرا، أو الإشراق وفرط الإنارة. وأضاء يكون متعديا ولازما، فعلى الأول ما موصولة أو موصوفة والظرف صلة أو صفة وهي المفعول والفاعل ضمير النار وعلى الثاني فما كذلك وهي الفاعل وأنث فعله لتأويله بمؤنث كالأمكنة والجهات أو الفاعل ضمير النار وما زائدة أو في محل نصب على الظرفية، ولا يجب التصريح بفي حينئذ كما توهم لأن الحق أن ما الموصولة أو الموصوفة إذا جعلت ظرفا فالمراد بها الأمكنة التي تحيط بالمستوقد- وهي الجهات الست- وهي مما ينصب على الظرفية قياسا مطردا فكذا ما عبر به عنها، وأولى الوجوه أن تكون أَضاءَتْ متعدية وما موصولة إذ لا حاجة حينئذ إلى الحمل على المعنى، ولا ارتكاب ما قل استعماله لا سيما زيادة ما هنا حتى ذكروا أنها لم تسمع هنا، ولم يحفظ من كلام العرب جلست- ما- مجلسا حسنا ولا قمت- ما- يوم الجمعة. ويا ليت شعري من أين أخذ ذلك الزمخشري وكيف تبعه البيضاوي؟! وإذا جعل الفاعل ضمير النار والفعل لازم يكون الإسناد إلى السبب لأن النار لم توجد حول المستوقد ووجد ضوءها فجعل إشراق ضوئها حوله بمنزلة إشراقها نفسها على ما قيل، وهو مبني على أن الظرف إذا تعلق بفعل قاصر له أثر متعد يشترط في تحقق النسبة الظرفية للأثر والمؤثر فلا بد في إشراق كذا في كذا من كون الإشراق والمشرق فيه، وهذا كما إذا تعلق الظرف بفعل قاصر- كقام زيد في الدار- فإن زيدا والقيام فيها ذاتا وتبعا- وإلى ذلك مال الزمخشري- ومن الناس من اكتفى بوجود الأثر فيه وإن لم يوجد المؤثر فيه بذاته كما في الأفعال المتعدية فأضاءت الشمس في الأرض حقيقة على هذا مجاز على الأول، وحول ظرف مكان ملازم للظرفية والإضافة- ويثنى ويجمع- فيقال حوليه وأحواله وحوال مثله فيثنى على حوالي، ولم نظفر بجمعه فيما حولنا من الكتب اللغوية ولا تقل حواليه- بكسر اللام- كما في الصحاح. ولعل التثنية والجمع- مع ما يفهم من بعض الكتب أن حول وكذا حوال بمعنى الجوانب وهي مستغرقة- ليسا حقيقين، وقيل:
باعتبار تقسيم الدائرة كما أشار إليه المولى عاصم افندي في ترجمة القاموس بالرومية وفيه تأمل، وأصل هذا التركيب موضوع للطواف والإحاطة كالحول للسنة فإنه يدور من فصل أو يوم إلى مثله، ولما لزمه الانتقال والتغير استعمل فيه باعتباره كالاستحالة والحوالة وإن خفي في نحو- الحول- بمعنى القوة، وقيل: أصله تغير الشيء وانفصاله وذَهَبَ إلخ جواب فَلَمَّا والسببية ادعائية فإنه لما ترتب إذهاب النور على الإضاءة بلا مهلة جعل كأنه سبب له على أن يكفي في الشرط مجرد التوقف نحو- إن كان لي مال حججت- والإذهاب متوقف على الإضاءة، والضمير في بِنُورِهِمْ للذي أو لموصوفه وجمعه لما تقدم. واختار النور على النار لأنه أعظم منافعها والمناسب للمقام سباقا ولحاقا، وقيل الجملة مستأنفة جوابا عما حالهم شبهت حالهم بذلك، أو بدل من جملة التمثيل للبيان والضمير للمنافقين وجواب «لما» محذوف أي خمدت نارهم فبقوا متحيرين، ومثله فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ [يوسف: ١٥] وحذفه للإيجاز وأمن الإلباس ولا يخفى ما فيه على من له أدنى إنصاف وإن ارتضاه الجم الغفير، ويحل عن مثل هذا الألغاز كلام الله تعالى اللطيف الخبير. وإسناد الفعل إليه تعالى حقيقة فهو سبحانه الفعال المطلق الذي بيده التصرف في الأمور كلها بواسطة وبغير واسطة، ولا يعترض على الحكيم بشيء، وحمل النار على نار لا يرضي الله تعالى إيقادها إما مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام أو حقيقية أوقدها الغواة للفساد أو الإفساد، فحينئذ يليق بالحكيم إطفاؤها وإلا يرتكب المجاز لم يدع إليه إلا اعتزال وإيقاد نار الغواية والإضلال، وعدي بالباء دون الهمزة لما في المثل السائر أن

صفحة رقم 167

ذهب بالشيء يفهم منه أنه استصحبه وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى ولا كذلك أذهبه فالباء والهمزة وإن اشتركا في معنى التعدية فلا يبعد أن ينظر صاحب المعاني إلى معنى الهمزة والباء الأصليين، أعني الإزالة والمصاحبة والإلصاق. ففي الآية لطف لا ينكر كيف والفاعل هو الله تعالى القوي العزيز الذي لا رادّ لما أخذه ولا مرسل لما أمسكه، وذكر أبو العباس أن ذهبت بزيد يقتضي ذهاب المتكلم مع زيد دون أذهبته، ولعله يقول: إن ما في الآية مجاز عن شدة الأخذ بحيث لا يرد أو يجوز أن يكون الله تعالى وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به كما وصف نفسه سبحانه بالمجيء في ظاهر قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ [الفجر: ٢٢] والذي ذهب إليه سيبويه إلى أن (١) الباء بمعنى الهمزة فكلاهما لمجرد التعدية عنده بلا فرق فلذا لا يجمع بينهما. والنور منشأ الضياء ومبدؤه كما يشير إليه استعمال العرب حيث أضافوا الضياء إليه كما قال ورقة بن نوفل:
ويظهر في البلاد ضياء نور
وقال العباس رضي الله تعالى عنه:

وبالبدو منا أسرة يحفظونها سراع إلى الداعي عظام كراكره
وأنت لما ظهرت أشرقت الأر ض وضاءت بنورك الأفق
ولهذا أطلق عليه سبحانه النور دون الضياء، وأشار سبحانه إلى نفي الضياء الذي هو مقتضى الظاهر بنفي النور وإذهابه لأنه أصله وبنفي الأصل ينتفي الفرع، وهذا الذي ذكرنا هو الذي ارتضاه المحققون من أهل اللغة، ومنه يعلم وجه وصف الشريعة المحمدية بالنور في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: ١٥] والشريعة الموسوية بالضياء في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء: ٤٨] وفي ذلك إشارة إلى مقام نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم الجامع الفارق ومزيته على أخيه موسى عليه السلام الذي لم يأت إلا بالفرق ولفرق ما بين الحبيب والكليم:
وكل آي أتى الرسل الكرام بها فإنما اتصلت من نوره بهم
وكذا وجه وصف الصلاة- الناهية عن الفحشاء والمنكر في حديث مسلم- بالنور والصبر بالضياء، ويعلم من هذا أنه أقوى من الضياء كذا قيل (٢) واعترض بأنه قد جاء وصف ما أوتيه نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بالضياء كما جاء وصف ما أوتيه موسى عليه السلام بالنور وإليه يشير كلام الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات فتدبر، وذهب بعض الناس إلى أن الضياء أقوى من النور لقوله تعالى: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس: ٥] وعلى هذا يكون التعبير بيذهب الله بنورهم دون ذهب الله بضوئهم دفعا لاحتمال إذهاب ما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا مع أن الغرض إزالة النور رأسا، وذكر بعضهم أن كلا من الضوء والنور يطلق على ما يطلق عليه الآخر فهما كالمترادفين والفرق إنما نشأ من الاستعمال أو الاصطلاح لا من أصل الوضع واللغة، ومن هنا قال الحكماء: إن الضوء ما يكون للشيء من ذاته، والنور ما يكون من غيره، واستعمل الضوء لما فيه حرارة حقيقة كالذي في الشمس، أو مجازا كالذي ذكر فيما أوتيه موسى عليه السلام مما فيه شدة ومزيد كلفة، ومنه
«الصبر ضياء»
ومعلوم أنه كاسمه: والنور لما ليس كذلك كالذي في القمر وفيما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من الشريعة السهلة السمحة البيضاء، ومنه
«الصلاة نور»
ولا شك أنها قرة العين وراحة القلب وإلى ذلك يشير
«وجعلت قرة عيني في الصلاة» «وأرحنا يا بلال»
واستعمل النور لما يطرأ في الظلم كما
ورد «كان الناس في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره»
وقول الشاعر:
(١) قوله: إلى أن الباء هكذا بخط المؤلف اهـ مصححه.
(٢) قوله: كذا قيل إلى قوله: فتدبر هذا ليس موجودا في خط المؤلف بل في المبيضة فقط التي ليست بخطه اهـ مصححه.

صفحة رقم 168

بتنا وعمر الليل في غلوائه وله بنور البدر فرع أشمط
والضوء ليس كذلك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع والذي يميل القلب إليه أن الضياء يطلق على النور القوي وعلى شعاع النور المنبسط فهو بالمعنى الأول أقوى وبالمعنى الثاني أدنى ولكل مقام مقال ولكل مرتبة عبارة ولا حجر على البليغ في اختيار أحد الأمرين في بعض المقامات لنكتة اعتبرها ومناسبة لاحظها، وآية الشمس لا تدل على أن الضياء أقوى من النور أينما وقع- فالله نور السماوات والأرض ولله المثل الأعلى- وشاع إطلاق النور على الذوات المجردة دون الضوء ولعل ذلك لأن انسياق العرضية منه إلى الذهن أسرع من انسياقها من النور إليه فقد انتشر أنه عرض وكيفية مغايرة للون، والقول بأنه عبارة عن ظهور اللون- أو أنه أجسام صغار تنفصل من المضيء فتتصل بالمستضيء- مما بين بطلانه في الكتب الحكمية وإن قال بكل بعض من الحكماء، ثم التعبير بالنور هنا دون الضوء يحتمل أن يكون لسر غير ما انقدح في أذهان الناس وهو كونه أنسب بحال المنافقين الذين حرموا الانتفاع والإضاءة بما جاء من عند الله مما سماه سبحانه نورا في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ [المائدة: ١٥] فكأن الله عز شأنه أمسك عنهم النور وحرمهم الانتفاع به، ولم يسمه سبحانه ضوءا لتتأتى هذه الإشارة- لو قال هنا ذهب الله بضوئهم- بل كساه من حلل أسمائه وأفاض عليه من أنوار آلائه فهو المظهر الأتم والرداء المعلم. هذا وإضافة النور إليهم لأدنى ملابسة لأنه للنار في الحقيقة لكن لما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم. وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة- فلما ضاءت- ثلاثيا وتخريجها يعلم مما تقدم وقرأ اليماني- أذهب الله نورهم- وفيها تأييد لمذهب سيبويه.
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ عطف على قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وهو أوفى بتأدية المراد فيستفاد منه التقرير لانتفاء النور بالكلية تبعا لما فيه من ذكر الظلمة وجمعها وتنكيرها، وإيراد لا يُبْصِرُونَ وجعل الواو للحال بتقدير قد مع ما فيه يقتضي ثبوت الظلمة قبل ذهاب النور ومعه، وليس المعنى عليه- والترك- في المشهور طرح الشيء كترك العصا من يده أو تخليته محسوسا كان أو غيره وإن لم يكن في يده كترك وطنه ودينه، وقال الراغب: ترك الشيء رفضه قصدا واختيارا أو قهرا واضطرارا. ويفهم من المصباح أنه حقيقة في مفارقة المحسوسات ثم استعير في المعاني، وفي كون الفعل من النواسخ الناصبة للجزأين لتضمينه معنى صير أم لا خلاف- والكل هنا محتمل- فعلى الأولى «هم» مفعوله الأول، وفي ظلمات مفعوله الثاني، ولا يُبْصِرُونَ صفة لظلمات بتقدير فيها أو حال من الضمير المستتر، أو من «هم» ولا يجوز أن يكون في ظلمات حالا، ولا يُبْصِرُونَ مفعولا ثانيا لأن الأصل في الخبر أن لا يكون مؤكدا وإن جوزه بعضهم وعلى الثاني «هم» مفعوله، وفِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ حالان مترادفان من المفعول أو متداخلان، فالأول من المفعول. والثاني من الضمير فيه أو فِي ظُلُماتٍ متعلق ب تَرَكَهُمْ ولا يُبْصِرُونَ حال. والظلمة في المشهور عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مستضيئا، فالتقابل بينها وبين الضوء تقابل العدم والملكة، واعترض بأن الظلمة كيفية محسوسة ولا شيء من العدم كذلك وبأنها مجعولة كما يقتضيه قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الإنعام: ١] والمجعول لا يكون إلا موجودا، وأجيب عن الأول بمنع الصغرى فإنا إذا غمضنا العين لا نشاهد شيئا البتة كذلك إذا فتحنا العين في الظلمة، وعن الثاني بالمنع أيضا فإنّ الجاعل كما يجعل الموجود يجعل العدم الخاص كالعمى والمنافي للمجعولية هو العدم الصرف، وقيل: كيفية مانعة من الأبصار فالتقابل تقابل التضاد، واعترض بأنه لو كانت كيفية لما اختلف حال من في الغار المظلم ومن هو في الخارج في الرؤية وعدمها إلا أن يقال المراد أنها كيفية مانعة من إبصار ما فيها فيندفع الاعتراض عنه، وربما يرجح عليه بأنه قد يصدق على الظلمة الأصلية السابقة على وجود العالم دونه كما قيل، وقيل: التقابل بين النور والظلمة

صفحة رقم 169

تقابل الإيجاب والسلب وجمع الظلمات إما لتعددها في الواقع سواء رجع ضمير الجمع إلى المستوقدين أو المنافقين أو لأنها في الحقيقة، وإن كانت ظلمة واحدة لكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة- كما قيل رب واحد يعدل ألفا- أو لأنه لما كان لكل واحد ظلمة تخصه جمعت بذلك الاعتبار كذا قالوا «ومن اللطائف» أن الظلمة حيثما وقعت في القرآن وقعت مجموعة والنور حيثما وقع وقع مفردا، ولعل السبب هو أن الظلمة وإن قلت تستكثر والنور وإن كثر يستقل ما لم يضر، وأيضا كثيرا ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان والقليل من الكفر كثير والكثير من الإيمان قليل فلا ينبغي الركون إلى قليل من ذاك ولا الاكتفاء بكثير من هذا، وأيضا معدن الظلمة بهذا المعنى قلوب الكفار تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: ١٤] ومشرق النور بذلك المعنى قلوب المؤمنين. وهي كقلب رجل واحد، وأيضا النور المفاض هو الوجود المضاف وهو واحد لا تعدد فيه كما يرشدك إليه قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: ٣٥] وفي الظلمة لا يرى مثل هذا، وأيضا الظلمة يدور أصل معناها على المنع فلذا أخذت من قولهم- ما ظلمك أن تفعل كذا- أي ما منعك، وفي مثلثات ابن السيد- الظلم بفتح الظاء- شخص كل شيء يسد بصر الناظر يقال لقيته أول ذي ظلم- أي أول شخص يسد بصري- وزرته والليل ظلم- أي مانع من الزيارة- فكأنها سميت ظلمة لأنها تسد في المشهور وتمنع الرؤية، فباعتبار تعدد الموانع جمعت ولم يعتبر مثل هذا في أصل معنى النور فلم يجمع إلى غير ذلك وإنما نكرت ظلمات هنا ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اختصارا للفظ واكتفاء بما دل عليه المعنى، والظرفية مجازية كيفما فسرت الظلمة على بعض الآراء، ولا يُبْصِرُونَ منزل منزلة اللازم- لطرح المفعول- نسيا منسيا، ولعدم القصد إلى مفعول دون مفعول فيفيد العموم، وقرأ الجمهور فِي ظُلُماتٍ بضم اللام، والحسن وأبو السماك بسكونها وقوم
بفتحها، والكل جمع ظلمة.
وزعم قوم أن ظُلُماتٍ بالفتح جمع ظلم- جمع ظلمة- فهي جمع الجمع، والعدول إلى الفتح تخفيفا مع سماعه في أمثاله أسهل من ادعاء جمع الجمع إذ ليس بقياسي ولا دليل قطعي عليه، وقرأ اليماني في ظلمة، وفي الآية إشارة إلى تشبيه إجراء كلمة الشهادة على ألسنة من ذكر- والتحلي بحلية المؤمنين ونحو ذلك- مما يمنع من قتلهم ويعود عليهم بالنفع الدنيوي من نحو الأمن والمغانم، وعدم إخلاصهم لما أظهروه بالنفاق الضار في الدين بإيقاد نار مضيئة للانتفاع بها أطفأها الله تعالى فهبت عليهم الرياح والأمطار وصيرت موقدها في ظلمة وحسرة، ويحتمل أنهم لما وصفوا بأنهم اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى عقب ذلك بهذا التمثيل لتشبيه هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع الله تعالى بها على قلوبهم بذهاب الله تعالى بنورهم وتركه إياهم في الظلمات، والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- كما أخرجه ابن جرير عنه- أن ذلك مثل للإيمان الذي أظهروه لاجتناء ثمراته بنار ساطعة الأنوار موقدة للانتفاع والاستبصار ولذهاب أثره وانطماس نوره باهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها، ويشتمل التشبيه وجوها أخر «ومن البطون القرآنية التي ذكرها ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم» أن الآية مثل من دخل طريقة الأولياء بالتقليد لا بالتحقيق فعمل عمل الظاهر وما وجد حلاوة الباطن فترك الأعمال بعد فقدان الأحوال، أو مثل من استوقد نيران الدعوى وليس عنده حقيقة المعنى فأضاءت ظواهره بالصيت والقبول فأفشى الله تعالى نفاقه بين الخلق حتى نبذوه في الآخر ولا يجد مناصا من الفضيحة يوم تبلى السرائر، وقال أبو الحسن الوراق: هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم يصحح أحوال الإرادة فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر فكان يضيء عليه أحوال إرادته لو صححها بملازمة آدابها فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله تعالى عنه تلك الأنوار وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها، نسأل الله تعالى العفو والعافية ونعوذ به من الحور

صفحة رقم 170

بعد الكور صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ الأوصاف جموع كثرة على وزن فعل وهو قياس في جمع فعلاء، وأفعل الوصفين سواء تقابلا- كأحمر وحمراء- أم انفردا لمانع في الخلقة- كغرل ورتق- فإن كان الوصف مشتركا ولكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء- كرجل أليّ، وامرأة عجزاء- فالوزن فيه سماعي، والصمم داء في الأذن يمنع السمع، وقال الأطباء: هو أن يخلق الصماخ بدون تجويف يشتمل على الهواء الراكد الذي يسمع الصوت بتموجه فيه أو بتجويف لكن العصب لا يؤدي قوة الحس فإن أدى بكلفة سمي عندهم طرشا، وأصله من الصلابة أو السد، ومنه بقولهم قناة صماء وصممت القارورة والبكم الخرس وزنا ومعنى- وهو داء في اللسان يمنع من الكلام- وقيل: الأبكم هو الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم شيئا ولا يهتدي إلى الصواب فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان، والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا، وقيل: ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات، ويطلق على عدم البصيرة مجازا عند بعض وحقيقة عند آخرين، وهي أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين أو خبر واحد وتؤول إلى عدم قبولهم الحق وهم وإن كانوا سمعاء الآذان فصحاء الألسن بصراء الأعين إلا أنهم لما لم يصيخوا للحق- وأبت أن تنطق بسائره ألسنتهم ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس- وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى على حد قوله:

أعمى إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر
وأصمّ عما كان بينهما أذني وما في سمعها وقر
وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين لذكر الطرفين حكما، وذكرهما قصدا حكما أو حقيقة مانع عن الاستعارة عندهم، وذهب بعضهم إلى أنه استعارة، وآخرون إلى جواز الأمرين، وهذا أمر مفروغ عنه ليس لتقريره هنا كثير جدوى، غير أنهم ذكروا هنا بحثا وهو أنه لا نزاع أن التقدير هم صُمٌّ إلخ لكن ليس المستعار له حينئذ مذكورا لأنه لبيان أحوال مشاعر المنافقين لا ذواتهم، ففي هذه الصفات استعارة تبعية مصرحة إلا أن يقال تشبيه ذوات المنافقين بذوات الأشخاص الصم متفرع على تشبيه حالهم بالصمم، فالقصد إلى إثبات هذا الفرع أقوى وأبلغ، وكأن المشابهة بين الحالين تعدت إلى الذاتين فحملت الآية على هذا التشبيه برعاية المبالغة، أو يقال- ولعله أولى- إن- هم- المقدر راجع للمنافقين السابق حالهم وصفاتهم وتشهيرهم بها حتى صاروا مثلا فكأنه قيل هؤلاء المتصفون بما ترى صُمٌّ على أن المستعار له ما تضمنه الضمير الذي جعل عبارة عن المتصفين بما مر، والمستعار ما تضمن الصم وأخويه من قوله صُمٌّ إلخ فقد انكشف المغطى وليس هذا بالبعيد جدا، والآية فذلكة ما تقدم ونتيجة إذ قد علم من قوله سبحانه لا يَشْعُرُونَ ولا يُبْصِرُونَ أنهم صُمٌّ عُمْيٌ ومن كونهم يكذبون أنهم لا ينطقون بالحق فهم- كالبكم- ومن كونهم غير مهتدين أنهم لا يَرْجِعُونَ وقدم الصمم لأنه إذا كان خلقيا يستلزم البكم وأخر- العمى- لأنه كما قيل: شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة، وهو بهذا المعنى متأخر لأنه معقول صرف ولو توسط- حل بين العصا ولحائها ولو قدم- ولأهم تعلقه ب لا يُبْصِرُونَ أو الترتيب على وفق حال الممثل له لأنه يسمع أولا دعوة الحق ثم يجيب ويعترف ثم يتأمل ويتبصر. ومثل هذه الجملة وردت تارة بالفاء كما في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف: ١٤٢] وأخرى بدونها كما في قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: ١٩٦] لأن استلزام ما قبلها وتضمنه لها بالقوة منزل منزلة المتحد معه فيترك العطف ومغايرتها له وترتبها عليه ترتب النتاج، والفرع على أصله يقتضي الاقتران بالفاء وهو الشائع المعروف، وبعض الناس يجعل الآية من تتمة التمثيل فلا يحتاج حينئذ إلى

صفحة رقم 171

التجوز ويكفي فيه الفرض وإن امتنع عادة كما في قوله:
أعلام ياقوت نشر... ن على رماح من زبرجد
فيفرض هنا حصول الصمم، والبكم، والعمى لمن وقع في هاتيك الظلمة الشديدة المطبقة، وقيل لا يبعد فقد الحواس ممن وقع في ظلمات مخوفة هائلة إذ ربما يؤدي ذلك إلى الموت فضلا عن ذلك، ويؤيد كونها تتمته قراءة ابن مسعود حفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم- «صما وبكما وعميا» - بالنصب فإن الأوصاف حينئذ تحتمل أن تكون مفعولا ثانيا لترك وفي ظلمات متعلقا به أو في موضع الحال، ولا يُبْصِرُونَ حالا أو منصوبة على الحال من مفعول تركهم متعديا لاثنين أو لواحد أو منصوبة بفعل محذوف أعني أعني، والقول بأنها منصوبة على الحال من ضمير لا يُبْصِرُونَ جهل بالحال، وقريب منه في الذم من نصب على الذم إذ ذاك إنما يحسن حيث يذكر الاسم السابق، وأما جعل هذه الجملة على القراءة المشهورة دعائية وفيها إشارة إلى ما يقع في الآخرة من قوله تعالى:
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: ٩٧] فنسأل الله تعالى العفو والعافية من ارتكاب مثله ونعوذ به من عمى قائله وجهله، ومثله- بل أدهى وأمر- القول بأن جملة لا يَرْجِعُونَ كذلك ومتعلق- لا يرجعون- محذوف أي لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، وقد لا يقدر شيء ويترك على الإطلاق.
والوجهان الأولان مبنيان على أن وجه التشبيه في التمثيل مستنبط من أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا إلخ والأخير على تقدير أن يكون من ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إلخ بأن يراد به أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورطوا في حيرة، فالمراد هنا أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكاناتهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون، وكيف يرجعون إلى حيث ابتدؤوا منه، والأعمى لا ينظر طريقا وأبكم لا يسأل عنها وأصم لا يسمع صوتا من صوب مرجعه فيهتدي به؟ والفاء للدلالة على أن اتصافهم بما تقدم سبب لتحيرهم واحتباسهم كيف ما كانوا.
«ومن البطون» - صم «آذان أسماع أرواحهم عن أصوات الوصلة وحقائق إلهام القربة- بكم- عن تعريف علل بواطنهم عند أطباء القلوب عجبا- عمي- عن رؤية أنوار جمال الحق في سيماء أوليائه: وقال سيدي الجنيد قدس سره: صموا عن فهم ما سمعوا وأبكموا عن عبارة ما عرفوا وعموا عن البصيرة فيما إليه دعوا.
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ شروع في تمثيل لحالهم إثر تمثيل وبيان لكل دقيق منها وجليل فهم أئمة الكفر الذين تفننوا فيه وتفيؤوا ظلال الضلال بعد أن طاروا إليه بقدامى النفاق وخوافيه فحقيق أن تضرب في بيداء بيان أحوالهم الوخيمة خيمة الأمثال وتمد أطناب الاطناب في شرح أفعالهم ليكون أفعى لهم ونكالا بعد نكال وكل كلام له حظ من البلاغة وقسط من الجزالة والبراعة لا بد أن يوفى فيه حق كل من مقال الأطناب والإيجاز فماذا عسى أن يقال فيما بلغ الذروة العليا من البلاغة والبراعة والإعجاز. ولقد نعى سبحانه عليهم في هذا التمثيل تفاصيل جناياتهم العديمة المثيل وهو معطوف على الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ويكون النظم كمثل ذوي صيب (١) فيظهر مرجع ضمير الجمع فيما بعد وتحصل الملاءمة للمعطوف عليه والمشبه. وأو عند ذوي التحقيق لأحد الأمرين ويتولد منه في الخبر الشك والإبهام

(١) ذكر مولانا الساليكوتي أن ذوي مقدر والكاف من كصيب زائدة لدخول مثل الأول عليها حكما ولا تقدير، ونقل عن الرضى أن من مواقع زيادة الكاف دخول لفظ مثل عليه وزيادة حرف أهون من تقدير اسم لا سيما إذا رجحه قرب المعطوف عليه فتأمل وتدبر اهـ منه.

صفحة رقم 172

والتفصيل على حسب اعتبارات المتكلم، وفي الإنشاء الإباحة والتخيير كذلك، وحينئذ لا يلزم الاشتراك ولا الحقيقة والمجاز. وبعضهم يقول: إنها باعتبار الأصل موضوعة للتساوي في الشك وحمل على أنه فرد من أفراد المعنى الحقيقي ثم اتسع فيها فجاءت للتساوي من غير شك كما- فيما نحن فيه- على رأي إذا المعنى مثل بأي القصتين شئت فهما سواء في التمثيل ولا بأس لو مثلت بهما جميعا وإن كان التشبيه الثاني أبلغ لدلالته على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذا أخر ليتدرج من الأهون إلى الأهول، وزعم بعضهم أن «أو» هنا بمعنى الواو وما في الآيتين تمثيل واحد، وقيل: بمعنى بل، وقيل: للإبهام، والكل ليس بشيء، نعم اختار أبو حيان أنها للتفصيل وكأن من نظر إلى حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد، ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب مدعيا أن الإباحة- وكذا التخيير- لا يكونان إلا في الأمر أو ما في معناه انتهى. ولا يخفى على من نظر في معناه وحقق ما معناه أن ما نحن فيه داخل في الشق الثاني على أن دعوى الاختصاص مما لم يجمع عليه الخواص، فقد ذكر ابن مالك أن أكثر ورود أو للإباحة في التشبيه نحو فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: ٧٤] والتقدير نحو فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النجم: ٩]- والصيب- في المشهور المطر من صاب يصوب إذا نزل وهو المروي هنا عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم رضي الله تعالى عنهم. ويطلق على السحاب أيضا كما في قوله:
حتى عفاها صيب ودقه... داني النواحي مسبل هاطل
ووزنه فيعل- بكسر العين- عند البصريين وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين إلا ما شذ من صيقل- بكسر القاف- علم لامرأة، والبغداديون يفتحون العين، وهو قول تسد الأذن عنه، وقريب منه قول الكوفيين إن أصله فعيل كطويل فقلب، وهل اسم جنس أو صفة، بمعنى نازل أو منزل؟ قولان أشهرهما الأول، وأكثر نظائره في الوزن من الثاني، وقرىء- أو كصائب- وصيب أبلغ منه، والتنكير فيه للتنويع والتعظيم، والسماء كل ما علاك من سقف ونحوه والمعروفة عند خواص أهل الأرض والمرئية عند عوامهم، وأصلها الواو من السمو وهي مؤنثة (١) وقد تذكر كما في قوله:
فلو رفع السماء إليه قوما... لحقنا بالسماء مع السحاب
وتلحقها هاء التأنيث فتصح الواو حينئذ كما قاله أبو حيان لأنها بنيت عليها الكلمة فيقال سماوة وتجمع على سماوات وأسمية وسمائي، والكل- كما في البحر- شاذ لأنها اسم جنس وقياسه أن لا يجمع، وجمعه بالألف والتاء خال عن شرط ما يجمع بهما قياسا، وجمعه على أفعلة ليس مما ينقاس في المؤنث، وعلى فعائل لا ينقاس في فعال.
والمراد بالسماء هنا الأفق والتعريف للاستغراق لا للعهد الذهني كما ينساق لبعض الأذهان فيفيد أن الغمام آخذ بالآفاق كلها فيشعر بقوة المصيبة مع ما فيه من تمهيد الظلمة ولهذا القصد ذكرها، وعندي أن الذكر يحتمل أن يكون أيضا للتهويل والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء كما يشير إليه قوله تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج: ١٩] وكثيرا ما نجد أن المرء يعتني بحفظ رأسه أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه حتى أن المستطيع من الناس يتخذ طيلسانا لذلك والعيان والوجدان أقوى شاهد على ما قلنا. ومِنَ لابتداء الغاية، وقيل: يحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف أي من أمطار السماء وليس بشيء، وزعم بعضهم أن الآية تبطل ما قيل: إن المطر من أبخرة متصاعدة من السفل- وهو من أبخرة الجهل- إذ ليس في الآية سوى أن المطر من هذه

(١) والتأنيث لأهل الحجاز والتذكير للتميميين وأهل نجد، وكذا شأنهم في الجنس الذي ميز واحده بتاء تؤنثه اهـ منه.

صفحة رقم 173

الجهة وهو غير مناف لما ذكر، كيف والمشاهدة تقضي به فقد حدثني من بلغ مبلغ التواتر أنهم شاهدوا- وهم فوق الجبال الشامخة- سحابا يمطر أسفلهم وشاهدوا تارات أبخرة تتصاعد من نحو الجبال فتنعقد سحابا فيمطر، فإياك أن تلتفت لبرق كلام خلب ولا تظن أن ذلك علم فالجهل منه أصوب، ثم حمل- الصيب- هنا على السحاب وإن كان محتملا غير أنه بعيد بعد الغمام وكذا حمل السماء عليه فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ أي معه ذلك كما في قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ [الأعراف: ٣٨] وإذا حملت «في» على الظرفية- كما هو الشائع في كلام المفسرين- احتيج إلى حمل الملابسة التي تقتضيها الظرفية على مطلق الملابسة الشاملة للسببية والمجاورة وغيرهما ففيه بذلك المعنى ظلمات ثلاث. ظلمة تكاثفه بتتابعه. وظلمة غمامه مع ظلمة الليل التي يستشعرها الذوق من قوله تعالى:
كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وكذا فيه رعد وبرق لأنهما في منشئه ومحل ينصب منه، وقيل: فيه- وهو كما قال الشهاب- وهم نشأ من عدم التدبر، وإن كان المراد- بالصيب- السحاب فأمر الظرفية أظهر، والظلمات حينئذ ظلمة السحمة والتطبيق مع ظلمة الليل، وجمع الظلمات على التقديرين مضيء، ولم يجمع الرعد والبرق وإن كانا قد جمعا في لسان العرب، وبه تزداد المبالغة وتحصل المطابقة مع الظلمات والصواعق لأنهما مصدران في الأصل، وإن أريد بهما العينان هنا كما هو الظاهر، والأصل في المصدر أن لا يجمع على أنه لو جمعا لدل ظاهرا على تعدد الأنواع كما في المعطوف عليه، وكل من الرعد والبرق نوع واحد. وذكر الشهاب مدعيا أنه مما لمعت به بوارق الهداية في ظلمات الخواطر نكتة سرية في إفرادهما هنا وهي أن الرعد- كما ورد في الحديث وجرت به العادة- يسوق السحاب من مكان لآخر فلو تعدد لم يكن السحاب مطبقا فتزول شدة ظلمته وكذا البرق لو كثر لمعانه لم تطبق الظلمة كما يشير إليه قوله تعالى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ فافرادهما متعين هنا. وعندي- وهو من أنوار العناية المشرقة على آفاق الأسرار- أن النور لما لم يجمع في آية من القرآن- لما تقدم- لم يجمع البرق إذ ليس هو بالبعيد عنه كما يرشدك إليه كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ والرعد مصاحب له فانعكست أشعته عليه.

أوما ترى الجلد الحقير مقبلا بالثغر لما صار جار المصحف
وارتفاع ظلمات إما على الفاعلية للظرف المعتمد على الموصوف أو على الابتدائية والظرف خبره- وجعل الظرف حالا من النكرة المخصصة وظلمات فاعله- لا يخلو عن ظلمة البعد كما لا يخفى. وللناس في الرعد والبرق أقوال: والذي عول عليه أن الأول صوت زجر الملك الموكل بالسحاب، والثاني لمعان مخاريقه التي هي من نار، والذي اشتهر عند الحكماء أن الشمس إذا أشرقت على الأرض اليابسة حللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية فيركب منهما دخان ويختلط بالبخار وهو الحادث بسبب الحرارة السماوية إذا أثرت في البلة ويتصاعدان معا إلى الطبقة الباردة وينعقد ثمة سحاب ويحتقن الدخان فيه ويطلب الصعود إن بقي على طبعه الحار والنزول إن ثقل وبرد وكيف كان يمزق السحاب بعنفه فيحدث منه الرعد، وقد تشتعل منه- لشدة حركته ومحاكته- نار لامعة وهي البرق إن لطفت والصاعقة إن غلظت، وربما كان البرق سببا للرعد فإن الدخان المشتعل ينطفىء في السحاب فيسمع لانطفائه صوت كما إذا أطفأنا النار بين أيدينا، والرعد والبرق يكونان معا إلا أن البرق يرى في الحال لأن الإبصار لا يحتاج إلا إلى المحاذاة من غير حجاب، والرعد يسمع بعد لأن السماع إنما يحصل بوصول تموج الهواء إلى القوة السامعة وذلك يستدعي زمانا كذا قالوه، وربما يختلج في ذهنك قرب هذا ولا تدري ماذا تصنع بما ورد عن حضرة من أسرى به ليلا- بلا رعد ولا برق- على ظهر البراق وعرج إلى ذي المعارج حيث لا زمان ولا مكان فرجع وهو أعلم خلق الله على الإطلاق صلى الله تعالى عليه وسلم فأنا بحول من عز حوله وتوفيق من غمرني فضله أوفق لك بما يزيل الغين عن العين

صفحة رقم 174

ويظهر سر جوامع الكلم التي أوتيها سيد الكونين صلى الله تعالى عليه وسلم.
فأقول: قد صح عند أساطين الحكمة والنبوة- مما شاهدوه في أرصادهم الروحانية في خلواتهم ورياضتهم وكذا عند سائر المتألهين الربانيين من حكماء الإسلام والفرس وغيرهم- أن لكل نوع جسماني من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها ربا هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر له حافظ إياه وهو المنمي والغاذي والمولد في النبات والحيوان والإنسان لامتناع صدور هذه الأفعال المختلفة في النبات والحيوان عن قوة بسيطة لا شعور لها وفينا عن أنفسنا وإلا لكان لنا شعور بها، فجميع هذه الأفعال من الأرباب إلى تلك الأرباب أشار صاحب الرسالة العظمى صلى الله تعالى عليه وسلم
بقوله: «وإن لكل شيء ملكا» حتى قال: «إن كل قطرة من القطرات ينزل معها ملك» وقال: «أتاني ملك الجبال وملك البحار»
وحكى أفلاطون عن نفسه أنه خلع الظلمات النفسانية والتعلقات البدنية وشاهدها، وذكر مولانا الشيخ صدر الدين القونوي قدس سره في تفسيره الفاتحة أنه ما ثم صورة إلا ولها روح، وأطال أهل الله تعالى الكلام في ذلك، فإذا علمت هذا فلا بعد في أن يقال: أراد صلى الله تعالى عليه وسلم بالملك الموكل بالسحاب- في بيان الرعد- هو هذا الرب المدبر الحافظ وبزجره تدبيره له حسب استعداده وقابليته، وأراد بصوت ذلك الزجر ما يحدث عند الشق بالأبخرة الذي يقتضيه ذلك التدبير، وأراد بالمخاريق- في بيان البرق وهي جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف وتضرب به الصبيان بعضهم بعضا- الآلة التي يحصل بواسطتها الشق، ولا شك أنها كما قررنا من نار أشعلتها شدة الحركة والمحاكّة فظهرت كما ترى، وحيث فتحنا لك هذا الباب قدرت على تأويل كثير ما ورد من هذا القبيل حتى قولهم: إن الرعد نطق الملك والبرق ضحكه، وإن كان بحسب الظاهر مما يضحك منه، ولم أر أحدا وفق فوفق وتحقق فحقق والله تعالى الموفق وهو حسبي ونعم الوكيل يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ الضمائر عائدة على المحذوف المعلوم فيما قبل وكثيرا ما يلتفت إليه كما في قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الأعراف: ٤].
والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة فقال: يَجْعَلُونَ إلخ، وجوزوا وجوها أخر ككونها في محل جر صفة للمقدر وجوز فيها وفي يكاد كونها صفة صيب بتأويل نحو- لا يطيقونه- أو في محل نصب على الحال من ضمير فيه، والعائد محذوف أو اللام نائبة عنه أي صواعقه، والجعل في الأصل الوضع. والأصابع جمع إصبع وفيه تسع لغات حاصلة من ضرب أحوال الهمزة الثلاث في أحوال الباء كذلك، وحكوا عاشرة وهي أصبوع بضمها مع واو وهي مؤنثة وكذا سائر أسمائها إلا الإبهام فبعض بني أسد يذكّرها والتأنيث أجود، وفي الآية مبالغة في فرط دهشتهم وكمال حيرتهم كما في الفرائد من وجوه «أحدها» نسبة الجعل إلى كل الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وهو الأنامل «وثانيها» من حيث الإبهام في الأصابع والمعهود إدخال السبابة فكأنهم من فرط دهشتهم يدخلون أي أصبع كانت ولا يسلكون المسلك المعهود «ثالثها» في ذكر الجعل موضع الإدخال فإن جعل شيء في شيء أدل على إحاطة الثاني بالأول من إدخاله فيه، وهل هذا من المجاز اللغوي لتسمية الكل باسم جزئه أو للتجوز في الجعل؟ أو هو من المجاز العقلي بأن ينسب الجعل للأصابع وهو للأنامل فيه خلاف والمشهور هو الأول وعليه الجمهور. وابن مالك وجماعة على الأخير ظنا منهم أن المبالغة في الاحتراز عن استماع الصاعقة إنما يكون عليه ولم يكتفوا فيها بتبادر الذهن إلى أن الكل أدخل في الأذن قبل النظر للقرينة، وقيل: لا مجاز هنا أصلا لأن نسبة بعض الأفعال إلى ذي أجزاء تنقسم يكفي فيه تلبسه ببعض أجزائه كما يقال: دخلت البلد وجئت ليلة الخميس ومسحت بالمنديل فإن ذلك حقيقة مع أن

صفحة رقم 175

الدخول والمجيء والمسح في بعض- البلد والليلة، والمنديل- ولا يخفى أن كون مثل ذلك حقيقة ليس على إطلاقه، والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر ومِنَ تعليلية تغني غناء اللام في المفعول له وتدخل على الباعث المتقدم والغرض المتأخر وهي متعلقة ب يَجْعَلُونَ وتعلقها بالموت بعيد- أي يجعلون- من أجل الصواعق وهي جمع صاعقة ولا شذوذ، والظاهر أنها في الأصل صفة من الصعق وهو الصراخ وتاؤها للتأنيث إن قدرت صفة لمؤنث أو للمبالغة إن لم تقدر- كراوية- أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية- كحقيقة- وقيل: إنها مصدر كالعافية والعاقبة وهي اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد، والمشهور أنها الرعد الشديد معه قطعة من نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه، وقد يكون معه جرم حجري أو حديدي، وسد الآذان إنما ينفع على المعنى الأول، وقد يراد المعنى الثاني ويكون في الكلام إشارة إلى مبالغة أخرى في فرط دهشتهم حيث يظنون ما لا ينفع نافعا، وقرأ الحسن من الصواقع وهي لغة بني تميم كما في قوله:

ألم تر أن المجرمين أصابهم صواقع لا بل هن فوق الصواقع
وليس من باب القلب على الأصح إذ علامته كون أحد البناءين فائقا للآخر ببعض وجوه التصريف والبناءان هنا مستويان في التصرف. وحَذَرَ الْمَوْتِ نصب على العلة ل يَجْعَلُونَ
وإن كان من الصواعق في المعنى مفعولا له كان هناك نوعان منصوب ومجرور، ولزوم العطف في مثله غير مسلم خلافا لمن زعمه ولا مانع من أن يكون علة له مع علته كما أن من الصواعق علة له نفسه، وورد مجيء المفعول له معرفة وإن كان قليلا كما في قوله:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
وجعله مفعولا مطلقا لمحذوف أي يحذرون- حذر الموت- بعيد. وقرأ قتادة والضحاك وابن أبي ليلى- حذار- وهو كحذر شدة الخوف. والموت في المشهور زوال الحياة عما يتصف بها بالفعل وإطلاقه على العدم السابق في قوله سبحانه: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: ٢٨] مجاز ولا يرد قوله تعالى: خَلَقَ الْمَوْتَ [الملك: ٢] إذ الخلق فيه بمعنى التقدير وتعيين المقدار بوجه ما وهو مما يوصف به الموجود والمعدوم لأن العدم كالوجود له مدة ومقدار معين عنده تعالى، وقيل: المراد بخلق الموت إحداث أسبابه، وقيل: إنه العدم مطلقا وإن لم يكن مخلوقا إلا أن إعدام الملكات مخلوقة لما فيها من شائبة التحقق بمعنى أن استعداد الموضوع معتبر في مفهومها وهو أمر وجودي فيجوز أن يعتبر تعلق الخلق والإيجاد باعتبار ذلك، وصحح محققو أهل السنة أن الموت صفة وجودية خلقت ضدا للحياة، ولهذا يظهر كما
في الحديث «يوم تتجسد المعاني- كما قال أهل الله تعالى- بصورة كبش أملح»
ويصير عدما محضا إذ يذبح بمدية الحياة التي لا ينتهي أمدها وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط فإحاطته تعالى به مجاز تشبيها لحال قدرته الكاملة التي لا يفوتها المقدور أصلا بإحاطة المحيط بالمحاط بحيث لا يفوته فيكون في الإحاطة استعارة تبعية وإن شبه حاله تعالى- وله المثل الأعلى- معهم بحال المحيط مع المحاط بأن تشبه هيئة منتزعة من عدة أمور بمثلها كان هناك استعارة تمثيلية لا تصرف في مفرداتها إلا أنه صرح بالعمدة منها وقدر الباقي فافهم. وجوز أبو علي في مُحِيطٌ أن يكون بمعنى مهلك كما في قوله تعالى:
وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة: ٨١] أو عالم علم مجازاة كما في قوله تعالى: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ [الجن: ٢٨] وكل هذا من الظاهر، ولأهل الشهود كلام- من ورائه محيط- والواو اعتراضية لا عاطفة ولا حالية والجملة معترضة بين جملتين من قصة واحدة وفيها تتميم للمقصود من التمثيل بما تفيده من المبالغة لأن- الكافرين- وضع موضع الضمير وعبر به إشعارا باستحقاق ذوي الصيب ذلك العذاب لكفرهم فيكون الكلام على حد قوله تعالى: ثَلُ ما

صفحة رقم 176

يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ
[آل عمران:
١١٧] فإن التشبيه بحرث قوم كذلك لا يخفى حسنه لأن الإهلاك عن سخط أشد وأبلغ وفيه تنبيه على أن ما صنعوه من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئا وقد أحاط بهم الهلاك ولا يدفع الحذر القدر. وماذا يصنع مع القضاء تدبير البشر. وجعل الاعتراض من جملة أحوال المشبه على أن المراد بِالْكافِرِينَ المنافقون ولا محيص لهم عن عذاب الدارين ووسط بين أحوال المشبه به لاظهار كمال العناية بشأن المشبه والتنبيه على شدة الاتصال مما يأباه الذوق السليم يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ استئناف آخر بياني كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقال يَكادُ إلخ، وفي البحر يحتمل أن يكون في موضع جر لذوي المحذوفة فيما تقدم- ويكاد- مضارع كاد من أفعال المقاربة وتدل على قرب وقوع الخبر وأنه لم يقع والأول لوجود أسبابه والثاني لمانع أو فقد شرط على ما تقضي العادة به، والمشهور أنها إن نفيت أثبتت وإن أثبتت نفت وألغزوا بذلك، ولم يرتض هذا أبو حيان وصحح أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإثباتها إثبات، واللام- في البرق للعهد إشارة إلى ما تقدم- نكرة، وقيل: إشارة إلى البرق الذي مع الصواعق أي برقها وهو كما ترى وإسناد الخطف وهو في الأصل الأخذ بسرعة أو الاستلاب إليه من باب إسناد الإحراق إلى النار وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه قريبا. والشائع في خبر- كاد- أن يكون فعلا مضارعا غير مقترن بأن المصدرية الاستقبالية أما المضارع فلدلالته على الحال المناسب للقرب حتى كأنه لشدة قربه وقع وأما أنه غير مقترن- بأن- فلمنا فاتها لما قصدوا ونحو- وأبت إلى فهم وما كدت آئبا. وكاد الفقر أن يكون كفرا، وقد كاد- من طول البلى أن يمحصا- قليل. وقرأ مجاهد وعلي بن الحسين ويحيى بن وثاب «يخطف» بكسر الطاء والفتح أفصح.
وعن ابن مسعود «يختطف» - وعن الحسن «يخطف» - بضم الياء وفتح الخاء وأصله يختطف فأدغم التاء في الطاء.
وعن عاصم وقتادة والحسن أيضا- «يخطّف» - بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وعن الحسن أيضا والأعمش- «يخطّف» - بكسر الثلاثة والتشديد وعن زيد- «يخطّف» - بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة وهو تكثير مبالغة لا تعدية، وكسر الطاء في الماضي لغة قريش، وهي اللغة الجيدة.
كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا استئناف ثالث كأنه لما قيل إنهم مبتلون باستمرار تجدد خطف الأبصار فهم منه أنهم مشغولون بفعل ما يحتاج إلى الأبصار ساعة فساعة وإلا لغطوها كما سدوا الآذان، فسئل وقيل: ما يفعلون في حالتي وميض البرق وعدمه؟ فأجيب بأنهم حراص على المشي- كما أضاء لهم- اغتنموه- ومشوا وإذا أظلم عليهم- توقفوا مترصدين. وكُلَّما في هذه الآية وأمثالها منصوبة على الظرفية وناصبها «ما» هو جواب معنى. و «ما» حرف مصدري أو اسم نكرة بمعنى وقت فالجملة بعدها صلة أو صفة وجعلت شرطا لما فيها من معناه وهي لتقدير ما بعدها بنكرة تفيد عموما بدليا ولهذا أفادت- كما- التكرار كما صرح به الأصوليون وذهب إليه بعض النحاة واللغويين واستفادة التكرار من إِذا وغيرها من أدوات الشرط من القرائن الخارجية على الصحيح، ومن ذلك قوله:

إذا وجدت أوار الحب من كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
وزعم أبو حيان أن التكرار الذي ذكره الأصوليون وغيرهم في كُلَّما إنما جاء من عموم كل لا من وضعها وهو مخالف للمنقول والمعقول، وقد استعملت هنا في لازم معناها كناية أو مجازا وهو الحرص والمحبة لما دخلت عليه ولذا قال مع الإضاءة كُلَّما ومع الاظلام إِذا وقول أبي حيان: إن التكرار متى فهم من كُلَّما هنا لزم منه التكرار في «إذا» إذ الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام ومتى وجد «ذا» فقد ذا فلزم من تكرار وجود «ذا» تكرار عدم

صفحة رقم 177

ذا غفلة عما أرادوه من هذا المعنى الكنائي والمجازي. وأضاء إما متعد كما في قوله:

أعد نظرا يا عبد قيس لعلما أضاءت لك النار الحمار المقيدا
والمفعول محذوف أي كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ ممشي مَشَوْا فِيهِ وسلكوه، وإما لازم ويقدر حينئذ مضافان- أي كلما لمع لهم- مشوا في مطرح ضوئه ولا بد من التقدير إذ ليس المشي في البرق بل في محله وموضع إشراق ضوئه وكون «في» للتعليل والمعنى مشوا الأجل الإضاءة فيه يتوقف فيه من له ذوق في العربية، ويؤيد اللزوم قراءة ابن أبي عبلة ضاء ثلاثيا، وفي مصحف ابن مسعود بدل- مشوا فيه- مضوا فيه، وللإشارة إلى ضعف قواهم لمزيد خوفهم ودهشتهم لم يأت سبحانه بما يدل على السرعة، ولما حذف مفعول أضاء وكانت النكرة أصلا أشار إلى أنهم لفرط الحيرة كانوا يخبطون خبط عشواء ويمشون كل ممشى، ومعنى أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ اختفى عنهم، والمشهور استعمال أظلم لازما، وذكر الأزهري- وناهيك به- في التهذيب أن كل واحد من أوصاف الظلم يكون لازما ومتعديا، وعلى احتمال التعدي هنا ويؤيده قراءة زيد بن قطيب والضحاك أَظْلَمَ بالبناء للمفعول مع اتفاق النحاة على أن المطرد بناء المجهول من المتعدي بنفسه يكون المفعول محذوفا أي- إذا أظلم- البرق بسبب خفائه معاينة الطريق قامُوا أي وقفوا عن المشي ويتجوز به عن الكساد ومنه قامت السوق، وفي ضده يقال: مشت الحال وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ عطف على مجموع الجمل الاستئنافية ولم يجعلوها معطوفة على الأقرب ومن تتمته لخروجها عن التمثيل وعدم صلاحيتها للجواب، وعطف ما ليس بجواب على الجواب ليس بصواب وجوزه بعض المحققين إذ لا بأس بأن يزاد في الجواب ما يناسبه وإن لم يكن له دخل فيه بل قد يستحسن ذلك إذا اقتضاه المقام كما في وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: ١٧] الآية وكونها اعتراضية أو حالية من ضمير قامُوا بتقدير المبتدأ أو معطوفة على الجملة الأولى مع تخلل الفواصل اللفظية، والمقدرة فضول عند ذوي الفضل، والقول بأنه أتى بها لتوبيخ المنافقين حيث لم ينتهوا لأن من قدر على إيجاد قصيف الرعد ووميضه وإعدامهما قادر على إذهاب سمعهم وأبصارهم أفلا يرجعون عن ضلالهم محل للتوبيخ إذ لا يصح عطف الممثل له على حال الممثل به، ومفعول شاء هنا محذوف وكثيرا ما يحذف (١) مفعولها إذا وقعت في حيز الشرط ولم يكن مستغربا، والمعنى ولو أراد الله إذهاب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب، ولتقدم ما يدل على التقييد من يَجْعَلُونَ ويَكادُ قوى دلالة السياق عليه وأخرجه من الغرابة، ولك أن لا تقيد ذلك المفعول وتقيد الجواب كما صنعه الزمخشري أو لا تقيد أصلا، ويكون المعنى لو أراد الله إذهاب هاتيك القوى أذهبها من غير سبب فلا يغنيهم ما صنعوه، والمشيئة عند المتكلمين كالإرادة سواء، وقيل: أصل المشيئة إيجاد الشيء وإصابته وإن استعمل عرفا في موضع الإرادة، وقرأ ابن أبي عبلة- لأذهب الله بأسماعهم- وهي محمولة على زيادة الباء لتأكيد التعدية أو على أن- أذهب- لازم بمعنى ذهب كما قيل بنحوه في تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: ٢٠] وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [البقرة: ١٩٥] إذ الجمع بين أداتي تعدية لا يجوز، وبعضهم يقدر له مفعولا- أي لأذهبهم- فيهون الأمر (٢) وكلمة لَوْ لتعليق حصول أمر ماض هو الجزاء بحصول أمر مفروض هو الشرط لما بينهما من الدوران حقيقة أو ادعاء ومن قضية مفروضة الشرط دلالتها على انتفائه
(١) ومثل شاء أراد اهـ منه.
(٢) وقريب من هذا المعنى ما قيل في القراءة المشهور: إن معنى ذهب الله بسمعهم وأبصارهم- أهلكهم- لأن في إهلاكهم ذهاب ذلك وهو معنى قريب بعيد اهـ منه.

صفحة رقم 178

قطعا والمنازع فيه مكابر، وأما دلالتها على انتفاء الجزاء فقد قيل وقيل: والحق أنه إن كان ما بينهما من الدوران قد بنى الحكم على اعتباره فهي دالة عليه بواسطة مدلولها ضرورة استلزام انتفاء العلة لانتفاء المعلول. أما في الدوران الكلي كالذي في قوله تعالى: شأنه وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ [النحل: ٩] وقولك لو جئتني لأكرمتك فظاهر، ثم إنه قد يساق الكلام لتعليل انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط كما في المثالين، وهو الاستعمال الشائع في لَوْ ولذا قيل: إنها لامتناع الثاني لامتناع الأول وقد يساق للاستدلال بانتفاء الثاني لكونه ظاهرا أو مسلما على انتفاء الأول لكونه بعكسه كما في قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] ولَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: ١١] واللزوم في الأول حقيقي وفي الثاني ادعائي، وكذا انتفاء الملزومين وليس هذا بطريق السببية الخارجية بل بطريق الدلالة العقلية الراجعة إلى سببية العلم بانتفاء الثاني للعلم بانتفاء الأول. ومن لم يتنبه زعم أنه لانتفاء الأول لانتفاء الثاني. وأما في مادة الدوران الجزئي كما في قولك: لو طلعت الشمس لوجد الضوء فلأن الجزاء المنوط بالشرط ليس وجود أي ضوء بل وجود الضوء الخاص الناشئ من الطلوع ولا ريب في انتفائه بانتفائه هذا إذا بني الحكم على اعتبار الدوران وإن بني على عدمه فأما أن يعتبر تحقق مدار آخر له أو لا، فإن اعتبر فالدلالة تابعة لحال ذلك المدار فإن كان بينه وبين الانتفاء الأول منافاة تعين الدلالة كما إذا قلت: لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء فإن وجود الضوء معلق في الحقيقة بسبب آخر هو المدار ووضع عدم الطلوع موضعه لكونه كاشفا عنه فكأنه قيل: لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء بالقمر مثلا.
ولا ريب في أن هذا الجزاء منتف عند انتفاء الشرط لاستحالة الضوء القمري عند طلوع الشمس، وإن لم يكن بينهما منافاة تعين عدم الدلالة
كحديث «لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي (١) من الرضاعة»
فإن المدار المعتبر في ضمن الشرط- أعني كونها ابنة الأخ- غير مناف لانتفائه الذي هو كونها ربيبته بل مجامع له، ومن ضرورته مجامعة أثريهما أعني الحرمة الناشئة من هذا، وهذا وإن لم يعتبر تحقق مدار آخر بل بني الحكم على اعتبار عدمه فلا دلالة لها على ذلك أصلا، ومساق الكلام حينئذ لبيان ثبوت الجزاء على كل حال بتعليقه بما ينافيه ليعلم ثبوته عند وقوع ما لا ينافيه بالأولى كما في قوله تعالى: (٢) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ [الإسراء: ١٠٠] فإن الجزاء قد نيط بما ينافيه إيذانا بأنه في نفسه بحيث يجب ثبوته مع فرض انتفاء سببه أو تحقق سبب انتفائه فكيف إذا لم يكن كذلك على طريقة لَوْ الوصلية
«ونعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه»
إن حمل على تعليق عدم العصيان في ضمن عدم الخوف بمدار آخر كالحياء مما يجامع الخوف كان من قبيل حديث الربيبة، وإن حمل على بيان استحالة عصيانه مبالغة كان من هذا القبيل، والآية الكريمة واردة على الاستعمال الشائع مفيدة لفظاعة حالهم وهول ما دهمهم وأنه قد بلغ الأمر إلى حيث لو تعلقت مشيئة الله تعالى بإزالته قواهم لزالت لتحقق ما يقتضيه اقتضاء تاما. وقيل: كلمة لَوْ فيها- لربط جزائها بشرطها مجردة عن الدلالة على انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر- بمنزلة أن، ذكر جميع ذلك مولانا مفتي الديار الرومية وأظنه قد أصاب الغرض إلا أن كلام مولانا الساليكوتي يشعر باختيار أن لَوْ موضوعة لمجرد تعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر فيه من غير دلالة على انتفاء

(١) هي بنت أبي سلمة اهـ.
(٢) ومثله
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من فارس»،
وقول علي كرم الله تعالى وجهه: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا
أهـ منه.

صفحة رقم 179

الأول أو الثاني أو على استمرار الجزاء بل جميع هذه الأمور خارجة عن مفهومها مستفادة بمعونة القرائن كيلا يلزم القول بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز من غير ضرورة، وبه قال بعضهم، وما ذهب إليه ابن الحاجب من أنها للدلالة على انتفاء الأول لانتفاء الثاني من لوازم هذا المفهوم وكونه لازما لا يستلزم الإرادة في جميع الموارد فإن الدلالة غير الإرادة.
وذكر أن ما قالوه من أنها لتعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر فرضا مع القطع بانتفائه فيلزم لأجل انتفائه انتفاء ما علق به فيفيد أن انتفاء الثاني في الخارج إنما هو بسبب انتفاء الأول فيه مع توقفه على كون انتفاء الأول مأخوذا في مدخولها، وقد عرفت أنه يستلزم خلاف الأصل يرد عليه أن المستفاد من التعلق على أمر مفروض الحصول إبداء المانع من حصول المعلق في الماضي وأنه لم يخرج من العدم الأصلي إلى حد الوجود وبقي على حاله لارتباط وجوده بأمر معدوم، وأما إن انتفاءه سبب لانتفائه في الخارج فكلا كيف والشرط النحوي قد يكون مسببا مضافا للجزاء؟ نعم إن هذا مقتضى الشرط الاصطلاحي، وما استدل به العلامة التفتازاني على إفادتها السببية الخارجية من قول الحماسي:
ولو طار ذو حافر قبلها... لطارت ولكنه لم يطر
لأن استثناء المقدم لا ينتج، ففيه أن اللازم مما ذكر أن لا تكون مستعملة للاستدلال بانتفاء الأول على انتفاء الثاني ولا يلزم منه أن لا تكون مستعملة لمجرد التعليق لإفادة إبداء المانع مع قيام المقتضى كيف ولو كان معناها إفادة سببية الانتفاء للانتفاء كان الاستثناء تأكيدا وإعادة بخلاف ما إذا كان معناها مجرد التعليق فإنه يكون إفادة وتأسيسا، وهذا محصل ما قالوه ردا وقبولا. وزبدة ما ذكروه إجمالا وتفصيلا. ومعظم مفتي أهل العربية أفتوا بما قاله مفتي الديار الرومية، ولا أوجب عليك التقليد فالأقوال بين يديك فاختر منها ما تريد.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كالتعليل للشرطية والتقرير لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إذهاب ما ذكر لأن القادر على الكل قادر على البعض. والشيء لغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه كما نص عليه سيبويه، وهو شامل للمعدوم والموجود الواجب والممكن وتختلف إطلاقاته، ويعلم المراد منه بالقرائن فيطلق تارة، ويراد به جميع أفراده كقوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: ٢٨٢، النساء: ١٧٦، النور: ١٨، ٦٤، التغابن: ١١] بقرينة إحاطة العلم الإلهي بالواجب والممكن المعدوم والموجود والمحال الملحوظ بعنوان ما، ويطلق ويراد به الممكن مطلقا كما في الآية الكريمة بقرينة القدرة التي لا تتعلق إلا بالممكن، وقد يطلق ويراد به الممكن الخارجي الموجود في الذهن كما في قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الكهف: ٢٣، ٢٤] بقرينة كونه متصورا مشيئا فعله غدا، وقد يطلق ويراد به الممكن المعدوم الثابت في نفس الأمر كما في قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: ٤٠] بقرينة إرادة التكوين التي تختص بالمعدوم، وقد يطلق ويراد به الموجود الخارجي كما في قوله تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم: ٩] أي موجودا خارجيا لامتناع أن يراد نفي كونه شيئا بالمعنى اللغوي الأعم الشامل للمعدوم الثابت في نفس الأمر لأن كل مخلوق فهو في الأزل شيء- أي معدوم- ثابت في نفس الأمر وإطلاق الشيء عليه قد قرر، والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا يعدل عنه إلا لصارف ولا صارف. وشيوع استعماله في الموجود لا ينتهض صارفا إذ ذاك إنما هو لكون تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لاختصاصه به لغة، وما ذكره مولانا البيضاوي من اختصاصه بالموجود- لأنه في الأصل مصدر شاء- أطلق بمعنى شاء تارة وحينئذ يتناول الباري تعالى وبمعنى مشيء أخرى أي مشيء وجوده إلخ ففيه- مع ما فيه- أنه يلزمه في قوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ استعمال المشترك في معنييه لأنه إذا كان بمعنى الشائي لا يشمل

صفحة رقم 180

نحو الجمادات عنده، وإذا كان بمعنى المشيء وجوده لا يشمل الواجب تعالى شأنه، وفي استعمال المشترك في معنييه خلاف (١) ولا خلاف في الاستدلال بالآية على إحاطة علمه تعالى. وأما ما ذكر في شرحي المواقف والمقاصد فجعجعة ولا أرى طحنا، وقعقعة ولا أرى سلاحا تقنا. وقد كفانا مؤنة الإطالة في رده مولانا الكوراني قدس سره، والنزاع في هذا وإن كان لفظيا والبحث فيه من وظيفة أصحاب اللغة إلا أنه يبتني على النزاع في أن المعدوم الممكن ثابت أولا، وهذا بحث طالما تحيرت فيه أقوام وزلت فيه أقدام. والحق الذي عليه العارفون الأول لأن المعدوم الممكن- أي ما يصدق عليه هذا المفهوم- يتصور ويراد بعضه دون بعض، وكل ما هو كذلك فهو متميز في نفسه من غير فرض الذهن، وكل ما هو كذلك فهو ثابت ومتقرر في خارج أذهاننا منفكا عن الوجود الخارجي فما هو إلا في نفس الأمر. والمراد به علم الحق تعالى باعتبار عدم مغايرته للذات الأقدس فإن لعلم الحق تعالى اعتبارين «أحدهما» أنه ليس غيرا «والثاني» أنه ليس عينا، ولا يقال بالاعتبار الأول- العلم تابع للمعلوم- لأن التبعية نسبة تقتضي متمايزين ولو اعتبارا، ولا تمايز عند عدم المغايرة، ويقال ذلك بالاعتبار الثاني للتمايز النسبي المصحح للتبعية، والمعلوم الذي يتبعه العلم هو ذات الحق تعالى بجميع شؤونه ونسبه واعتباراته. ومن هنا قالوا: علمه تعالى بالأشياء أزلا عين علمه بنفسه لأن كل شيء من نسب علمه بالاعتبار الأول فإذا علم الذات لجميع نسبها فقد علم كل شيء من عين علمه بنفسه، وحيث لم يكن الشريك من نسب العلم بالاعتبار الأول إذ لا ثبوت له في نفسه من غير فرض إذ الثابت كذلك هو أنه تعالى لا شريك له فلا يتعلق به العلم بالاعتبار الثاني ابتداء، ومتى كان تعلق العلم بالأشياء أزليا لم تكن أعداما صرفة إذ لا يصح حينئذ أن تكون طرفا إذ لا تمايز، فإذا لها تحقق بوجه ما، فهي أزلية بأزلية العلم، فلذا لم تكن الماهيات بذواتها مجعولة لأن الجعل تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الثابت، فالثبوت متقدم على الجعل بمراتب فلا تكون من حيث الثبوت أثرا للجعل وإلا لدار، وإنما هي مجعولة في وجودها، لأن العالم حادث وكل حادث مجعول وليس الوجود حالا حتى لا تتعلق
به القدرة، ويلزم أن لا يكون الباري تعالى موجدا للممكنات ولا قادرا عليها لأنه قد حقق أن الوجود بمعنى ما- بانضمامه إلى الماهيات الممكنة- يترتب عليها آثارها المختصة بها موجود، أما أولا فلأن كل مفهوم مغاير للوجود فإنه إنما يكون موجودا بأمر ينضم إليه وهو الوجود، فهو موجود بنفسه لا بأمر زائد وإلا لتسلسل، وامتيازه عما عداه بأن وجوده ليس زائدا على ذاته، وأما ثانيا فلأنه لو لم يكن موجودا لم يوجد شيء أصلا لأن الماهية الممكنة قبل انضمام الوجود متصفة بالعدم الخارجي فلو كان الوجود معدوما كان مثلها محتاجا لما تحتاجه فلا يترتب على الماهية بضمه آثارها لأنه على تقدير كونه معدوما ليس فيه بعد العدم إلا افتقاره إلى الوجود وهذا بعينه متحقق في الماهية قبل الضم فلا يحدث لها بالضم وصف لم تكن عليه، فلو كان هذا الوجود المفتقر مفيدا- لترتب الآثار- لكانت الماهية مستغنية عن الوجود حال افتقارها إليه واللازم باطل لاستحالة اجتماع النقيضين فلا بد أن يكون الوجود موجودا بوجود هو نفسه وإلا لتسلسل أو انتهى إلى وجود موجود بنفسه. والأول باطل، والثاني قاض بالمطلوب. نعم الوجود بمعنى الموجودية حال لأنه صفة اعتبارية ليست بعرض ولا سلب، ومع هذا يتعلق به الجعل لكن لا ابتداء بل بضم حصة من الوجود الموجود إلى الماهية فيترتب على ذلك اتصاف الماهية بالموجودية وظاهر أنه لا يلزم من عدم تعلق القدرة بالوجود بمعنى الموجودية ابتداء أن لا تتعلق به بوجه آخر، وإذا تبين أن الماهيات مجعولة في وجودها فلا بد أن يكون وجود كل شيء عين حقيقته، بمعنى أن ما صدق عليه حقيقة الشيء من الأمور الخارجية

(١) والإمام الغزالي لا يقول باستعمال المشترك في معنييه واستدل في قواعد العقائد بالآية على عموم علمه تعالى اهـ منه.

صفحة رقم 181

هو بعينه ما صدق عليه وجوده، وليس لهما هويتان متمايزتان في الخارج كالسواد والجسم إذ الوجود إن قام بالماهية معدومة لزم التناقض، وموجودة لزم وجودان مع الدور أو التسلسل، والقول بأن الوجود ينضم إلى الماهية من حيث هي لا تحقيق فيه، إذ تحقق في محله أن الماهية قبل عروض الوجود متصفة في نفس الأمر بالعدم قطعا لاستحالة خلوها عن النقيضين فيه، غاية الأمر أنا إذا لم نعتبر معها العدم لا يمكن أن نحكم عليها بأنها معدومة، وعدم اعتبارنا العدم معها حين عروض الوجود لا يجعلها منفكة عنه في نفس الأمر وإنما يجعلها منفكة عنه باعتبارنا وضم الوجود أمر يحصل لها باعتبار نفس الأمر لا من حيث اعتبارنا، فخلوها عن العدم باعتبارنا لا يصحح اتصافها بالوجود من حيث هي هي في نفس الأمر سالما عن المحذور فإذا ليس هناك هويتان تقوم إحداهما بالأخرى بل عين الشخص في الخارج عين تعين الماهية فيه وهو عين الماهية فيه أيضا إذ ليس التعين أمرا وجوديا مغايرا بالذات للشخص منضما للماهية في الخارج ممتازا عنهما فيه مركبا منها ومن الفرد بل لا وجود في الخارج إلا للأشخاص، وهي عين تعيينات الماهية وعين الماهية في الخارج لاتحادهما فيه، وعلى هذا فلا شك في مقدورية الممكن إذ جعله بجعل حصته من الوجود المطلق الموجود في الخارج مقترنة بأعراض وهيئات يقتضيها استعداد حصته من الماهية النوعية فيكون شخصا، وإيجاد الشخص من الماهية- على الوجه المذكور- عين إيجاد الماهية لأنهما متحدان في الخارج جعلا ووجودا متمايزان في الذهن فقط، وهذا تحقيق قولهم: المجعول هو الوجود الخاص، ولا يستعد معدوم لعروضه إلا إذا كان له ثبوت في نفس الأمر إذ ما لا ثبوت له- وهو المنفي- لا اقتضاء فيه لعروض الوجود بوجه، وإلا لكان المحال ممكنا واللازم باطل، فالثبوت الأزلي لماهية الممكن هو المصحح لعروض الإمكان المصحح للمقدورية لا أنه المانع كما توهموه، هذا والبحث طويل والمطلب جليل، وقد أشبعنا الكلام عليه- في الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية- على وجه رددنا فيه كلام المعترضين المخالفين لما تبعنا فيه ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، وهذه نبذة يسيرة تنفعك في تفسير الآية الكريمة فاحفظها فلا أظنك تجدها في تفسير، وحيث كان الشيء عاما لغة واصطلاحا عند أهل الله تعالى، وإن ذهب إليه المعتزلة أيضا فلا بد في مثل ما نحن فيه من تخصيصه بدليل العقل بالممكن. والقدرة عند الأشاعرة صفة ذاتية ذات إضافة تقتضي التمكن من الإيجاد والإعدام والإبقاء لا نفس التمكن لأنه أمر اعتباري ولا نفي العجز عنه تعالى لأنه من الصفات السلبية، ولعل من اختار ذلك اختاره تقليلا للصفات الذاتية، أو نفيا لها «والقادر» هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، ولكون المشيئة عندنا صفة مرجحة لأحد طرفي المقدور، وعند الحكماء- العناية الأزلية- ساغ لنا أن نعرفه بما ذكر دونهم خلافا لمن وهم فيه- والقدير- هو الفعال لما يشاء على قدر ما تقتضيه الحكمة، وقلما يوصف به غيره تعالى، والمقتدر إن استعمل فيه- تعالى- فمعناه «القدير» أو في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة، واشتقاق القدرة من القدر بمعنى التحديد والتعيين، وفي الآية دليل على أن الممكن الحادث حال بقائه مقدور لأنه شيء وكل شيء مقدور له تعالى، ومعنى كونه مقدورا أن الفاعل إن شاء أعدمه وإن شاء لم يعدمه واحتياج الممكن حال بقائه إلى المؤثر مما أجمع عليه من قال: إن علة الحاجة هي الإمكان ضرورة أن الإمكان لازم له حال البقاء وأما من قال: إن علة الحاجة الحدوث وحده أو مع الإمكان قال باستغنائه إذ لا حدوث حينئذ وتمسك في ذلك ببقاء البناء بعد فناء البناء، ولما رأى بعضهم شناعة ذلك قالوا: إن الجواهر لا تخلو عن الأعراض وهي لا تبقى زمانين فلا يتصور الاستغناء عن القادر سبحانه بحال، وهذا مما ذهب إليه الأشعري- ولما فيه من مكابرة الحس ظاهرا- أنكره أهل الظاهر، نعم يسلمه العارفون من أهل الشهود- وناهيك بهم- حتى إنهم زادوا على ذلك فقالوا: إن الجواهر لا تبقى زمانين أيضا والناس في لبس من خلق جديد، وأنا أسلم ما قالوا وأفوض أمري إلى الله الذي لا يتقيد بشأن وقد كان ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، ثم المراد من هذا التمثيل تشبيه حال المنافقين في الشدة

صفحة رقم 182
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية