آيات من القرآن الكريم

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا
ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ

قالوا: إنما منعت من الكلام لأمرين: أحدهما: أن يكون عيسى هو المتكلم عنها ليكون أقوى لحجتها في إزالة التهمة عنها، وفي هذا دلالة على تفويض الكلام إلى الأفضل.
والثاني: «كراهة مجادلة السفهاء، وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها» «١».
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوبها البليغ الحكيم ما فعلته مريم عند ما شعرت بالحمل وما قالته عند ما أحست بقرب الولادة، وما قاله لها مولودها عيسى من كلام جميل طيب، لإدخال الطمأنينة على قلبها.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن مشهد آخر من مشاهد تلك القصة العجيبة مشهد مريم عند ما جاءت بوليدها إلى قومها، وما قالوه لها، وما قاله وليدها لهم...
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك فيقول:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٧ الى ٣٣]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
وقوله- سبحانه-:

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ معطوف على كلام محذوف يفهم من سياق القصة.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٥٣٥.

صفحة رقم 32

والتقدير: وبعد أن استمعت مريم إلى ما قاله لها ابنها عيسى- عليه السلام- اطمأنت نفسها، وقرت عينها، فأتت به أى بمولودها عيسى إلى قومها. وهي تحمله معها من المكان القصي الذي اعتزلت فيه قومها.
قال الآلوسى: أى: جاءتهم مع ولدها حاملة إياه، على أن الباء للمصاحبة. وجملة تَحْمِلُهُ في موضع الحال من ضمير مريم... وكان هذا المجيء على ما أخرج سعيد بن منصور، وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوما حين طهرت من نفاسها...
وظاهر الآية والأخبار «أنها جاءتهم به من غير طلب منهم..» «١».
ثم حكى- سبحانه- ما قاله قومها عند ما رأوها ومعها وليدها فقال: قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا.
أى: قالوا لها على سبيل الإنكار: يا مريم لقد جئت أى فعلت شيئا منكرا عجيبا في بابه، حيث أتيت بولد من غير زوج نعرفه لك.
والفري: مأخوذ من فريت الجلد إذا قطعته، أى: شيئا قاطعا وخارقا للعادة، ومرادهم:
أنها أتت بولدها عن طريق غير شرعي، كما قال- تعالى- في آية أخرى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً.
ويدل على أن مرادهم هذا، قولهم بعد ذلك: يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ.
أى: ما كان أبوك رجلا زانيا أو معروفا بالفحش وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أى: تتعاطى الزنا. يقال: بغت المرأة، إذا فجرت وابتعدت عن طريق الطهر والعفاف.
وليس المراد بهارون: هارون بن عمران أخا موسى، وإنما المراد به رجل من قومها معروف بالصلاح والتقوى، فشبهت به، أى: يا أخت هارون في الصلاح والتقوى.
أو المراد به أخ لها كان يسمى بهذا الاسم.
قال الآلوسى ما ملخصه: «وقوله: يا أُخْتَ هارُونَ استئناف لتجديد التعيير، وتأكيد التوبيخ، وليس المراد بهارون أخا موسى بن عمران- عليهما السلام- لما أخرج أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، والطبراني، وابن حبان، وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرأون:

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٨٧.

صفحة رقم 33

يا أُخْتَ هارُونَ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا. قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم»..
وعن قتادة قال: «هو رجل صالح في بنى إسرائيل. والأخت على هذا بمعنى المشابهة، وشبهوها به تهكّما، أو لما رأوا قبل من صلاحها... » «١».
وعلى أية حال فإن مرادهم بقولهم هذا، هو اتهام مريم بما هي بريئة منه، والتعجب من حالها، حيث انحدرت من أصول صالحة طاهرة، ومع ذلك لم تنهج نهجهم.
وهنا نجد مريم تبدأ في الدفاع عن نفسها، عن طريق وليدها فَأَشارَتْ إِلَيْهِ.
أى: فأشارت إلى ابنها عيسى، ولسان حالها يقول لهم: وجهوا كلامكم إليه فإنه سيخبركم بحقيقة الأمر.
ولكنهم لم يقتنعوا بإشارتها بل قالوا لها: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا.
والمهد: اسم للمضطجع الذي يهيأ للصبي في رضاعه. وهو في الأصل مصدر مهده يمهده إذا بسطه وسواه.
أى: كيف نكلم طفلا صغيرا ما زال في مهده وفي حال رضاعه.
والفعل الماضي وهو كانَ هاهنا بمعنى الفعل المضارع المقترن بالحال، كما يدل عليه سياق القصة.
ولكن عيسى- عليه السلام- أنطقه الله- تعالى- بما يدل على صدق مريم وطهارتها فقال: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ.. أى: قال عيسى في رده على المنكرين على أمه إتيانها به:
إنى عبد الله، خلقني بقدرته، فأنا عبده وأنتم- أيضا- عبيده، وهذا الخالق العظيم آتانِيَ الْكِتابَ أى: سبق في قضائه إيتائى الكتاب أى: الإنجيل أو التوراة أو مجموعهما.
وعبر في هذه الجملة وفيما بعدها بالفعل الماضي عما سيقع في المستقبل، تنزيلا لتحقق الوقوع منزلة الوقوع الفعلى.
وهذا التعبير له نظائر كثيرة في القرآن الكريم، منها قوله- تعالى-: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ.
وقوله- سبحانه- وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ

(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٨٨.

صفحة رقم 34
التفسير الوسيط
عرض الكتاب
المؤلف
محمد سيد طنطاوي
الناشر
دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية