
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٥ الى ٨٧]
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧)قوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ قال ابن الأنباري: معناه: والله، وجواب هذا القسم «لا» المضمرة التي تأويلها: تالله لا تفتأ، فلما كان موضعها معلوماً خفف الكلام بسقوطها من ظاهره، كما تقول العرب: والله أقصدك أبداً، يعنون: لا أقصدك، قال امرؤ القيس:
فقلتُ يمينُ اللهِ أبرحُ قَاعِدَاً | وَلَوْ قطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالي |
فَأَقْسَمْتُ آسَى عَلَى هالك | أو اسأل نائحة ما لها |
لَمْ يَشْعُرِ النَّعْشُ مَا عَلَيْهِ مِن ال | عُرْفِ وَلاَ الحاملون ما حملوا |
تاللهِ أَنْسَى مُصِيْبتي أَبَدَاً | مَا أَسْمَعَتْني حَنِيْنَها الإِبِلُ |
وأما قوله: «تفتأ» فقال المفسرون وأهل اللغة: معنى «تفتأ» تزال، فمعنى الكلام: لا تزال تذكر يوسف، وأنشد أبو عبيدة:
فَمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وتدَّعي | ويَلْحَقُ منها لاَحِقٌ وتقطّع «١» |
فَمَا فَتِئَتْ مِنَّا رِعَالٌ كَأنَّها | رِعَالٌ القَطَا حَتَّى احْتَوَيْنَ بني صَخْرِ |
إِني امرؤٌ لجَّ بي حُبٌّ فَأَحْرَضَنِي | حَتى بَلِيتُ وحَتَى شفَّني السَّقَم «٢» |
والثاني: أنه الذاهب العقل، قاله الضحاك عن ابن عباس. وقال ابن إِسحاق: الفاسد العقل. قال الزجاج: وقد يكون الحرض: الفاسد في أخلاقه. والثالث: أنه الفاسد في جسمه وعقله، يقال: رجل حارض وحرض، فحارض يثنَّي ويُجمع ويُؤنث، وحرض لا يُجمع ولا يثنَّى، لأنه مصدر، قاله الفراء.
والرابع: أنه الهرم، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد.
قوله تعالى: أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ يعنون: الموتى. فان قيل: كيف حلفوا على شيء يجوز
(٢) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «حرض»، ونسبه إلى عبد الله بن عمر بن عبد الله العرجيّ.

أن يتغير؟ فالجواب: أن في الكلام إِضماراً، تقديره: إِن هذا في تقديرنا وظننا.
قوله تعالى: نَّما أَشْكُوا بَثِّي
قال ابن قتيبة: البثُّ: أشد الحزن، سمي بذلك، لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه.
قوله تعالى: لَى اللَّهِ
المعنى: إِني لا أشكو إِليكم، وذلك لما عنَّفوه بما تقدم ذِكره.
(٨١٩) وروى الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «كان ليعقوب أخ مؤاخٍ، فقال له ذات يوم: يا يعقوب، ما الذي أذهب بصرك؟ وما الذي قوَّس ظهرك؟ قال: أمَّا الذي أذهب بصري، فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوَّس ظهري، فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل، فقال: يا يعقوب إِن الله يقرئك السلام ويقول لك: أما تستحي أن تشكو إِلى غيري؟ فقال: إِنما أشكو بثّي وحزني إِلى الله، فقال جبريل: الله أعلم بما تشكو، ثم قال يعقوب: أي رب، أما ترحم الشيخ الكبير؟ أذهبتَ بصري، وقوَّستَ ظهري، فاردد عليَّ ريحاني أشمه شمَّة قبل الموت، ثم اصنع بي يا رب ما شئت، فأتاه جبريل، فقال: يا يعقوب، إِن الله يقرأ عليك السّلام ويقول: أبشر، فو عزّتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك، اصنع طعاماً للمساكين، فإن أحب عبادي إِليّ المساكين، وتدري لم أذهبتُ بصرك، وقوّست ظهرك، وصنع إِخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؟ لأنكم ذبحتم شاة، فأتاكم فلان المساكين وهو صائم، فلم تطعموه منها. فكان يعقوب، بعد ذلك إِذا أراد الغداء أمر منادياً فنادى: ألا مَن أراد الغداء من المساكين فليتغدَّ مع يعقوب، وإِذا كان صائماً أمر منادياً فنادى: من كان صائماً فليُفطر مع يعقوب. وقال وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إِلى يعقوب: أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟ قال: لا، قال: لأنك شويت عناقاً وقتَّرت على جارك وأكلت ولم تطعمه». وذكر بعضهم أن السبب في ذلك أن يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها، وهي تخور، فلم يرحمها.
فإن قيل: كيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكاً؟ فقد ذكر المفسرون عنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه يجوز أن يكون ذلك عن أمر الله تعالى، وهو الأظهر. والثاني: لئلّا يظنّ الملك بتعجيل