سورة مريم
ترتيبها ١٩ سورة مريم آياتها ٩٨
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ٣٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤)
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩)
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩)
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) صفحة رقم 235
اشتغال النَّارِ تَفَرُّقُهَا فِي الْتِهَابِهَا فَصَارَتْ شُعَلًا. وَقِيلَ: شُعَاعُ النَّارِ. الشَّيْبُ مَعْرُوفٌ، شَابَ شعره ابيضّ بعد ما كَانَ بِلَوْنٍ غَيْرِهِ. الْمَخَاضُ اشْتِدَادُ وَجَعِ الْوِلَادَةِ وَالطَّلْقِ. الْجِذْعُ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا الشَّجَرَةُ مِنْهَا وَبَيْنَ مُتَشَعَّبِ الْأَغْصَانِ، وَيُقَالُ للغضن أَيْضًا جِذْعٌ وَجَمْعُهُ أَجْذَاعٌ فِي الْقِلَّةِ، وَجُذُوعٌ فِي الْكَثْرَةِ. السَّرِيُّ الْمُرْتَفِعُ الْقَدْرِ، يُقَالُ سَرُوَ يَسْرُوُ، وَيُجْمَعُ عَلَى سَرَاةٍ بِفَتْحِ السِّينِ وَسُرَوَاءَ وَهُمَا شَاذَّانِ فِيهِ، وَقِيَاسُهُ أَفْعِلَاءُ. وَالسَّرِيُّ النَّهْرُ الصَّغِيرُ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْرِي فِيهِ وَلَامُهُ يَاءٌ كَمَا أَنَّ لَامَ ذَلِكَ وَاوٌ. وَقَالَ لَبِيدٌ:
فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السرى فصدّعا | مسجورة متحاورا قُلَّامُهَا |
الْجَنِيُّ وَالْمَجْنِيُّ وَاحِدٌ، وَعَنْهُ الْجَنِيُّ الْمَقْطُوعُ. قُرَّةُ الْعَيْنِ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُرِّ، يُقَالُ: دمع الفرح اللَّمْسِ وَدَمْعُ الْحُزْنِ سُخْنُ اللَّمْسِ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ:
فَأَمَّا عُيُونُ الْعَاشِقِينَ فَأَسْخَنَتْ | وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتِ |
وَقَالَ كَثِيرٌ:
فَقُلْتُ وَفِي الْأَحْشَاءِ دَاءٌ مُخَامِرٌ | أَلَا حَبَّذَا يَا عِزَّ ذَاكَ التَّشَايُرُ |
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كَالسُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا آيَةَ السَّجْدَةِ فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ مُهَاجَرَةِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى ضَمَّنَ السُّورَةَ قَبْلَهَا قَصَصًا عَجَبًا كَقِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَقِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ، وَقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ تَضَمَّنَتْ قَصَصًا عَجَبًا مِنْ وِلَادَةِ يَحْيَى بَيْنَ شَيْخٍ فَانٍ وَعَجُوزٍ عَاقِرٍ، وَوِلَادَةِ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا فِي هَذَا الشَّيْءِ الْمُسْتَغْرَبِ نَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ تِلْكَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ بِمَا يوقف عليه هناك وذِكْرُ خبر مبتدأ محذوف أي هَذَا الْمَتْلُوُّ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ ذِكْرُ. وَقِيلَ ذِكْرُ خَبَرٌ صفحة رقم 237
لِقَوْلِهِ كهيعص وَهُوَ مُبْتَدَأٌ ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ. قِيلَ: وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ هُوَ الْمُبْتَدَأُ فِي الْمَعْنَى وَلَيْسَ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ، وَلَا فِي ذِكْرِ الرَّحْمَةِ مَعْنَاهَا. وَقِيلَ: ذِكْرُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فِيمَا يُتْلَى ذِكْرُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَافْ بِإِسْكَانِ الْفَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ ضَمُّهَا، وَأَمَالَ نَافِعٌ هَاءً وَيَاءً بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَأَظْهَرَ دَالَ صَادٍ عِنْدَ ذَاكَ. ذِكْرُ وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَعَنْهُ أَيْضًا ضَمُّ الْيَاءِ وَكَسْرُ الْهَاءِ، وَعَنْ عَاصِمٍ ضَمُّ الْيَاءِ وَعَنْهُ كَسْرُهُمَا وَعَنْ حَمْزَةَ فَتْحُ الْهَاءِ وَكَسْرُ الْيَاءِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: مَعْنَى الضَّمِّ فِي الْهَاءِ وَالْيَاءِ إِشْبَاعُ التَّفْخِيمِ وَلَيْسَ بِالضَّمِّ الْخَالِصِ الَّذِي يُوجِبُ الْقَلْبَ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْمُقْرِي الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ فِي شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ خَارِجَةُ عَنِ الْحَسَنِ: كَافْ بِضَمِّ الْكَافِ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ عَنْهُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَهَارُونُ بْنُ مُوسَى الْعَتَكِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْهُ بِالضَّمِّ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ مُتَرْجَمٌ عَلَيْهَا بِالضَّمِّ وَلَسْنَ مَضْمُومَاتِ الْمَحَالِّ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُنَّ لَوْ كُنَّ كَذَلِكَ لَوَجَبَ قَلْبُ مَا بَعْدَهُنَّ مِنَ الْأَلِفَاتِ وَاوَاتٍ بَلْ نُحِّيَتْ هَذِهِ الْأَلِفَاتُ نَحْوَ الْوَاوِ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى أَلِفَ التَّفْخِيمِ بِضِدِّ الْأَلِفِ الْمُمَالَةِ فَأَشْبَهَتِ الْفَتَحَاتِ الَّتِي تَوَلَّدَتْ مِنْهُنَّ الضَّمَّاتُ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ كَمَا تَرْجَمُوا عَنِ الْفَتْحَةِ الْمُمَالَةِ الْمُقَرَّبَةِ مِنَ الْكَسْرَةِ بِكَسْرَةٍ لِتَقْرِيبِ الْأَلِفِ بَعْدَهَا مِنَ الْيَاءِ انْتَهَى.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَقْطِيعِ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَتَخْلِيصِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا ائْتَلَفَ مِنَ الْحُرُوفِ، فَيَصِيرُ أَجْزَاءَ الْكَلِمِ فَاقْتَضَيْنَ إِسْكَانَ آخِرِهِنَّ، وَأَظْهَرَ الْأَكْثَرُونَ دَالَ صَادٍ عِنْدَ ذَالِ ذِكْرُ وَأَدْغَمَهَا أَبُو عَمْرٍو. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَفِرْقَةٌ بِإِظْهَارِ النُّونِ مِنْ عَيْنٍ وَالْجُمْهُورُ عَلَى إِخْفَائِهَا.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ يَعْمُرَ ذِكْرُ فعلا ماضيا رَحْمَتِ بِالنَّصْبِ، وَحَكَاهُ أَبُو الْفَتْحِ وَذَكَرُهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أي هذا المتلو من القرآن ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ وَذَكَرَ الدَّانِيُّ عَنِ ابْنِ يَعْمُرَ ذِكْرُ فِعْلُ أمر من التذكير رَحْمَتِ بالنصب وعَبْدَهُ نُصِبَ بِالرَّحْمَةِ أَيْ ذِكْرُ أن رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ. وَذَكَرَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ أَنَّ ذِكْرُ بِالتَّشْدِيدِ مَاضِيًا عَنِ الْحَسَنِ بِاخْتِلَافٍ وَهُوَ صَحِيحٌ عَنِ ابْنِ يَعْمُرَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَتْلُوَّ أَيِ الْقُرْآنَ ذَكَّرَ بِرَحْمَةِ رَبِّكَ فَلَمَّا نُزِعَ الْبَاءُ انْتَصَبَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقُرْآنَ ذَكَّرَ النَّاسَ تَذْكِيرًا أَنْ رَحِمَ اللَّهُ عَبْدَهُ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ عَامِلًا فِي عَبْدَهُ زَكَرِيَّا لِأَنَّهُ ذَكَّرَهُمْ بِمَا نَسُوهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَتَجَدَّدَ
عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ وَنُزُولِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ عَلَى الْمُضِيِّ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَقَرَأَ الْكَلْبِيُّ ذِكْرُ عَلَى الْمُضِيِّ خَفِيفًا مِنَ الذِّكْرِ رَحْمَةِ رَبِّكَ بِنَصْبِ التَّاءِ عَبْدَهُ بِالرَّفْعِ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ يَحْيَى بْنُ يعمر وذِكْرُ عَلَى الْأَمْرِ عَنْهُ أَيْضًا انتهى.
وإِذْ ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ قَالَ الْحَوْفَيُّ: ذِكْرُ وَقَالَ أَبُو البقاء: وإِذْ ظرف لرحمة أو لذكر انْتَهَى. وَوَصْفُ نِدَاءٍ بِالْخَفِيِّ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لِئَلَّا يُخَالِطَهُ رِيَاءٌ. مُقَاتِلٌ: لِئَلَّا يُعَابَ بِطَلَبِ الْوَلَدِ فِي الْكِبَرِ. قَتَادَةُ: لِأَنَّ السِّرَّ وَالْعَلَانِيَةَ عِنْدَهُ تَعَالَى سَوَاءٌ. وَقِيلَ: أَسَرَّهُ مِنْ مَوَالِيهِ الَّذِينَ خَافَهُمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَمْرٌ دُنْيَاوِيٌّ فَأَخْفَاهُ لِأَنَّهُ إِنْ أُجِيبَ فَذَاكَ بُغْيَتُهُ، وَإِلَّا فَلَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ. وَقِيلَ: لِإِخْلَاصِهِ فِيهِ فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
وَقِيلَ: لِضَعْفِ صَوْتِهِ بِسَبَبِ كِبَرِهِ، كَمَا قِيلَ: الشَّيْخُ صَوْتُهُ خُفَاتٌ وَسَمْعُهُ تَارَاتٌ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْجَهْرُ بِهِ يُعَدُّ مِنَ الِاعْتِدَاءِ. وَفِي التَّنْزِيلِ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ «١».
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا».
قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي هَذِهِ كَيْفِيَّةُ دُعَائِهِ وَتَفْسِيرُ نِدَائِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَهَنَ بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بكسرها. وقرىء بِضَمِّهَا لُغَاتٌ ثَلَاثٌ، وَمَعْنَاهُ ضَعْفٌ وَأُسْنِدَ الْوَهَنُ إِلَى الْعَظْمِ لِأَنَّهُ عَمُودُ الْبَدَنِ وَبِهِ قِوَامُهُ وَهُوَ أَصْلُ بِنَائِهِ، فَإِذَا وَهَنَ تَدَاعَى مَا وَرَاءَهُ وَتَسَاقَطَتْ قُوَّتُهُ، وَلِأَنَّهُ أَشَدُّ مَا فِيهِ وَأَصْلَبُهُ فَإِذَا وَهَنَ كَانَ مَا وَرَاءَهُ أَوْهَنَ وَوَحَّدَ الْعَظْمُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ، وَقَصَدَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ الَّذِي هُوَ الْعَمُودُ وَالْقِوَامُ، وَأَشَدُّ مَا تَرَكَّبَ مِنْهُ الْجَسَدُ قَدْ أَصَابَهُ الْوَهَنُ وَلَوْ جُمِعَ لَكَانَ قَصْدًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَهِنْ مِنْهُ بَعْضُ عِظَامِهِ وَلَكِنْ كُلُّهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: اشْتَكَى سُقُوطَ الْأَضْرَاسِ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَكَانَ لَهُ سَبْعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: خَمْسٌ وَسَبْعُونَ. وَقِيلَ: خَمْسٌ وَثَمَانُونَ. وَقِيلَ: سِتُّونَ. وَقِيلَ: خَمْسٌ وَسِتُّونَ. وَشُبِّهَ الشَّيْبُ بِشُوَاظِ النَّارِ فِي بَيَاضِهِ وَانْتِشَارِهِ فِي الشَّعْرِ وَفُشُوِّهِ فِيهِ وَأَخْذِهِ مِنْهُ كُلَّ مَأْخَذٍ بِاشْتِعَالِ النَّارِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ، ثُمَّ أَسْنَدَ الِاشْتِعَالَ إِلَى مَكَانِ الشَّعْرِ وَمَنْبَتِهِ وَهُوَ الرَّأْسُ، وَأَخْرَجَ الشَّيْبَ مُمَيَّزًا وَلَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ رَأَسُ زَكَرِيَّاءَ فَمِنْ ثَمَّ فَصَحَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَشُهِدَ لَهَا بِالْبَلَاغَةِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَإِلَى هَذَا نَظَرَ ابْنُ دُرَيْدٍ.
فَقَالَ:
وَاشْتَعَلَ الْمُبْيَضُّ فِي مُسْوَدِّهِ | مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَزْلِ الْغَضَا |
وَرُوِيَ أَنَّ حَاتِمًا الطَّائِيَّ أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ فَقَالَ: أَنَا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ وَقْتَ كَذَا، فَقَالَ حَاتِمٌ: مَرْحَبًا بِالَّذِي تَوَسَّلَ بِنَا إِلَيْنَا وَقَضَى حَاجَتَهُ.
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي الْمَوالِيَ بَنُو الْعَمِّ وَالْقَرَابَةِ الَّذِينَ يَلُونَ بِالنَّسَبِ. قَالَ الشَّاعِرِ:
مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا | لَا تَنْبِشُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا |
وَمَوْلًى قَدْ دَفَعْتُ الضَّيْمَ عَنْهُ | وَقَدْ أَمْسَى بِمَنْزِلَةِ الْمَضِيمِ |
وَرَوَى قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَخِي زَكَرِيَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَرِثُ مَالَهُ».
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا كَانَ مَوَالِيهِ مُهْمِلِينَ الدِّينَ فَخَافَ بِمَوْتِهِ أَنْ يَضِيعَ الدِّينُ فَطَلَبَ وَلِيًّا يَقُومُ بِالدِّينِ بَعْدَهُ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ إِذْ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ»
وَالظَّاهِرُ اللَّائِقُ بِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْصُومٌ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ الْوَلَدَ لِأَجْلِ مَا يُخْلِفُهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا خَافَ أَنْ تَنْقَطِعَ النُّبُوَّةُ مِنْ وَلَدِهِ وَيَرْجِعَ إِلَى عُصْبَتِهِ لِأَنَّ تِلْكَ إِنَّمَا يَضَعُهَا اللَّهُ حَيْثُ شَاءَ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى اللَّهِ فِيمَنْ شَاءَهُ وَاصْطَفَاهُ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَانَ مَوَالِيهِ وَهُمْ عَصَبَتُهُ إِخْوَتُهُ وَبَنُو عَمِّهِ شِرَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَافَهُمْ عَلَى الدِّينِ أَنْ يُغَيِّرُوهُ وَأَنْ لَا يُحْسِنُوا الْخِلَافَةَ عَلَى أُمَّتِهِ، فَطَلَبَ عَقِبًا صَالِحًا مِنْ صُلْبِهِ يَقْتَدِي بِهِ فِي إِحْيَاءِ الدِّينِ. صفحة رقم 240
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خِفْتُ مِنَ الْخَوْفِ. وَقَرَأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَيْدُ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِي وَابْنُ يَعْمُرَ وَابْنُ جُبَيْرٍ
وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَوَلَدُهُ مُحَمَّدٌ وَزَيْدٌ وَشُبَيْلُ بْنُ عَزْرَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ لِأَبِي عَامِرٍ خَفَّتِ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْفَاءِ مُشَدَّدَةً وَكَسْرِ تَاءِ التَّأْنِيثِ
الْمَوالِيَ بِسُكُونِ الْيَاءِ وَالْمَعْنَى انْقَطَعَ مَوَالِيَّ وَمَاتُوا فَإِنَّمَا أَطْلُبُ وَلِيًّا يَقُومُ بِالدِّينِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ خِفْتُ مِنَ الْخَوْفِ الْمَوالِيَ بسكون التاء عَلَى قِرَاءَةِ خِفْتُ مِنَ الْخَوْفِ يَكُونُ مِنْ وَرائِي أَيْ بَعْدَ مَوْتِي. وَعَلَى قِرَاءَةِ خِفْتُ يَحْتَمِلُ أَنْ يتعلق مِنْ وَرائِي بخفت وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَفُّوا قُدَّامَهُ أَيْ دَرَجُوا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ تَقَوٍّ وَاعْتِضَادٌ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَوَالِي أَيْ قَلُّوا وَعَجَزُوا عَنْ إِقَامَةِ الدِّينِ. ووَرائِي بِمَعْنَى خَلْفِي وَمَنْ بَعْدِي، فَسَأَلَ رَبَّهُ تَقْوِيَتَهُمْ وَمُظَاهَرَتَهُمْ بِوَلِيٍّ يَرْزُقُهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ مِنْ وَرَايَ مَقْصُورًا كَعَصَايَ.
وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْعَاقِرِ فِي آلِ عِمْرَانَ وَقَوْلُهُ مِنْ لَدُنْكَ تَأْكِيدٌ لِكَوْنِهِ وَلِيًّا مَرْضِيًّا بِكَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ وَصَادِرًا مِنْ عِنْدِهِ، أَوْ أَرَادَ اخْتِرَاعًا مِنْكَ بِلَا سَبَبٍ لِأَنِّي وَامْرَأَتِي لَا نَصْلُحُ لِلْوِلَادَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ يَهَبَهُ وَلِيًّا وَلَمْ يُصَرِّحْ بأن يكون ولد البعد ذَلِكَ عِنْدَهُ لِكِبَرِهِ وَكَوْنِ امْرَأَتِهِ عَاقِرًا. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَأَلَ الْوَلَدَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَرِثُنِي وَيَرِثُ بِرَفْعِ الْفِعْلَيْنِ صِفَةً لِلْوَلِيِّ فَإِنْ كَانَ طَلَبَ الْوَلَدَ فَوَصْفُهُ بِأَنْ تَكُونَ الْإِجَابَةُ فِي حَيَاتِهِ حَتَّى يَرِثَهُ لِئَلَّا تَكُونَ الْإِجَابَةُ فِي الْوَلَدِ لَكِنْ يُحْرَمُهُ فَلَا يَحْصُلُ مَا قَصَدَهُ. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَالْيَزِيدِيُّ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَقَتَادَةُ بِجَزْمِهِمَا عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ يَعْمُرَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَرْبِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو نَهِيكٍ يَرِثُنِي بِالرَّفْعِ وَالْيَاءِ
وَأَرِثُ جَعَلُوهُ فِعْلًا مُضَارِعًا مِنْ وَرِثَ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَفِيهِ تَقْدِيمٌ فَمَعْنَاهُ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يَرِثُنِي إِنْ مِتُّ قَبْلَهُ أَيْ نُبُوَّتِي وَأَرِثُهُ إِنْ مَاتَ قَبْلِي أَيْ مَالَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجَحْدَرِيُّ يَرِثُنِي وَأَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ.
قَالَ أَبُو الْفَتْحِ هَذَا هُوَ التَّجْرِيدُ التَّقْدِيرُ يَرِثُنِي مِنْهُ وَأَرِثُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَرِثُ أَيْ يَرِثُنِي بِهِ وَأَرِثُ وَيُسَمَّى التَّجْرِيدُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِرْثِ إِرْثُ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تُوَرِّثُ الْمَالَ. وَقِيلَ: يَرِثُنِي الْحُبُورَةَ وَكَانَ حَبْرًا وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ الْمُلْكَ يُقَالُ: وَرِثْتُهُ وَوَرِثْتُ مِنْهُ لُغَتَانِ.
وَقِيلَ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ آلِ يَعْقُوبَ لَيْسُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ وَلَا عُلَمَاءَ.
وقرأ مجاهد أو يرث مِنْ آلِ يَعْقُوبَ عَلَى التصغير، وأصله وو يرث فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً عَلَى اللُّزُومِ لِاجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ وَهُوَ تَصْغِيرُ وَارِثٍ أَيْ غُلَيْمٌ صَغِيرٌ. وَعَنِ الْجَحْدَرِيِّ وَارِثٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ يَعْنِي بِهِ الْإِمَالَةَ الْمَحْضَةَ لَا الْكَسْرَ الْخَالِصَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَعْقُوبَ هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ مَاثَانَ أَخُو زَكَرِيَّاءَ. وَقِيلَ: يَعْقُوبُ هَذَا وَعِمْرَانُ أَبُو مَرْيَمَ أَخَوَانِ مِنْ نَسْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ ومرضيا بمعنى مرضي.
يا زَكَرِيَّا أَيْ قِيلَ لَهُ بِإِثْرِ الدُّعَاءِ. وَقِيلَ: رَزَقَهُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ دُعَائِهِ. وَقِيلَ:
بَعْدَ سِتِّينَ وَالْمُنَادِي وَالْمُبَشِّرُ زَكَرِيَّاءَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ «١» الْآيَةَ وَالْغُلَامُ الْوَلَدُ الذَّكَرُ، وقد يقال للأثني غُلَامَةٌ كَمَا قَالَ:
تُهَانُ لَهَا الْغُلَامَةُ وَالْغُلَامُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَحْيى لَيْسَ عَرَبِيًّا لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ عَادَتُهُمْ أَنْ يُسَمُّوا بِأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ فَيَكُونُ مَنْعُهُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فَيَكُونُ مُسَمًّى بِالْفِعْلِ كَيَعْمُرُ ويعيش قد سَمَّوْا بِيَمُوتَ وَهُوَ يَمُوتُ بْنُ الْمُزَرَّعِ ابْنُ أُخْتِ الْجَاحِظِ. وَعَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ. فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْيَى بِالْحِكْمَةِ وَالْعِفَّةِ. وَقِيلَ: يحيي بهدايته وإشادة خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَقِيلَ لِأَنَّهُ يُسْتَشْهَدُ وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُعَمَّرُ زَمَنًا طَوِيلًا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ حَيِيَ بَيْنَ شَيْخٍ كَبِيرٍ وَأُمٍّ عَاقِرٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ حَيِيَ بِهِ عُقْرُ أُمِّهِ وَكَانَتْ لَا تَلِدُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ أَسْلَمَ: لَمْ نُسَمِّ قَبْلَهُ أَحَدًا بِيَحْيَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ الْأَسَامِيَ الشُّنُعَ جَدِيرَةٌ بِالْأَثَرَةِ وَإِيَّاهَا كَانَتِ الْعَرَبُ تُنَحِّي فِي التَّسْمِيَةِ لِكَوْنِهَا أَنْبَهَ وَأَنْوَهَ وَأَنْزَهَ عَنِ النَّفْرِ، حَتَّى قَالَ الْقَائِلُ فِي مَدْحِ قَوْمٍ:
شُنُعِ الْأَسَامِي مُسْبِلِي أُزُرٍ | حُمْرٍ تَمَسُّ الْأَرْضَ بِالْهُدُبِ |
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمَثَلِ سَمِيٌّ لِأَنَّ كُلَّ مُتَشَاكِلَيْنِ يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْمِ الْمِثْلِ وَالشَّبِيهِ وَالشَّكْلِ وَالنَّظِيرِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَمِيٌّ لِصَاحِبِهِ. وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ قَطُّ، وَأَنَّهُ وُلِدَ بَيْنَ شَيْخٍ فَانٍ وَعَجُوزٍ عَاقِرٍ وَأَنَّهُ كَانَ حَصُورًا انْتَهَى.
وأَنَّى بِمَعْنَى كَيْفَ: وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ «١» فِي آلِ عِمْرَانَ وَالْعِتِيُّ الْمُبَالَغَةُ فِي الْكِبَرِ. وَيُبْسِ الْعُودِ.
وَقَرَأَ أَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عِتِيًّا بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ وَعَبْدُ اللَّهِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَصَادِ صَلِيًّا جَعَلَهُمَا مَصْدَرَيْنِ كَالْعَجِيجِ وَالرَّحِيلِ، وَفِي الضَّمِّ هُمَا كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمَا عَلَى فُعُولٍ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَمُجَاهِدٍ عُسُيًّا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالسِّينِ كَمُسُوَّرَةٍ.
وَحَكَاهَا الدَّانِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَكَاهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ أُبَيٍّ وَمُجَاهِدٍ يُقَالُ عَتَّا الْعُودُ وَعَسَّا يَبِسَ وَجَسَّا.
قالَ: كَذلِكَ أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ تَصْدِيقٌ لَهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ قالَ رَبُّكَ فَالْكَافُ رَفْعٌ أَوْ نَصْبٌ بقال، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مُبْهَمٍ يُفَسِّرُهُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَنَحْوُهُ وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ «٢». وَقَرَأَ الْحَسَنُ وهو عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلَا يَخْرُجُ هَذَا إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيِ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُ، وَهُوَ عَلَيَّ ذَلِكَ يَهُونُ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ لَا إِلَى قَوْلِ زَكَرِيَّاءَ وَقَالَ: مَحْذُوفٌ فِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ أَيْ قَالَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تُنَوِّهْ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُخَاطِبُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَوَعَدَهُ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَوْلُهُ قالَ كَذلِكَ قِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى قَالَ لَهُ الْمَلَكُ كَذلِكَ فَلْيَكُنِ الْوُجُودُ كَمَا قِيلَ لَكَ قالَ رَبُّكَ خَلْقُ الْغُلَامِ عَلَيَّ هَيِّنٌ أَيْ غَيْرُ بِدْعٍ وَكَمَا خَلَقْتُكَ قَبْلُ وَأَخْرَجْتُكَ مِنْ عَدَمٍ إِلَى وُجُودٍ كَذَلِكَ أَفْعَلُ الْآنَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ كَذلِكَ أَيِ الْأَمْرُ أَنَّ اللَّذَانِ ذَكَرْتَ مِنَ الْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ وَالْكِبَرِ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ قالَ رَبُّكَ وَالْمَعْنَى عِنْدِي قَالَ الْمَلَكُ كَذلِكَ أَيْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ انْتَهَى. وقرأ الحسن هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ بِكَسْرِ الْيَاءِ. وَقَدْ أَنْشَدُوا قَوْلَ النَّابِغَةِ:
عَلَيِّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ | لوالده ليست بذات عقارب |
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٦٦. [.....]
(٣) سورة إبراهيم: ١٤/ ٢٢.
الْجُمْهُورُ وَقَدْ خَلَقْتُكَ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ خَلَقْنَاكَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً أَيْ شَيْئًا مَوْجُودًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَيْئاً لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَوْ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ كَقَوْلِهِمْ: عَجِبْتُ مِنْ لَا شَيْءَ إِذَا رَأَى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلًا.
قالَ أَيْ زَكَرِيَّا رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَيْ عَلَامَةً أَعْلَمُ بِهَا وُقُوعَ مَا بُشِّرْتُ بِهِ وَطَلَبَ ذَلِكَ لِيَزْدَادَ يَقِينًا كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السلام ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «١» لَا لِتَوَقُّفٍ مِنْهُ عَلَى صِدْقِ مَا وُعِدَ بِهِ، وَلَا لِتَوَهُّمِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ مُطْلَقَةً فَلَمْ يَعْرِفِ الْوَقْتَ فَطَلَبَ الْآيَةَ لِيَعْرِفَ وَقْتَ الْوُقُوعِ. قالَ آيَتُكَ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ لَمَّا حَمَلَتْ زَوْجَتُهُ بِيَحْيَى أَصْبَحَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَ أَحَدًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ وَيَذْكُرُ اللَّهَ، فَإِذَا أَرَادَ مُنَادَاةَ أَحَدٍ لم يطقه.
وسَوِيًّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرٍ أَيْ لَا تُكَلِّمْ فِي حَالِ صِحَّتِكَ لَيْسَ بِكَ خَرَسٌ وَلَا عِلَّةٌ قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَوِيًّا عَائِدٌ عَلَى اللَّيَالِي أَيْ كَامِلَاتٍ مُسْتَوَيَاتٍ فَتَكُونُ صِفَةً لِثَلَاثٍ، وَدَلَّ ذِكْرُ اللَّيَالِي هُنَا وَالْأَيَّامِ فِي آلِ عِمْرَانَ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْكَلَامِ اسْتَمَرَّ لَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَزَيْدُ بن علي أَلَّا تُكَلِّمَ بِرَفْعِ الْمِيمِ جَعَلَهَا أن المخففة من الثقيلة التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِهَا جَعَلُوا أَنِ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ
أَيْ وَهُوَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَ النَّاسَ، وَمِحْرَابُهُ مَوْضِعُ مُصَلَّاهُ، وَالْمِحْرَابُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آلِ عِمْرَانَ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَيْ أَشَارَ. قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ مُنَبِّهٍ وَالْكَلْبِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ أَوْحَى إِلَيْهِمْ أَشَارَ، وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:
وَيَشْهَدُ لَهُ إِلَّا رَمْزًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَتَبَ لَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
بَلْ كَتَبَ لَهُمْ فِي التُّرَابِ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ وَحْيٌ انْتَهَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَتَبَ فِي وَرَقَةٍ وَالْوَحْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْكِتَابَةُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
سِوَى الْأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا | بَقِيَّةُ وَحْيٍ فِي بُطُونِ الصَّحَائِفِ |
كَوَحْيِ صَحَائِفٍ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى | فَأَهْدَاهَا لِأَعْجَمَ طِمْطِمِىِّ |
كَأَنَّ أَخَا الْيَهُودِ يَخُطُّ وَحْيًا | بِكَافٍ فِي مَنَازِلِهَا ولام |
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنْ سَبِّحُوا صَلُّوا. وَقِيلَ أَمَرَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالتَّسْبِيحِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَانَ يَخْرُجُ عَلَى قَوْمِهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ إِشَارَةً. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ وَعِنْدِي فِي هَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا خُصَّ بِالتَّسْبِيحِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَأَى أَمْرًا عَجِبَ مِنْهُ أَوْ رَأَى فِيهِ بَدِيعَ صَنْعَةٍ أَوْ غَرِيبَ حِكْمَةٍ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ الْخَالِقِ، فَلَمَّا رَأَى حُصُولَ الْوَلَدِ مِنْ شَيْخٍ وَعَاقِرٍ عَجِبَ مِنْ ذَلِكَ فَسَبَّحَ وَأَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وأَنْ مُفَسِّرَةٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ أَنْ سَبِّحُوا أَنْ نصب بأوحى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَيْ انْتَهَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ أَنْ سَبِّحُوهُ بِهَاءِ الضَّمِيرِ عَائِدَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَرَوَى ابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَةَ أَنْ سَبِّحُنَّ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ أَلْحَقَ فِعْلَ الْأَمْرِ نُونَ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدِ.
يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ فَلَمَّا وُلِدَ يَحْيَى وَكَبُرَ وَبَلَغَ السِّنَّ الَّذِي يُؤْمَرُ فِيهِ قَالَ اللَّهُ لَهُ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ وَأَبْعَدَ التَّبْرِيزِيُّ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الْمُنَادِيَ لَهُ أَبُوهُ حِينَ تَرَعْرَعَ وَنَشَأَ، وَالصَّحِيحُ مَا سَبَقَ لِقَوْلِهِ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا والْكِتابَ هُوَ التَّوْرَاةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ عِيسَى وَلَمْ يَكُنِ الْإِنْجِيلُ مَوْجُودًا انْتَهَى.
وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ قِيلَ لَهُ كِتَابٌ خُصَّ بِهِ كَمَا خُصَّ كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَقِيلَ:
الْكِتابَ هُنَا اسْمُ جِنْسٍ أَيِ اتْلُ كُتُبَ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْكِتابَ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَأَرْسَلَهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ يَصُومُ وَيُصَلِّي فِي حَالِ طُفُولِيَّتِهِ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِقُوَّةٍ بِجِدٍّ وَاسْتِظْهَارٍ وَعَمَلٍ بِمَا فِيهِ وَالْحُكْمُ النُّبُوَّةُ أَوْ حُكْمُ الْكِتَابِ أَوِ الْحِكْمَةُ أَوِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ أَوِ اللُّبُّ وَهُوَ الْعَقْلُ، أَوْ آدَابُ الْخِدْمَةِ أَوِ الْفِرَاسَةُ الصَّادِقَةُ أَقْوَالٌ صَبِيًّا أَيْ شَابًّا لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ الْكُهُولَةِ. وَقِيلَ: ابْنُ سَنَتَيْنِ. وَقِيلَ: ابْنُ ثَلَاثٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: «ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ» وَحَناناً مَعْطُوفٌ عَلَى الْحُكْمِ وَالْحَنَانُ الرَّحْمَةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ الْمَلِيكُ | فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا |
حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضٍ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى وَجَعَلْنَاهُ حَناناً لِأَهْلِ زَمَانِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَتَعَطُّفًا مِنْ رَبِّهِ عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: لَيِّنًا. وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: مَحَبَّةً، وَعَنْ عَطَاءٍ تَعْظِيمًا. صفحة رقم 245
وَقَوْلُهُ وَزَكاةً عَنِ الضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ عَمَلًا صَالِحًا. وَعَنِ ابْنِ السَّائِبِ: صَدَقَةً تُصُدِّقَ بِهَا عَلَى أَبَوَيْهِ. وَعَنِ الزَّجَّاجِ تَطْهِيرًا. وَعَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ زِيَادَةً فِي الْخَيْرِ. وَقِيلَ ثَنَاءً كَمَا يُزَكَّي الشُّهُودُ. وَكانَ تَقِيًّا. قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَهُمَّ قَطُّ بِكَبِيرَةٍ وَلَا صَغِيرَةٍ وَلَا هَمَّ بِامْرَأَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَهُ مُتَّقِيًّا لَهُ لَا يَعْدِلُ بِهِ غَيْرَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ طَعَامُهُ الْعُشْبَ الْمُبَاحَ وَكَانَ لِلدَّمْعِ فِي خَدَّيْهِ مَجَارٍ بَائِنَةٌ وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
أَيْ كَثِيرُ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَالتَّبْجِيلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو نَهِيكٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَبَرًّا
فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِكَسْرِ الْبَاءِ أَيْ وَذَا بِرٍّ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً
أَيْ مُتَكَبِّرًا عَصِيًّا
أَيْ عَاصِيًا كَثِيرَ الْعِصْيَانِ، وَأَصْلُهُ عَصُويٌ فَعُولٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ.
وَسَلامٌ عَلَيْهِ
. قَالَ الطَّبَرِيُّ: أَيْ أَمَانٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا التَّحِيَّةُ الْمُتَعَارَفَةُ وَإِنَّمَا الشَّرَفُ فِي أَنْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي الْإِنْسَانُ فِيهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ وَالْفَقْرِ إِلَى اللَّهِ،
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عِيسَى وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ الْتَقَيَا وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ، فَقَالَ يَحْيَى لِعِيسَى: ادْعُ لِي فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: بَلْ أَنْتَ ادْعُ لِي فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَأَنَا سَلَّمْتُ عَلَى نَفْسِي.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: يَوْمَ وُلِدَ
أَيْ أَمَانٌ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يتاله الشَّيْطَانُ وَيَوْمَ يَمُوتُ
أَيْ أَمَانٌ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
مِنْ عَذَابِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي قَوْلِهِ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
تَنْبِيهٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الشُّهَدَاءِ لِقَوْلِهِ بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «١» وَهَذَا السَّلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللَّهِ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا.
مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ زَكَرِيَّا وَطَلَبَهُ الْوَلَدَ وَإِجَابَةَ اللَّهِ إِيَّاهُ فَوُلِدَ لَهُ مِنْ شَيْخٍ فَانٍ وَعَجُوزٍ لَهُ عَاقِرٍ وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، أَرْدَفَهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ فِي الْغَرَابَةِ وَالْعَجَبِ وَهُوَ وُجُودُ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَيْضًا فَقَصَّ عَلَيْهِمْ مَا سَأَلُوهُ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ الْخَضِرِ وَمُوسَى، ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِمْ مَا سَأَلُوهُ أَيْضًا وَهُوَ قِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قِصَصًا لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهَا وَفِيهَا غَرَابَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَهَارُونَ مُوجَزَةً، ثُمَّ بِقِصَّةِ إِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ لِيَسْتَقِرَّ فِي أَذْهَانِهِمْ أَنَّهُ أَطْلَعَ نَبِيَّهُ عَلَى مَا سَأَلُوهُ وَعَلَى مَا لَمْ يَسْأَلُوهُ، وَأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحْيُهُ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّةِ رِسَالَتِهِ مِنْ أُمِّيٍّ لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ وَلَا رَحَلَ وَلَا خَالَطَ مَنْ لَهُ عِلْمٌ وَلَا عَنَى بجمع سير.
والْكِتابِ
الْقُرْآنُ. ومَرْيَمَ
هِيَ ابْنَةُ عمران أم عيسى، وإِذِ
قِيلَ ظَرْفُ زَمَانٍ مَنْصُوبٌ باذكر، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ لَا يَقَعُ فِي الْمَاضِي.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذِ
بَدَلٌ مِنْ مَرْيَمَ
بَدَلُ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ الْأَحْيَانَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا فِيهَا وَقْتُهُ، إِذِ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ مَرْيَمَ ذِكْرُ وَقْتِهَا هَذَا لِوُقُوعِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ فِيهَا انتهى. ونصب إِذِ
باذكر عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِيَّةِ يَقْتَضِي التَّصَرُّفَ فِي إِذِ
وَهِيَ مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لَمْ يُتَصَرَّفُ فِيهَا إِلَّا بِإِضَافَةِ ظَرْفِ زَمَانٍ إِلَيْهَا. فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ ثَمَّ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَهُوَ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي إِذِ
وَتَبْقَى عَلَى ظَرْفِيَّتِهَا وَعَدَمِ تَصَرُّفِهَا، وَهُوَ أَنْ تُقَدَّرَ مَرْيَمُ وَمَا جَرَى لَهَا إِذِ انْتَبَذَتْ
وَاسْتَبْعَدَ أَبُو الْبَقَاءِ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: لِأَنَّ الزَّمَانَ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَالًا عَنِ الْجُثَّةِ وَلَا خَبَرًا عَنْهَا وَلَا وَصْفًا لَهَا لَمْ يَكُنْ بَدَلًا مِنْهَا انْتَهَى. وَاسْتِبْعَادُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِعَدَمِ الْمُلَازَمَةِ. قَالَ: وَقِيلَ التَّقْدِيرُ خَبَرُ مَرْيَمَ فَإِذْ مَنْصُوبَةٌ لِخَبَرٍ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ هَذَا الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ. وَقِيلَ: إِذِ
بِمَعْنَى أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ كَقَوْلِكَ: أُكْرِمُكَ إِذْ لَمْ تُكْرِمْنِي أَيْ إِنْ لَمْ تُكْرِمْنِي. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ أَيْ وَاذْكُرْ
مَرْيَمَ
انتباذها انتهى.
وانْتَبَذَتْ
افْتَعَلَ مِنْ نَبَذَ، وَمَعْنَاهُ ارْتَمَتْ وَتَنَحَّتْ وَانْفَرَدَتْ. قَالَ السُّدِّيُّ انْتَبَذَتْ
لِتَطْهُرَ مِنْ حَيْضِهَا وَقَالَ غَيْرُهُ: لِتَعْبُدَ اللَّهَ وَكَانَتْ وَقْفًا عَلَى سَدَانَةِ الْمُتَعَبِّدِ وَخِدْمَتِهِ وَالْعِبَادَةِ فَتَنَحَّتْ مِنَ النَّاسِ كَذَلِكَ، وَانْتَصَبَ مَكاناً
عَلَى الظَّرْفِ أَيْ فِي مَكَانٍ، وَوُصِفَ بِشَرْقِيٍّ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّا يَلِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَوْ مِنْ دَارِهَا، وَسَبَبُ كَوْنِهِ فِي الشَّرْقِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ جِهَةَ الشَّرْقِ مِنْ حَيْثُ تَطْلُعُ الشَّمْسُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الشَّرْقَ قِبْلَةً لِمِيلَادِ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: قَعَدَتْ فِي مَشْرَقَةٍ لِلِاغْتِسَالِ مِنَ الْحَيْضِ مُحْتَجِبَةً بِحَائِطٍ أَيْ شَيْءٍ يَسْتُرُهَا، وَكَانَ مَوْضِعُهَا الْمَسْجِدَ فَبَيْنَا هِيَ فِي مُغْتَسَلِهَا أَتَاهَا الْمَلَكُ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ شَابٍّ أَمْرَدَ وَضِيءِ الْوَجْهِ جَعْدِ الشَّعْرِ سَوِيِّ الْخَلْقِ لَمْ يَنْتَقِصْ مِنَ الصُّورَةِ الْآدَمِيَّةِ شَيْئًا أَوْ حَسَنُ الصُّورَةِ مُسْتَوِي الْخَلْقِ. وَقَالَ قَتَادَةُ شَرْقِيًّا
شَاسِعًا بَعِيدًا انْتَهَى.
وَالْحِجَابُ الَّذِي اتَّخَذَتْهُ لِتَسْتَتِرَ بِهِ عَنِ النَّاسِ لِعِبَادَةِ رَبِّهَا. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مِنْ جُدْرَانَ. وَقِيلَ: مِنْ ثِيَابٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَعَلَتِ الْجَبَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ حِجاباً
وَظَاهِرُ الْإِرْسَالِ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهَا وَمُحَاوَرَةُ الْمَلَكِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَبِيَّةٌ. وَقِيلَ: لَمْ تُنَبَّأْ وَإِنَّمَا كَلَّمَهَا مِثَالُ بَشَرٍ وَرُؤْيَتُهَا لِلْمَلَكِ كَمَا رُئِيَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِفَةِ دِحْيَةَ. وَفِي سُؤَالِهِ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرُّوحَ جِبْرِيلُ لِأَنَّ الدين يحيا به ويوحيه أَوْ سَمَّاهُ رُوحَهُ عَلَى الْمَجَازِ مَحَبَّةً لَهُ وَتَقْرِيبًا كَمَا تَقُولُ لِحَبِيبِكَ: أَنْتَ رُوحِي. وَقِيلَ عِيسَى كَمَا قَالَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ فَتَمَثَّلَ
أَيِ الْمَلَكُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَسَهْلٌ رُوحَنا
بِفَتْحِ الرَّاءِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِمَا فِيهِ رَوْحُ الْعِبَادِ وَإِصَابَةُ الرَّوْحِ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عُدَّةُ الْمُقَرَّبِينَ فِي قَوْلِهِ فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ «١» أَوْ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَهُمُ الْمَوْعُودُونَ بِالرَّوْحِ أَيْ مُقَرَّبَنَا وَذَا رَوْحِنَا. وَذَكَرَ النقاش أنه قرىء رُوحَنا
بِتَشْدِيدِ النُّونِ اسْمُ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَانْتَصَبَ بَشَراً سَوِيًّا
عَلَى الْحَالِ لِقَوْلِهِ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا. قِيلَ: وَإِنَّمَا مُثِّلَ لَهَا فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ لِتَسْتَأْنِسَ بِكَلَامِهِ وَلَا تَنْفِرَ عَنْهُ، وَلَوْ بَدَا لَهَا فِي الصُّورَةِ الْمَلَكِيَّةِ لَنَفَرَتْ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى اسْتِمَاعِ كَلَامِهِ، وَدَلَّ عَلَى عَفَافِهَا وَوَرَعِهَا أَنَّهَا تَعَوَّذَتْ بِهِ مِنْ تِلْكَ الصُّورَةِ الْجَمِيلَةِ الْفَائِقَةِ الْحُسْنِ وَكَانَ تَمْثِيلُهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ابْتِلَاءً لَهَا وَسَبْرًا لِعِفَّتِهَا.
وَقِيلَ: كَانَتْ فِي مَنْزِلِ زَوْجِ أُخْتِهَا زَكَرِيَّا وَلَهَا مِحْرَابٌ عَلَى حِدَةٍ تَسْكُنُهُ، وَكَانَ زَكَرِيَّا إِذَا خَرَجَ أَغْلَقَ عَلَيْهَا فَتَمَنَّتْ أَنْ تَجِدَ خَلْوَةً فِي الْجَبَلِ لِتُفَلِّيَ رَأْسَهَا فَانْفَرَجَ السَّقْفُ لَهَا فَخَرَجَتْ فَجَلَسَتْ فِي الْمَشْرَقَةِ وَرَاءَ الْجَبَلِ فَأَتَاهَا الْمَلَكُ. وَقِيلَ: قَامَ بَيْنَ يَدَيْهَا فِي صُورَةِ تِرْبٍ لَهَا اسْمُهُ يُوسُفُ مِنْ خَدَمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
، وَتَعْلِيقُهَا الِاسْتِعَاذَةِ عَلَى شَرْطِ تَقْوَاهُ لِأَنَّهُ لَا تَنْفَعُ الِاسْتِعَاذَةُ وَلَا تُجْدِي إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَتَّقِي اللَّهَ أَيْ إِنْ كَانَ يُرْجَى مِنْكَ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ وَتَخْشَاهُ وتحفل الاستعاذة بِهِ فَإِنِّي عَائِذَةٌ بِهِ مِنْكَ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أَيْ فَإِنِّي أَعُوذُ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَسَتَتَّعِظُ بِتَعْوِيذِي بِاللَّهِ مِنْكَ. وَقِيلَ: فَاخْرُجْ عَنِّي. وَقِيلَ: فَلَا تَتَعَرَّضْ لِي وَقَوْلُ مَنْ قَالَ تَقِيٌّ اسْمُ رَجُلٍ صَالِحٍ أَوْ رَجُلٍ فَاسِدٍ لَيْسَ بِسَدِيدٍ. وَقِيلَ: إِنْ
نَافِيَةٌ أَيْ مَا
كُنْتَ تَقِيًّا
أَيْ بِدُخُولِكَ عَلَيَّ وَنَظَرِكَ إِلَيَّ، وَلِيَاذُهَا بِاللَّهِ وَعِيَاذُهَا بِهِ وَقْتَ التَّمْثِيلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلَ مَا تَمَثَّلَ لَهَا اسْتَعَاذَتْ مِنْ غَيْرِ جَرْيِ كَلَامٍ بَيْنَهُمَا.
قالَ
أَيْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
النَّاظِرُ فِي مَصْلَحَتِكِ وَالْمَالِكُ لِأَمْرِكِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَعَذْتِ بِهِ وَقَوْلُهُ لَهَا ذَلِكَ تَطْمِينٌ لَهَا وَإِنِّي لَسْتُ مِمَّنْ تُظَنُّ بِهِ رِيبَةٌ أَرْسَلَنِي إِلَيْكِ لِيَهَبَ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَأَبُو الْحَسَنِ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَيَعْقُوبُ وَالْيَزِيدِيُّ وَمِنَ السَّبْعَةِ نَافِعٌ وأبو عمر: وليهب أَيْ لِيَهَبَ رَبُّكِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ لِأَهَبَ
بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَأَسْنَدَ الْهِبَةَ إِلَيْهِ لَمَّا كَانَ الْإِعْلَامُ بِهَا مِنْ قِبَلِهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَهَبَ لَكِ
لِأَكُونَ سَبَبًا فِي هِبَةِ الْغُلَامِ بِالنَّفْخِ فِي الرَّوْعِ. وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ أَمَرَنِي أَنْ أَهَبَ لَكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحْكِيًّا بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ قَالَ لِأَهَبَ
وَالْغُلَامُ اسْمُ الصَّبِيِّ أَوَّلَ مَا يُولَدُ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ إِلَى سِنِّ الْكُهُولَةِ. وَفُسِّرَتِ الزَّكَاةُ هُنَا بِالصَّلَاحِ وَبِالنُّبُوَّةِ وَتَعَجَّبَتْ مَرْيَمُ وَعَلِمَتْ بِمَا أُلْقِيَ فِي رَوْعِهَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سُؤَالِهَا عَنِ الْكَيْفِيَّةِ فِي آلِ عِمْرَانَ فِي قِصَّتِهَا وَفِي قَوْلِهَا وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِأَنَّ مَسِيسَ الْبَشَرِ يَكُونُ بِنِكَاحٍ وَبِسِفَاحٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَ الْمَسُّ عِبَارَةً عَنِ النِّكَاحِ الْحَلَالِ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْهُ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ «١» أو لمستم النِّسَاءَ وَالزِّنَا لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا يُقَالُ فَجَرَ بِهَا وَخَبُثَ بِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِقَمِنٍ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ الْكِنَايَاتُ وَالْآدَابُ انْتَهَى. وَالْبَغِيُّ الْمُجَاهِرَةُ الْمُشْتَهِرَةُ فِي الزِّنَا، وَوَزْنُهُ فَعُولٌ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ اجْتَمَعَتْ وَاوٌ وَيَاءٌ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا لِأَجْلِ الْيَاءِ كَمَا كُسِرَتْ فِي عِصِيٍّ وَدِلِيٍّ. قِيلَ: وَلَوْ كَانَ فَعِيلًا لَحِقَتْهَا هَاءُ التَّأْنِيثِ فَيُقَالُ بَغِيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ التَّمَامِ: هِيَ فَعِيلٌ، وَلَوْ كَانَتْ فَعُولًا لَقِيلَ بَغُوٌّ كَمَا قِيلَ فُلَانٌ نَهُوٌّ عَنِ الْمُنْكَرِ انْتَهَى. قِيلَ: وَلَمَّا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ خَاصًّا بِالْمُؤَنَّثِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ فَصَارَ كَحَائِضٍ وَطَالِقٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ بَاغٍ. وَقِيلَ:
بَغِيٌّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَعَيْنٍ كَحِيلٍ أَيْ مبغية بطلبها أَمْثَالُهَا.
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ الْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ السَّابِقِ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا وَلِنَجْعَلَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى تَعْلِيلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ لِنُبَيِّنَ بِهِ قُدْرَتَنَا وَلِنَجْعَلَهُ أَوْ مَحْذُوفٍ مُتَأَخِّرٍ أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَالضَّمِيرُ فِي وَلِنَجْعَلَهُ عَائِدٌ عَلَى الْغُلَامِ
وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَكانَ أَيْ وَكَانَ وُجُودُهُ أَمْراً مَفْرُوغًا مِنْهُ، وَكَوْنُهُ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ أَيْ طَرِيقَ هُدًى لِعَالَمٍ كَثِيرٍ فَيَنَالُونَ الرَّحْمَةَ بِذَلِكَ. وَذَكَرُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا أَوْ فِيهِ وَفِي كُمِّهَا وَقَالَ: أَيْ دَخَلَ الرُّوحُ الْمَنْفُوخُ مِنْ فَمِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ النَّفْخُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ فَنَفَخْنا «١» وَيَحْتَمِلُ مَا قَالُوا: فَحَمَلَتْهُ أَيْ فِي بَطْنِهَا وَالْمَعْنَى فَحَمَلَتْ بِهِ. قِيلَ: وَكَانَتْ بِنْتَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: بَنَتَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَالَهُ وَهْبٌ وَمُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: بَنَتَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: اثْنَتَى عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: عَشْرِ سِنِينَ. قِيلَ:
بَعْدَ أَنْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ. وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْصَمِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَاضَتْ بَعْدُ. وَقِيلَ: لَمْ تَحُضْ قَطُّ مَرْيَمُ وَهِيَ مطهرة من الحيض، فلما أَحَسَّتْ وَخَافَتْ مَلَامَةَ النَّاسِ أَنْ يُظَنَّ بِهَا الشَّرُّ فَارْتَمَتْ بِهِ إِلَى مَكَانٍ قَصِيٍّ حَيَاءً وَفِرَارًا. رُوِيَ أَنَّهَا فَرَّتْ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ أَوْ نَحْوِهَا قَالَهُ وَهْبٌ. وَقِيلَ: إِلَى مَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِبَيْتِ لَحْمٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِيلِيَا أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ. وَقِيلَ: بَعِيدًا مِنْ أَهْلِهَا وَرَاءَ الْجَبَلِ. وَقِيلَ: أَقْصَى الدَّارِ.
وَقِيلَ: كَانَتْ سُمِّيَتْ لِابْنِ عَمٍّ لَهَا اسْمُهُ يُوسُفُ فَلَمَّا قِيلَ حَمَلَتْ مِنَ الزِّنَا خَافَ عَلَيْهَا قَتْلَ الْمَلِكِ هَرَبَ بِهَا، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِأَنْ يَقْتُلَهَا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ فَلَا تَقْتُلْهَا فَتَرَكَهَا حَمَلَتْهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَمَا حَمَلَتْهُ نَبَذَتْهُ عَنِ ابْنٍ.
وَقِيلَ: كَانَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ. وَقِيلَ:
حُمِلَ فِي سَاعَةٍ وَصُوِّرَ فِي سَاعَةٍ وَوَضَعَتْهُ فِي سَاعَةٍ. وَقِيلَ: سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكِ: سَبْعَةِ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٍ وَلَمْ يَعِشْ مَوْلُودٌ وُضِعَ لِثَمَانِيَةٍ إِلَّا عِيسَى وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُضْرَبَ عَنْهَا صَفْحًا إِلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوهَا فِي كُتُبِهِمْ وَسَوَّدُوا بِهَا الْوَرَقَ، وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلْحَالِ أَيْ مَصْحُوبَةٌ بِهِ أَيِ اعْتَزَلَتْ وَهُوَ فِي بَطْنِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تَدُوسُ بِنَا الْجَمَاجِمَ وَالتَّرِيبَا أَيْ تَدُوسُ الْجَمَاجِمَ وَنَحْنُ عَلَى ظُهُورِهَا.
وَمَعْنَى فَأَجاءَهَا أَيْ جَاءَ بِهَا تَارَةً فَعُدِّيَ جَاءَ بِالْبَاءِ وَتَارَةً بِالْهَمْزَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
إِلَّا أَنْ اسْتِعْمَالَهُ قَدْ يُغَيَّرُ بَعْدَ النَّقْلِ إلى معنى الإلجاء الإتراك، لَا تَقُولُ: جِئْتُ الْمَكَانَ وَأَجَاءَنِيهِ زَيْدٌ كَمَا تَقُولُ: بَلَغْتُهُ وَأَبْلَغَنِيهِ، وَنَظِيرُهُ آتَى حَيْثُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ إِلَّا فِي الْإِعْطَاءِ وَلَمْ يَقُلْ آتَيْتُ الْمَكَانَ وَآتَانِيهِ فُلَانٌ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ وَقَوْلُ غَيْرِهِ إِنَّ الِاسْتِعْمَالَ غَيَّرَهُ إِلَى مَعْنَى الْإِلْجَاءِ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ المستقرءين ذَلِكَ عَنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، والإجاءة تدل على
الْمُطْلَقِ فَتَصْلُحُ لِمَا هُوَ بِمَعْنَى الْإِلْجَاءِ وَلِمَا هُوَ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ كَمَا لَوْ قُلْتَ: أَقَمْتُ زَيْدًا فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُخْتَارًا لِذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ قَدْ قَسَرْتَهُ عَلَى الْقِيَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الإتراك لَا تَقُولُ إِلَى آخِرِهِ فَمَنْ رَأَى أَنَّ التَّعْدِيَةَ بالهمزة قياس أجاز لك وَلَوْ لَمْ يَسْمَعْ وَمَنْ لَا يَرَاهُ قِيَاسًا فَقَدْ سَمِعَ ذَلِكَ فِي جَاءَ حَيْثُ قَالُوا: أَجَاءَ فَيُجِيزُ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَنْظِيرُهُ ذَلِكَ بآتي فَهُوَ تَنْظِيرٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَأَنَّ أَصْلَهُ أَتَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ آتَى مِمَّا بُنِيَ عَلَى أَفْعَلَ وَلَيْسَ مَنْقُولًا مِنْ أَتَى بِمَعْنَى جَاءَ، إِذْ لَوْ كَانَ مَنْقُولًا مِنْ أَتَى الْمُتَعَدِّيَةِ لِوَاحِدٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ هُوَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ، وَالْفَاعِلُ هُوَ الْأَوَّلَ إِذَا عَدَّيْتَهُ بِالْهَمْزَةِ تَقُولُ: أَتَى الْمَالُ زَيْدًا، وآتى عمرا زَيْدًا الْمَالَ، فَيَخْتَلِفُ التَّرْكِيبُ بِالتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ زَيْدًا عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالْمَالَ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ كَانَ يَكُونُ الْعَكْسَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَا قَالَهُ. وَأَيْضًا فَآتَى مُرَادِفٌ لِأَعْطَى فَهُوَ مُخَالِفٌ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ فِي الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَقُلْ أَتَيْتُ الْمَكَانَ وَآتَانِيهِ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ يُقَالُ: أَتَيْتُ الْمَكَانَ كَمَا تَقُولُ: جِئْتُ الْمَكَانَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَتَوْا نَارِي فَقُلْتُ مَنُونَ أَنْتُمْ | فَقَالُوا الْجِنَّ قُلْتُ عِمُوا ظَلَامَا |
وَجَارٍ سَارَ مَعْتَمِدًا إِلَيْكُمْ | أجاءته المخافة والرجاء |
هُوَ مِنَ الْمُفَاجَأَةِ بِوَزْنِ فَاعِلِهَا فَبُدِّلَتْ هَمْزَتُهَا بِأَلِفِ تَخْفِيفٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَمْزَةً بَيْنَ بَيْنَ غَيْرَ مَقْلُوبَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ كَقِرَاءَةِ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ الْمَخاضُ بِكَسْرِ الْمِيمِ يُقَالُ مَخَضَتِ الْحَامِلُ مَخَاضًا وَمِخَاضًا وَتَمَخَّضَ الولد في بطنها: وإِلى تتعلق بفاجأها، وَمَنْ قَرَأَ فَاجَأَهَا مِنَ الْمُفَاجَأَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ مُسْتَنِدَةٌ أَيْ فِي حَالِ اسْتِنَادِهَا إِلَى النَّخْلَةِ، وَالْمُسْتَفِيضُ الْمَشْهُورُ أَنَّ مِيلَادَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَيْتَ لَحْمٍ، وَأَنَّهَا لَمَّا هَرَبَتْ وَخَافَتْ عَلَيْهِ أَسْرَعَتْ بِهِ وَجَاءَتْ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَوَضَعَتْهُ عَلَى صَخْرَةٍ فَانْخَفَضَتِ الصَّخْرَةُ لَهُ وَصَارَتْ كَالْمَهْدِ وَهِيَ الْآنَ مَوْجُودَةٌ تُزَارُ بِحَرَمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ إِلَى بَحْرِ الْأُرْدُنِّ فَعَمَّدَتْهُ فِيهِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صفحة رقم 251
يَتَّخِذُهُ النَّصَارَى وَيُسَمُّونَهُ يَوْمَ الْغِطَاسِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْمِيَاهَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَقَدَّسَتْ فَلِذَلِكَ يَغْطِسُونَ فِي كُلِّ مَاءٍ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ بِمِصْرَ قَالَ: بِكُورَةِ أَهْنَاسَ.
قِيلَ: وَنَخْلَةُ مَرْيَمَ قَائِمَةٌ إِلَى الْيَوْمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّخْلَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ مَجِيءِ مَرْيَمَ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْبَتَ لَهَا نَخْلَةً تَعَلَّقَتْ بِهَا.
وَرُوِيَ أَنَّهَا بَلَغَتْ إِلَى مَوْضِعٍ كَانَ فِيهِ جِذْعُ نَخْلَةٍ يَابِسٌ بَالٍ أَصْلُهُ مُدَوِّدٌ لَا رَأْسَ لَهُ وَلَا ثَمَرَ وَلَا خُضْرَةَ
، وَأَلْ إِمَّا لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَوِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ كَأَنَّ تِلْكَ الصَّحْرَاءَ كَانَ بِهَا جِذْعُ نَخْلَةٍ مَعْرُوفٌ فَإِذَا قِيلَ جِذْعِ النَّخْلَةِ فُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَرْشَدَهَا تَعَالَى إِلَى النَّخْلَةِ لِيُطْعِمَهَا مِنْهَا الرُّطَبَ الَّذِي هُوَ خُرْسَةُ النُّفَسَاءِ الْمُوَافِقَةُ لَهَا وَلِظُهُورِ تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْهَا فَتَسْتَقِرُّ نَفْسُهَا وَتَقَرُّ عَيْنُهَا، فَاشْتَدَّ بِهَا الْأَمْرُ هُنَالِكَ وَاحْتَضَنَتْ الْجِذْعَ لِشِدَّةِ الْوَجَعِ وَوَلَدَتْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَتْ عِنْدَ وِلَادَتِهَا لِمَا رَأَتْهُ مِنَ الْآلَامِ وَالتَّغَرُّبِ وَإِنْكَارِ قَوْمِهَا وَصُعُوبَةِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ مَا وَجْهٍ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَتَمَنَّتْ مَرْيَمُ الْمَوْتَ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ إِذْ خَافَتْ أَنْ يُظَنَّ بِهَا الشَّرُّ فِي دِينِهَا وَتُعَيَّرَ فَيَغْبَنَهَا ذَلِكَ، وَهَذَا مُبَاحٌ وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ تَمَنَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِالْبَدَنِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ مِنَ الْقُرَّاءِ فِي كَسْرِ الْمِيمِ مِنْ مِتُّ وَضَمِّهَا فِي آلِ عِمْرَانَ، وَالنَّسْيُ الشَّيْءُ الْحَقِيرُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنْسَى فَلَا يُتَأَلَّمَ لِفَقْدِهِ كَالْوَتَدِ وَالْحَبْلِ لِلْمُسَافِرِ وَخِرْقَةِ الطَّمْثِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالذَّبْحِ وَهُوَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُذْبَحَ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ بِفَتْحِ النُّونِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: نِسْأً بِكَسْرِ النُّونِ وَالْهَمْزِ مَكَانَ الْيَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ نون الْأَعْرَابِيِّ. وَقَرَأَ بَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ السَّهْمِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ أَيْضًا نَسَأً بِفَتْحِ النُّونِ وَالْهَمْزِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ نَسَأْتُ اللَّبَنَ إِذَا صَبَبْتَ عَلَيْهِ مَاءً، فَاسْتُهْلِكَ اللَّبَنُ فِيهِ لِقِلَّتِهِ فَكَأَنَّهَا تَمَنَّتْ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ اللَّبَنِ الَّذِي لَا يُرَى وَلَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الْمَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ بَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ نَسًا بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ بَنَاهُ عَلَى فَعَلٍ كَالْقَبَضِ وَالنَّفَضِ. قَالَ الْفَرَّاءُ نَسْيٌ وَنِسْيٌ لُغَتَانِ كَالْوِتْرِ وَالْوَتْرِ وَالْفَتْحُ أَحَبُّ إِلَيَّ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الْكَسْرُ أَعْلَى اللُّغَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مِنْ كَسَرَ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُنْسَى كَالنِّقْضِ اسْمٌ لما ينقض، ومنه فَتَحَ فَمَصْدَرٌ نَائِبٌ عَنِ اسْمٍ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ دَنَفٌ وَدَنِفٌ وَالْمَكْسُورُ هُوَ الْوَصْفُ الصَّحِيحُ وَالْمَفْتُوحُ مَصْدَرٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الْوَصْفِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا لِمَعْنًى كَالرِّطْلِ وَالرَّطْلِ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى الْحَمْلِ.
وَقِيلَ: قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ أَوْ قَبْلَ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي جَرَى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةِ مَنْسِيًّا بِكَسْرِ الْمِيمِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ السِّينِ كَمَا قَالُوا مُنْتِنٌ بِإِتْبَاعِ حَرَكَةِ الْمِيمِ لِحَرَكَةِ التَّاءِ. وَقِيلَ: تَمَنَّتْ ذَلِكَ لِمَا لَحِقَهَا مِنْ فَرْطِ الْحَيَاءِ عَلَى حُكْمِ الْعَادَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَا كَرَاهَةً لِحُكْمِ اللَّهِ أَوْ لِشِدَّةِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهَا إِذَا بَهَتُوهَا وَهِيَ عَارِفَةٌ بِبَرَاءَةِ السَّاحَةِ، وبضد ما قربت مِنِ اخْتِصَاصِ اللَّهِ إِيَّاهَا بِغَايَةِ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ لِأَنَّهُ مَقَامُ دَحْضٍ قَلَّمَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْأَقْدَامُ، أَوْ لِحُزْنِهَا على الناس أن يَأْثَمُ النَّاسُ بِسَبَبِهَا.
وَرُوِيَ أَنَّهَا سَمِعَتْ نِدَاءً اخْرُجْ يَا مَنْ يُعْبَدُ مِنْ دون الله فحزنت وقالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ.
وَقَالَ وَهْبٌ: أَنْسَاهَا كَرْبُ الْوِلَادَةَ وَمَا سَمِعَتْ مِنَ النَّاسِ بِشَارَةَ الْمَلَائِكَةِ بِعِيسَى.
وَقَرَأَ زِرٌّ وَعَلْقَمَةُ فَخَاطَبَهَا مَكَانَ فَناداها وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لَا قراءة لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَالْمُنَادَى الظَّاهِرُ أَنَّهُ عِيسَى أَيْ فَوَلَدَتْهُ فَأَنْطَقَهُ اللَّهُ وَنَادَاهَا أَيْ حَالَةَ الْوَضْعِ. وَقِيلَ: جِبْرِيلُ وَكَانَ فِي بُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ أَخْفَضَ مِنَ الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ. قِيلَ: وَكَانَ يَقْبَلُ الْوَلَدَ كَالْقَابِلَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَناداها مَلَكٌ مِنْ تَحْتِها. وَقَرَأَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالضَّحَّاكُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ مِنْ حَرْفُ جَرٍّ. وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَالْأَبَوَانِ وَعَاصِمٌ وَزِرٌّ وَمُجَاهِدٌ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَنْهُمَا مِنْ بِفَتْحِ الْمِيمِ بِمَعْنَى الَّذِي وتَحْتِها ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ صِلَةٌ لِمَنْ، وَهُوَ عِيسَى أَيْ نَادَاهَا الْمَوْلُودُ قَالَهُ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وأن حَرْفُ تَفْسِيرٍ أَيْ لَّا تَحْزَنِي وَالسَّرِيُّ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ الْجَدْوَلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ وَقَتَادَةُ عَظِيمًا مِنَ الرِّجَالِ لَهُ شَأْنٌ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ فَسَّرَ الْآيَةَ فَقَالَ: أَجَلْ لَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ سَرِيًّا كَرِيمًا فَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ:
يَا أَبَا سَعِيدٍ إِنَّمَا يَعْنِي بِالسَّرِيِّ الْجَدْوَلَ، فَقَالَ الْحَسَنُ لِهَذِهِ وَأَشْبَاهِهَا أُحِبُّ قُرْبَكِ، وَلَكِنْ غَلَبَنَا الْأُمَرَاءُ.
ثُمَّ أَمَرَهَا بِهَزِّ الْجِذْعِ الْيَابِسِ لِتَرَى آيَةً أُخْرَى فِي إِحْيَاءِ مَوَاتِ الْجِذْعِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:
بَلْ كَانَتِ النَّخْلَةُ مُطَعَّمَةً رُطَبًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الْجِذْعُ مَقْطُوعًا وَأُجْرِيَ تَحْتَهُ النَّهْرُ لِجَنْبِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُكَلِّمَ هُوَ عِيسَى وَأَنَّ الْجِذْعَ كَانَ يَابِسًا وَعَلَى هَذَا ظَهَرَتْ لَهَا آيَاتٌ تَسْكُنُ إِلَيْهَا وَحُزْنُهَا لَمْ يَكُنْ لِفَقْدِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى تَتَسَلَّى بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلَكِنْ لِمَا ظَهَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِقَوْمِهَا أَنَّ وِلَادَتَهَا مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ لَيْسَ بِبِدْعٍ مِنْ شَأْنِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ جِذْعًا نَخِرًا فَلَمَّا هَزَّتْ إِذِ السَّعَفُ قَدْ طَلَعَ ثُمَّ نَظَرَتْ إِلَى الطَّلْعِ يَخْرُجُ مِنْ
بَيْنِ السَّعَفِ، ثُمَّ اخْضَرَّ فَصَارَ بَلَحًا، ثُمَّ احْمَرَّ فَصَارَ زَهْوًا ثُمَّ رُطَبًا كُلُّ ذَلِكَ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَجَعَلَ الرُّطَبُ يَقَعُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا لَا يتسرح منه شيء. وإلى حَرْفٌ بِلَا خِلَافٍ وَيَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ وَهُزِّي وَهَذَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، وَقَدْ رُفِعَ الضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ ظَنَّ وَلَا فَقَدَ وَلَا عَلِمَ وَهُمَا لِمَدْلُولٍ وَاحِدٍ لَا يُقَالُ: ضَرَبْتُكَ وَلَا زَيْدٌ ضَرَبَهُ أَيْ ضَرَبَ نَفْسَهُ وَلَا ضَرَبَنِي إِنَّمَا يُؤْتَى فِي مِثْلِ هَذِهِ التَّرَاكِيبِ بِالنَّفْسِ فَتَقُولُ: ضَرَبْتَ نَفْسَكَ وَزَيْدٌ ضَرَبَ نَفْسَهُ وَضَرَبْتُ نَفْسِي وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عِنْدَهُمْ كَالضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فَلَا تَقُولُ: هَزَزْتُ إِلَيْكَ وَلَا زَيْدٌ هَزَّ إِلَيْهِ وَلَا هَزَزْتَ إِلَيَّ وَلِهَذَا زَعَمُوا فِي قَوْلِ الشاعر:
دع عنك نهيا صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ | وَلَكِنْ حديثا ما حدثت الرَّوَاحِلِ |
وَهَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنَّ الْأُمُو | رَ بِكَفِّ الْإِلَهِ مَقَادِيرُهَا |
مِنْ عَنْ يَمِينِ الْحُبَيَّا نَظْرَةٌ قَبَلُ وَفِي قَوْلِهِ:
غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بعد ما تَمَّ ظِمْؤُهَا وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ زَعَمَ أَنَّ عَلَى لَا تَكُونُ حَرْفًا أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّهَا اسْمٌ فِي كُلِّ مَوَارِدِهَا وَنُسِبَ إِلَى سِيبَوَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ إِلَى تَكُونُ اسْمًا لِإِجْمَاعِ النُّحَاةِ عَلَى حَرْفِيَّتِهَا كَمَا قُلْنَا.
وَنَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَهُزِّي إِلَيْكِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ «١» وَعَلَى تَقْرِيرِ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ يَنْبَغِي تَأْوِيلُ هَذَيْنِ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِلَيْكِ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِهُزِّي وَلَا بِاضْمُمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ وَالتَّقْدِيرُ أَعْنِي إِلَيْكِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «٢» وَمَا أَشْبَهَهُ عَلَى بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ. وَالْبَاءُ فِي بِجِذْعِ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «٣». قَالَ أَبُو عَلِيٍّ كَمَا يُقَالُ: أَلْقَى بِيَدِهِ أَيْ ألقى يده. وكقوله:
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٢١.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٩٥.
سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ أَيْ لَا يَقْرَأْنَ السور. وأنشد الطبري:
فؤاد يمان ينبت السدر صدره | وأسفله بالمرخ والسهان |
يَخْرُجُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي قَالُوا: التَّمْرُ لِلنُّفَسَاءِ عَادَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ التَّحْنِيكُ، وَقَالُوا: كَانَ مِنَ الْعَجْوَةِ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وَقِيلَ: مَا لِلنُّفَسَاءِ خَيْرٌ مِنَ الرُّطَبِ. وَقِيلَ: إِذَا عَسُرَ وِلَادُهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا خَيْرٌ مِنَ الرُّطَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُساقِطْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالسِّينِ وَشَدِّهَا بَعْدَ أَلِفٍ وَفَتْحِ الْقَافِ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَمَسْرُوقٌ وَحَمْزَةُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ خَفَّفُوا السِّينَ. وَقَرَأَ حَفْصٌ تُساقِطْ مُضَارِعُ سَاقَطَتْ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ تَتَسَاقَطُ بِتَاءَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَالْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةٍ يَسَّاقَطْ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتِ مُضَارِعِ اسَّاقَطَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَمَسْرُوقٌ. تسقط بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقٍ مَضْمُومَةً وَكَسْرِ الْقَافِ. وَعَنْ أَبِي حَيْوَةَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَعَنْهُ تَسْقُطْ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ مَفْتُوحَةً وَضَمِّ الْقَافِ، وَعَنْهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قِرَاءَةِ أَبِي حَيْوَةَ هَذِهِ أَنَّهُ قَرَأَ رُطَبٌ جَنِيٌّ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَإِنْ قَرَأَ بِفِعْلٍ مُتَعَدٍّ نَصَبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ أَوْ بِفِعْلٍ لَازِمٍ فَنَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى الْجِذْعِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَمُسْنَدٌ إِلَى النَّخْلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى الْجِذْعِ عَلَى حَدِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ «١» وَفِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ يَلْتَقِطْهُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ.
وَأَجَازَ الْمُبَرِّدُ فِي قَوْلِهِ رُطَباً أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ وَهُزِّي أَيْ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ رُطَبًا تُسَاقِطْ عَلَيْكِ، فَعَلَى هَذَا الَّذِي أَجَازَهُ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ فَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ مَعْمُولُ تُساقِطْ فَمَنْ قَرَأَهُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ فَظَاهِرٌ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الأعمال، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فَلَا لِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِ هُزِّي إِذْ ذَاكَ وَالْفِعْلُ اللَّازِمُ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ جَنِيًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ النُّونِ وَالرِّزْقُ فَإِنْ كَانَ مَفْرُوغًا مِنْهُ فَقَدْ وُكِّلَ ابْنُ آدَمَ إِلَى سَعْيِ مَا فِيهِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَتْ مَرْيَمُ بِهَزِّ الْجِذْعِ وَعَلَى هَذَا جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ وَلَيْسَ ذلك بمناف للتوكل.
وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ عِيسَى لَهَا لَا تَحْزَنِي، فَقَالَتْ: كَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَأَنْتَ مَعِي لَا ذَاتَ زَوْجٍ وَلَا مَمْلُوكَةً أَيُّ شَيْءٍ عُذْرِي عِنْدَ النَّاسِ؟ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْآيَةَ فَقَالَ لَهَا عِيسَى: أَنَا أَكْفِيكِ الْكَلَامَ
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ جَمَعْنَا لَكِ فِي السَّرِيِّ وَالرُّطَبِ فَائِدَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَالثَّانِيَةُ سَلْوَةُ الصَّدْرِ لِكَوْنِهِمَا مُعْجِزَتَيْنِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً أَيْ وَطِيبِي نَفْسًا وَلَا تَغْتَمِّي وَارْفُضِي عَنْكِ مَا أَحْزَنَكِ وَأَهَمَّكِ انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَتِ الْعَادَةُ تَقْدِيمَ الْأَكْلِ عَلَى الشُّرْبِ تَقَدَّمَ فِي الآية والمجاورة قَوْلِهِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا وَلَمَّا كَانَ الْمَحْزُونُ قَدْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ قَالَ:
وَقَرِّي عَيْناً أَيْ لَا تَحْزَنِي، ثُمَّ أَلْقَى إِلَيْهَا مَا تَقُولُ إِنْ رَأَتْ أحدا. وقرىء وَقَرِّي بِكَسْرِ الْقَافِ وَهِيَ لُغَةٌ نَجْدِيَّةٌ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي مَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ رُومِيٍّ تَرَئِنَّ بِالْإِبْدَالِ مِنَ الْيَاءِ هَمْزَةً وَرُوِيَ عَنْهُ لَتَرَؤُنَّ بِالْهَمْزِ أَيْضًا بَدَلَ الْوَاوِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ لَحْنٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا مِنْ لُغَةِ مَنْ يَقُولُ لتأت بِالْحَجِّ وَحَلَأْتُ السَّوِيقَ وَذَلِكَ لِتَآخٍ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحُرُوفِ اللِّينِ فِي الْإِبْدَالِ انْتَهَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ تَرَيِنَّ بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ خَفِيفَةً. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَهِيَ شَاذَّةٌ يَعْنِي لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرِ الْجَازِمُ فَيَحْذِفَ النُّونَ. كَمَا قَالَ الْأَفْوَهُ الْأَوْدِيُّ:
أَمَا تَرَى رَأْسِي أَزْرَى بِهِ | مَآسُ زَمَانٍ ذِي انْتِكَاسٍ مؤوس |
وقرأ يد بْنُ عَلِيٍّ صِيَامًا وَفَسَّرَ صَوْماً بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الْكَلَامِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ صَمْتًا. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِثْلُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: كَانَتْ سُنَّةُ الصِّيَامِ عِنْدَهُمُ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْأَكْلِ وَالْكَلَامِ انْتَهَى. وَالصَّمْتُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَا يَصِحُّ نَذْرُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ».
وَقَدْ أَمَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالنُّطْقِ وَأُمِرَتْ بِنَذْرِ الصَّوْمِ لِأَنَّ عِيسَى بِمَا يُظْهِرُ اللَّهُ عَلَيْهِ يَكْفِيهَا أَمْرَ الِاحْتِجَاجِ وَمُجَادَلَةِ السُّفَهَاءِ. وَقَوْلُهُ إِنْسِيًّا لِأَنَّهَا كَانَتْ تُكَلِّمُ الملائكة دون الإنس. صفحة رقم 256
أَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا.
فَأَتَتْ بِهِ قِيلَ إِتْيَانُهَا كَانَ مِنْ ذَاتِهَا. قِيلَ: طَهُرَتْ مِنَ النِّفَاسِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرَاهَا آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ، وَكَلَّمَهَا عيسى ابنها وَحَنَّتْ إِلَى الْوَطَنِ وَعَلِمَتْ أَنَّ عِيسَى سَيَكْفِيهَا مَنْ يُكَلِّمُهَا فَعَادَتْ إِلَى قَوْمِهَا. وَقِيلَ: أَرْسَلُوا إِلَيْهَا لَتَحْضُرِي إِلَيْنَا بِوَلَدِكِ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ أَخْبَرَ قَوْمَهَا بِوِلَادَتِهَا وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ فَلَمَّا رَأَوْهَا وَابْنَهَا قالُوا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: الْفَرِيُّ الْعَظِيمُ الشَّنِيعُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ فِيمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ فَرِيًّا بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَفِيمَا نَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ فَرْئًا بِالْهَمْزِ. وهارُونَ شَقِيقُهَا أَوْ أَخُوهَا مِنْ أُمِّهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْثَلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ هارُونَ أَخُو مُوسَى إِذْ كَانَتْ مِنْ نَسْلِهِ، أَوْ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شُبِّهَتْ بِهِ، أَوْ رَجُلٌ مِنَ النِّسَاءِ وَشَبَّهُوهَا بِهِ أَقْوَالٌ. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ أَخُوهَا الْأَقْرَبُ.
وَفِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ حِينَ خَصَمَهُ نَصَارَى نَجْرَانَ فِي قوله تعالى يا أُخْتَ هارُونَ وَالْمُدَّةَ بَيْنَهُمَا طَوِيلَةٌ جِدًّا فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: «أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ».
وَأَنْكَرُوا عَلَيْهَا مَا جَاءَتْ بِهِ وَأَنَّ أَبَوَيْهَا كَانَا صَالِحَيْنِ، فَكَيْفَ صَدَرَتْ مِنْكِ هَذِهِ الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفُرُوعَ غَالِبًا تَكُونُ زَاكِيَةً إِذَا زَكَتِ الْأُصُولُ، وَيُنْكَرُ عَلَيْهَا إِذَا جَاءَتْ بِضِدِّ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ لَجَأٍ التَّيْمِيُّ الشَّاعِرُ الَّذِي كَانَ يُهَاجِي جَرِيرًا مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ لجعل الْخَبَرَ الْمَعْرِفَةَ وَالِاسْمَ النَّكِرَةَ وَحَسَّنَ ذَلِكَ قَلِيلًا كَوْنُهَا فيها مسوع جَوَازِ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ الْإِضَافَةُ، وَلَمَّا اتَّهَمُوهَا بِمَا اتَّهَمُوهَا نَفَوْا عَنْ أَبَوَيْهَا السُّوءَ لِمُنَاسَبَةِ الْوِلَادَةِ، وَلَمْ يَنُصُّوا عَلَى إِثْبَاتِ الصَّلَاحِ وَإِنْ كَانَ نَفْيُ السُّوءِ يُوجِبُ الصَّلَاحَ وَنَفْيُ الْبِغَاءِ يُوجِبُ الْعِفَّةَ لِأَنَّهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا نَقِيضَانِ.
رُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ بِهِ عَلَى قَوْمِهَا وَهُمْ أَهْلُ بَيْتٍ صَالِحُونَ تَبَاكَوْا وَقَالُوا ذَلِكَ. وَقِيلَ: هَمُّوا بِرَجْمِهَا حَتَّى تَكَلَّمَ عِيسَى فَتَرَكُوهَا.
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أَيْ هُوَ الَّذِي يُجِيبُكُمْ إِذَا نَاطَقْتُمُوهُ.
وَقِيلَ: كَانَ الْمُسْتَنْطِقُ لِعِيسَى زَكَرِيَّا.
وَيُرْوَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَشَارُوا إِلَى الطِّفْلِ قَالُوا: اسْتِخْفَافُهَا بِنَا أَشَدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا، ثُمَّ قَالُوا لَهَا عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ وَالتَّهَكُّمِ بِهَا أَيْ إِنَّ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ يُرَبَّى لَا يُكَلَّمُ، وَإِنَّمَا
أَشَارَتْ إِلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ لَهَا مِنْ وَعْدِهِ أَنَّهُ يُجِيبُهُمْ عَنْهَا وَيُغْنِيهَا عَنِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: بِوَحْيٍ مِنَ الله إليها. وكانَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: تَامَّةٌ وَيَنْتَصِبُ صَبِيًّا عَلَى الْحَالِ فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَاقِصَةٌ فَتَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ أَوْ تَبْقَى عَلَى مَدْلُولِهَا مِنِ اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ الْمَاضِي، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الِانْقِطَاعِ كَمَا لَمْ يَدُلَّ فِي قَوْلِهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «١» وَفِي قوله وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً «٢» وَالْمَعْنَى كانَ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا كَانَ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ كانَ هَذِهِ بِأَنَّهَا تُرَادِفُ لَمْ يَزَلْ وَمَا رَدَّ بِهِ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ كَوْنَهَا زَائِدَةً مِنْ أَنَّ الزَّائِدَةُ لَا خَبَرَ لَهَا، وَهَذِهِ نَصَبَتْ صَبِيًّا خَبَرًا لَهَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الِاسْتِقْرَارُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ لِإِيقَاعِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ فِي زَمَانٍ مَاضٍ مُبْهَمٍ يَصْلُحُ لِقَرِيبِهِ وَبِعِيدِهِ وَهُوَ هَاهُنَا لِقَرِيبِهِ خَاصَّةً وَالدَّالُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَأَنَّهُ مَسُوقٌ لِلتَّعَجُّبِ، وَوَجْهٌ آخَرُ أَنْ يَكُونَ نُكَلِّمُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ أَيْ كَيْفَ عُهِدَ قَبْلَ عِيسَى أَنْ يُكَلِّمَ النَّاسُ صَبِيًّا.
فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فِيمَا سَلَفَ مِنَ الزَّمَانِ حَتَّى نُكَلِّمَ هَذَا انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ مَفْعُولٌ بِنُكَلِّمُ. وَنُقِلَ عَنِ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ أَنَّ مَنْ شرطية وكانَ فِي مَعْنَى يَكُنْ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَكَيْفَ نُكَلِّمُ وَهُوَ قَوْلٌ بِعِيدٌ جِدًّا. وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْمَهْدِ حِجْرُ أُمِّهِ. وَقِيلَ: سَرِيرُهُ. وَقِيلَ: الْمَكَانُ الَّذِي يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَامَ مُتَّكِئًا عَلَى يَسَارِهِ وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِسَبَّابَتِهِ الْيُمْنَى
، وَأَنْطَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا بِقَوْلِهِ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ رَدًّا لِلْوَهْمِ الَّذِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى.
وفي قوله عَبْدُ اللَّهِ وَالْجُمَلُ الَّتِي بَعْدَهُ تَنْبِيهٌ عَلَى بَرَاءَةِ أُمِّهِ مِمَّا اتُّهِمَتْ بِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخَصُّ بِوَلَدٍ مَوْصُوفٍ بِالنُّبُوَّةِ وَالْخِلَالِ الْحَمِيدَةِ إِلَّا مبرأة مصطفاة والْكِتابَ الْإِنْجِيلُ أَوِ التَّوْرَاةُ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا أَقْوَالٌ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا أَنَّهُ تَعَالَى نَبَّأَهُ حَالَ طُفُولِيَّتِهِ أَكْمَلَ اللَّهُ عَقَلَهُ وَاسْتَنْبَأَهُ طِفْلًا. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ سَبَقَ فِي قَضَائِهِ وَسَابِقِ حُكْمِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْعَلَ الْآتِي لِتَحَقُّقِهِ كَأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ وَجَعَلَنِي مُبارَكاً قَالَ مُجَاهِدٌ: نَفَّاعًا. وَقَالَ سُفْيَانُ: مُعَلِّمُ خَيْرٍ. وَقِيلَ: آمِرًا بِمَعْرُوفٍ، نَاهِيًا عَنْ مُنْكَرٍ. وَعَنِ الضحاك: قضاء للحوائج وأَيْنَ مَا كُنْتُ شَرْطٌ وَجَزَاؤُهُ محذوف تقديره جَعَلَنِي مُبارَكاً وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لَجَعَلَنِي السَّابِقِ لِأَنَّ أَيْنَ لَا يَكُونُ إِلَّا اسْتِفْهَامًا أَوْ شَرْطًا لَا جائز
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٣٢.
أَنْ يَكُونَ هُنَا اسْتِفْهَامًا، فَتَعَيَّنَتِ الشَّرْطِيَّةُ وَاسْمُ الشَّرْطِ لَا يَنْصِبُهُ فِعْلٌ قَبْلَهُ إِنَّمَا هُوَ مَعْمُولٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَلِيهِ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ عَلَى مَا شُرِعَ فِي الْبَدَنِ وَالْمَالِ. وقيل:
الزَّكاةِ زكاة الرؤوس فِي الْفِطَرِ. وَقِيلَ الصَّلَاةُ الدعاء، والزَّكاةِ التطهر.
وما فِي مَا دُمْتُ مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَرَأَ دُمْتُ بِضَمِّ الدَّالِ عَاصِمٌ وَجَمَاعَةٌ. وَقَرَأَ دِمْتُ بِكَسْرِ الدَّالِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو انْتَهَى. وَالَّذِي فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّ الْقُرَّاءَ السَّبْعَةَ قرؤوا دُمْتُ حَيًّا بِضَمِّ الدَّالِّ، وَقَدْ طَالَعْنَا جُمْلَةً مِنَ الشَّوَاذِّ فَلَمْ نَجِدْهَا لَا فِي شَوَاذِّ السَّبْعَةِ وَلَا فِي شَوَاذِّ غَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لُغَةٌ تَقُولُ دُمْتُ تَدَامُ كَمَا قَالُوا مِتُّ تمات، وسبق أنه قرىء وَبِرًّا بِكَسْرِ الْبَاءِ فَإِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَذَا بِرٍّ، وَإِمَّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ جَعَلَ ذَاتَهُ مِنْ فَرْطِ بِرِّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضْمَرَ فِعْلٌ فِي مَعْنَى أَوْصَانِي وَهُوَ كَلَّفَنِي لِأَنَّ أَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَكَلَّفَنِيهَا وَاحِدٌ، وَمَنْ قَرَأَ وَبَرًّا بِفَتْحِ الْبَاءِ، فَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُبارَكاً وَفِيهِ بُعْدٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ أَوْصانِي وَمُتَعَلِّقِهَا، وَالْأَوْلَى إِضْمَارُ فِعْلٍ أَيْ وَجَعَلَنِي بَرًّا. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنَّهُ قرىء وَبِرٍّ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَالرَّاءِ عَطْفًا عَلَى بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ.
وَقَوْلُهُ: بِوالِدَتِي بَيَانُ مَحَلِّ الْبِرِّ وَأَنَّهُ لَا وَالِدَ لَهُ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ بَرَّأَهَا قَوْمُهَا. وَالْجَبَّارُ كَمَا تَقَدَّمَ الْمُتَعَاظِمُ وَكَانَ فِي غَايَةِ التَّوَاضُعِ يَأْكُلُ الشَّجَرَ وَيَلْبَسُ الشَّعْرَ وَيَجْلِسُ عَلَى التُّرَابِ حَيْثُ جَنَّهُ اللَّيْلُ لَا مَسْكَنَ لَهُ،
وَكَانَ يَقُولُ: سَلُونِي فَإِنِّي لَيِّنُ الْقَلْبِ صَغِيرٌ فِي نَفْسِي
، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي وَالسَّلامُ لِلْجِنْسِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا التَّعْرِيفُ تَعْرِيضٌ بِلَعْنَةِ مُتَّهِمِي مَرْيَمَ وَأَعْدَائِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ اللَّامَ لِلْجِنْسِ فَإِذَا قَالَ: وَجِنْسُ السَّلَامِ عَلَيَّ خَاصَّةً فَقَدْ عَرَّضَ بِأَنَّ ضِدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَنَظِيرُهُ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى «١» يَعْنِي إِنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ مُنَاكَرَةٍ وَعِنَادٍ فَهُوَ مَئِنَّةٌ لِنَحْوِ هَذَا مِنَ التَّعْرِيضِ. وَقِيلَ: أَلْ لِتَعْرِيفِ الْمُنَكَّرِ فِي قِصَّةٍ يَحْيَى فِي قَوْلِهِ وَسَلامٌ
نَحْوُ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا «٢» فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ أَيْ وَذَلِكَ السَّلَامُ الْمُوَجَّهُ إِلَى يَحْيَى فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ مُوَجَّهٌ إِلَيَّ. وَسَبَقَ الْقَوْلُ فِي تَخْصِيصِ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ يَوْمَ وُلِدْتُ أَيْ يَوْمَ وَلَدْتَنِي جَعَلَهُ مَاضِيًا لَحِقَتْهُ تَاءُ التَّأْنِيثِ ورجح
(٢) سورة المزمل: ٧٣/ ١٥. [.....]