
وجه أبي، يعد بصره إليه بعد أن عمي بسبب شدة الحزن، وأتوني بجميع أهليكم من الرجال والنّساء والأولاد، وكانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا. وكان هذا كله بوحي وإعلام من الله تبارك وتعالى. ويروى أن هذا القميص كان لإبراهيم عليه السّلام، حين كساه الله إياه بعد خروجه من النار.
معجزة القميص
يختلف أفق النّبوة غير المعتاد عن الأحوال المعروفة المعتادة للناس، فإن في النّبوة أعمالا خارقة للعادة، تسمى معجزات، وكانت معجزة قميص يوسف من أبهر المعجزات النّبوية في تاريخ الرّسل، وكان الخبر العجيب من يعقوب عليه السّلام أنه يشمّ ريح يوسف ابنه المفقود من زمان طويل. وتحقّقت نبوءة يوسف وأبيه يعقوب، وتمت الفرحة الغامرة باكتشاف وجود يوسف عليه السّلام، وأنه ما زال حيّا، وأنه ذو مكانة وسلطان، وعمت البهجة والسرور أرض مصر وفلسطين معا، وكان البشير المبشر بهذا هو الابن الأكبر ليعقوب، وهو يهوذا الذي اعتصم بمصر، والذي كان قد جاء بقميص الدم. وصف القرآن المجيد هذه المعجزة في قوله سبحانه:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٨]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
«١» «٢» «٣» [يوسف: ١٢/ ٩٤- ٩٨].
(٢) أي تنسبوني إلى الفند: وهو ضعف العقل أو الخرف، أي تسفهوني أو تكذبوني.
(٣) انحرافك عن الصواب.

أحسّ يعقوب عليه السّلام برائحة يوسف ابنه الحبيب، وأشعره الله به، حين أقبل به إليه ابنه الأكبر يهوذا من مسيرة ثلاثة أيام أو ثمانية، إذ حملته إليه ريح الصّبا، فلما خرجت إبل أولاده من مصر، وانفصلوا عنها، قال يعقوب- وهو النّبي الرسول الصادق- لأهله: إني لأشمّ رائحة يوسف وقميصه، لولا أن تنسبوني إلى الفند (أي الخرف وضعف العقل) والكبر.
أخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال: لما خرجت العير، هاجت ريح، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف، فقال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام. قال الإمام فخر الدين الرازي: والتحقيق أن يقال:
إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات لأن وصول الرائحة من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة، فيكون معجزة ليعقوب عليه السّلام على الأظهر أو الأقرب.
وهذا هو الراجح بتقدير الله وإرادته وقدرته حيث يطلع أنبياءه على عجائب الأمور على سبيل إظهار المعجزات على أيديهم.
قال الحاضرون في مجلس يعقوب له: والله، إنك لفي ضلالك القديم أي حيرتك أو خطئك القديم الذي طال أمده، بظنّك أن يوسف حيّ يرزق، ويرجى لقاؤه.
وليس هو بالضّلال الذي هو في العرف ضدّ الرشاد لأن ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به. وكان حزن يعقوب قد تجدّد بقصة بنيامين، فلذلك يقال له:
ذو الحزنين.
فلما أن جاء البشير المبشّر، وهو يهوذا، يحمل قميص يوسف، مبشّرا له ببقائه حيّا، هو وأخوه بنيامين، ألقاه على وجه يعقوب، فانقلب فورا بصيرا كما كان، من شدّة الفرح. وتلك معجزة أخرى، وقال يعقوب حينئذ لمن حوله: ألم أقل لكم يا

أولادي، إني أعلم من الله أشياء لا تعلمونها. ألم أقل لكم حين ذهبتم إلى مصر:
ابحثوا عن يوسف، ولا تيأسوا من روح الله ورحمته، وإني لأعلم يقينا أن الله تعالى سيردّ يوسف إلي.
وحين ذاك قال الأولاد لأبيهم يعقوب مترفّقين معتذرين: اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي اطلب من الله أن يغفر لنا ذنوبنا، فإنا كنا مذنبين عاصين، وقد تبنا وندمنا على ما فعلنا معك ومع أخوينا: يوسف وبنيامين.
روي أن يوسف عليه السّلام لما غفر لإخوته، وتحقّقوا أيضا أن والدهم يعقوب يغفر لهم، قال بعضهم لبعض: ما يغني عنا هذا، إن لم يغفر الله لنا، فطلبوا حينئذ من يعقوب أن يطلب لهم المغفرة من الله تعالى، واعترفوا بالخطإ.
فقال لهم يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي أي في المستقبل القريب، في وقت السّحر آخر الليل، لأنّ ربي غفور ستّار للذنوب، رحيم بالعباد. وهذا الوقت- وقت السّحر- هو وقت يجاب فيه الدعاء، لقوله تعالى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آل عمران:
٣/ ١٧].
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي والموطأ والإمام أحمد (أي الجماعة ما عدا النّسائي) عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينزل ربّنا كل ليلة إذا كان الثلث الآخر- أي من الليل- إلى سماء الدنيا، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له؟».
وروى ابن عباس- فيما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ- عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أخّرهم يعقوب، حتى تأتي ليلة الجمعة».
والتوفيق بين الرّأيين: أنه أخّرهم لسحر ليلة الجمعة، ووافق ذلك ليلة عاشوراء، وهو رأي أكثر المفسّرين.