آيات من القرآن الكريم

رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ

وصف القرآن وتهديد الكافرين والعصاة
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)
الإعراب:
رُبَما قرئ بالتخفيف والتشديد، فالتشديد على الأصل، والتخفيف لكثرة الاستعمال.
ورُبَما فيها كافة عن العمل، وخرجت بها عن مذهب الحرف لأن «رب» حرف جر، وحرف الجر يلزم للأسماء، فلما دخلت رُبَما عليها، جاز أن يقع بعدها الفعل، وصارت بمنزلة «طالما وقلّما». ولا يدخل بعد رُبَما إلا الماضي، وإنما جاء هاهنا المضارع بعدها، على سبيل الحكاية، ولما كان إخبار الحق تعالى متحققا، لا شك في وجوده لتحققه، نزّل المستقبل منزلة الماضي الذي وقع ووجد.
ورُبَما معناها التقليل كرب، وقد يراد بها الكثرة، على خلاف الأصل.
لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ مفعول في موضع نصب، لأنه مفعول يَوَدُّ.
يَأْكُلُوا جواب الأمر أو الطلب.
وَلَها كِتابٌ كِتابٌ مبتدا مرفوع وَلَها خبره، والجملة: في موضع جرّ لأنها صفة. قَرْيَةٍ ويجوز حذف واو وَلَها نحويا لمكان الضمير، والأصل ألا تدخلها الواو مثل إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشعراء ٢٦/ ٢٠٨] ولكن لما شابهت صورتها صورة الحال، أدخلت عليها، تأكيدا للصوقها بالموصوف.
البلاغة:
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ المراد أهلها، من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحالّ.

صفحة رقم 8

المفردات اللغوية:
الر إشارة لتحدي العرب بإعجاز القرآن البياني، أي هذا الكتاب كلام الله المنظوم من حروف لغتكم العربية الهجائية: ألف، ولام، وميم. تِلْكَ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات الْكِتابِ هو السورة، وكذا القرآن، أي هذه آيات الكتاب العظيم المتميز بالفصاحة الكاملة والبيان التام وَقُرْآنٍ مُبِينٍ أي وقرآن واضح تام البيان، لا خلل فيه، مظهر للحق من الباطل. والكتاب والقرآن المبين: الكتاب الذي وعد الله تعالى به محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وتنكير وَقُرْآنٍ للتفخيم، والمعنى: تلك آيات الكتاب الجامع لكونه كتابا وقرآنا، فهو كامل في كونه كتابا، وفي كونه قرآنا مفيدا للبيان.
رُبَما تدل على أن ما بعدها قليل الحصول، وقد تستعمل في الكثير، كما هنا، فإنه يكثر منهم تمني الإسلام، وقيل: للتقليل، فإن الأهوال تدهشهم، فلا يفيقون حتى يتمنوا ذلك إلا في أحيان قليلة. وما: كفّت دخول «رب» عن الجر، فجاز دخوله على الفعل، و «ما» : نكرة موصوفة، أي رب شيء يَوَدُّ يتمنى الَّذِينَ كَفَرُوا يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين ذَرْهُمْ دعهم واتركهم يا محمد وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم وَيُلْهِهِمُ يشغلهم الْأَمَلُ بطول العمر وغيره عن الإيمان فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم، وسوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه.
والغرض إقناط الرسول صلّى الله عليه وسلّم من ارعوائهم وإيذانه بأنهم من أهل الخذلان، وأن نصحهم يعدّ اشتغالا بما لا طائل تحته. وفيه إلزام للحجة، وتحذير عن إيثار التنعم، وما يؤدي إليه طول الأمل.
مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ زائدة للتمكين قَرْيَةٍ المراد أهلها كِتابٌ أجل مَعْلُومٌ محدود لإهلاكها، أي لها أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أي ما يتقدم زمان أجلها، ومِنْ زائدة. وَما يَسْتَأْخِرُونَ يتأخرون عنه، وتذكير هذا الفعل العائد على أُمَّةٍ للحمل على المعنى.
التفسير والبيان:
الر هذه الحروف المقطعة قصد بها التنبيه وإشعار العرب بإعجاز القرآن البياني، وتحديهم بالإتيان بمثل أقصر سورة منه، لأنه نزل بلغتهم، وتكوّن من حروفها التي تتركب منها الكلمات تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ أي تلك الآيات من هذه السورة هي آيات الكتاب الكامل في كل شيء، وآيات القرآن المبين التام الوضوح والبيان لهذه السورة وغيرها. وتنكير كلمة

صفحة رقم 9

قُرْآنٍ للتفخيم، وقد جمع بين الوصفين: الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ للدلالة على أنه الكتاب الجامع للكمال، والغرابة في البيان، كما ذكر الزمخشري.
رُبَما يَوَدُّ.. أي ولكن الكفار سيندمون يوم القيامة على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين. وكلمة رُبَما وإن كانت للتقليل، فهي أبلغ في التهديد. ذكر ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن كفار قريش لما عرضوا على النار، تمنوا أن لو كانوا مسلمين. قال الزجاج: الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب، ورأى حالا من أحوال المسلم، ودّ لو كان مسلما.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ، وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام ٦/ ٢٧].
روى الطبراني عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم الإسلام، وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب، فأخذنا بها، فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة، فأخرجوا. فلما رأى ذلك من بقي من الكفار، قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين، فنخرج كما خرجوا» قال: ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ. رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ.
ثم هددهم الله وأوعدهم بتهديد شديد ووعيد أكيد، فقال:
ذَرْهُمْ.. أي دع يا محمد الكفار في ملاهيهم وتمتعهم بلذات دنياهم، يأكلون كما تأكل الأنعام، وتلهيهم الآمال عن التوبة والإنابة أو عن الآخرة والأجل، فسوف يعلمون عاقبة أعمالهم وأمرهم. كقوله تعالى: قُلْ: تَمَتَّعُوا،

صفحة رقم 10

فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ
[إبراهيم ١٤/ ٣٠] وقوله: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات ٧٧/ ٤٦] ويلاحظ أن الآيات الثلاث عللت سبب إهمالهم في الدنيا، إذ لا حظّ لهم في الآخرة.
ثم ذكر تعالى سبب تأخير عذاب الكفار إلى يوم القيامة فقال:
وَما أَهْلَكْنا أي إن سنة الله تعالى في الأمم واحدة، وهي أنه لا يهلك أهل قرية إلا بعد قيام الحجة عليهم، وإبلاغهم طريق الرشد والحق، وانتهاء أجلهم المقرر والمقدر لهم في اللوح المحفوظ، وأنه لا يؤخر عذاب أمة حان هلاكهم عن وقته المحدد، ولا يتقدمون عن مدتهم: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد ١٣/ ٣٨] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف ٧/ ٣٤].
والمقصود بالآيات: أنه لو شاء الله لعجل العذاب للكفار، ولكن اقتضت حكمته إمهالهم لعلهم يتوبوا، فإن لكل أمة أجلا معينا، لا تأخير فيه ولا تقديم، والله تعالى يمهل ولا يهمل.
وهذا تنبيه لأهل مكة وأمثالهم وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك، كما قال ابن كثير.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- القرآن الكريم جامع بين صفة الكمال في كل شيء، والوضوح والبيان، فلا نقص فيه ولا خلل، ولا غموض ولا لبس، وإنما يظهر الحق من الباطل لكل إنسان.
٢- سيندم الكفار يوم القيامة على كفرهم، ويتمنون أن لو كانوا مسلمين في

صفحة رقم 11

أوقات كثيرة لأن رُبَما وإن كانت تستعمل في الأصل للقليل، إلا أنها قد تستعمل في الكثير، ومن عادة العرب أنهم إذا ذكروا التكثير، ذكروا لفظا وضع للتقليل، ثم إن هذا التقليل أبلغ في التهديد.
٣- يهتم الكفار عادة بالماديات، فتراهم منغمسين في الشهوات والأهواء واللذات، معتمدين على الآمال المعسولة، مغتّرين بالأماني الزائفة، منشغلين بالدنيا عن الطاعة والعمل للآخرة. وقد هددهم الله بتركهم في مآكلهم ومتعهم، وحذرهم من عاقبة صنيعهم.
والآية تدل على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من شأن أخلاق المؤمنين.
وورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة في ذم الأمل مطلقا، منها
ما رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يهرم ابن آدم، ويبقى معه اثنتان: الحرص والأمل»
وفي مسند البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربعة من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا».
وروى أحمد والطبراني والبيهقي عن عمرو بن شعيب مرفوعا قال: «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل».
٤- لا ظلم في إهلاك الأمم الكافرة المكذّبة للرسل، وإنما هلاكها بسبب جحودها وكفرها وتكذيبها بآيات الله ورسله.
٥- إن هلاك الأمم ليس عشوائيا ولا كيفيا حسب رغبات الناس، وإنما هو مقدر بتاريخ معين، ومقرر في أجل محدد، لا تأخير فيه ولا تقديم.

صفحة رقم 12
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية