آيات من القرآن الكريم

قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ
ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ

٩- شاء الله أن يجري على ألسنة أولاد يعقوب حكم بني إسرائيل في استرقاق السارق، مع أنه كان حكم الملك الضرب والتغريم ضعفي المسروق.
١٠- لله في خلقه شؤون، يعزّ قوما ويذلّ آخرين، ويرفع من يشاء درجات بالعلم والإيمان. قال ابن عباس: يكون ذا أعلم من ذا، وذا أعلم من ذا، والله فوق كل عالم. وقال أيضا: الله العليم، وهو فوق كل عالم. والآية تدل على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات.
الفصل الرابع عشر من قصة يوسف نقاش حادّ بين أولاد يعقوب وبين يوسف وبين أبيهم حول السرقة المزعومة
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٧ الى ٨٧]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١)
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦)
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧)

صفحة رقم 37

الإعراب:
أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً بدل من أسرّها. مَعاذَ اللَّهِ منصوب على المصدر، حذف فعله وأضيف إلى المفعول.
اسْتَيْأَسُوا استفعلوا من يئس ييأس نَجِيًّا حال من خَلَصُوا ونَجِيًّا لفظه لفظ المفرد، والمراد به الجمع، كعدو وصديق، فإنهما يوصف بهما الجمع على لفظ المفرد.
ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَمَّا إما مصدرية في موضع نصب بالعطف على قوله تعالى:
أَباكُمْ وتقديره: ألم تعلموا أن أباكم وتفريطكم، وإما أن تكون زائدة، أي ومن قبل فرطتم، مثل فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ أي فبرحمته.
يا أَسَفى في موضع نصب لأنه منادى مضاف، وأصله: يا آسفي، فأبدل من الكسرة فتحة، فانقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار: يا أَسَفى. وعَلى يُوسُفَ في موضع نصب لأنه من صلة المصدر.

صفحة رقم 38

البلاغة:
فَأَسَرَّها.. وَلَمْ يُبْدِها بينهما طباق. شَيْخاً كَبِيراً فيه إطناب للاستعطاف.
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ مجاز مرسل علاقته المحلية أي أهل القرية. يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ بينهما جناس الاشتقاق. تَاللَّهِ تَفْتَؤُا إيجاز بالحذف، أي والله لا تفتأ.
وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ استعار الروح وهو تنسيم الريح الطيبة النسيم، للفرج بعد الكرب، واليسر بعد الشدة.
المفردات اللغوية:
إِنْ يَسْرِقْ بنيامين. فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ قيل: ورثت عمته من أبيها منطقة إبراهيم عليه السلام، وكانت تحضن يوسف وتحبه، فلما شبّ أراد يعقوب انتزاعه منها، فشدت المنطقة على وسطه، ثم أظهرت ضياعها، فتفحص عنها، فوجدها محزومة عليه، فصارت أحق به في حكمهم. وقيل: كان لأبي أمه صنم من ذهب، فسرقه، وكسره، وألقاه في الجيف، لئلا يعبده.
فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لم يظهرها لهم، والضمير يعود للكلمة أو الجملة التي في قوله:
قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي فأسرّ الجملة أو الكلمة التي هي قوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً.
لَ
في نفسه. أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي شر منزلة من يوسف وأخيه، لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ أي والله عالم أنه لم يصح لي ولا لأخي سرقة، وليس الأمر كما تذكرون من أمره، أو وهو يعلم أن الأمر ليس كما تصفون.
إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً في السن أو القدر، يحبه أكثر منا، ويتسلى به عن ولده الهالك، ويحزنه فراقه، وهذا استعطاف له عليه. فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ استعبده بدلا منه، فإن أباه مستأنس به. مِنَ الْمُحْسِنِينَ في أفعالك إلينا، فأتمم إحسانك، أو من المتعوّدين الإحسان، فلا تغير عادتك. مَعاذَ اللَّهِ أي نعوذ بالله ونلجأ إليه. أَنْ نَأْخُذَ من أن نأخذ، ولم يقل:
من سرق، تحرزا من الكذب. إِنَّا إِذاً إن أخذنا غيره مكانه لَظالِمُونَ في مذهبكم، لو أخذنا غيره مكانه، كنا من الظلمة.
اسْتَيْأَسُوا يئسوا يأسا كثيرا من يوسف وإجابته إياهم، وزيادة السين والتاء للمبالغة.
خَلَصُوا انفردوا واعتزلوا الناس. نَجِيًّا متناجين متشاورين سرا، يناجي بعضهم بعضا، وإنما وحده لأنه مصدر أو بزنة المصدر، كما قيل: هم صديق، وجمعه أنجية كنديّ وأندية.
قالَ كَبِيرُهُمْ سنا: روبيل أو يهوذا، أو كبيرهم في الرأي وهو شمعون. مَوْثِقاً عهدا. مِنَ اللَّهِ في أخيكم، وإنما جعل حلفهم بالله موثقا منه، لأنه بإذن منه وتأكيد من

صفحة رقم 39

جهته. وَمِنْ قَبْلُ هذا. ما فَرَّطْتُمْ قصرتم في شأنه، وفَلَمَّا زائدة أو مصدرية في موضع نصب بالعطف على مفعول: تعلموا، ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف، أو معطوف على اسم أن، وخبره: فِي يُوسُفَ. ويصح كونه مبتدأ وخبره: من قال قال البيضاوي: وفيه نظر: لأن قبل إذا كان خبرا، أو صلة، لا يقطع عن الإضافة، حتى لا ينقص. ويصح أن تكون موصولة، أي ما فرطتموه بمعنى: ما قدمتموه في حقه من الخيانة.
فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ لن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي بالعودة أو الرجوع إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي أو يقضي الله لي بخلاص أخي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ أعدلهم لأن حكمه لا يكون إلا بالحق.
وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وما شهدنا عليه إلا بما تيقنا من مشاهدة الصاع في رحله واستخراجه من وعائه وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ لما غاب عنا وهو باطن الحال، حين إعطاء الموثق حافِظِينَ أي فلا ندري أنه سرق، أو ما كنا للعواقب عالمين، فلم ندر حين أعطيناك الموثق أنه سيسرق.
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ.. واسأل أهل مصر وَالْعِيرَ أصحاب الإبل الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وهم قوم من كنعان وَإِنَّا لَصادِقُونَ في قولنا، فرجعوا إليه، وقالوا له ذلك سَوَّلَتْ زينت أَمْراً ففعلتموه، اتهمهم لما سبق منهم من أمر يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي صبري صبر جميل أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ يوسف وأخويه الْعَلِيمُ بحالي الْحَكِيمُ في صنعه.
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أعرض عنهم تاركا خطابهم يا أَسَفى يا حزني وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ انمحق سوادهما وتبدل بياضا من بكائه مِنَ الْحُزْنِ عليه كَظِيمٌ مملوء غيظا، مغموم مكروب لا يظهر كربه تَاللَّهِ تَفْتَؤُا لا تفتأ أي لا تزال تذكره تفجعا عليه حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مريضا مشرفا على الهلاك، لطول مرضك، وهو مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث الْهالِكِينَ الموتى.
لَ
يعقوب لهم ثِّي
هو عظيم الحزن الذي لا يصبر عليه حتى يبث إلى الناس من.
البث: وهو النشر حُزْنِي إِلَى اللَّهِ
لا إلى غيره، فهو الذي تنفع الشكوى إليه، فخلوني وشكايتي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
من أن رؤيا يوسف صدق وهو حي، وأعلم من الله أي من صنعه ورحمته فإنه لا يخيب داعيه فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ اطلبوا خبرهما وَلا تَيْأَسُوا تقنطوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ رحمته وفرجه.
المناسبة:
هزت السرقة أعماق نفوس أولاد يعقوب، فثار النقاش الحاد والحوار الشديد

صفحة رقم 40

بين أولاد يعقوب أنفسهم، وبينهم وبين يوسف، وبينهم وبين أبيهم، لعودتهم إليه دون ولدين آخرين: وهما أكبر أولاده «روبيل أو يهوذا» وأصغر أولاده وهو بنيامين. ولم يجد أبناء يعقوب سبيلا للدفاع إلا الحجة الساذجة السطحية وهو تأكيد حادثة السرقة من أخيهم كما سرق أخوه يوسف من قبل، وقالوا:
هذه الواقعة عجيبة أن «راحيل» ولدت ولدت ولدين لصين، ثم قالوا: يا بني راحيل، ما أكثر البلاء علينا منكم، فقال بنيامين: ما أكثر البلاء علينا منكم، ذهبتم بأخي وضيعتموه في المفازة، ثم تقولون لي هذا الكلام، قالوا له: فكيف خرج الصواع من رحلك؟ فقال: وضعه في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم «١».
التفسير والبيان
قال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من وعاء بنيامين، بعد أن نفوا السرقة نفيا باتا، والتزموا على أنفسهم استعباد من وجد في رحله: إن يسرق بنيامين، فقد سرق أخوه يوسف من قبل، فهما من أصل واحد، ومرادهم التنصل إلى العزيز من التشبه بالأخوين، وتأنيب أخيهم على ما فعل.
وهذا يعني أن الطبائع والعادات والأخلاق تورث، وأن الحقد والكراهية والحسد عندهم ما يزال موجودا لديهم.
ونسبة السرقة إلى يوسف في أصح الروايات ما روى ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا قال: سرق يوسف عليه السلام صنما لجده أبي أمه من ذهب وفضة، فكسره وألقاه في الطريق، فعيره بذلك إخوته. وقال سعيد بن جبير عن قتادة: كان يوسف عليه السلام قد سرق صنما لجده أبي أمه، فكسره.
وروى محمد بن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان أول

(١) تفسير الرازي: ١٨/ ١٨٣

صفحة رقم 41

ما دخل على يوسف من البلاء- فيما بلغني- أن عمته ابنة إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت عندها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر، وكان من اختبأها ممن وليها، كان له سلما لا ينازع فيه، يصنع فيه ما يشاء، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد حضنته عمته، وكان لها به وله، فلم تحب أحدا حبها إياه، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات، تاقت إليه نفس يعقوب عليه السلام، فأتاها، فقال: يا أخية، سلّمي إليّ يوسف، فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، قالت: فو الله، ما أنا بتاركته، ثم قالت: فدعه عندي أياما، أنظر إليه، وأسكن عنه، لعل ذلك يسليني عنه.
فلما خرج من عندها يعقوب، عمدت إلى منطقة إسحاق، فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: فقدت منطقة إسحاق عليه السلام، فانظروا من أخذها ومن أصابها؟ فالتمست ثم قالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوهم، فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله، إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب، فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذلك، إن كان فعل ذلك، فهو سلم لك، ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت، قال:
فهو الذي يقول إخوة يوسف، حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ.
فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ أي فأخفى في نفسه مقالتهم هذه، أو أخفى الجملة أو الكلمة التي بعدها وهي قوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً...
وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ أي لم يظهر ما في نفسه من مؤاخذتهم بمقالتهم، بل صفح عنهم.
قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي وقال لهم في نفسه دون إعلان لهم: أنتم شر مكانا ومنزلة ممن تتهمونه بالسرقة، إذا أنكم سرقتم من أبيكم أخاكم، وطرحتموه في البئر، بقصد الهلاك والتخلص منه.

صفحة رقم 42

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ أي والله عالم بما تذكرون وما تصفونه به.
وهذا من قبيل الإضمار قبل الذكر، وهو كثير في اللغة والقرآن والحديث.
ثم استعطفوه واستشفعوا لديه لعله يأخذ أحدهم مكانه، فالفداء أو العفو أيضا جائز في شرعهم: قالُوا: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أي قالوا: يا أيها العزيز، إن له أبا شيخا هرما متعلقا به، فهو يحبه حبا شديدا، ويتسلى به عن ولده الذي فقده، أو هو كبير القدر والمقام جدير بالرعاية والمجاملة والعناية.
فخذ أحدا منا بدله، يكون عندك عوضا عنه، إنا نراك من المحسنين لنا في ميرتنا وضيافتنا، أو من العادلين المنصفين، القابلين للخير، أو من عادتك الإحسان مطلقا، فأحسن إلينا.
فأجابهم: قالَ: مَعاذَ اللَّهِ.. أي نعوذ بالله معاذا أو نستعيذ بالله أن نأخذ غير من وجدنا الصواع عنده، كما قلتم واعترفتم، ولم يقل: إلا من سرق، تحاشيا للكذب، إنا إذا أخذنا غيره كان ذلك ظلما في مذهبكم، فهو أخذ بريء بمتهم، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم. والمقصود الحقيقي من هذا الكلام بيان أن الله أمرني وأوحى إلي بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة في ذلك، فلو أخذت غير من أمرني بأخذه، كنت ظالما وعاملا على خلاف الوحي. وهو رد قوي لهم، متضمن الاستعاذة من رأيهم، لأنه ظلم. ثم جاء دور حوارهم مع بعضهم.
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا.. أي فلما يئس إخوة يوسف من إطلاق سراح أخيهم بنيامين الذي التزموا لأبيهم برده إليه، وعاهدوا على ذلك، انفردوا عن الناس يتناجون فيما بينهم ويتشاورون في أمرهم. قال كبيرهم في السن أو في العقل والرأي وهو روبيل أو يهوذا الذي أشار بإلقائه في البئر عند ما هموا بقتله: إن هذا الأمر عظيم، ألم تذكروا أخذ أبيكم موثقكم لتردّنه إليه، إلا أن يحاط بكم، وألم

صفحة رقم 43

تعلموا أيضا تفريطكم في الماضي بأخيكم يوسف وإضاعته عن أبيكم، مما جعله رهين الحزن والأسى عليه؟! فَلَنْ أَبْرَحَ... فلن أغادر أرض مصر أبدا، وأترك بنيامين فيها، حتى يأذن لي أبي في العودة إليه، أو يحكم الله لي بأن يمكنني من أخذ أخي أو بالخروج من مصر، وهو خير الحاكمين، فلا يحكم أبدا إلا بالحق والعدل.
هذا قراره الشخصي، وأما رأيه فيما يقولون لأبيهم فهو ارْجِعُوا.. أي عودوا إلى أبيكم وقولوا له: يا أبانا إن ابنك سرق صواع الملك، فاسترقه العزيز القائم بأمر الحكم في مصر، على وفق شريعتنا التي أخبرناه بها، وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمناه وشاهدنا من إخراج الصواع من وعاء بنيامين، وما كنا للغيب حافظين، أي وما علمنا أنه سيسرق ويسترق حين أعطيناك الموثق، أو ما علمنا أنك تصاب به كما أصبت بيوسف، وفي الجملة: حقيقة الحال غير معلومة لنا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ.. أي واسأل يا أبانا عما حدث أهل القرية التي كنا فيها وهي مصر، فقد اشتهر أمر هذه السرقة فيهم، واسأل أصحاب العير الذين كانوا يأتون بالميرة (الطعام) معنا. وهذا مبالغة منهم في إزالة التهمة عن أنفسهم، لأنهم مشكوك فيهم، وكانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه السلام. ثم أكدوا صدقهم بقوله: وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به من أنه سرق، وأخذوه بسرقته، وهذا مقال كبيرهم، ثم ذكر تعالى مقال أبيهم:
قالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ.. أجابهم أبوهم بما يدل على عدم تصديقهم فيما قالوا، كما أجابهم حين جاؤوا على قميص يوسف بدم كذب: بَلْ سَوَّلَتْ..
بل زينت لكم أنفسكم أمرا آخر أردتموه، وكيدا جديدا فعلتموه؟ وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم!

صفحة رقم 44

فأمري الاعتصام بالصبر الجميل وهو الذي لا جزع فيه ولا شكاية لأحد، وإنما أرضى بقضاء الله وقدره، وأشكو إلى الله وحده، ثم ترجى أن يرد عليه أولاده الثلاثة: يوسف وبنيامين، وروبيل الذي أقام بمصر، ينتظر أمر الله فيه: إما أن يرضى عنه أبوه، فيأمره بالرجوع إليه، وإما أن يأخذ أخاه خفية، فقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً.. أي لعل الله الذي أطلب منه إرجاع أولادي الثلاثة أن يعيدهم إلي جميعا، وقد كان ملهما أن يوسف لم يمت، إنه هو العليم بحالي من الكبر والحزن، الحكيم في أفعاله وقضائه وقدره، فما بعد الشدة إلا اليسر، وما بعد الكرب إلا الفرج.
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ.. وأعرض يعقوب عن بنيه كارها لما قالوا ووصفوا، وقال متذكرا حزن يوسف القديم: يا حزني ويا أسفي على يوسف، والأسف: أشد الحزن والحسرة، فجدد له حزن الابنين الحزن الدفين. وهو دليل على تمادي أسفه على يوسف، وأن المصاب فيه دائم متجدد لم ينس مع تقادم العهد.
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ.. أي أصيبت عيناه بسبب الحزن بغشاوة بيضاء، حجبت البصر والرؤية فأصبح كظيما أي ساكتا لا يشكو أمره إلى مخلوق، كاظما غيظه على أولاده. قيل: ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف، إلى حين لقائه، ثمانين عاما، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.
والجزع البالغ والحزن الشديد أمر إنساني عند الشدائد والمصائب، وهو غير مذموم شرعا إذا اقترن بالصبر، وضبط النفس، حتى لا يخرج إلى مالا يحسن، ولقد
بكى رسول صلّى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم، وقال فيما رواه الشيخان: «إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».
وإنما الجزع المذموم: ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور

صفحة رقم 45

والوجوه، وتمزيق الثياب.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه بكى على ولد بعض بناته، وهو يجود بنفسه، فقيل: يا رسول الله، تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال: ما نهيتكم عن البكاء، وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين: صوت عند الفرح، وصوت عند الترح».
وقال الحسن البصري حينما بكى على ولد أو غيره: «ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب».
وعند ما شاهد أولاد يعقوب ما حدث لأبيهم، رقوا له، وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه: والله لا تزال تذكر يوسف، حتى تصير مريضا ضعيف القوة، أو تموت، أي إن استمر بك هذا الحال، خشينا عليك الهلاك والتلف.
فأجابهم عما قالوا: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
أي لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم حزني، إنما أشكو همّي الشديد وأسفي وما أنا فيه إلى الله وحده داعيا له وملتجئا إليه، فخلوني وشكايتي، وأعلم من الله ما لا تعلمون، أي أرجو منه كل خير، لأني أعلم من صنعه وإحسانه ورحمته وحسن ظني به أن يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب. روي أنه رأى ملك الموت في منامه، فسأله، هل قبضت روح يوسف؟ فقال: لا والله، هو حيّ فأطلبه. وقال ابن عباس في قوله تعالى: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ..
يعني رؤيا يوسف أنها صدق، وأن الله لا بد أن يظهرها.
يا بَنِيَّ، اذْهَبُوا.. يا أولادي اذهبوا إلى مصر، وتعرفوا أخبار يوسف وأخيه بنيامين. والتحسس يكون في الخير، والتجسس يكون في الشر، فهو قد ندبهم على الذهاب إلى مصر للتعرف على أخبار إخوتهم، وأمرهم ألا ييأسوا من روح الله أي من فرجه وتنفيسه الكرب، ولا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يقصدونه، فإنه لا يقطع الرجاء، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون أي

صفحة رقم 46

الذين يجحدون قدرته ورحمته، ويجهلون حكمة الله في عباده. أما المؤمنون فلا ييأسون من رحمة الله وتفريجه الكروب، وإزالته الشدائد. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إن المؤمن من الله على خير، يرجوه في البلاء، ويحمده في الرخاء».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- لم يتغير موقف أولاد يعقوب العشرة في حال الصغر والكبر معا، وظلوا على حقدهم وحسدهم وكراهيتهم لأخويهما: يوسف وبنيامين، وقد فهم هذا من محاولة تبرئة أنفسهم بأنهم على منهج وطريقة وسيرة تختلف عن منهج وسيرة أخويهم، فأخواهما مختصان بهذه الطريقة واحتراف السرقة، لأنهما من أم أخرى.
والحق أن سرقة يوسف كانت رضى لله، وكانت على ما يبدو في حال الصغر، والصغير غير مكلف، ولم يكن وضع الصواع في رحل بنيامين منه إنما كان من غيره.
٢- لم يقابلهم يوسف بالإساءة والتصريح عما في نفسه، وإنما أسرّ في نفسه مقالتهم، وقولهم هو: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ وقيل: إنه أسرّ في نفسه على طريقة الإضمار قبل الذكر قوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ثم جهر فقال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ.
٣- استعطفوه لإطلاق سراح أخيهم بنيامين أو قبول الفداء عنه بأخذ أحدهم بدله، بحال أبيه الشيخ الكبير أي كبير القدر، ولم يريدوا كبير السن، لأن ذلك معروف من حال الشيخ، واستعطفوه أيضا بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم.

صفحة رقم 47

وأما عرضهم أخذ البدل عنه فهو إما مجاز، لأنهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر يسترق بدل المتهم، وإنما هو مبالغة في استنزاله، كما تقول لمن تكره فعله:
اقتلني ولا تفعل كذا وكذا، وأنت لا تريد أن يقتلك، ولكنك مبالغ في استنزاله.
وإما أن يكون قولهم: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ حقيقة، من طريق الكفالة بالنفس، ليصل بنيامين إلى أبيه، ويعرف جلّية الأمر، والكفالة بالنفس جائزة على التحقيق في المذاهب الإسلامية الأربعة، حتى عند الشافعي على الراجح.
وعلى كل حال كما أن الاستعباد للسارق في شرع إسحاق ويعقوب جائز، كذلك العفو وأخذ الفداء كان جائزا أيضا.
٤- رفض يوسف عليه السلام أخذ البدل، ووصف ذلك بأنه ظلم.
٥- تشاور أولاد يعقوب فيما يفعلون أمام الميثاق الذي أخذه عليهم أبوهم مؤكدا باليمين بالله، وتذكروا تفريطهم السابق بيوسف، فقرر أكبرهم في السن أو في الرأي والعقل وهو شمعون أو يهوذا أو روبيل البقاء في مصر، حتى يأذن له أبوه بالرجوع إليه، لاستحيائه منه، أو يحكم الله له بالمضي مع أخيه إلى أبيهما.
وهذا دليل على أن التناجي والمشاورة في أمر ما مطلوب شرعا.
وقد ذكر القاضي عياض في «الشفا» أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ هذه الآية:
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. إذ أن هذه الجملة تضمنت معاني كثيرة، يعبر عنها اليوم بجمل كثيرة لعقد اجتماع سري، وتشاور فيه، ومداولة فيما يجابهون به أباهم، وكيفية بيان الحادث له.
٦- اتفق أولاد يعقوب بمشورة كبيرهم الذي بقي في مصر على مصارحة أبيهم بما حدث من واقعة السرقة، وشهادتهم في الظاهر عليها، حيث أخرج الصواع

صفحة رقم 48

من متاع بنيامين، وجهلهم بالمغيب، فلم يعلموا وقت أخذ الميثاق عليهم أنه يسرق، ويصير أمرهم إلى ما آل إليه، من الاستعباد أو الاسترقاق، عملا بما هو المقرر من جزاء في شريعتهم.
وعلى كل حال فإنهم لما تفكروا في الأصوب ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على نحو ما حدثت.
٧- تضمنت آية وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها، فتصح شهادة المستمع والمعاين والأعمى والأخرس إذا فهمت إشارته، وكذلك تصح الشهادة على الخط إذا تيقن الشاهد أن الخط خط الكاتب أو خط فلان، فكل من حصل له العلم بشيء، جاز أن يشهد به، وإن لم يشهده المشهود عليه، قال الله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف ٤٣/ ٨٦]
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن زيد بن خالد الجهني: «ألا أخبركم بخير الشهداء: خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها».
وقد شهد أولاد يعقوب بما رأوه حين إخراج الصواع من رحل أخيهم، فغلب على ظنهم أنه هو الذي أخذ الصواع.
وأما شهادة المرور بأن يقول: مررت بفلان فسمعته يقول كذا، فالصحيح أنه إذا استوعب القول، جاز أداء الشهادة عليه.
وإذا ادعى رجل شهادة لا يحتملها عمره، ردّت، لأنه ادّعى باطلا، فأكذبه العيان ظاهرا.
والخلاصة: أن الشهادة تكون بالاعتماد على الحواس الظاهرة، أما حقيقة الغيب فلا يعلمها إلا الله تعالى.
٨- استعان أولاد يعقوب لإقناع أبيهم بصدق قولهم بسؤال أناس من أهل

صفحة رقم 49

مصر، وسؤال قوافل الطعام التي كانت معهم من قوم من الكنعانيين، وهذا يدل على أن كل من كان على حق، وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يتوهم: أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه، ويصرح بالحق الذي هو عليه، حتى لا يبقى لأحد كلام، وقد فعل هذا نبينا صلّى الله عليه وسلم-
فيما رواه البخاري ومسلم- بقوله للرجلين اللذين مرّا، وهو مع صفية يردّها من المسجد: «على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي». فقالا: سبحان الله! وكبر عليهما، فقال: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا».
ثم إنهم بالغوا في التأكيد والتقرير فقالوا: وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعني سواء نسبتنا إلى التهمة، أو لم تنسبنا إليها، فنحن صادقون.
٩- الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل والرضا والتسليم، ويقتدي بنبي الله يعقوب وسائر النبيين عليهم السلام. قال يعقوب في واقعتي يوسف وبنيامين: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ إلا أنه قال في واقعة يوسف: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ وقال في واقعة بنيامين: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً.
١٠- قول يعقوب عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً صادر عن علمه بالوحي أو بالإلهام أو بسؤال ملك الموت أن يوسف عليه السلام لم يمت، وإنما غاب عنه خبره. والذين تمنى إحضارهم ثلاثة: كبير أولاده ويوسف وبنيامين.
١١- تجدد مصاب يعقوب وحزنه على يوسف بغياب ولدين آخرين هما أكبر أولاده وأصغرهم، فأسف أسفا شديدا، والأسف: شدة الحزن على ما فات، وعمي فلم يعد يبصر بعينيه ست سنين من البكاء، الذي كان سببه الحزن.

صفحة رقم 50

ولكن الله العالم بحقائق الأمور الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل والإحسان والرحمة والمصلحة هيأ لجمع الأسرة كلها.
١٢- إن الحزن ليس بمحظور إذا اقترن بالصبر والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره، فذلك من طبع الإنسان وعاطفته، وإنما المحظور هو السخط على القضاء والقدر، والولولة، وشق الثياب، والكلام بما لا ينبغي،
قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب».
وبناء عليه لما سمع يعقوب عليه السلام كلام أبنائه، ضاق قلبه جدا، وأعرض عنهم، وفارقهم، ثم طلبهم أخيرا وعاد إليهم.
١٣- أشفق أولاد يعقوب على أبيهم، ورقوا، وذكروا له مخاطر الاستمرار في حال الحزن، وهي إما المرض المضعف القوة، وإما الهلاك والموت، وهذا أمر واقعي مطابق لأحوال الناس.
١٤- كانت شكاية يعقوب وحزنه ولجوءه بالدعاء إلى الله وحده، لا إلى أحد من الخلق، وهذا هو المطلوب شرعا في كل شاك حزين.
١٥- إن نبي الله يعقوب يعلم مالا يعلم غيره من الناس بما عند الله من رحمة وإحسان وتفريج كرب، ويعلم أيضا أن رؤيا يوسف صادقة، وأنه وزوجته وأبناؤه سيسجدون له، تصديقا لرؤياه السابقة وهو صغير.
١٦- تيقن يعقوب عليه السلام حياة ابنه يوسف إما بالرؤيا، وإما بإخبار ملك الموت إياه بأنه لم يقبض روحه، وهو أظهر، فعاد يكلم أولاده باللطف، وطلب منهم الذهاب إلى مصر للبحث عن يوسف وأخيه.
١٧- لا يقنط من فرج الله إلا القوم الكافرون، وهذا دليل على أن الكافر يقنط في حال الشدّة، وعلى أن القنوط من الكبائر، أما المؤمن فيرجو دائما فرج الله تعالى.

صفحة رقم 51
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية