آيات من القرآن الكريم

قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ
ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ

قالوا نظن خيرا، أخ كريم وابن كريم، فقال: وأنا أقول كما قال أخى يوسف (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)، فخرجوا كأنما نشروا من القبور». أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس والبيهقي عن أبى هريرة.
روى أن يوسف عليه السلام لما عرف نفسه إخوته سألهم عن أبيهم فقالوا ذهب بصره فعند ذلك أعطاهم قميصه وقال:
(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) الذي على بدني أو بيدي.
(فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) أي ألقوه على وجهه حين وصولكم إليه دون تأخير يصر بصيرا، وقد علم هذا إما بوحي من الله، وإما لأنه علم أن أباه ما أصابه ما أصابه إلا من كثرة البكاء وضيق النفس فإذا ألقى عليه قميصه شرح صدره وسر أعظم السرور، وقوى بصره وزالت منه هذه الغشاوة التي رانت عليه، والقوانين الطبية تؤيد هذا كما سيأتى بعد.
(وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) من الرجال والنساء والذراري وغيرهم، وقد روى أن أهله كانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٨]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
تفسير المفردات
يقال فصل عن البلد: إذ انفصل وجاوز حيطانه، وتفندون: أي تنسبونى إلى

صفحة رقم 36

الفند وهو فساد الرأى وضعف العقل والخرف من الكبر، فى ضلالك: أي فى خطئك أو فى إفراطك فى حبه والإصرار على اللهج به، وارتد: أي رجع.
الإيضاح
(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي ولما انفصلت عير بنى يعقوب عن حدود مصر قافلة إلى أرض الشام، قال أبو هم لمن حضره من حفدته ومن غيرهم: إنى لأشمّ رائحة يوسف كما عرفتها فى صغره، لولا أن تنسبونى إلى ضعف الرأى وفساد العقل وخرف الكبر، لصدقتمونى فى أنى أجد رائحته حقيقة، وأنه حى قد قرب موعد لقائه وبالتمتع برؤيته.
وروى عن ابن عباس أنه لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف، قال «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» فوجد ريحه من ثمانية أيام، وفى رواية من ثمانين فرسخا، والمراد من مسافات بعيدة جدا.
(قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي قال حاضرو مجلسه: تالله إنك لفى خطئك الذي طال أمده باعتقادك أن يوسف حى يرحى لقاؤه وقد قرب.
ولا غرو فللخلىّ أن يقول فى الشجىّ ما شاء، فأذنه عن العذل صماء:

سلوتى عنكم احتمال بعيد وافتضاحى بكم ضلال قديم
كل من يدّعى المحبة فيكم ثم يخشى الملام فهو مليم
قال قتادة فى تفسيرها: «تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ» أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلوه اه، قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغى لهم أن يقولوها له.
(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) أي فلما جاء البشير وهو ابنه يهوذا الذي يحمل القميص من يوسف- وهو الذي حمل إليه قميصه الملطّخ بالدم الكذب ليمحو السيئة بالحسنة- ألقاه على وجه يعقوب فعاد من فوره بصيرا كما كان، بل قد قيل إنه عادت إليه سائر قواه، وليس ذلك بعجيب ولا منكر، فكثيرا ما شفى

صفحة رقم 37

السرور من الأمراض وجدد قوى الأبدان والأرواح، والتجارب وقوانين الطب شاهد صدق على صحة ذلك. قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا: لا تتحسن أعراض مرض (الجولكوما) أو شدة توتر العين أو تقف شدته إلا بالعلاج، ومنه العمليات الجراحية ولكن شفاء سيدنا يعقوب بوضع القميص على وجهه هو معجزة من المعجزات الخارجة عن قدرة الإنسان، وليس المهم هو القميص أو وضعه على وجهه، فقد كان ذلك لتسهيل وقع المعجزة على الحاضرين فحسب، ولكن المهم هو طريقة الشفاء وهى إرادة الله المنحصرة فى (كن فيكون) وهى خارجة عن كل السنن الطبيعية التي أمر الإنسان أن يتعلمها، فعظمة المعجزة ليست فى النتيجة فحسب ولكن فى طريق الشفاء- وما أعظم إعجاز القرآن الذي وصف حالة مرضية خاصة وبين سببها، ولم يكن يعلم العالم شيئا عن هذا المرض فى ذلك الوقت ولا بعده بزمن طويل اه.
وقد أجاب يعقوب من لاموه بما كان عليه من علم قطعى من ربه بصدق ما يقول:
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) أي قال لهم ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح الله: إنى أعلم بوحي الله لا من خطرات الأوهام ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام- وقد ذكرهم الآن إذ عاد بصيرا بما كان قد قاله لهم حين ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم.

صفحة رقم 38

نبذة فى تعليل شم يعقوب رائحة يوسف
أثبت العلم حديثا أن الريح تحمل الغبار وما فيه من قارة إلى أخرى، فتحمله من إفريقية مثلا إلى أوروبا وهى مسافة أبعد مما بين مصر وأرض كنعان من بلاد الشام وهى بلا شك تحمل رائحة ماله منها رائحة، ولكن الغريب شم البشر لها من المسافات البعيدة، والإنسان إذا قيس بغيره من الوحوش والحشرات كان أضعف منها شما، فالكلب ذو حاسة قوية فى الشم حتى ليدرّبه الآن رجال الشرطة ويستخدمونه فى حوادث الإجرام من قتل وسرقة لإثبات التهمة على المجرمين، فيأتون بالكلب المعلّم فيشمّ المجرم ويخرجه من بين أشخاص كثيرين، ويرى ذلك رجال القانون دليلا قويا على إثبات الجريمة على من يرشد إليه، بل دليلا قاطعا فى بعض الدول.
والروائح منها القوى والضعيف، ومن أضعفها رائحة جسم الإنسان وعرقه وما يصيب ثوبه منها، ولكن ما نحن فيه من خوارق العادات ومن خواصّ عالم الغيب لا من السنن العادية والحوادث التي تتكرر من البشر.
وقد دلت الآية على أن يعقوب عليه السلام أخبر أنه وجد رائحة يوسف لما فصلت العير من أرض مصر، فعلينا أن نؤمن به لأنه معصوم من الكذب، وقد تبين صدقه بعد وليس بالواجب علينا أن نعرف كنهه أو نصل إلى معرفة سببه، ولكن إذا نحن قلنا إنه لشدة تفكره فى أمر ولده وتذكره لرائحته حين كان يضمّه ويشمّه- شعر بتلك الرائحة قد عادت له سيرتها الأولى- لم يكن ذلك مجانبا للصواب ولا معارضا للعقل ولا ناقضا لما يثبته العلم، أو قلنا بأنا نتقبل هذا بدون تعليل ولا تصوير لكيفية ذلك- لم نبعد، عن العقل ولا عن العلم، إذ لا خلاف بين العلماء فى أن ما يجهله الباحثون أضعاف ما يعرفونه.
وعلى الجملة فعلينا التسليم بما أخبر به دون حاجة للبحث فى كنهه أو صفته مادام ذلك داخلا فى حيز الإمكان.

صفحة رقم 39

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) أي قال أولاده وكانوا قد وصلوا إثر البشير: يا أبانا اسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا التي اجترحناها من عقوقك وإيذاء أخوينا، إنا كنا متعمدين لهذه الخطيئة، عاصين لله، ظانين أن نكون بعدها قوما صالحين.
الآن اعترفوا بذنوبهم كما اعترفوا ليوسف من قبل، لكن يوسف بادر إلى الاستغفار لهم وهم لم يطلبوه منه، وعليك أن تسمع جواب أبيهم الآتي:
(قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وعدهم بالاستغفار لهم فى مستأنف الزمان، وعلل هذا بأن ربه واسع المغفرة والرحمة، لا ينقطع رجاء المؤمن فيها وإن ظلم وأساء.
والفارق بين جواب يعقوب وجواب يوسف من وجوه كثيرة اقتضتها الحكمة:
(١) إن حال أبيهم معهم حال المربّى المرشد للمذنب، لا حال المنتقم الذي يخشى أذاه وليس من حسن التربية ولا من طرق التهذيب أن يريهم أن ذنبهم هيّن لديه حتى يعجّل بإجابة مطلبهم بالاستغفار لهم.
(٢) إن ذنبهم لم يكن موجها إليه مباشرة، بل موجه إلى يوسف وأخيه، ثم إليه بالتبع واللزوم، إلى أنه ليس من العدل أن يستغفر لهم إلا بعد أن يعلم حالهم مع يوسف وأخيه، ولم يكن يعقوب قد علم بعفو يوسف عنهم واستغفاره لهم.
(٣) إن هذا ذنب كبير وإثم عظيم طال عليه الأمد، وحدثت منه أضرار نفسية وخلقية وأعمال كان لها خطرها، فلا يمّحى إلا بتوبة نصوح تجتث الجذور التي علقت بالأنفس، والأرجاس التي باضت وأفرخت فيها.
فلا يحسن بعدئذ من المربى الحكيم أن يسارع إلى الاستغفار لمقترفها عقب طلبه حتى كأنها من هينات الأمور التي تغفر ببادرة من الندم، ومن ثم تلبّث فى الاستغفار لهم إلى أجل، ليعلمهم عظيم جرمهم، ويعلمهم بأنه سوف يتوجه إلى ربه ويطلب لهم الغفران منه بفضله ورحمته.

صفحة رقم 40
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية