
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة هودهذه سورة مكية إلا قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هود:
الآية ١٢]، وقوله: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [هود: الآية ١٧]، ونزلت في ابن سلام وأصحابه، وقوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: ١١٤]، نزلت في شأن الثمار وهذه الثلاثة مدنية قاله مقاتل، على أن الأولى تشبه المكي.
وإذا أردت ب «هود» اسم السورة لم ينصرف كما تفعل إذا سميت امرأة بعمرو وزيد وإذا أردت سورة هود صرفت.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)تقدم استيعاب القول في الحروف المقطعة في أوائل السور، وتختص هذه بأن قيل إن الرحمن فرقت حروفه فيها وفي حم [غافر: ١، فصلت: ١، الشورى: ١، الزخرف: ١، الدخان: ١، الجاثية: ١، الأحقاف: ١] وفي ن وَالْقَلَمِ [القلم: ١].
وكِتابٌ مرتفع على خبر الابتداء، فمن قال الحروف إشارة إلى حروف المعجم كانت الحروف المبتدأ، ومن تأول الحروف غير ذلك كان المبتدأ «هذا كتاب» والمراد بالكتاب القرآن.
وأُحْكِمَتْ معناه أتقنت وأجيدت شبه تحكم الأمور المتقنة الكاملة، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل ثم فصل بتقطيعه وتنويع أحكامه وأوامره على محمد ﷺ في أزمنة مختلفة ف ثُمَّ على بابها، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل إذ الإحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له، والكتاب بأجمعه محكم مفصل والإحكام الذي هو ضد النسخ والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك. وحكى الطبري عن بعض المتأولين: أحكمت بالأمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب وعن بعضهم: أحكمت من الباطل، وفصلت بالحلال والحرام ونحو هذا من التخصيص الذي صفحة رقم 148

هو صحيح المعنى ولكن لا يقتضيه اللفظ، وقال قوم: فُصِّلَتْ معناه فسرت، وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وابن كثير- فيما روي عنه-: «ثم فصلت» بفتح الفاء والصاد واللام، ويحتمل ذلك معنيين:
أحدهما: «فصلت» أي نزلت إلى الناس كما تقول فصل فلان لسفره ونحو هذا المعنى. والثاني فصلت بين المحق والمبطل من الناس.
ومِنْ لَدُنْ معناه من حيث ابتدئت الغاية، كذا قال سيبويه وفيها لغات: يقال: لدن ولدن بسكون الدال: وقرىء بهما. مِنْ لَدُنْ، ويقال: «لد» بفتح اللام وضم الدال دون نون، ويقال «لدا»، بدال منونة مقصورة. ويقال: «لد» بدال مكسورة منونة، حكى ذلك أبو عبيدة.
وحَكِيمٍ أي محكم، وخَبِيرٍ أي ذو خبرة بالأمور أجمع، أَلَّا تَعْبُدُوا أن في موضع نصب إما على إضمار فعل وإما على تقدير ب «أن» وإسقاط الخافض، وقيل على البدل من موضع الآيات، وهذا معترض ضعيف لأنه موضع للآيات، وإن نظر موضع الجملة فهو رفع: ويحتمل أن تكون في موضع رفع على تقدير: تفصيله ألا تعبدوا وقيل: على البدل من لفظ الآيات.
وقوله تعالى: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي من عقابه وبثوابه: وإذا أطلقت هاتان اللفظتان فالنذارة في المكروه والبشارة في المحبوب وقدم النذير لأن التحذير من النار هو الأهم وأَنِ معطوفة على التي قبلها.
ومعنى الآية: استغفروا ربكم أي اطلبوا مغفرته لكم وذلك بطلب دخولكم في الإسلام ثم توبوا من الكفر أي انسلخوا منه واندموا على سالفه. وثُمَّ مرتبة لأن الكافر أول ما ينيب فإنه في طلب مغفرة ربه فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه.
وقرأ الجمهور «يمتّعكم» بشد التاء، وقرأ ابن محيصن «يمتعكم» بسكون الميم وتخفيف التاء، وفي كتاب أبي حاتم: «إن هذه القراءات بالنون»، وفي هذا نظر. ومَتاعاً مصدر جار على غير الفعل المتقدم مثل قوله وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] وقيل نصب بتعدي يُمَتِّعْكُمْ لأنك تقول: متعت زيدا ثوبا. ووصف المتاع «بالحسن» إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفترضاته والسرور بمواعيده والكافر ليس في شيء من هذا، وأما من قال بأن «المتاع الحسن» هو فوائد الدنيا وزينتها فيضعف بين الكفرة يتشاركون في ذلك أعظم مشاركة والأجل المسمى» : هو أجل الموت معناه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لكل واحد منكم، وهذا ظاهر الآية: «واليوم الكبير» - على هذا- هو يوم القيامة.
وتحتمل الآية أن يكون التوعد بتعجيل العذاب إن كفروا، والوعد بتمتيعهم إن آمنوا، فتشبه ما قاله نوح عليه السلام، و «اليوم الكبير» - على هذا- يوم بدر ونحوه والمجهلة في أي الأمرين يكون إنما هي بحسب البشر والأمر عند الله تعالى معلوم محصل والأجل واحد.
وقوله تعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي كل ذي إحسان بقوله، أو بفعله، أو قوته، أو بماله، أو غير ذلك، مما يمكن أن يتقرب به وفَضْلَهُ، يحتمل أن يعود الضمير فيه على الله عز وجل أي يؤتي