فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ قال مجاهد: هو يهوذا. روي أنه قال لإخوته قد علمتم أني ذهبت إلى أبي بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه. وفي رواية عن ابن عباس أنه مالك بن ذعر والرواية الشهيرة عنه ما تقدم، و «أن» صلة وقد أطردت زيادتها بعد لما. وقرأ ابن مسعود وعد ذلك قراءة تفسير «وجاء البشير من بين يدي العير» أَلْقاهُ أي ألقى البشير القميص عَلى وَجْهِهِ أي وجه يعقوب عليه السلام، وقيل: فاعل «ألقى» ضمير يعقوب عليه السلام أيضا والأول أوفق بقوله: فَأَلْقُوهُ على وجه أبي وهو يبعد كون البشير مالكا كما لا يخفى، والثاني قيل: هو الأنسب بالأدب ونسب ذلك إلى فرقد قال: إنه عليه السلام أخذه فشمه ثم وضعه على بصره فَارْتَدَّ بَصِيراً والظاهر أنه أريد بالوجه كله، وقد جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئا يعتقد فيه البركة مسح به وجهه، وقيل: عبر بالوجه عن
صفحة رقم 52
العينين لأنهما فيه، وقيل: عبر بالكل عن البعض «وارتد» عند بعضهم من أخوات كان وهي بمعنى صار- فبصيرا- خبرها وصحح أبو حيان أنها ليست من أخواتها- فبصيرا- حال، والمعنى أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر.
وزعم بعضهم أن في الكلام ما يشعر بأن بصره صار أقوى مما كان عليه لأن فعيلا من صيغ المبالغة وما عدل من يفعل إليه إلا لهذا المعنى. وتعقب بأن فعيلا هنا ليس للمبالغة إذ ما يكون لها هو المعدول عن فاعل وأما «بصير» هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء فهو جار على قياس فعل نحو ظرف فهو ظريف ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضا لأن فعيلا بمعنى مفعل ليس للمبالغة نحو أليم وسميع، وأيّا ما كان فالظاهر أن عوده عليه السلام بصيرا بإلقاء القميص على وجهه ليس إلا من باب خرق العادة وليس الخارق بدعا في هذه القصة، وقيل: إن ذاك لما أنه عليه السلام انتعش حتى قوي قلبه وحرارته الغريزية فأوصل نوره إلى الدماغ وأداه إلى البصر، ومن هذا الباب استشفاء العشاق بما يهب عليهم من جهة أرض المعشوق كما قال:
وإني لأستشفى بكل غمامة | يهب بها من نحو أرضك ريح |
ألا يا نسيم الصبح ما لك كلما | تقربت منا فاح نشرك طيبا |
كأن سليمى نبئت بسقامنا | فأعطتك رياها فجئت طبيبا |
قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا طلبوا منه عليه السلام الاستغفار، ونادوه بعنوان الأبوة تحريكا للعطف والشفقة وعللوا ذلك بقولهم: إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ أي ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه ويستغفر له، وكأنهم كانوا على ثقة من عفوه ولذلك اقتصروا على طلب الاستغفار وأدرجوا ذلك في الاستغفار، وقيل: حيث نادوه بذلك أرادوا ومن حق شفقتك علينا أن تستغفر لنا فإنه لولا ذلك لكنا هالكين لتعمد الإثم فمن ذا يرحمنا إذا لم ترحمنا وليس بذاك قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
روي عن ابن عباس مرفوعا أنه عليه السلام أخر الاستغفار لهم إلى السحر لأن الدعاء فيه مستجاب، وروي عنه أيضا كذلك أنه أخره إلى ليلة الجمعة (١) وجاء ذلك في حديث طويل رواه الترمذي وحسنه،
وقيل: سوفهم إلى قيام الليل، وقال ابن جبير وفرقة: إلى الليالي البيض فإن الدعاء فيها
يستجاب، وقال الشعبي: أخره حتى يسأل يوسف عليه السلام فإن عفا عنهم استغفر لهم، وقيل أخر ليعلم حالهم في صدق التوبة وتعقب بعضهم بعض هذه الأقوال بأن سوف تأبى ذلك لأنها أبلغ من السين في التنفيس فكان حقه على ذلك السين ورد بما في المغني من أن ما ذكر مذهب البصريين وغيرهم يسوي بينهما، وقال بعض المحققين: هذا غير وارد حتى يحتاج إلى الدفع لأن التنفيس التأخير مطلقا ولو أقل من ساعة فتأخيره إلى السحر مثلا ومضي ذلك اليوم محل للتنفيس بسوف، وقيل: أراد عليه السلام الدوام على الاستغفار لهم وهو مبني على أن السين وسوف يدلان على الاستمرار في المستقبل وفيه كلام للنحويين. نعم جاء في بعض الأخبار ما يدل على أنه عليه السلام استمر برهة من الزمان يستغفر لهم.
أخرج ابن جرير عن أنس بن مالك قال إن الله تعالى لما جمع شمله ببنيه وأقر عينه خلا ولده نجيا فقال بعضهم لبعض: لستم قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف قالوا بلى قال فيغركم عفوهما عنكم فكيف لكم بربكم واستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنبه فقالوا يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله حتى حركوه والأنبياء عليهم السلام أرحم البرية فقال:
ما لكم يا بني؟ قالوا ألست قد علمت ما كان منا إليك وما كان منا إلى أخينا يوسف؟ قالا بلى قالوا أفلستما قد عفوتما؟
قالا بلى قالوا فإن عفو كما لا يغني عنا شيئا إن كان الله تعالى لم يعف عنا قال فما تريدون يا بني؟ قالوا: نريد أن تدعو الله سبحانه فإذا جاءك الوحي من عند الله تعالى بأنه قد عفا عما صنعنا قرت أعيننا واطمأنت قلوبنا وإلا فلا قرة عين في الدنيا لنا أبدا قال فقام الشيخ فاستقبل القبلة وقام يوسف عليه السلام خلفه وقاموا خلفهما أذلة خاشعين فدعا وأمن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبريل على يعقوب عليهما السلام فقال: إن الله تعالى بعثني أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك وأنه قد عفا عما صنعوا وأنه قد عقد مواثيقهم من بعدك على النبوة،
قيل: وهذا إن صح دليل على نبوتهم وإن ما صدر منهم كان قبل استنبائهم، والحق عدم الصحة وقد مر تحقيق المقام بما فيه كفاية فتذكر.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عائشة قال: ما تيب على ولد يعقوب إلا بعد عشرين سنة وكان أبوهم بين يديهم فما تيب عليهم حتى نزل جبريل عليه السلام فعلمه هذا الدعاء «يا رجاء المؤمنين لا تقطع رجاءنا يا غياث المؤمنين أغثنا يا معين المؤمنين أعنا يا محب التوابين تب علينا»
فأخره إلى السحر فدعا به فتيب عليهم، وأخرج أبو عبيد وغيره عن ابن جريج أن ما سيأتي إن شاء الله متعلق بهذا وهو من تقديم القرآن وتأخيره والأصل سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله.
وأنت تعلم أن هذا مما لا ينبغي الالتفات إليه فإن ذاك من كلام يوسف عليه السلام بلا مرية ولا أدري ما الداعي إلى ارتكابه ولعله محض الجهل.
واعلم أنه ذكر بعض المتأخرين في الكلام على هذه الآية أن الصحيح أن أَسْتَغْفِرُ متعد إلى مفعولين يقال:
استغفرت الله الذنب، وقد نص على ذلك ابن هشام وقد حذف من اسْتَغْفِرْ لَنا أولهما، وذكر ثانيهما وعكس الأمر في سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ ولعل السر والله سبحانه أعلم أن حذف الأول من الأول لإرادة التعميم أي استغفر لنا كل من أذنبنا في حقه ليشمله سبحانه وتعالى ويشمل يوسف وبنيامين وغيرهما ولم يحذف الثاني أيضا تسجيلا على أنفسهم باقتراف الذنوب لأن المقام مقام الاعتراف بالخطأ والاستعطاف لما سلف فالمناسب هو التصريح، وأما إثباته في الثاني فلأنه الأصل مع التنبيه على أن الأهم الذي ينبغي أن يصرف إليه الهم ويمحض له الوجه هو استغفار الرب واستجلاب رضاه فإنه سبحانه إذا رضي أرضى، على أن يوسف وأخاه قد ظهرت منهما مخايل العفو وأدركتهما رقة الأخوة، وأما حذف الثاني منه فللإيجاز لكونه معلوما من الأول مع قرب العهد بذكره اه، ولعل التسويف على هذا ليزداد انقطاعهم إلى الله تعالى فيكون ذلك أرجى لحصول المقصود فتأمل فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ
روي أنه عليه السلام جهز
إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه، وفي التوراة أنه عليه السلام أعطى لكل من إخوته خلعة وأعطى بنيامين ثلاثمائة درهم وخمس خلع وبعث لأبيه بعشرة حمير موقرة بالتحف وبعشرة أخرى موقرة براو طعاما.
وجاء في بعض الأخبار أنه عليه السلام خرج هو والملك (١) في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم لاستقباله فتلقوه عليه السلام وهو يمشي يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا أهذا فرعون مصر قال: لا يا أبت ولكن هذا ابنك يوسف قيل له: إنك قادم فتلقاك بما ترى، فلما لقيه ذهب يوسف عليه السلام ليبدأه بالسلام فمنع ذلك ليعلم أن يعقوب أكرم على الله تعالى منه فاعتنقه وقبله وقال: السلام عليك أيها الذاهب بالأحزان عني، وجاء أنه عليه السلام قال لأبيه: يا أبت بكيت علي حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟
قال: بلى ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك.
وفي الكلام إيجاز والتقدير فرحل يعقوب عليه السلام بأهله وساروا حتى أتوا يوسف فلما دخلوا عليه وكان ذلك فيما قيل يوم عاشوراء آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ أي ضمهما إليه واعتنقهما، والمراد بهما أبوه وخالته ليا، وقيل: راحيل وليس بذاك، والخالة تنزل منزلة الأم لشفقتها كما ينزل العم منزلة الأب، ومن ذلك قوله: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة: ١٣٣] وقيل: إنه لما تزوجها بعد أمه صارت رابة ليوسف عليه السلام فنزلت منزلة الأم لكونها مثلها في زوجية الأب وقيامها مقامها والرابة تدعى أما وإن لم تكن خالة، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وقال بعضهم: المراد أبوه وجدته أم أمه حكاه الزهراوي، وقال الحسن وابن إسحاق: إن أمه عليه السلام كانت بالحياة فلا حاجة إلى التأويل لكن المشهور أنها ماتت في نفاس بنيامين، وعن الحسن وابن إسحاق القول بذلك أيضا إلا أنهما قالا: إن الله تعالى أحياها له ليصدق رؤياه، والظاهر أنه لم يثبت ولو ثبت مثله لاشتهر، وفي مصحف عبد الله «آوى إليه أبويه وإخوته» وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ وكأنه عليه السلام ضرب في الملتقى خارج البلد مضربا فنزل فيه فدخلوا عليه فيه فآواهما إليه ثم طلب منهم الدخول في البلدة فهناك دخولان: أحدهما دخول عليه خارج البلدة، والثاني دخول في البلدة، وقيل: إنهم إنما دخلوا عليه عليه السلام في مصر وأراد بقوله: ادْخُلُوا مِصْرَ تمكنوا منها واستقروا فيها إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ أي من القحط وسائر المكاره، والاستثناء على ما في التيسير داخل في الأمن لا في الأمر بالدخول لأنه إنما يدخل في الوعد لا في الأمر. وفي الكشاف أن المشيئة تعلقت بالدخول المكيف بالأمن لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم فكأنه قيل: أسلموا وآمنوا في دخولكم إن شاء الله والتقدير ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين فحذف الجزاء لدلالة الكلام ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال اه، وكأنه أشار بقوله:
فكأنه قيل إلخ إلى أن في التركيب معنى الدعاء وإلى ذلك ذهب العلامة الطيبي، وقال في الكشف: إن فيه إشارة إلى أن الكيفية مقصودة بالأمر كما إذا قلت: ادخل ساجدا كنت آمرا بهما وليس فيه إشارة إلى أن في التركيب معنى الدعاء فليس المعنى على ذلك، والحق مع العلامة كما لا يخفى، وزعم صاحب الفرائد أن التقديم ادخلوا مصر إن شاء الله دخلتم آمنين، فآمنين متعلق بالجزاء المحذوف وحينئذ لا يفتقر إلى التقديم والتأخير وإلى أن يجعل الجزائية معترضة، وتعقب بأنه لا ارتياب أن هذا الاستثناء في أثناء الكلام كالتسمية في الشر وفيه للتيمن والتبرك واستعماله مع الجزاء كالشريعة المنسوخة فحسن موقعه في الكلام أن يكون معترضا فافهم وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عند نزولهم بمصر عَلَى الْعَرْشِ
على السرير كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما تكرم لهما فوق ما فعله بالإخوة وَخَرُّوا لَهُ أي أبواه وإخوته، وقيل: الضمير للإخوة فقط وليس بذاك فإن الرؤيا تقتضي أن يكون الأبوان والإخوة خروا له سُجَّداً أي على الجباه كما هو الظاهر، وهو كما قال أبو البقاء حال مقدرة لأن السجود يكون بعد الخرور وكان ذلك جائزا عندهم وهو جار مجرى التحية والتكرمة كالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها من عادات الناس الفاشية في التعظيم والتوقير، قال قتادة: كان السجود تحية الملوك عندهم وأعطى الله تعالى هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة كرامة منه تعالى عجلها لهم، وقيل: ما كان ذلك إلا إيماء بالرأس، وقيل: كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض، وقيل: المراد به التواضع ويراد بالخرور المرور كما في قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً [الفرقان: ٧٣] فقد قيل: المراد لم يمروا عليها كذلك، وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر في السقوط، وقيل:
ونسب لابن عباس أن المعنى خروا لأجل يوسف سجدا لله شكرا على ما أوزعهم من النعمة، وتعقب بأنه يرده قوله تعالى:
وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ إذ فيها رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: ٤]، ودفع بأن القائل به يجعل اللام للتعليل فيهما، وقيل: اللام فيهما بمعنى إلى كما في صلى للكعبة، قال حسان:
ما كنت أعرف أن الدهر منصرف | عن هاشم ثم منها عن أبي حسن |
أليس أول من صلى لقبلتكم | وأعرف الناس بالأشياء والسنن |
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً مشعر بأنهم صعدوا ثم سجدوا ولو كان السجود ليوسف عليه السلام كان قبل الصعود والجلوس لأنه أدخل في التواضع بخلاف سجود الشكر لله تعالى، ومخالفة ظاهر الترتيب ظاهر المخالفة للظاهر، ودفع ما يرد عليه مما علمت بما علمت، ثم قال: وهو متعين عندي لأنه يبعد من عقل يوسف عليه السلام ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة. وأجيب بأن تأخير الخرور عن الرفع ليس بنص في المقصود لأن الترتيب الذكري لا يجب كونه على وفق الترتيب الوقوعي فلعل تأخيره عنه ليتصل به. ذكر كونه تعبير الرؤياء وما يتصل به، وبأنه يحتمل أن يكون الله تعالى قد أمر يعقوب بذلك لحكمة لا يعلمها إلا هو وكان يوسف عليه السلام عالما بالأمر فلم يسعه إلا السكوت والتسليم، وكأن في قوله: يا أَبَتِ [يوسف: ٤] إلخ إشارة إلى ذلك كأنه يقول: يا أبت لا يليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك إلا أن هذا أمر أمرت به وتكليف كلفت به فإن رؤيا الأنبياء حق كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده صار سببا لوجوب الذبح في اليقظة. ولذا جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السلام لما رأى سجود أبويه وإخوته له هاله ذلك واقشعر جلده منه، ولا يبعد أن يكون ذلك من تمام تشديد الله تعالى على يعقوب عليه السلام كأنه قيل له:
أنت كنت دائم الرغبة في وصاله والحزن على فراقه فإذا وجدته فاسجد له. ويحتمل أيضا أنه عليه السلام إنما فعله مع عظم قدره لتتبعه الاخوة فيه لأن الأنفة ربما حملتهم على الأنفة منه فيجر إلى ثوران الأحقاد القديمة وعدم عفو يوسف عليه السلام. ولا يخفى أن الجواب عن الأول لا يفيد لما علمت أن مبناه موافقة الظاهر. والاحتمالات المذكورة في الجواب عن الثاني قد ذكرها أيضا الإمام وهي كما ترى، وأحسنها احتمال أن الله تعالى قد أمره بذلك لحكمة لا يعلمها إلا هو. ومن الناس من ذهب إلى أن ذلك السجود لم يكن إلا من الاخوة فرارا من نسبته إلى يعقوب عليه السلام لما علمت، وقد رد بما أشرنا إليه أولا من أن الرؤيا تستدعي العموم، وقد أجاب عن ذلك الإمام بأن تعبير الرؤيا صفحة رقم 56
لا يجب أن يكون مطابقا للرؤيا بحسب الصورة والصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس له عليه السلام، ولا شك أن ذهاب يعقوب وأولاده من كنعان إلى مصر لأجله في نهاية التعظيم له فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون التعبير كالأصل حذو القذة بالقذة فلم يوجبه أحد من العقلاء اه، والحق أن السجود بأي معنى كان وقع من الأبوين والاخوة جميعا والقلب يميل إلى أنه كان انحناء كتحية الأعاجم وكثير من الناس اليوم ولا يبعد أن يكون ذلك بالخرور ولا بأس في أن يكون من الأبوين وهما على سرير ملكه ولا يأبى ذلك رؤياه عليه السلام مِنْ قَبْلُ أي من قبل سجودكم هذا أو من قبل هذه الحوادث والظرف متعلق- برؤياي- وجوز تعلقها بتأويل- لأنها أولت بهذا قبل وقوعها، وجوز أبو البقاء كونه متعلقا بمحذوف وقع حالا من رُءْيايَ وصحة وقوع الغايات حالا تقدم الكلام فيها قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا أي صدقا، والرؤيا توصف بذلك ولو مجازا، وأعربه جمع على أنه مفعول ثان لجعل وهي بمعنى صير، وجوز أن يكون حالا أي وضعها صحيحة وأن يكون صفة مصدر محذوف أي جعلا حقا وأن يكون مصدرا من غير لفظ الفعل بل من معناه لأن جعلها في معنى حققها و «حقا» في معنى تحقيق، والجملة على ما قال أبو البقاء حال مقدرة أو مقارنة وَقَدْ أَحْسَنَ بِي الأصل كما في البحر أن يتعدى الإحسان بإلى أو اللام كقوله تعالى: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: ٧] وقد يتعدى بالباء كقوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [البقرة: ٨٣، الأنعام: ١٥١، الإسراء: ٢٣] وكقول كثير عزة:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة | لدينا ولا مقلية إن تقلت |
وأنت الذي حببت شعبا إلى بدا | إلي وأوطاني بلاد سواهما |
(٢) وقيل كثير عزة اه منه.
فالبدو على هذا قصد هذا الموضع يقال: بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا كما يقال: أغاروا إذا أتوا الغور، فالمعنى أتى بكم من قصد بدا فهم حينئذ حضريون (١) كذا قاله الواحدي في البسيط وذكره القشيري وهو خلاف الظاهر جدا مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي أي أفسد وحرش، وأصله من نزغ الرابض الدابة إذا نخسها وحملها على الجري وأسند ذلك إلى الشيطان مجازا لأنه بوسوسته وإلقائه، وفيه تفاد عن تثريبهم أيضا، وذكره تعظيما لأمر الإحسان لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعا. واستدل الجبائي والكعبي والقاضي بالآية على بطلان الجبر وفيه نظر إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أي لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته تعالى ويتسهل دونها كذا قاله غير واحد، وحاصله أن اللطيف هنا بمعنى العالم بخفايا الأمور المدبر لها والمسهل لصعابها، ولنفوذ مشيئته سبحانه فإذا أراد شيئا سهل أسبابه أطلق عليه جل شأنه اللطيف لأن ما يلطف يسهل نفوذه، وإلى هذا يشير كلام الراغب حيث قال: اللطيف ضد الكثيف ويعبر باللطيف عن الحركة الخفيفة وتعاطي الأمور الدقيقة فوصف الله تعالى به لعلمه بدقائق الأمور ورفقه بالعباد، فاللام متعلقة- بلطيف- لأن المراد مدبر لما يشاء على ما قاله غير واحد، وقال بعضهم: إن المعنى لأجل ما يشاء، وهو على الأول متعد باللام وعلى الثاني غير متعد بها وقد تقدم آنفا ما في ذلك إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بوجوه المصالح الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شيء على وجه الحكمة لا غيره.
روي أن يوسف طاف بأبيه عليهما السلام في خزائنه فلما أدخله خزينة القرطاس قال: يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال:
أمرني جبريل قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط مني إليه فسأله قال جبريل عليه السلام: الله تعالى أمرني بذلك لقولك:
وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يوسف: ١٣] قال: فهلا خفتني
وهذا عذر واضح ليوسف عليه السلام في عدم إعلام أبيه بسلامته. وقد صرح غير واحد بأنه عليه السلام أوحي إليه بإخفاء الأمر على أبيه إلى أن يبلغ الكتاب أجله، لكن يبقى السؤال بأن يعقوب عليه السلام كان من أكابر الأنبياء نفسا وأبا وجدا وكان مشهورا في أكناف الأرض ومن كان كذلك ثم وقعت له واقعة هائلة في أعز أولاده عليه لم تبق تلك الواقعة خفية بل لا بد وأن تبلغ في الشهرة إلى حيث يعرفها كل أحد لا سيما وقد انقضت المدة الطويلة فيها وهو في ذلك الحزن الذي تضرب فيه الأمثال ويوسف عليه السلام ليس بمكان بعيد عن مكانه ولا متوطنا زوايا الخفاء ولا خامل الذكر بل كان مرجع العام والخاص وداعيا إلى الله تعالى في السر والعلن وأوقات السرور والمحن فكيف غم أمره ولم يصل إلى أبيه خبره؟.
وأجيب عن ذلك بأنه ليس إلا من باب خرق العادة، واختلفوا في مقدار المدة بين الرؤيا وظهور تأويلها فقيل:
ثماني عشرة سنة، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن الحسن أن المدة ثمانون سنة، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها سبع وتسعون سنة، وعن حذيفة أنها سبعون سنة، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنها خمس وثلاثون سنة، وأخرج جماعة عن سلمان الفارسي أنها أربعون سنة وهو قول الأكثرين، قال ابن شداد: وإلى ذلك ينتهي تأويل الرؤيا والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أي بعضا عظيما منه- فمن- للتبعيض ويبعد القول بزيادتها أو جعلها لبيان الجنس والتعظيم من مقتضيات المقام، وبعضهم قدر عظيما في النظم الجليل على أنه مفعول به كما نقل أبو البقاء وليس بشيء، والظاهر أنه أراد من ذلك البعض ملك مصر ومن الْمُلْكِ ما يعم مصر وغيرها، ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يراد من الملك مصر ومن البعض شيء منها وزعم أنه لا ينافي قوله تعالى: مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ
وفي الحديث من يرد الله تعالى به خيرا ينقله من البادية إلى الحاضرة
اه منه.
يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ [يوسف: ٥٦] لأنه لم يكن مستقلا فيه وإن كان ممكنا فيه وفيه تأمل، وقيل: أراد ملك نفسه من إنفاذ شهوته، وقال عطاء: ملك حساده بالطاعة ونيل الأماني وليس بذاك وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي بعضا من ذلك كذلك، والمراد بتأويل الأحاديث إما تعليم تعبير الرؤيا وهو الظاهر وإما تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء، وعلى التقديرين لم يؤت عليه السلام جميع ذلك، والترتيب على غير الظاهر ظاهر وأما على الظاهر فلعل تقديم إيتاء الملك على ذلك في الذكر لأنه بمقام تعداد النعم الفائضة عليه من الله سبحانه والملك أعرق في كونه نعمة من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضا نعمة جليلة في نفسه فتذكر وتأمل (١). وقرأ عبد الله وابن ذر «آتيتن وعلمتن» بحذف الياء فيهما اكتفاء بالكسرة، وحكى ابن عطية عن الأخير «آتيتني» بغير «قد» فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما وخالقهما، ونصبه على أنه نعت- لرب- أو بدل أو بيان أو منصوب بأعني أو منادى ثان، ووصفه تعالى به بعد وصفه بالربوبية مبالغة في ترتيب مبادئ ما يعقبه من قوله: أَنْتَ وَلِيِّي متولي أموري ومتكفل بها أو موال لي وناصر فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فالوالي إما من الولاية أو الموالاة، وجوز أن يكون بمعنى المولى كالمعطى لفظا ومعنى أي الذي يعطيني نعم الدنيا والآخرة تَوَفَّنِي أقبضني مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي على ما روي عن ابن عباس أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة كما قيل، واعترض بأن يوسف عليه السلام من كبار الأنبياء عليهم السلام والصلاح أول درجات المؤمنين فكيف يليق به أن يطلب اللحاق بمن هو في البداية؟ وأجيب بأنه عليه السلام طلبه هضما لنفسه فسبيله سبيل استغفار الأنبياء عليهم السلام، ولا سؤال ولا جواب إذا أريد من الصالحين آباؤه الكرام يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام، وقال الإمام: هاهنا وهاهنا مقام آخر في الآية على لسان أصحاب المكاشفات وهو أن النفوس المفارقة إذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية فإذا كانت متناسبة متشاكلة انعكس النور الذي في كل واحد منها إلى الأخرى بسبب تلك الملاءمة والمجانسة فعظمت تلك الأنوار وتقوت هاتيك الأضواء، ومثال ذلك المرايا الصقيلة الصافية إذا وصفت وصفا متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحد منها إلى الأخرى فهناك يقوى الضوء ويكمل النور وينتهي في الاشراق والبريق إلى حد لا تطيقه الأبصار الضعيفة فكذلك هاهنا انتهى. وهو كما ترى، والحق أن يقال: إن الصلاح مقول بالتشكيك متفاوت قوة وضعفا والمقام يقتضي أنه عليه السلام أراد بالصالحين المتصفين بالمرتبة المعتنى بها من مراتب الصلاح، وقد قدمنا ما عند أهل المكاشفات في الصلاح فارجع إليه. بقي أن المفسرين اختلفوا في أن هذا هل هو منه عليه السلام تمني للموت وطلب منه أم لا؟ فالكثير منهم على أنه طلب وتمني لذلك، قال الإمام: ولا يبعد من الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لأنه حينئذ يحس بنقصانه مع شغفه بزواله وعلمه بأن الكمال المطلق ليس إلا لله تعالى فيبقى في قلق لا يزيله إلا الموت فيتمناه، وأيضا يرى أن السعادة الدنيوية سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها مع أنه ليس هناك لذة إلا وهي ممزوجة بما ينغصها بل لو حققت لا ترى لذة حقيقية في هذه اللذائذ الجسمانية وإنما حاصلها دفع الآلام، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع، ولذة النكاح عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعيته، وكذا الإمارة والرياسة يدفع بها الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام ونحو ذلك، والكل لذلك خسيس وبالموت التخلص عن الاحتياج إليه، على أن عمدة الملاذ الدنيوية الأكل والجماع والرياسة والكل في نفسه خسيس معيب، فإن الأكل عبارة عن ترطيب الطعام بالبزاق
المجتمع في الفم ولا شك أنه مستقذر في نفسه ثم حينما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة والتعفن ومع ذا يشارك الإنسان فيه الحيوانات الخسيسة فيلتذ الجعل بالروث التذاذ الإنسان باللوزينج، وقد قال العقلاء: من كان همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه، والجماع نهاية ما يقال فيه: إنه إخراج فضلة متولدة من الطعام بمعونة جلدة مدبوغة بالبول ودم الحيض والنفاس مع حركات لو رأيتها من غيرك لأضحكتك، وفيه أيضا تلك المشاركة وغاية ما يرجى من ذلك تحصيل الولد الذي يجر إلى شغل البال والتحيل لجمع المال ونحو ذلك، والرياسة إذا لم يكن فيها سوى أنها على شرف الزوال في كل آن لكثرة من ينازع فيها ويطمح نظره إليها فصاحبها لم يزل خائفا وجلا من ذلك لكفاها عيبا، وقد يقال أيضا: إن النفس خلقت مجبولة على طلب اللذات والعشق الشديد لها والرغبة التامة في الوصول إليها فما دام في هذه الحياة الجسمانية يكون طالبا لها وما دام كذلك فهو في عين الآفات ولجة الحسرات، وهذا اللازم مكروه والملزوم مثله فلهذا يتمنى العاقل زوال هذه الحياة الجسمانية ليستريح من ذلك النصب، ولله تعالى قول من قال:
ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد وقال:
تعب كلها الحياة فما اعجب إلا من راغب في ازدياد
إن حزنا في ساعة الفوت أضعا | ف سرور في ساعة الميلاد |
وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها «من أحب لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءه» الحديث
نعم تمني الموت عند نزول البلاء منهي عنه
ففي الخبر لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به،
وقال قوم: إنه عليه السلام لم يتمن الموت وإنما عدد نعم الله تعالى عليه ثم دعا بأن تدوم تلك النعم في باقي عمره حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام وألحقه بالصالحين.
والحاصل أنه عليه السلام إنما طلب الموافاة على الإسلام لا الوفاة، ولا يرد على القولين أنه من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام لا يموتون إلا مسلمين إما لأن الإسلام هنا بمعنى الاستسلام لكل ما قضاه الله تعالى أو لأن ذلك بيان لأنه وإن لم يتخلف ليس إلا بإرادة الله تعالى ومشيئته (١) والذاهبون إلى الأول قالوا إنه عليه السلام لم يأت عليه أسبوع حتى توفاه الله تعالى وكان الحسن يذهب إلى القول الثاني ويقول: إنه عليه السلام عاش بعد هذا القول سنين كثيرة وروى المؤرخون أن يعقوب عليه السلام أقام مع يوسف أربعا وعشرين سنة ثم توفي وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه فذهب به ودفنه ثمت وعاش بعده ثلاثا وعشرين سنة وقيل: أكثر ثم تاقت نفسه إلى الملك المخلد فتمنى الموت فتوفاه الله تعالى طيبا طاهرا فتخاصم أهل مصر في مدفنه حتى هموا بالقتال فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا شرعا فيه ففعلوا ثم أراد موسى عليه السلام نقله إلى مدفن آبائه فأخرجه بعد أربعمائة سنة على ما قيل: من صندوق المرمر لثقله وجعله في تابوت من خشب ونقله إلى ذلك، وكان عمره مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وسبع سنين، وقد ولد له من امرأة العزيز إفرائيم وهو جد يوشع عليه السلام وميشا ورحمة زوجة أيوب عليه السلام، ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه عليهم السلام إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه السلام فكان ما كان.
وفي التوراة أن يوسف عليه السلام أسكن أباه وإخوته في مكان يقال له عين شمس من أرض السدير وبقي هناك سبع عشرة سنة وكان عمره حين دخل مصر مائة وثلاثين سنة ولما قرب أجله دعا يوسف عليه السلام فجاء ومعه ولداه (١) منشا وهو بكره وافرايم فقدمهما إليه ودعا لهما ووضع يده اليمنى على رأس الأصغر واليسرى على رأس الأكبر وكان يوسف يحب عكس ذلك فكلم أباه فيه فقال: يا بني إني لأعلم أن ما يتناسل من هذا الأصغر أكثر مما يتناسل من هذا الأكبر ودعا ليوسف عليه السلام وبارك عليه وقال: يا بني إني ميت كان الله تعالى معكم وردكم إلى بلد أبيكم يا بني إذا أنا مت فلا تدفنني في مصر وادفني في مقبرة آبائي وقال: نعم يا أبت وحلف له ثم دعا سائر بنيه وأخبرهم بما ينالهم في أيامهم ثم أوصاهم بالدفن عند آبائه في الأرض التي اشتراها إبراهيم عليه السلام من عفرون الختي في أرض الشام وجعلها مقبرة، وبعد أن فرغ من وصيته عليه السلام توفي فانكب يوسف عليه السلام يقبله ويبكي وأقام له حزنا عظيما وحزن عليه أهل مصر كثيرا ثم ذهب به يوسف وإخوته وسائر آله سوى الأطفال ومعهم قواد الملك ومشايخ أهل مصر ودفنوه في المكان الذي أراد ثم رجعوا، وقد توهم إخوة يوسف منه عليه السلام أن يسيء المعاملة معهم بعد موت أبيهم عليه السلام فلما علم ذلك منهم قال لهم: لا تخافوا إني أخاف الله تعالى ثم عزاهم وجبر قلوبهم ثم أقام هو وآل أبيه بمصر وعاش مائة وعشر سنين حتى رأى لافرايم ثلاثة بنين وولد بنو ما خير بن منشا في حجره أيضا، ثم لما أحس بقرب أجله قال لإخوته: إني ميت والله سبحانه سيذكر كم ويردكم إلى البلد الذي أقسم أن يملكه إبراهيم وإسحاق ويعقوب فإذا ذكركم سبحانه وردكم إلى ذلك البلد فاحملوا عظامي معكم ثم توفي عليه السلام فحنطوه وصيروه في تابوت بمصر وبقي إلى زمن موسى عليه السلام فلما خرج حمله حسبما أوصى عليه السلام (٢) ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من أنباء يوسف عليه السلام، وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا، والخطاب للرسول ﷺ وهو مبتدأ وقوله تعالى: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ الذي لا يحوم حوله أحد خبره، وقوله سبحانه: نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبر بعد خبر أو حال من الضمير في الخبر، وجوز أن يكون ذلِكَ اسما موصولا مبتدأ ومِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ صلته ونُوحِيهِ إِلَيْكَ خبره وهو مبني على مذهب مرجوح من جعل سائر أسماء الإشارة موصولات.
وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ يريد إخوة يوسف عليه السلام إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وهو جعلهم إياه في غيابة الجب وَهُمْ يَمْكُرُونَ به ويبغون له الغوائل، والجملة قيل: كالدليل على كون ذلك من أنباء الغيب وموحى إليه عليه الصلاة والسلام، والمعنى أن هذا النبأ غيب لم تعرفه إلا بالوحي لأنك لم تحضر إخوة يوسف عليه السلام حين عزموا على ما هموا به من أن يجعلوه في غيابة الجب وهم يمكرون به، ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحدا سمع ذلك فتعلمته منه، وهذا من المذهب الكلامي على ما نص عليه غير واحد وإنما حذف الشق الأخير مع أن الدال على ما ذكر مجموع الأمرين لعلمه من آية أخرى كقوله تعالى: ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ [هود:
٤٩] وقال بعض المحققين: إن هذا تهكم بمن كذبه وذلك من حيث أنه تعالى جعل المشكوك فيه كونه عليه السلام
(٢) وأخرج ابن ابي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز أنه عليه السلام لم يعرف موضعه ولم يجد أحدا يخبره إلا امرأة يقال لها تارخ بنت شيرين بن يعقوب فاشترطت عليه أن تصير شابة كلما كبرت وأن تكون منه عليه السلام في درجته يوم القيامة ففعل بعد أن امتنع من الطلبة الثانية حتى أمر بإمضائها فدلته فأخرجه فعادت بنت ثلاثين وعمرت الفا وستمائة او اربعمائة سنة حتى أدركت سليمان عليه السلام فتزوجها اه منه.
حاضرا بين يدي أولاد يعقوب عليه السلام ما كرين فنفاه بقوله: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ وإنما الذي يمكن أن يرتاب فيه المرتاب قبل التعرف هو تلقيه من أصحاب هذه القصة، وكان ظاهر الكلام أن ينفي ذلك فلما جعل المشكوك ما لا ريب فيه لأن كونه عليه الصلاة والسلام لم يلق أحدا ولا سمع كان عندهم كفلق الفجر جاء التهكم البالغ وصار حاصل المعنى قد علمتم يا مكابرة أنه لم يكن مشاهدا المن مضى من القرون الخالية وإنماركم لما أخبر به يفضي إلى أن تكابروا بأنه قد شاهد من مضى منهم، وهذا كقوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا [الأنعام: ١٤٤] ومنه يظهر فائدة العدول عن أسلوب ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ إلى هذا الأسلوب وهو أبلغ مما ذكر أولا، وذكر لترك ذلك نكتة أخرى أيضا وهي أن المذكور مكرهم وما دبروه وهو مما أخفوه حتى لا يعلمه غيرهم فلا يمكن تعلمه من الغير ولا يخلو عن حسن، وأيّا ما كان ففي الآية إيذان بأن ما ذكر من النبأ هو الحق المطابق للواقع وما ينقله أهل الكتاب ليس على ما هو عليه: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ الظاهر للعموم، وقال ابن عباس: إنهم أهل مكة وَلَوْ حَرَصْتَ أي على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات القاطعة الدالة على صدقك عليهم بِمُؤْمِنِينَ لتصميمهم على الكفر وإصرارهم على العناد حسبما اقتضاه استعدادهم و «حرص» من باب ضرب وعلم وكلاهما لغة فصيحة، وجواب لَوْ محذوف للعلم به، والجملة معترضة بين المبتدأ والخبر. قال ابن الأنباري: سألت قريش واليهود رسول الله ﷺ عن قصة يوسف عليه السلام فنزلت مشروحة شرحا وافيا فأمل عليه الصلاة والسلام أن يكون ذلك سبب إسلامهم، وقيل: إنهم وعدوه أن يسلموا فلما لم يفعلوا عزاه تعالى بذلك. وقيل: إنها نزلت في المنافقين، وقيل: في النصارى، وقيل: في المشركين فقط، وقيل: في أهل الكتاب فقط وقيل: في الثنوية وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ أي هذا الإنباء أو جنسه أو القرآن، وأيّا ما كان فالضمير عائد على ما يفهم مما قبله (١) والمعنى ما تطلب منهم على تبليغه مِنْ أَجْرٍ أي جعل ما كما يفعله حملة الأخبار إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي ما هو إلا تذكير وعظة من الله تعالى لِلْعالَمِينَ كافة، والجملة كالتعليل لما قبلها (٢) لأن الوعظ العام ينافي أخذ الأجرة من البعض لأنه لا يختص بهم. وقيل: أريد انه ليس إلا عظة من الله سبحانه أمرت أن أبلغها فوجب علي ذلك فكيف أسأل أجرا على أداء الواجب وهو خلاف الظاهر، وعليه تكون الآية دليلا على حرمة أخذ الأجرة على أداء الواجبات. وقرأ مبشر بن عبيد «وما نسألهم» بالنون.
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ أي وكم من آية قال الجلال السيوطي: إن «كأي» اسم ككم التكثيرية الخبرية في المعنى مركب من كاف التشبيه وأي الاستفهامية المنونة وحكيت، ولهذا جاز الوقف عليها بالنون لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية ولذا رسم في المصحف نونا، ومن وقف عليها بحذفه اعتبر حكمة في الأصل، وقيل:
الكاف فيها هي الزائدة قال ابن عصفور: ألا ترى أنك لا تريد بها معنى التشبيه وهي مع ذا لازمة وغير متعلقة بشيء وأي مجرورها، وقيل: هي اسم بسيط واختاره أبو حيان قال: ويدل على ذلك تلاعب العرب بها في اللغات، وإفادتها للاستفهام نادر حتى أنكره الجمهور، ومنه قول أبي لابن مسعود: كأين تقرأ سورة الأحزاب آية؟ فقال: ثلاثا وسبعين، والغالب وقوعها خبرية ويلزمها الصدر فلا تجر خلافا لابن قتيبة. وابن عصفور ولا يحتاج إلى سماع، والقياس على كم يقتضي أن يضاف إليها ولا يحفظ ولا يخبر عنها إلا بجملة فعلية مصدرة بماض أو مضارع كما هنا، قال أبو حيان:
والقياس أن تكون في موضع نصب على المصدر أو الظرف أو خبر كان كما كان ذلك في كم. وفي البسيط أنها
(٢) ومن تأمل ظهر له أن كونه عظة للعالمين عامة فيه ما ينافي أن يسأل الاجر من غير وجه فما ألطف التعليل بذلك فتأمل اه منه.
تكون مبتدأ وخبرا ومفعولا ويقال فيها: كائن بالمد بوزن اسم الفاعل من كان ساكنة النون وبذلك، قرأ ابن كثير «وكأ» بالقصر بوزن «عم» و «كأي» بوزن رمي وبه، قرأ ابن محيصن «وكييء» بتقديم الياء على الهمزة. وذكر صاحب اللوامح أن الحسن قرأ «وكي» بياء مكسورة من غير همز ولا ألف ولا تشديد و «آية» في موضع التمييز ومِنْ زائدة، وجر تمييز كأين بها دائمي أو أكثري، وقيل: هي مبينة للتمييز المقدر، والمراد من الآية الدليل الدال على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته، وهي وإن كانت مفردة لفظا لكنها في معنى الجمع أي آيات لمكان كائن، والمعنى وكأي عدد شئت من الآيات الدالة على صدق ما جئت به غير هذه الآية فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي كائنة فيهما من الاجرام الفلكية وما فيها من النجوم وتغير أحوالها ومن الجبال والبحار وسائر ما في الأرض من العجائب الفائتة للحصر:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
يَمُرُّونَ عَلَيْها يشاهدونها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ غير متفكرين فيها ولا معتبرين بها، وفي هذا من تأكيد تعزيه ﷺ وذم القوم ما فيه، والظاهر أن فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في موضع الصفة- لآية- وجملة يَمُرُّونَ خبر كَأَيِّنْ كما أشرنا إليه سابقا وجوز العكس، وقرأ عكرمة وعمرو بن قائد وَالْأَرْضِ بالرفع على أن في السموات هو الخبر- لكأين- وَالْأَرْضِ مبتدأ خبره الجملة بعده ويكون ضمير عَلَيْها للأرض لا للآيات كما في القراءة المشهورة، وقرأ السدي وَالْأَرْضِ بالنصب على أنه مفعول بفعل محذوف يفسره يَمُرُّونَ وهو من الاشتغال المفسر بما يوافقه في المعنى وضمير عَلَيْها كما هو فيما قبل أي ويطؤون الأرض يمرون عليها، وجوز أن يقدر يطؤون ناصبا للأرض وجملة يَمُرُّونَ حال منها أو من ضمير عاملها.
وقرأ عبد الله «والأرض» بالرفع و «يمشون» بدل يَمُرُّونَ والمعنى على القراءات الثلاث أنهم يجيئون ويذهبون في الأرض ويرون آثار الأمم الهالكة وما فيها من الآيات والعبر ولا يتفكرون في ذلك.
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ في إقرارهم (١) بوجوده تعالى وخالقيته إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ به سبحانه، والجملة في موضع الحال من الأكثر أي ما يؤمن أكثرهم إلا في حال إشراكهم. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة: هم أهل مكة آمنوا وأشركوا كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، ومن هنا
كان ﷺ إذا سمع أحدهم يقول: لبيك لا شريك لك يقول له: قط قط
أي يكفيك ذلك ولا تزد إلا شريكا إلخ. وقيل: هم أولئك آمنوا لما غشيهم الدخان في سني القحط وعادوا إلى الشرك بعد كشفه. وعن ابن زيد وعكرمة وقتادة ومجاهد أيضا أن هؤلاء كفار العرب مطلقا أقروا بالخالق الرازق المميت وأشركوا بعبادة الأوثان والأصنام، وقيل: أشركوا بقولهم: الملائكة بنات الله سبحانه. وعن ابن عباس أيضا أنهم أهل الكتاب أقروا بالله تعالى وأشركوا به من حيث كفروا بنبيه ﷺ أو من حيث عبدوا عزيزا والمسيح عليهما السلام.
وقيل: أشركوا بالتبني واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا. وقيل: هم الكفار الذين يخلصون في الدعاء عند الشدة ويشركون إذا نجوا منها وروي ذلك عن عطاء، وقيل: هم الثنوية قالوا بالنور والظلمة. وقيل: هم المنافقون جهروا بالإيمان وأخفوا الكفر ونسب ذلك للبلخي، وعن الحبر أنهم المشبهة آمنوا مجملا وكفروا مفصلا. وعن الحسن أنهم المراءون بأعمالهم والرياء شرك خفي، وقيل: هم المناظرون إلى الأسباب المعتمدون عليها، وقيل: هم الذين
يطيعون الخلق بمعصية الخالق، وقد يقال نظرا إلى مفهوم الآية: إنهم من يندرج فيهم كل من أقر بالله تعالى وخالقيته مثلا وكان مرتكبا ما يعد شركا كيفما كان، ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها المعتقدون للنفع والضر ممن الله تعالى أعلم بحاله فيها وهم اليوم أكثر من الدود، واحتجت الكرامية بالآية على أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان وفيه نظر أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أي عقوبة تغشاهم وتشملهم، والاستفهام انكار فيه معنى التوبيخ والتهديد كما في البحر، والكلام في العطف ومحل الاستفهام في الحقيقة مشهور وقد مر غير مرة، والمراد بهذه العقوبة ما يعم الدنيوية والأخروية على ما قيل. وفي البحر ما هو صريح في الدنيوية للمقابلة بقوله سبحانه: أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فجأة من غير سابقة علامة وهو الظاهر وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانها غير مستعدين لها قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أي هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي كذا قالوا، والظاهر أنهم أخذوا الدعوة إلى الإيمان من قوله تعالى:
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: ١٠٣] لإفادة أنه يدعوهم إلى الإيمان بجد وحرص وإن لم ينفع فيهم، والدعوة إلى التوحيد من قوله سبحانه: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ لدلالته على أن كونه ذكرا لهم لاشتماله على التوحيد لكنهم لا يرفعون له رأسا كسائر آيات الآفاق والأنفس الدالة على توحده تعالى ذاتا وصفات، وفسر ذلك بقوله تعالى: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ أي أدعو الناس إلى معرفته سبحانه بصفات كماله ونعوت جلاله ومن جملتها التوحيد فالجملة لا محل لها من الإعراب، وقيل: إن الجملة في موضع الحال من الياء والعامل فيها معنى الإشارة. وتعقب بأن الحال في مثله من المضاف إليه مخالفة للقواعد ظاهرا وليس ذلك مثل أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل: ١٢٣] واعترض أيضا بأن فيه تقييد الشيء بنفسه وليس ذاك عَلى بَصِيرَةٍ أي بيان وحجة واضحة غير عمياء، والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير «أدعو» وزعم أبو حيان أن الظاهر تعلقه- بأدعو- وقوله تعالى: أَنَا تأكيد لذلك الضمير أو للضمير الذي في الحال، وقوله تعالى: وَمَنِ اتَّبَعَنِي عطف على ذي الحال، ونسبة أَدْعُوا إليه من باب التغليب كما قرر في قوله تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: ٣٥، الأعراف: ١٩] ومنهم من قدر في مثله فعلا عاملا في المعطوف ولم يعول عليه المحققون، ومنع عطفه على أَنَا لكونه تأكيدا ولا يصح في المعطوف كونه تأكيدا كالمعطوف عليه. واعترض بأن ذلك غير لازم كما يقتضيه كلام المحققين، وجوز كون مَنِ مبتدأ خبره محذوف أي ومن اتبعني كذلك أي داع وأن يكون عَلى بَصِيرَةٍ خبرا مقدما وأَنَا مبتدأ وَمَنِ عطف عليه، وقوله تعالى: وَسُبْحانَ اللَّهِ أي وأنزهه سبحانه وتعالى تنزيها من الشركاء، وهو داخل تحت القول وكذا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ في وقت من الأوقات، والكلام مؤكد لما سبق من الدعوة إلى الله تعالى. وقرأ عبد الله «قل هذا سبيلي» على التذكير والسبيل تؤنث وقد تذكر وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا رد لقولهم: لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون: ٢٤] ونفي له، وقيل: المراد نفي استنباء النساء ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وزعم بعضهم أن الآية نزلت (١) في سجاح بنت المنذر المنبئة التي يقول فيها الشاعر:
أمست نبيتنا أنثى نطوف بها | ولم تزل أنبياء الله ذكرانا |
فلعنة الله والأقوام كلهم | على سجاح ومن بالإفك أغرانا |
أعني مسيلمة الكذاب لاسقيت | اصداؤه ماء مزن أينما كانا |
كما أوحينا إليك. وقرأ أكثر السبعة «يوحي» بالياء وفتح الحاء مبنيا للمفعول، وقراءة النون وهي قراءة حفص وطلحة وأبي عبد الرحمن موافقة لأرسلنا مِنْ أَهْلِ الْقُرى لأن أهلها كما قال ابن زيد وغيره: وهو مما لا شبهة فيه أعلم وأحلم من أهل البادية ولذا يقال: لأهل البادية أهل الجفاء، وذكروا أن التبدي مكروه إلا في الفتن،
وفي الحديث «من بدا جفا»
قال قتادة: ما نعلم أن الله تعالى أرسل رسولا قط إلا من أهل القرى، ونقل عن الحسن أنه قال: لم يبعث رسول من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن، وقوله تعالى: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يوسف: ١٠٠] قد مر الكلام فيه آنفا.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من المكذبين بالرسل والآيات من قوم نوح وقوم لوط وقوم صالح وسائر من عذبه الله تعالى فيحذروا تكذيبك وروي هذا عن الحسن، وجوز أن يكون المراد عاقبة الذين من قبلهم من المشغوفين بالدنيا المتهالكين عليها فيقلعوا ويكفوا عن حبها وكأنه لا حظ المجوز ما سيذكر، والاستفهام على ما في البحر للتقريع والتوبيخ وَلَدارُ الْآخِرَةِ من إضافة الصفة إلى الموصوف عند الكوفية أي ولا الدار الآخرة وقدر البصري موصوفا أي ولدار الحال أو الساعة أو الحياة الآخرة وهو المختار عند الكثير في مثل ذلك خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والمعاصي: أَفَلا تَعْقِلُونَ فتستعملوا عقولكم لتعرفوا خيرية دار الآخرة فتتوسلوا إليها بالاتقاء، قيل: إن هذا من مقول «قل» أي قل لهم مخاطبا أفلا تعقلون فالخطاب على ظاهره، وقوله سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلى مِنْ قَبْلِهِمْ أو اتَّقَوْا اعتراض بين مقول القول، واستظهر بعضهم كون هذا التفاتا. وقرأ جماعة يعقلون بالياء رعيا لقوله سبحانه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ غاية لمحذوف دل عليه السباق والتقدير عند بعضهم لا يغرنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء فإن من قبلهم قد أمهلوا حتى يئس الرسل من النصر عليهم في الدنيا أو من إيمانهم لانهماكهم في الكفر وتماديهم في الطغيان من غير وازع، وقال أبو الفرج بن الجوزي: التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فدعوا قومهم فكذبوهم وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس إلخ، وقال القرطبي: التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ثم لم نعاقب أممهم حتى إذا استيأس إلخ، وقال الزمخشري: التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى النصر حتى إذا إلخ، ولعل الأول أولى وإن كان فيه كثرة حذف، والاستفعال بمعنى المجرد كما أشرنا إليه وقد مر الكلام في ذلك وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بالتخفيف والبناء للمفعول وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه وأبي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد، وطلحة والأعمش، والكوفيين، واختلف في توجيه الآية على ذلك فقيل: الضمائر الثلاثة للرسل والظن بمعنى التوهم لا بمعناه الأصلي ولا بمعناه المجازي أعني اليقين وفاعل كُذِبُوا المقدر إما أنفسهم أو رجاؤهم فإنه يوسف بالصدق والكذب أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون أو كذبهم رجاؤهم النصر، والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله تعالى قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا جاءَهُمْ نَصْرُنا فجأة وقيل: الضمائر كلها للرسل والظن بمعناه وفاعل كُذِبُوا المقدر من أخبرهم عن الله تعالى وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج الطبراني وغيره عن عبد الله بن أبي مليكة قال: إن ابن عباس قرأ قَدْ كُذِبُوا مخففة ثم قال: يقول أخلفوا وكانوا بشرا وتلا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: ٢١٤] قال ابن أبي مليكة: فذهب ابن عباس إلى أنهم يئسوا وضعفوا فظنوا أنهم قد أخلفوا وروى ذلك عنه البخاري في الصحيح، واستشكل هذا بأن فيه ما لا يليق نسبته إلى الأنبياء عليهم السلام بل إلى صالحي الأمة ولذا نقل عن عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك، فقد أخرج البخاري والنسائي وغيرهما من طريق عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن هذه
الآية قال: قلت أكذبوا أم كذبوا؟ فقالت عائشة: بل كذبوا يعني بالتشديد قلت: والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك فقلت: لعله وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا مخففة قالت: معاذ الله تعالى لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاء نصر الله تعالى عند ذلك.
وأجاب بعضهم بأنه يمكن أن يكون أراد رضي الله تعالى عنه بالظن ما يخطر بالبال ويهجس بالقلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وذهب المجد بن تيمية إلى رجوع الضمائر جميعها أيضا إلى الرسل مائلا إلى ما روي عن ابن عباس مدعيا أنه الظاهر وأن الآية على حد قوله تعالى: إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [الحج: ٥٢] فإن الإلقاء في قلبه وفي لسانه وفي علمه من باب واحد والله تعالى ينسخ ما يلقي الشيطان، ثم قال: والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح كما هو في اصطلاح طائفة من أهل العلم ويسمون الاعتقاد المرجوح وهما
فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»
وقال سبحانه: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النجم: ٢٨] فالاعتقاد المرجوح هو ظن وهو وهم، وهذا قد يكون ذنبا يضعف الإيمان ولا يزيله وقد يكون حديث النفس المعفو عنه كما
قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل»
وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان كما ثبت
في الصحيح أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يحرق حتى يصير حمما أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به قال صلى الله عليه وسلم: «أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان» وفي حديث آخر «إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»
ونظير هذا ما
صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام إذ قال له ربه: أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبى»
فسمى النبي ﷺ التفاوت بين الإيمان والاطمئنان شكا بإحياء الموتى، وعلى هذا يقال: الوعد بالنصر في الدنيا لشخص قد يكون الشخص مؤمنا بإنجازه ولكن قد يضطرب قلبه فيه فلا يطمئن فيكون فوات الاطمئنان ظنا أنه كذب، فالشك والظن أنه كذب من باب واحد وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب وإن كان فيها ما هو ذنب، فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث، وفي قص مثل ذلك عبرة للمؤمنين بهم عليهم السلام فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك فلا ييأسوا إذا ابتلوا ويعلمون أنه قد ابتلي من هو خير منهم وكانت العاقبة إلى خير فيتيقن المرتاب ويتوب المذنب ويقوى إيمان المؤمن وبذلك يصح الاتساء بالأنبياء، ومن هنا قال سبحانه: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ولو كان المتبوع معصوما مطلقا لا يتأتى الاتساء فإنه يقول التابع أنا لست من جنسه فإنه لا يذكر بذنب فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتداء لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة بخلاف ما إذا علم أنه قد وقع شيء وجبر بالتوبة فإنه يصح حينئذ أمر المتابعة كما قيل: أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم أبو البشر آدم ومن يشابه به فما ظلم. ولا يلزم الاقتداء بهم فيما نهوا عنه ووقع منهم ثم تابوا عنه لتحقق الأمر بالاقتداء بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه ووقع منهم ولم يتوبوا منه، وما ذكر ليس بدون المنسوخ من أفعالهم وإذا كان ما أمروا به وأبيح لهم ثم نسخ تنقطع فيه المتابعة فما لم يؤمروا به ووقع منهم وتابوا عنه أحرى وأولى بانقطاع المتابعة فيه اه.
ولا يخفى أن ما ذكره مستلزم لجواز وقوع الكبائر من الأنبياء عليهم السلام وحاشاهم من غير أن يقروا على
ذلك والقول به جهل عظيم ولا يقدم عليه ذو قلب سليم، على أن في كلامه بعد ما فيه، وليته اكتفى بجعل الضمائر للرسل وتفسير الظن بالتوهم كما فعل غيره فإنه ما لا بأس به، وكذا لا بأس في حمل كلام ابن عباس على أنه أراد بالظن فيه ما هو على طريق الوسوسة ومثالها من حديث النفس فإن ذلك غير الوسوسة المنزه عنها الأنبياء عليهم السلام أو على أنه أراد بذلك المبالغة في التراخي وطول المدة على طريق الاستعارة التمثيلية بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب باعتبار استلزام كل منهما لعدم ترتب المطلوب فاستعمل ما لأحدهما في الآخر، وقيل: إن الضمائر الثلاثة للمرسل إليهم لأن ذكر الرسل متقاض ذاك، ونظير ذلك قوله:
أمنك البرق أرقبه فهاجا | وبت أخاله دهما خلاجا |
واعترض بأنه يبعده عطف وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا الظاهر في أنهم ظنوا كونهم مكذوبين فيما وعدوا به عليه. صفحة رقم 67
وذكر المجد في هذا المقام تحقيقا غير ما ذكره أولا وهو أن الاستيئاس وظن أنهم مكذوبين كليهما متعلقان بما ضم للموعود به اجتهادا، وذلك أن الخبر عن استيئاسهم مطلق وليس في الآية ما يدل على تقييده بما وعدوا به وأخبروا بكونه وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الله تعالى إذا وعد الرسل بنصر مطلق كما هو غالب اخباراته لم يعين زمانه ولا مكانه ولا صفته، فكثيرا ما يعتقد الناس في الموعود به صفات أخرى لم يدل عليها خطاب الحق تعالى بل اعتقدوها بأسباب أخرى كما اعتقد طائفة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم إخبار النبي ﷺ لهم أنهم يدخلون المسجد الحرام ويطوفون به أن ذلك يكون عام الحديبية، لأن النبي ﷺ خرج معتمرا ورجا أن يدخل مكة ذلك العام ويطوف ويسعى فلما استيئسوا من ذلك ذلك العام لما صدهم المشركون حتى قاضاهم عليه الصلاة والسلام على الصلح المشهور بقي في قلب بعضهم شيء حتى قال عمر رضي الله تعالى عنه مع أنه كان من المحدثين: ألم تخبرنا يا رسول الله أنا ندخل البيت ونطوف؟ قال: بلى أفأخبرتك إنك تدخله هذا العام؟ قال: لا. قال: إنك داخله ومطوف به، وكذلك قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه فبين له أن الوعد منه عليه الصلاة والسلام كان مطلقا غير مقيد بوقت، وكونه ﷺ سعى في ذلك العام إلى مكة وقصدها لا يوجب تخصيصا لوعده تعالى بالدخول في تلك السنة، ولعله عليه الصلاة والسلام إنما سعى بناء على ظن أن يكون الأمر كذلك فلم يكن، ولا محذور في ذلك فليس من شرط النبي ﷺ أن يكون كل ما قصده، بل من تمام نعمة الله تعالى عليه أن يأخذ به عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده إن كان كما كان في عام الحديبية، ولا يضر أيضا خروج الأمر على خلاف ما يظنه عليه الصلاة والسلام،
فقد روى مسلم في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال في تأبير النخل: «إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله تعالى شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله تعالى»
ومن ذلك
قوله ﷺ في حديث ذي اليدين: «ما قصرت الصلاة ولا نسيت ثم تبين النسيان»
وفي قصة الوليد بن عقبة النازل فيها إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: ٦] الآية وقصة بني أبيرق النازل فيها إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النساء: ١٠٥] ما فيه كفاية في العلم بأنه ﷺ قد يظن الشيء فيبينه الله تعالى على وجه آخر، وإذا كان رسول الله ﷺ وهو- هو- هكذا فما ظنك بغيره من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، ومما يزيد هذا قوة أن جمهور المحدثين والفقهاء على أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام الاجتهاد في الأحكام الشرعية ويجوز عليهم الخطأ في ذلك لكن لا يقرون عليه فإنه لا شك أن هذا دون الخطأ في ظن ما ليس من الأحكام الشرعية في شيء، وإذا تحقق ذلك فلا يبعد أن يقال: إن أولئك الرسل عليهم السلام أخبروا بعذاب قومهم ولم يعين لهم وقت له فاجتهدوا وعينوا لذلك وقتا حسبما ظهر لهم كما عين أصحاب رسول الله ﷺ عام الحديبية لدخول مكة فلما طالت المدة استيأسوا وظنوا كذب أنفسهم وغلط اجتهادهم وليس في ذلك ظن بكذب وعده تعالى ولا مستلزما له أصلا فلا محذور. وأنت تعلم أن الأوفق بتعظيم الرسل عليهم السلام والأبعد عن الحوم حول حمى ما لا يليق بهم القول بنسبة الظن إلى غيرهم ﷺ والله تعالى أعلم، والظاهر أن ضمير جاءَهُمْ على سائر القراءات والوجوه للرسل، وقيل: إنه راجع إليهم وإلى المؤمنين جاء الرسل ومن آمن بهم نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ انجاءه وهم الرسل والمؤمنون بهم، وإنما لم يعينوا للإشارة إلى أنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم ولا يشاركهم فيه غيرهم.
وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب «فنجّي» بنون واحدة وجيم مشددة وياء مفتوحة على أنه ماض مبني للمفعول ومَنْ نائب الفاعل. وقرأ مجاهد والحسن والجحدري وطلحة وابن هرمز كذلك إلا أنهم سكنوا الياء، وخرجت على أن الفعل ماض أيضا كما في القراءة التي قبلها إلا أنه سكنت الياء على لغة من يستثقل الحركة على الياء مطلقا، ومنه
قراءة من قرأ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة: ٨٩] بسكون الياء، وقيل: الأصل ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم.
ورده أبو حيان بأنها لا تدغم فيها، وتعقب بأن بعضهم قد ذهب إلى جواز ادغامها ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع، وقرأت فرقة كما قرأ باقي السبعة بنونين مضارع أنجى إلا أنهم فتحوا الياء، ورواها هبيرة عن حفص عن عاصم، وزعم ابن عطية أن ذلك غلط من هبيرة إذ لا وجه للفتح، وفيه أن الوجه ظاهر، فقد ذكروا أن الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوبا بإضمار أن بعد الفاء كقراءة من قرأ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ [البقرة: ٢٨٤] بنصب يغفر، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة أو غير جازمة.
وقرأ نصر بن عاصم وأبو حيوة وابن السميفع وعيسى البصرة وابن محيصن وكذا الحسن ومجاهد في رواية «فنجا» ماضيا مخففا و «من» فاعله. وروي عن ابن محيصن أنه قرأ كذلك إلا أنه شدد الجيم، والفاعل حينئذ ضمير النصر و «من» مفعوله. وقد رجحت قراءة عاصم ومن معه بأن المصاحف اتفقت على رسمها بنون واحدة. وقال مكي:
أكثر المصاحف عليه فأشعر بوقوع خلاف في الرسم، وحكاية الاتفاق نقلت عن الجعبري وابن الجزري وغيرهما، وعن الجعبري أن قراءة من قرأ بنونين توافق الرسم تقديرا لأن النون الثانية ساكنة مخفاة عند الجيم كما هي مخفاة عند الصاد والظاء في لننصر ولننظر والإخفاء لكونه سترا يشبه الإدغام لكونه تغييبا فكما يحذف عند الإدغام يحذف عند الإخفاء بل هو عنده أولى لمكان الاتصال. وعن أبي حيوة أنه قرأ «فنجّي من يشاء» بياء الغيبة أي من يشاء الله تعالى نجاته وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عذابنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إذا نزل بهم، وفيه بيان لمن تعلق بهم المشيئة لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين. وقرأ الحسن «بأسه» بضمير الغائب أي بأس الله تعالى، ولا يخفى ما في الجملة من التهديد والوعيد لمعاصري النبي ﷺ لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أي قصص الأنبياء عليهم السلام وأممهم، وقيل:
قصص يوسف وأبيه وإخوته عليهم السلام وروي ذلك عن مجاهد وقيل: قصص أولئك وهؤلاء، والقصص مصدر بمعنى المفعول ورجح الزمخشري الأول بقراءة أحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي. وعبد الوارث عن أبي عمرو «قصصهم» بكسر القاف جمع قصة. ورد بأن قصة يوسف وأبيه وإخوته مشتملة على قصص وأخبار مختلفة على أنه قد يطلق الجمع على الواحد، وفيه أنه كما قيل إلا أنه خلاف المتبادر المعتاد فإنه يقال في مثله قصة لا قصص، واقتصر ابن عطية على القول الثالث وهو ظاهر في اختياره عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ أي لذوي العقول المبرأة عن الأوهام الناشئة عن الألف والحس. وأصل اللب الخالص من الشيء ثم أطلق على ما زكا من العقل فكل لب عقل وليس كل عقل لبا، وقال غير واحد: إن اللب هو العقل مطلقا وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من قواه، ولم يرد في القرآن إلا جمعا، والعبرة- كما قال الراغب- الحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد، وفي البحر أنها الدلالة التي يعبر بها إلى العلم ما كانَ أي القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة. واستظهر أبو حيان عود الضمير إلى القصص فيما قبل، واختار بعضهم الأول لأنه يجري على القراءتين بخلاف عوده إلى المتقدم فإنه لا يجري على قراءة القصص بكسر القاف لأنه كان يلزم تأنيث الضمير، وجوز بعضهم عوده إلى القصص بالفتح في القراءة به وإليه في ضمن المكسور في القراءة به وكذا إلى المكسور نفسه، والتذكير باعتبار الخبر وهو كما ترى حَدِيثاً يُفْتَرى أي يختلق وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السماوية وَتَفْصِيلَ أي تبيين كُلِّ شَيْءٍ قيل: أي مما يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر ديني إلا وهو يستند إلى القرآن بالذات أو بوسط، وقال ابن الكمال: إن كُلِّ للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم كما في قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: ٢٣] ومن لم يتنبه لهذا احتاج إلى تخصيص الشيء بالذي يتعلق بالدين ثم تكلف في بيانه فقال: إذ ما من أمر إلخ ولم يدر
أن عبارة التفصيل لا تتحمل هذا التأويل، ورد بأنه متى أمكن حمل كلمة كُلِّ على الاستغراق الحقيقي لا يحمل على غيره، والتخصيص مما لا بأس به على أنه نفسه قد ارتكب ذلك في تفسير قوله تعالى: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: ١٥٤، الأعراف: ١٤٥] وكون عبارة التفصيل لا تتحمل ذلك التأويل في حيز المنع. ومن الناس من حمل «كل» على الاستغراق من غير تخصيص ذاهبا إلى أن في القرآن تبيين كل شيء من أمور الدين والدنيا وغير ذلك مما شاء الله تعالى ولكن مراتب التبيين متفاوتة حسب تفاوت ذوي العلم وليس ذلك بالبعيد عند من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وقيل: المراد تفصيل كل شيء واقع ليوسف وأبيه وإخوته عليهم السلام مما يهتم به وهو مبني على أن الضمير في كانَ لقصصهم وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةً ينال بها خير الدارين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدقون تصديقا معتدا به، وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك ونصب تَصْدِيقَ على أنه خبر كان محذوفا أي ولكن كان تصديق، والاخبار بالمصدر لا يخفى أمره.
وقرأ حمران بن أعين، وعيسى الكوفة فيما ذكر صاحب اللوامح وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية «تصديق» بالرفع وكذا برفع ما عطف عليه على تقدير ولكن هو تصديق إلخ، وقد سمع من العرب في مثل ذلك الرفع والنصب، ومنه قول ذي الرمة:
وما كان مالي من تراث ورثته | ولا دية كانت ولا كسب مأثم |
ولكن عطاء الله من كل رحلة | إلى كل محجوب السرداق خضرم |
ومن باب الإشارة في هذه السورة: قال سبحانه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ وهو اقتصاص ما جرى ليوسف عليه السلام وأبيه وإخوته عليهم السلام، وإنما كان ذلك أحسن القصص لتضمنه ذكر العاشق والمعشوق وذلك مما ترتاح له النفوس أو لما فيه من بيان حقائق محبة المحبين وصفاء سر العارفين والتنبيه على حسن عواقب الصادقين والحث على سلوك سبيل المتوكلين والاقتداء بزهد الزاهدين والدلالة على الانقطاع إلى الله تعالى والاعتماد عليه عند نزول الشدائد، والكشف عن أحوال الخائنين وقبح طرائق الكاذبين، وابتلاء الخواص بأنواع المحن وتبديلها بأنواع الألطاف والمنن مع ذكر ما يدل على سياسة الملوك وحالهم مع رعيتهم إلى غير ذلك، وقيل: لخلو ذلك من الأوامر والنواهي التي يشغل سماعها القلب إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ هذه أول مبادئ الكشوف فقد ذكروا أن أحوال المكاشفين أوائلها المنامات فإذا قوي الحال تصير الرؤيا كشفا، قيل: إنه عليه السلام قد سلك به نحوا مما سلك برسول الله ﷺ وذلك أنه بدأ بالرؤيا الصادقة كما بدأ رسول الله ﷺ بها فكان لا يرى رؤيا إلا كانت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء على ما يشير إليه قوله: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ كما حبب ذلك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد، وفيه أن حديث السجن بعد إيتاء النبوة فتدبر.
وذكر بعض الكبار أن يوسف عليه السلام كان آدم الثاني لما كان عليه من كسوة الربوبية ما كان على آدم عليه السلام وهو مجلي الحق للخلق لو يعلمون فلما رأت الملائكة ما رأت من آدم سجدوا له وهاهنا سجد ليوسف من سجد وهم الشمس والقمر والكواكب المعدودة المشار بهم إلى أبويه وإخوته الذين هم على القول بنبوتهم خير من الملائكة عليهم السلام، ولا بدع إذ سجدوا لمن يتلألأ من وجهه الأنوار القدسية والأشعة السبوحية:
لو يسمعون كما سمعت حديثها | خروا لعزة ركعا وسجودا |
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم | وكذا دماء البائحين تباح |
وقال ابن عطاء: من الآيات أن لا يسمع هذه القصة محزون مؤمن بها إلا استروح وتسرى عنه ما فيه، وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ قيل: إن ذلك كان بكاء فرح بظفرهم بمقصودهم لكنهم أظهروا أنه بكاء حزن على فقد يوسف عليه السلام، وقيل: لم يكن بكاء حقيقة وإنما هو تباك من غير عبرة وجاؤوا عشاء ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار أو ليدلسوا على أبيهم ويوهموه أن ذلك بكاء حقيقة لا تباك فإنهم لو جاؤوا ضحى لافتضحوا:
إذا اشتبكت دموع في خدود | تبين من بكى ممن تباكى |
عبرات خططن في الخد سطرا | فقراه من لم يكن قط يقرا |
صابر الصبر فاستغاث به الصب | ر فصاح المحب بالصبر صبرا |
بأدنى شهوة بعد أن بعتها من ربك بأوفر الثمن قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية فبيع ما تقدم بيعه باطل. وإنما باع يوسف أعداؤه وأنت تبيع نفسك من أعدائك وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ قيل: أي لا تنظري إليه نظر الشهوة فإن وجهه مرآة تجلي الحق في العالم، أو لا تنظري إليه بنظر العبودية ولكن انظري إليه بنظر المعرفة لترى فيه أنوار الربوبية أو اجعلي محبته في قلبك لا في نفسك فإن القلب موضع المعرفة والطاعة والنفس موضع الفتنة والشهوة عَسى أَنْ يَنْفَعَنا قيل: أي بأن يعرفنا منازل الصديقين ومراتب الروحانيين ويبلغنا ببركة صحبته إلى مشاهدة رب العالمين، وقيل: أراد حسنى صحبته في الدنيا لعله أن يشفع لنا في العقبى وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها حيث غلب عليها العشق وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ قطعت الأسباب وجمعت الهمة إليه أو غلقت أبواب الدار غيرة أن يرى أحد أسرارهما وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ قال ابن عطاء: هم شهوة وَهَمَّ بِها هم زجر عما همت به بضرب أو نحوه لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ وهو الواعظ الإلهي في قلبه كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والخواطر الرديئة وَالْفَحْشاءَ الأفعال القبيحة، وقيل: البرهان هو أنه لم يشاهد في ذلك الوقت إلا الحق سبحانه وتعالى، وقيل: هو مشاهدة أبيه يعقوب عليه السلام عاضا على سبابته، وجعل ذلك بعض أجلة مشايخنا أحد الأدلة على أن للرابطة المشهورة عند ساداتنا النقشبندية أصلا أصيلا وهو على فرض صحته بمراحل عن ذلك وَاسْتَبَقَا الْبابَ فرارا من محل الخطر: قيل: لو فر إلى الله تعالى لكفاه ولما ناله بعد ما عناه وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً نفت عن نفسها الذنب لأنها علمت إذ ذاك أنها لو بينت الحق لقتلت وحرمت من حلاوة محبة يوسف والنظر إلى وجهه.
لحبك أحببت البقاء لمهجتي | فلا طال إن أعرضت عني بقائيا |
له في طرفه لحظات سحر | يميت بها ويحيي من يريد |
ويسبي العالمين بمقلتيه | كأن العالمين له عبيد |
وتعذيبكم عذب لدي وجوركم | علي بما يقضي الهوى لكم عدل |
دهشن في يوسف وتحيرن حتى قطعن أيديهن ولم يشعرن بالألم وهذه غلبة مشاهدة مخلوق لمخلوق فكيف بمن يحظى بمشاهدة من الحق فينبغي أن لا ينكر عليه إن تغير وصدر عنه ما صدر، وأعظم من يوسف عليه السلام في هذا الباب عند ذوي الأبصار السليمة النور المحمدي المنقدح من النور الإلهي والمتشعشع في مشكاة خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام فإنه لعمري أبو الأنوار، وما نور يوسف بالنسبة إلى نوره عليه الصلاة والسلام إلا النجم وشمس النهار.
لواحى زليخا لو رأين جبينه | لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي |
قال محمد بن علي رضي الله تعالى عنهما: أردن ما هذا بأهل أن يدعى إلى المباشرة
بل مثله من يكرم وينزه عن مواضع الشبه والأول أوفق بقولها: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أرادت أن لو مكن لم يقع في محزه وكيف يلام من هذا محبوبه، وكأنها أشارت إلى أنها مجبورة في ذلك الوله معذورة في مزيد حبها له:
خليلي إني قلت بالعدل مرة | ومنذ علاني الحب مذهبي الجبر |
وكنت إذا ما حدث الناس بالهوى | ضحكت وهم يبكون في حسرات |
فصرت إذا ما قيل هذا متيم | تلقيتهم بالنوح والعبرات |
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى | فإذا عشقت فبعد ذلك عنف |
النفس ظلمة كلها وسراجها التوفيق فمن لم يصحبه التوفيق كان في ظلمة، وقد تخفى دسائس النفس إلى حيث تأمر بخير وتضمر فيه شرا ولا يفطن لدسائسها إلا لوذعي:
فخالف النفس والشيطان واعصهما | وإن هما محضاك النصح فاتهم |
لوامة وراضية ومرضية ومطمئنة وغير ذلك وجعلوا لها في كل مرتبة ذكرا مخصوصا وأطنبوا في ذلك فليرجع إليه قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ قيل: خزائن الأرض رجالها أي اجعلني عليهم أمينا فإني حفيظ لما يظهرونه، عليم بما يضمرونه، وقيل: أراد الظاهر إلا أنه أشار إلى أنه متمكن من التصرف مع عدم الغفلة أي حفيظ للأنفاس بالذكر وللخواطر بالفكر، عليم بسواكن الغيوب وخفايا الأسرار وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ قال بعضهم: لما جفوه صار جفاؤهم حجابا بينهم وبين معرفتهم إياه وكذلك المعاصي تكون حجابا على وجه معرفة الله تعالى قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ كأنه عليه السلام أمر بذلك ليكمل لأبيه عليه السلام مقام الحزن الذي هو كما قال الشيخ الأكبر قدس سره: من أعلى المقامات، وقال بعضهم: إن علاقة المحبة كانت بين يوسف ويعقوب عليهما السلام من الجانبين فتعلق أحدهما بالآخر كتعلق الآخر به كما يرى ذلك في بعض العشاق مع من يعشقونه وأنشدوا:
لم يكن المجنون في حالة... إلا وقد كنت كما كانا
لكنه باح بسر الهوى... وإنني قد ذبت كتمانا
فغار عليه السلام أن ينظر أبوه إلى أخيه نظره إليه فيكونا شركين في ذلك والمحب غيور فطلب أن يأتوه به لذلك، والحق أن الأمر كان عن وحي لحكمة غير هذه وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ إشارة إلى العلم اللدني وهو على نوعين. ظاهر الغيب وهو علم دقائق المعاملات والمقامات والحالات والكرامات والفراسات، وباطن الغيب وهو علم بطون الأفعال ويسمى حكمة المعرفة، وعلم الصفات ويسمى المعرفة الخاصة، وعلم الذات ويسمى التوحيد والتفريد والتجريد، وعلم أسرار القدم ويسمى علم الفناء والبقاء، وفي الأولين للروح مجال وفي الثالث للسر والرابع لسر السر، وفي المقام تفصيل وبسط يطلب من محله. وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ كأنه عليه السلام إنما فعل ذلك ليعرفه الحال بالتدريج حتى يتحمل أثقال السرور إذ المفاجأة في مثل ذلك ربما تكون سبب الهلاك، ومن هنا كان كشف سجف الجمال للسالكين على سبيل التدريج فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ قيل: إن الله تعالى أمره بذلك ليكون شريكا لإخوته في الإيذاء بحسب الظاهر فلا يخجلوا بين يديه إذا كشف الأمر، وحيث طلب قلب بنيامين برؤية يوسف احتمل الملامة، وكيف لا يحتمل ذلك وبلاء العالم محمول بلمحة رؤية المعشوق، والعاشق الصادق يؤثر الملامة ممن كانت في هوى محبوبه.
أجد الملامة في هواك لذيذة... حبا لذكرك فليلمني اللوم
وفي الآية- على ما قيل- إشارة لطيفة إلى أن من اصطفاه الله تعالى في الأزل لمحبته ومشاهدته وضع في رحله صاع ملامة الثقلين، ألا ترى إلى ما فعل بآدم عليه السلام صفيه كيف اصطفاه ثم عرض عليه الأمانة التي لم يحملها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها فحملها ثم هيج شهوته إلى حبة حنطة ثم نادى عليه بلسان الأزل وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: ١٢١] وذلك لغاية حبه له حتى صرفه عن الكون وما فيه ومن فيه إليه ولولا أن كشف جماله له لم يتحمل بلاء الملامة، وهذا كما فعل يوسف عليه السلام بأخيه آواه إليه وكشف جماله له وخاطبه بما خاطبه ثم جعل السقاية في رحله ثم نادى عليه بالسرقة ليبقيه معه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أي نرفع درجاتهم في العلم فلا يزال السالكون يترقون في العلم وتشرب أطيار أرواحهم القدسية من بحار علومه تعالى على مقادير حواصلها، وتنتهي الدرجات بعلم الله تعالى فإن علوم الخالق محدودة وعلمه تعالى غير محدود وإلى الله تعالى تصير الأمور قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ قال بعض السادات: لما كان بنيامين بريئا مما
رمي به من السرقة أنطقهم الله تعالى حتى رموا يوسف عليه السلام بالسرقة وهو بريء منها فكان ذلك من قبيل واحدة بواحدة ليعلم العالمون أن الجزاء واجب.
وقال بعض العارفين: إنهم صدقوا بنسبة السرقة إلى يوسف عليه السلام ولكنها سرقة الباب العاشقين وأفئدة المحبين بما أودع فيه من محاسن الأزل قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ الإشارة في ذلك من الحق عز وجل أن لا نفشي أسرارنا وندني إلى حضرتنا إلا من كان في قلبه استعداد قبول معرفتنا أو لا نختار لكشف جمالنا إلا من كان في قلبه شوق إلى وصالنا، وقال بعض الخراسانيين: الإشارة فيه أنا لا نأخذ من عبادنا أشد أخذ إلا من ادعى فينا أو أخبر عنا ما لم يكن له الاخبار عنه والادعاء فيه، وقال بعضهم: إلا من مد يده إلى ما لنا وادعاه لنفسه، وقال أبو عثمان: الإشارة أنا لا نتخذ من عبادنا وليا إلا من ائتمناه على ودائعنا فحفظها ولم يخن فيها، ولطيفة الواقعة أنه عليه السلام لم يرض أن يأخذ بدل حبيبه إذ ليس للحبيب بديل في شرع المحبة.
أبى القلب إلا حب ليلى فبغضت... إلي نساء ما لهن ذنوب
إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ قال بعضهم: إنهم صدقوا بذلك لكنه سرق أسرار يوسف عليه السلام حين سمع منه في الخلوة ما سمع ولم يبده لهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ كأنه عليه السلام لما رأى اشتداد البلاء قوي رجاؤه بالفرج فقال ما قال:
اشتدى أزمة تنفرجي... قد آذن ليلك بالبلج
وكان لسان حاله يقول:
دنا وصال الحبيب واقتربا... وا طربا للوصال وا طرابا
وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ قال بعض العارفين: إن تأسفه على رؤية جمال الله تعالى من مرآة وجه يوسف عليه السلام وقد تمتع بذلك برهة من الزمان حتى حالت بينه وبينه طوارق الحدثان فتأسف عليه السلام لذلك واشتاقت نفسه لما هنالك:
سقى الله أياما لنا ولياليا... مضت فجرت من ذكرهن دموع
فيا هل لها يوما من الدهر أوبة... وهل لي إلى أرض الحبيب رجوع
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ حيث بكى حتى أضر بعينيه وكان ذلك حتى لا يرى غير حبيبه.
لما تيقنت أني لست أبصركم... غمضت عيني فلم أنظر إلى أحد
قال بعض العارفين: الحكمة في ذهاب بصر يعقوب وبقاء بصر آدم وداود عليهما السلام مع أنهما بكيا دهرا طويلا أن بكاء يعقوب كان بكاء حزن معجون بألم الفراق حيث فقد تجلي جمال الحق من مرآة وجه يوسف ولا كذلك بكاء آدم وداود فإنه كان بكاء الندم والتوبة وأين ذلك المقام من مقام العشق. وقال أبو سعيد القرشي: إنما لم يذهب بصرهما لأن بكاءهما كان من خوف الله تعالى فحفظا وبكاء يعقوب كان لفقد لذة فعوتب، وقيل: يمكن أن يكون ذهاب بصره عليه السلام من غيرة الله تعالى عليه حين بكى لغيره وإن كان واسطة بينه وبينه، ولهذا جاء أن الله تعالى أوحى إليه يا يعقوب أتتأسف على غيري وعزتي لآخذن عينيك ولا أردهما عليك حتى تنساه، واختار بعض العارفين أن ذلك الأسف والبكاء ليسا إلا لفوات ما انكشف له عليه السلام من تجلي الله تعالى في مرآة وجه يوسف عليه السلام، ولعمري إنه لو كان شاهد تجليه تعالى في أول التعنيات وعين أعيان الموجودات ﷺ لنسي ما رأى ولما عراه ما عرا ولله تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول:
لو أسمعوا يعقوب بعض ملاحة... في وجهه نسي الجمال اليوسفي
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ هذا من الجهل بأحوال العشق وما عليه العاشقون فإن العاشق يتغذى بذكر معشوقه:
فإن تمنعوا ليلى وحسن حديثها... فلن تمنعوا مني البكا والقوافيا
وإذا لم يستطع ذكره بلسانه كان مستغرقا بذكره إياه بجنانه:
غاب وفي قلبي له شاهد... يولع إضماري بذكراه
مثلت الفكرة لي شخصه... حتى كأني أتراءاه
وكيف يخوف العاشق بالهلاك في عشق محبوبه وهلاكه عين حياته كما قيل:
ولكن لدى الموت فيه صبابة... حياة لمن أهوى علي بها الفضل
ومن لم يمت في حبه لم يعش به... ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
أي أنا لا أشكو إلى غيره فإني أعلم غيرته سبحانه وتعالى على أحبابه وأنتم لا تعلمون ذلك، وأيضا من انقطع إليه تعالى كفاه ومن أناخ ببابه أعطاه، وأنشد ذو النون:
إذا ارتحل الكرام إليك يوما... ليلتمسوك حالا بعد حال
فإن رحالنا حطت رضاء... بحكمك عن حلول وارتحال
فسسنا كيف شئت ولا تكلنا... إلى تدبيرنا يا ذا المعالي
وعلى هذا درج العاشقون إذا اشتد بهم الحال فزعوا إلى الملك المتعال، ومن ذلك:
إلى الله أشكو ما لقيت من الهجر... ومن كثرة البلوى ومن ألم الصبر
ومن حرق بين الجوانح والحشا... كجمر الغضا لا بل أحر من الجمر
وقد يقال: إنه عليه السلام إنما رفع قصة شكواه إلى عالم سره ونجواه استرواحا مما يجده بتلك المناجاة كما قيل:
إذا ما تمنى الناس روحا وراحة... تمنيت أن أشكو إليه فيسمع
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ كأنه عليه السلام تنسم نسائم الفرج بعد أن رفع الأمر إلى مولاه عز وجل فقال ذلك: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ من رحمته بإرجاعهما إلي أو من رحمته تعالى بتوفيق يوسف عليه السلام برفع خجالتكم إذا وجدتموه قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ أرادوا ضر المجاعة ولو أنهم علموا وأنصفوا لقصدوا ضر فراقك فإنه قد أضر بأبيهم وبهم وبأهلهم لو يعلمون:
كفى حزنا بالواله الصب أن يرى... منازل من يهوى معطلة قفرا
واعلم أن فيما قاله إخوة يوسف له عليه السلام من هنا إلى الْمُتَصَدِّقِينَ تعليم آداب الدعاء والرجوع إلى الأكابر ومخاطبة السادات فمن لم يرجع إلى باب سيده بالذلة والافتقار وتذليل النفس وتصغير ما يبدو منها ويرى أن ما من سيده إليه على طريق الصدقة والفضل لا على طريق الاستحقاق كان مبعدا مطرودا، وينبغي لعشاق جمال القدم إذا دخلوا الحضرة أن يقولوا: يا أيها العزيز مسنا وأهلنا من ضر فراقك والبعد عن ساحة وصالك ما لا يحتمله الصم الصلاب.
خليلي ما ألقاه في الحب إن يدم | على صخرة صماء ينفلق الصخر |
إذا صفت المودة بين قوم | ودام ولاؤهم سمج الثناء |
قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي جواب لهم لكن زيادة وَهذا أَخِي قيل: لتهوين حال بديهة الخجل، وقيل: للإشارة إلى أن إخوتهم لا تعد اخوة لأن الاخوة الصحيحة ما لم يكن فيها جفاء، ثم إنه عليه السلام لما رأى اعترافهم واعتذارهم قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وهذا من شرائط الكرم فالكريم إذا قدر عفا:
والعذر عند كرام الناس مقبول وقال شاه الكرماني: من نظر إلى الخلق بعين الحق لم يعبأ بمخالفتهم ومن نظر إليهم بعينه أفنى أيامه بمخاصمتهم، ألا ترى يوسف عليه السلام لما علم مجاري القضاء كيف عذر اخوته اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً لما علم عليه السلام أن أباه عليه السلام لا يحتمل الوصال الكلي بالبديهة جعل وصاله بالتدريج فأرسل إليه بقميصه، ولما كان مبدأ الهم الذي أصابه من القميص الذي جاؤوا عليه بدم كذب عين هذا القميص مبدأ للسرور دون غيره من آثاره عليه السلام ليدخل عليه السرور من الجهة التي دخل عليه الهم منها وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ كان كرم يوسف عليه السلام يقتضي أن يسير بنفسه إلى أبيه ولعله إنما لم يفعل لعلمه أن ذلك يشق على أبيه لكثرة من يسير معه ولا يمكن أن يسير إليه بدون ذلك أو لأن في ذلك تعطل أمر العامة وليس هناك من يقوم به غيره، ويحتمل أن يكون أوحى إليه بذلك لحكمة أخرى، وقيل: إن المعشوقية اقتضت ذلك، ومن رأى معشوقا رحيما بعاشقه؟، وفيه ما لا يخفى وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ يقال: إن ريح الصبا سألت الله تعالى فقالت: يا رب خصني أن أبشر يعقوب عليه السلام بابنه فأذن لها بذلك فحملت نشره إلى مشامه عليه السلام وكان ساجدا فرفع رأسه وقال ذلك وكان لسان حاله يقول:
أيا جبلي نعمان بالله خليا | نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها |
أجد بردها أو تشف مني حرارة | على كبد لم يبق إلا صميمها |
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت | على نفس مهموم تجلت همومها |
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحات الرحمن»
ويقال: المؤمن المتحقق يجد نسيم الإيمان في قلبه وروح المعرفة السابقة له من الله تعالى في سره، وإنما وجد عليه السلام هذا الريح حيث بلغ الكتاب أجله ودنت أيام الوصال وحان تصرم أيام الهجر والبلبال وإلا فلم لم يجده عليه السلام لما كان يوسف في الجب ليس بينه وبينه إلا سويعة من نهار وما ذلك إلا لأن الأمور مرهونة بأوقاتها، وعلى هذا كشوفات الأولياء فإنهم آونة يكشف لهم على ما قيل اللوح المحفوظ، وأخرى لا يعرفون ما تحت أقدامهم فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً فيه إشارة إلى صفحة رقم 77
أن العاشق الهائم المنتظر لقاء الحق سبحانه إذا ذهبت عيناه من طول البكاء يجيء إليه بشير تجليه فيلقي عليه قميص أنسه في حضرات قدسه فيرتد بصيرا بشم ذلك فهنالك يرى الحق بالحق وينجلي الغين عن العين، ويقال: إنه عليه السلام إنما ارتد بصيرا حين وضع القميص على وجهه لأنه وجد لذة نفحة الحق تعالى منه حيث كان يوسف عليه السلام محل تجليه جل جلاله وكان القميص معبقا بريح جنان قدسه فعاد لذلك نور بصره عليه السلام إلى مجاريه فأبصر قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وعدهم إلى أن يتعرف منهم صدق التوبة أو حتى يستأذن ربه تعالى في الاستغفار لهم فيأذن سبحانه لئلا يكون مردودا فيه كما رد نوح عليه السلام في ولده بقوله تعالى:
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ وقال بعضهم: وعدهم الاستغفار لأنه لم يفرغ بعد من استبشاره إلى استغفاره، وقيل: إنما أسرع يوسف بالاستغفار لهم ووعد يعقوب عليهما السلام لأن يعقوب كان أشد حبا لهم فعاتبهم بالتأخير ويوسف لم يرهم أهلا للعتاب فتجاوز عنهم من أول وهلة أو اكتفى بما أصابهم من الخجل وكان خجلهم منه أقوى من خجلهم من أبيهم، وفي المثل كفى للمقصر حياء يوم اللقاء فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ لأنهما ذاقا طعم مرارة الفراق فخصهما من بينهم بمزيد الدنو يوم التلاق، ومن هنا يتبين أين منازل العاشقين يوم الوصال وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً حيث بان لهم أنواع جلال الله تعالى في مرآة وجهه عليه السلام وعاينوا ما عاينت الملائكة عليهم السلام من آدم عليه السلام حين وقعوا له ساجدين، وما هو إذ ذاك إلا كعبة الله تعالى التي فيها آيات بينات مقام إبراهيم رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً مفوضا إليك شأني كله بحيث لا يكون لي رجوع إلى نفسي ولا إلى سبب من الأسباب بحال من الأحوال وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بمن أصلحتهم لحضرتك وأسقطت عنهم سمات الخلق وأزلت عنهم رعونات الطبع، ولا يخفى ما في تقديمه عليه السلام الثناء على الدعاء من الأدب وهو الذي يقتضيه المقام وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال غير واحد من الصوفية: من التفت إلى غير الله تعالى فهو مشرك، وقال قائلهم:
ولو خطرت لي في سواك إرادة | على خاطري سهوا حكمت بردتي |
وقد أول بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يوسف بالقلب المستعد الذي هو في غاية الحسن، ويعقوب بالعقل والاخوة بني العلات بالحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة والقوة الشهوانية، وبنيامين بالقوة العاقلة العملية، وراحيل أم يوسف بالنفس اللوامة، وليا بالنفس الأمارة، والجب بقعر الطبيعة البدنية، والقميص الذي ألبسه يوسف في صفحة رقم 78
الجب بصفة الاستعداد الأصلي والنور الفطري، والذئب بالقوة الغضبية، والدم الكذب بأثرها، وابيضاض عين يعقوب بكلال البصيرة وفقدان نور العقل، وشراؤه من عزيز مصر بثمن بخس بتسليم الطبيعة له إلى عزيز الروح الذي في مصر مدينة القدس بما يحصل للقوة الفكرية من المعاني الفائضة عليها من الروح، وامرأة العزيز بالنفس اللوامة، وقد القميص من دبر بخرقها لباس الصفة النورية التي هي من قبل الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة، ووجدان السيد بالباب بظهور نور الروح عند إقبال القلب إليه بواسطة تذكر البرهان العقلي وورود الوارد القدسي عليه، والشاهد بالفكر الذي هو ابن عم امرأة العزيز أو بالطبيعة الجسمانية الذي هو ابن خالتها، والصاحبين بقوة المحبة الروحية وبهوى النفس، والخمر بخمر العشق، والخبز باللذات، والطير بطير القوى الجسمانية، والملك بالعقل الفعال، والبقرات بمراتب النفس، والسقاية بقوة الإدراك، والمؤذن بالوهم إلى غير ذلك، وطبق القصة على ما ذكر وتكلف له أشد تكلف وما أغناه عن ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.
صفحة رقم 79