
مُبِينٍ (٨) أي ظاهر الحال وإنما خصص على يوسف أبوه بالبر لأنه كان يرى فيه من آثار الرشد والنجابة ما لم يجد في سائر الأولاد، ولأنه وإن كان صغيرا كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة أعلى مما كان يصدر عن سائر الأولاد.
قال شمعون: ودان والباقون كانوا راضين إلا من قال: لا تقتلوا إلخ. اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ أي يقبل عليكم أبوكم بكليته ولا يلتفت إلى غيركم وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد يوسف من قتله أو تغريبه في أرض بعيدة قَوْماً صالِحِينَ (٩) أي تائبين إلى الله تعالى من الكبائر ومتفرقين لإصلاح أمور دنياكم وصالحين مع أبيكم بإصلاح ما بينكم وبينه قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي من إخوة يوسف هو يهوذا فإنه أقدمهم في الرأي والفضل وأقربهم إلى يوسف سنا لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ.
وقال قتادة: القائل لإخوته روبيل حتى قال: القتل كبيرة عظيمة وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي في قعره.
وقرأ نافع «غيابات» بالجمع في الموضعين. قال قتادة: الجب هنا هو بئر بيت المقدس. وقال وهب: هو في أرض الأردن. وقال ابن زيد: هو بحيرة طبرية. يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي يرفعه بعض طائفة تسير في الأرض إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) بمشورتي ولم يقطع القول عليهم بل إنما عرض عليهم ذلك تأليفا لقلبهم وحذرا من نسبتهم له إلى الافتيات أو إن كنتم فاعلين ما عزمتم عليه من إزالته من عند أبيه ولا بد فافعلوا هذا القدر أي إلقاءه في البئر. والأولى أن لا تفعلوا شيئا من القتل والتغريب.
قالُوا لأبيهم إعمالا للحيلة في الوصول إلى مقاصدهم مستفهمين على وجه التعجب لأنه علم منهم السوء، وهذا مبني على مقدمات محذوفة، وذلك أنهم قالوا أولا ليوسف: اخرج معنا، إلى الصحراء إلى مواشينا فنستبق ونصيد، وقالوا له: سل أباك أن يرسلك معنا، فسأله فتوقف يعقوب فقالوا له: يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ أي أيّ شيء ثبت لك لا تجعلنا أمناء عليه مع أنه أخونا وأنك أبونا ونحن بنوك وَالحال وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أي لعاطفون عليه قائمون بمصلحته وبحفظه، أي هم أظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف وفي غاية الشفقة عليه أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إلى الصحراء يَرْتَعْ أي نتسع في أكل الفواكه ونحوها وَيَلْعَبْ بالاستباق والانتضال تمرينا لقتال الأعداء، وبالإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر لا للهو.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة، والكسائي بمثناة تحتية على إسناد الفعل ليوسف لأنهم سألوا إرسال يوسف معهم ليفرح هو باللعب لا ليفرحوا به وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) من أن يناله مكروه قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أي ليؤلم قلبي ذهابكم به لأني لا أصبر عنه ساعة وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لكثرة الذئب في تلك الأرض. وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) لاشتغالكم بالاتساع

في الملاذ وبنحو التناضل قالُوا: لأبيهم. لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي جماعة كثيرة عشرة تكفي الخطوب بآرائنا إِنَّا إِذاً أي إذا لم نقدر على حفظ أخينا لَخاسِرُونَ (١٤) أي لقوم عاجزون وهذا جواب عن عذر يعقوب الثاني وأما عذره الأول فلم يجيبوا عنه لكون غرضهم إيقاعه في الحزن، ولكون حقدهم بسبب ذلك العذر وهو شدة حبه له فتغافلوا عنه فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي فأرسله معهم فلما ذهبوا به وعزموا على جعله في ظلمة البئر فجعلوه فيها.
قال السدي: إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة الشديدة وجعل هذا الأخ يضر به فيستغيث بالآخر فيضربه ولا يرى فيهم رحيما، فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يقول: يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك لأباك فقال يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه. فانطلقوا به إلى الجب يدلونه فيه وهو متعلق بشفير البئر فنزعوا قميصه وكان غرضهم أن يلطخوه بالدم ويعرضوه على يعقوب. فقال لهم: ردوا علي قميصي لأتوارى به. فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا لتؤنسك، ثم دلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة فقام بها وهو يبكي، فنادوه فظن أن رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة، فقام يهوذا فمنعهم من ذلك، وكان يهوذا يأتيه بالطعام وبقي فيها ثلاث ليال.
وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال: يا شاهدا غير غائب ويا قريبا غير بعيد، ويا غالبا غير مغلوب اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا.
وروي أن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار جرد عن ثيابه فجاءه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، ودفعه إسحاق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة وعلقها في عنق يوسف، فجاءه جبريل فأخرجه من التميمة وألبسه إياه.
وروي أن جبريل قال له: إذا رهبت شيئا فقل: يا صريخ المستصرخين ويا غوث المستغيثين، ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك
شيء من أمري. فلما قالها يوسف حفته الملائكة واستأنس في الجب. وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ في الجب إزالة لوحشته عن قلبه، وتبشيرا له بما يؤول إليه أمره. وكان ابن سبع عشرة سنة. لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا أي لتخبرن يا يوسف إخوتك بصنيعهم هذا بك بعد هذا اليوم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) في ذلك الوقت أنك يوسف حتى تخبرهم لعلو شأنك وبعد حالك عن أوهامك. والمقصود تقوية قلبه بأنه سيحصل له الخلاص عن هذه المحنة ويصيرون تحت قهره وقدرته. وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) أي لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء في ظلمة الليل متباكين.
وقرئ «عشيا» بالتصغير «لعشي» أي آخر النهار. وقرئ «عشى» بالضم والقصر جمع

أعشى فعند ذلك فزع يعقوب. وقال هل أصابكم في غنمكم شيء قالوا: لا، قال: وأنّى يوسف.
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ يسابق بعضنا بعضا في الرمي.
روي أن في قراءة عبد الله «إنا ذهبنا ننتضل» وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا من ثياب وأزواد وغيرهما ليحفظه فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق لنا في هذه المقالة وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) أي ولو كنا عندك موصوفين بالصدق والثقة لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سيئ الظن بنا غير واثق بقولنا: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ أي فوق قميص يوسف بِدَمٍ كَذِبٍ أي بدم ملابس لكذب.
وقرئ «كذبا» على أنه حال من الضمير أي جاءوا كاذبين أو مفعول له. وقرأت عائشة رضي الله عنها «بدم كذب» بالدال المهملة أي كدر أو طري. قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي قال يعقوب: ليس الأمر كما تقولون بل زينت لكم أنفسكم أمرا غير ما تصفون. قيل: لما جاءوا على قميصه بدم جدي وقد ذهلوا عن خرق القميص فلما رأى يعقوب القميص صحيحا قال: كذبتم لو أكله الذئب لخرق قميصه، وقال بعضهم: بل قتله اللصوص فقال: كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منه إلى قتله؟ وقيل: إنهم أتوه بذئب وقالوا: هذا أكله فقال يعقوب: أيها الذئب أنت أكلت ولدي وثمرة فؤادي فأنطقه الله عز وجل وقال: والله ما أكلت ولدك ولا رأيته قط ولا يحل لنا أن نأكل لحوم الأنبياء فقال له يعقوب: فكيف وقعت في أرض كنعان؟ قال: جئت لصلة الرحم قرابة لي فأخذوني وأتوا بي إليك فأطلقه يعقوب. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فصبري صبر جميل أو فصبر جميل أولى من الجزع وهو أن لا يشكو البلاء لأحد غير الله تعالى وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ أي المطلوب منه العون عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) أي على تحمل ما تصفون من هلاك يوسف وكأن الله تعالى قد مضى على يعقوب أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة، والهموم العظيمة ليكثر رجوعه إلى الله تعالى وينقطع تعلق فكره عن الدنيا فيصل إلى درجة عالية في العبودية لا يمكن الوصول إليها إلا بتحمل المحن الشديدة والله أعلم. وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ أي رفقة تسير من جهة مدين يريدون مصر فأخطأوا الطريق فانطلقوا يهيمون في الأرض حتى وقعوا في الأراضي التي فيها الجب- وهي أرض دوثن بين مدين ومصر- فنزلوا عليه فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ أي ساقيهم ليطلب لهم الماء وهو من يهيئ الأرشية والدلاء فيتقدم الرفقة إلى الماء يقال له: مالك بن ذعر الخزاعي ابن أخي سيدنا شعيب عليه السلام وهو رجل من العرب من أهل مدين فَأَدْلى دَلْوَهُ أي فأرخى دلوه في جب يوسف فتعلق هو فلم يقدر الساقي على نزعه من البئر فنظر فيه فرأى غلاما قد تعلق بالدلو فنادى أصحابه قالَ يا بُشْرى أي يا أصحابي، وقال الأعمش: إنه دعا امرأة اسمها بشرى.
وقال السدي: إنه نادى صاحبه واسمه بشرى كما قرأه حمزة وعاصم والكسائي بغير ياء