آيات من القرآن الكريم

أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۚ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ

شيبتني هود وأخواتها من المفصل والواقعة»
وكل ذلك يدل على خطرها وعظم ما اشتملت عليه وأشارت إليه وهو الذي صار سببا لإسراع الشيب إليه صلّى الله عليه وسلم، وفسره بعضهم بذكر يوم القيامة وقصص الأمم ويشهد له بعض الآثار.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي علي الشتري قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم في المنام: فقلت يا رسول الله روي عنك أنك قلت: «شيبتني هود» قال: نعم. فقلت: ما الذي شيبك منها قصص الأنبياء عليهم السلام وهلاك الأمم؟ قال: لا ولكن قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] وهذا هو الذي اعتمد عليه بعض السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وبينه بما بينه، والحق أن الذي شيبه صلّى الله عليه وسلم ما تضمنته هذه السورة أعم من هذا الأمر وغيره ما عظم أمره على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمقتضى علمه الجليل ومقامه الرفيع، وهذا هو المنقدح لذهن السامع ولذلك لم يسأله صلّى الله عليه وسلم أصحابه عما شيبه منها ومن أخواتها بل اكتفوا بما يتبادر من أمثال ذلك الكلام.
ودعوى أن المتبادر لهم رضي الله تعالى عنهم ما خفي على أبي علي فلذلك لم يسألوا على تقدير تسليمها يبقى أنهم لم يسألوا عما شيبه عليه الصلاة والسلام من الأخوات مع أنه ليس فيها إلا ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم دون ذلك الأمر؟ وكونهم علموا أن المشيب فيها ذلك وفي أخواتها شيء آخر هو ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم يأباه ما في خبر أبي علي من نفيه صلّى الله عليه وسلم، وكون ما ذكر مشيبا مفهوما من سورة دون أخرى لا يخفى حاله، وبالجملة لا ينبغي التعويل على هذه الرواية وإن سلم أنها صحت عن أبي علي، واتهام الرائي بعدم الحفظ أو بعدم تحقيق المرئي أهون من القول بصحة الرؤية والتكلف لتوجيه ما فيها، وسيأتي في آخر السورة إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام فليفهم.
الر اسم للسورة على ما ذهب إليه الخليل وسيبويه وغيرهما أو للقرآن على ما روي عن الكلبي والسدي، وقيل: إنها إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته سبحانه، وقيل: هي إقسام منه تعالى بما هو من أصول اللغات ومبادئ كتبه المنزلة ومباني أسمائه الكريمة، وقيل وقيل، وقد تقدم الكلام فيما ينفعك هنا على أتم تفصيل، واختار غير واحد من المتأخرين كونها اسما للسورة وأنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة- بالر- وقيل:
محلها الرفع على الابتداء أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ، وقوله سبحانه: كِتابٌ خبر لها على تقدير ابتدائيتها أو لمبتدأ محذوف على غيره من الوجوه، والتنوين فيه للتعظيم أي كتاب عظيم الشأن جليل القدر أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي نظمت نظما محكما لا يطرأ عليه اختلال فلا يكون فيه تناقض أو مخالفة للواقع والحكمة أو شيء مما يخل بفصاحته وبلاغته فالإحكام مستعار من إحكام البناء بمعنى إتقانه أو منعت من النسخ لبعضها أو لكلها

صفحة رقم 190

بكتاب آخر كما وقع للكتب السالفة فالإحكام من أحكمه إذا منعه ويقال: أحكمت السفيه إذا منعته من السفاهة، ومنه قول جرير:

أبي حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم إن أغضبا
وقيل: المراد منعت من الفساد أخذا من أحكمت الدابة إذا جعلت في فمها الحكمة وهي حديدة تجعل في فم الدابة تمنعها من الجماح، فكأن ما فيها من بيان المبدأ والمعاد بمنزلة دابة منعها الدلائل من الجماح، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مكنية. وتعقب بأن تشبيهها بالدابة مستهجن لا داعي إليه، ولعل الذوق يفرق بين ذلك وبين تشبيهها بالجمل الأنوف الوارد في بعض الآثار لانقيادها مع المتأولين لكثرة وجوه احتمالاتها الموافقة لأغراضهم.
واعترض بعضهم على إرادة المنع من الفساد بأن فيه إيهام ما لا يكاد يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعي إلى الفساد لولا المانع، فالأول إذ يراد معنى المنع أن يراد المنع من النسخ ويراد من الكتاب القرآن وعدم نسخه كلّا أو بعضا على حسب ما أشرنا إليه وكون ذلك خلاف الظاهر في حيز المنع.
وادعى بعضهم أن المراد بالآيات آيات هذه السورة وكلها محكمة غير منسوخة بشيء أصلا، وروي ذلك عن ابن زيد وخولف فيه. وادعى أن فيها من المنسوخ أربع آيات قوله سبحانه: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود: ١٢]. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ [هود: ١٢١] والتي تليها ونسخت جميعا بآية السيف ومَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها [هود: ١٥] الآية ونسخت بقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: ١٨] ولا يخلو عن نظر، ويجوز أن يكون المعنى منعت من الشبه بالحجج الباهرة وأيدت بالأدلة الظاهرة أو جعلت حكيمة أي ذات حكمة لاشتمالها على أصول العقائد والأعمال الصالحة والنصائح والحكم، والفعل على هذا منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما، ومنه قول نمر بن تولب:
وأبغض بغيضك بغضا رويدا إذا أنت حاولت أن تحكما
فقد قال الأصمعي: إن المعنى إذا حاولت أن تكون حكيما، وفي إسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى الآيات دون الكتاب نفسه لا سيما إذا أريد ما يشمل كل آية آية من حسن الموقع والدلالة على كونه في أقصى غاياته ما لا يخفى ثُمَّ فُصِّلَتْ أي جعلت مفصلة كالعقد المفصل بالفرائد التي تجعل بين اللآلئ، ووجه جعلها كذلك اشتمالها على دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد في المعاش والمعاد على الإسناد المجازي أو جعلت فصلا فصلا من السور ويراد بالكتاب القرآن، وقيل: يصح أن يراد به هذه السورة أيضا على أن المعنى جعلت معاني آياتها في سور ولا يخفى أنه تكلف لا حاجة إليه. أو فرقت في التنزيل فلم تنزل جملة بل نزلت نجما نجما على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، وثُمَّ على هذا ظاهرة في التراخي الزماني لما أن المتبادر من التنزيل المنجم فيه التنزيل المنجم بالفعل، وإن أريد جعلها في نفسها بحيث يكون نزولها منجما حسب الحكمة فهو رتبي لأن ذلك وصف لازم لها حقيق بأن يرتب على وصف أحكامها، وهي على الأوجه الأول للتراخي الرتبي لا غير، وقيل: للتراخي بين الإخبارين. واعترض بأنه لا تراخي هناك إلا أن يراد بالتراخي الترتيب مجازا أو يقال بوجوده باعتبار ابتداء الخبر الأول وانتهاء الثاني.
وأنت تعلم أن القول بالتراخي في الرتبة أولى خلا أن تراخي رتبة التفضيل بأحد المعنيين الأولين عن رتبة الاحكام أمر ظاهر وبالمعنى الثالث فيه نوع خفاء، ولا يخفى عليك أن الاحتمالات في الآية الحاصلة من ضرب معاني

صفحة رقم 191

الاحكام الأربعة في معاني التفصيل كذلك وضرب المجموع في احتمالات المراد- بثم- تبلغ اثنين ثلاثين أو ثمانية وأربعين احتمالا ولا حجر. والزمخشري ذكر للاحكام ما في الكشف ثلاثة أوجه أخذه من أحكام البناء نظرا إلى التركب البالغ حد الإعجاز. أو من الاحكام جعلها حكيمة، أو جعلها ذات حكمة فيفيد معنى المنع من الفساد، وللتفصيل أربعة جعلها كالقلائد المفصلة بالفرائد لما فيها من دلائل التوحيد وأخواتها. وجعلها فصولا سورة سورة وآية آية وتفريقها في التنزيل وتفصيل ما يحتاج إليه العباد وبيانه فيها روي هذا عن مجاهد، وقال: إن معنى ثُمَّ ليس التراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل.
والظاهر أنه أراد أنها في جميع الاحتمالات كذلك، وفيه أيضا أنه إذا أريد بالاحكام أحد الأولين وبالتفصيل أحد الطرفين فالتراخي رتبي لأن الاحكام بالمعنى الأول راجع إلى اللفظ والتفصيل إلى المعنى، وبالمعنى الثاني وإن كان معنويا لكن التفصيل إكمال لما فيه من الإجمال، وأن أريد أحد الأوسطين فالتراخي على الحقيقة لأن الاحكام بالنظر إلى كل آية في نفسها وجعلها فصولا بالنظر إلى بعضها مع بعض أو لأن كل آية مشتملة على جمل من الألفاظ المرصفة وهذا تراخ وجودي، ولما كان الكلام من السائلات كان زمانيا أيضا، ولكن الزمخشري آثر التراخي في الحال مطلقا حملا على التراخي في الأخبار في هذين الوجهين ليطابق اللفظ الوضع وليظهر وجه العدول من الفاء إلى ثم، وإن أريد الثالث وبالتفصيل أحد الطرفين فرتبي وإلا فإخباري، والأحسن أن يراد بالاحكام الأول وبالتفصيل أحد الطرفين وعليه ينطبق المطابقة بين حَكِيمٍ وخَبِيرٍ وأُحْكِمَتْ وفُصِّلَتْ ثم قال: ومنه ظهر أن التراخي في الحال يشمل التراخي الرتبي والإخباري انتهى فليتأمل، وقرىء «أحكمت» بالبناء للفاعل المتكلم و «فصلت» بفتحتين مع التخفيف وروي هذا عن ابن كثير، والمعنى ثم فرقت بين الحق والباطل، وقيل: «فصلت» هنا مثلها في قوله تعالى:
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ [يوسف: ٩٤] أي انفصلت وصدرت مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة لكتاب وصف بها بعد ما وصف بأحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو مرتبته من حيث الذات إبانة لجلالة شأنه من حيث الإضافة أو خبر ثان للمبتدأ الملفوظ أو المقدر أو هو معمول لأحد الفعلين على التنازع مع تعلقه بهما معنى أي من عنده أحكامها وتفصيلها واختار هذا في الكشف. وفي الكشاف أن فيه طباقا حسنا لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور ففي الآية اللف والنشر، وأصل الكلام على ما قال الطيبي: أحكم آياته الحكيم وفصلها الخبير ثم عدل عنه إلى أحكمت حكيم وفصلت خبير على حد قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور: ٣٦، ٣٧] على قراءة البناء للمفعول، وقوله:

ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
ثم إلى ما في النظم الجليل لما في الكناية من الحسن مع إفادة التعظيم البالغ الذي لا يصل إلى كنهه وصف الواصف لا سيما وقد جيء بالاسمين الجليلين منكرين بالتنكير التفخيمي، ولَدُنْ من الظروف المبنية وهي لأول غاية زمان أو مكان، والمراد هنا الأخير مجازا، وبنيت لشبهها بالحرف في لزومها استعمالا واحدا وهي كونها مبدأ غاية وامتناع الإخبار بها وعنها ولا يبنى عليها المبتدأ بخلاف عند ولدي- فإنهما لا يلزمان استعمالا واحدا بل يكونان لابتداء الغاية وغيرها ويبنى عليهما المبتدأ كما في قوله سبحانه: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام: ٥٩] ولَدَيْنا مَزِيدٌ [ق: ٣٥] قيل: ولقوة شبهها بالحرف وخروجها عن نظائرها لا تعرب إذا أضيفت، نعم جاء عن قيس إعرابها تشبيها بعند وعلى ذلك خرجت قراءة عاصم بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الكهف: ٢] بالجر وإشمام الدال

صفحة رقم 192

الساكنة الضم واقترانها بمن كما في الآية، وكذا إضافتها إلى مفرد كيفما كان هو الغالب وقد تتجرد عن- من- وقد تضاف إلى جملة اسمية كقوله:
وتذكر نعماه لدن أنت يافع وفعلية كقوله:

صريع غوان راقهن ورقنه لدن شب حتى شاب سود الذوائب
ومنع ابن الدهان من إضافتها إلى الجملة وأول ما ورد من ذلك على تقدير أن المصدرية بدليل ظهورها معها في قوله:
وليت فلم تقطع لدن أن وليتنا قرابة ذي قربى ولا حق مسلم
ولا يخفى ما في التزام ذلك من التكلف لا سيما في مثل- لدن أنت يافع- وتتمحض للزمان إذا أضيفت إلى الجملة، وجاء نصب غدوة بعدها في قوله:
لدن غدوة حتى دنت لغروب وخرج على التمييز، وحكى الكوفيون رفعها بعدها وخرج على إضمار كان، وفيها ثمان لغات، فمنهم من يقول لَدُنْ بفتح اللام وضم الدال وسكون النون وهي اللغة المشهورة، وتخفف بحذف الضمة كما في عضد وحينئذ يلتقي ساكنان. فمنهم من يحذف النون لذلك فيبقى- لد- بفتح اللام وسكون الدال. ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال فتحا فيقول: لدن بفتح اللام والدال وسكون النون، ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال كسرا فيقول لدن بفتح اللام وكسر الدال وسكون النون ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول لدن بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون، وقد يخفف بنقل ضمة الدال إلى اللام كما يقال في عضد عضد بضم العين وسكون الضاد على قلة، وحينئذ يلتقي ساكنان أيضا. فمنهم من يحذف النون لذلك فيقول- لد- بضم اللام وسكون الدال، ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول لدن بضم اللام وكسر النون فهذه سبع لغات. وجاء- لد- بحذف نون لدن التي هي أم الجميع وبذلك تتم الثمانية، ويدل على أن أصل- لد- لدن إنك إذا أضفته لمضمر جئت بالنون فتقول: من لدنك ولا يجوز من- لدك- كما نبه عليه سيبويه، وذكر لها في همع الهوامع عشر لغات ما عدا اللغة القيسية فليراجع.
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ في موضع العلة للفعلين السابقين على جعل «أن» مصدرية وتقدير اللام معها كأنه قيل: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله أي لتتركوا عبادة غيره عز وجل وتتمحضوا لعبادته سبحانه، فإن الأحكام والتفصيل مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبة. وجوز أن تكون مفسرة لما في التفصيل من معنى القول دون حروفه كأنه قيل: فصل وقال: لا تعبدوا إلا الله أو أمر أن لا تعبدوا إلا الله، وقيل: إن هذا كلام منقطع عما قبله غير متصل به اتصالا لفظيا بل هو ابتداء كلام قصد به الإغراء على التوحيد على لسانه صلّى الله عليه وسلم و «أن» وما بعدها في حيز المفعول به لمقدر كأنه قيل: الزموا ترك عبادة غيره تعالى، واحتمال أن يكون ما قبل أيضا مفعولا به بتقدير قل أول الكلام خلاف الظاهر، ومثله احتمال كون «أن» والفعل في موقع المطلق، وقد صرح بعض المحققين أن ذلك مما لا يحسن أو لا يجوز فلا ينبغي أن يلتفت إليه إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ضمير الغائب المجرور لله تعالى و «من» لابتداء الغاية، والجار والمجرور في الأصل صفة النكرة فلما قدم عليها صار حالا كما هو المعروف في أمثاله أي إني لكم من جهته تعالى نذير أنذركم عذابه إن لم

صفحة رقم 193

تتركوا ما أنتم عليه من عبادة غيره سبحانه وبشير أبشركم ثوابه إن آمنتم وتمحضتم في عبادته عز وجل، وجوز كون «من» صلة النذير والضمير إما له تعالى أيضا، والمعنى حينئذ على ما قال أبو البقاء نذير من أجل عذابه وأما للكتاب على معنى إني لكم نذير من مخالفته وبشير لمن آمن به، وقوله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عطف على أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ سواء كان نهيا أو نفيا وفي أَنِ الاحتمالان السابقان وقد علمت أن الحق أن أَنِ المصدرية توصل بالأمر والنهي كما توصل بغيرهما، وفي توسيط جملة إِنَّنِي لَكُمْ إلخ بين المتعاطفين ما لا يخفى من الإشارة إلى علو شأن التوحيد ورفعه قدر النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد روعي في تقديم الإنذار على التبشير ما روعي في الخطاب من تقديم النفي على الإثبات والتخلية على التحلية للتجاوب الأطراف، والتعرض لوصف الربوبية تلقين للمخاطبين وإرشاد لهم إلى طريق الابتهال في السؤال وترشيح لما يذكر من التمتيع وإيتاء الفضل، وقوله سبحانه: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عطف على اسْتَغْفِرُوا واختلف في توجيه توسيط ثُمَّ بينهما مع أن الاستغفار بمعنى التوبة في العرف فقال الجبائي: إن المراد بالاستغفار هنا التوبة عما وقع من الذنوب وبالتوبة الاستغفار عما يقع منها بعد وقوعه أي استغفروا ربكم من ذنوبكم التي فعلتموها ثم توبوا إليه من ذنوب تفعلونها، فكلمة ثُمَّ على ظاهرها من التراخي في الزمان، وقال الفراء: إن ثُمَّ بمعنى الواو كما في قوله:

بهز (١) كهز الرديني جرى في الأنابيب ثم اضطرب
والعطف تفسيري، وقيل: لا نسلم أن الاستغفار هو التوبة بل هو ترك المعصية والتوبة هي الرجوع إلى الطاعة ولئن سلم أنهما بمعنى- فثم- للتراخي في الرتبة، والمراد بالتوبة الإخلاص فيها والاستمرار عليها وإلى هذا ذهب صاحب الفرائد. وقال بعض المحققين: الاستغفار هو التوبة إلا أن المراد بالتوبة في جانب المعطوف التوصل إلى المطلوب مجازا من إطلاق السبب على المسبب، وثُمَّ على ظاهرها وهي قرينة على ذلك.
وأنت تعلم أن أصل معنى الاستغفار طلب الغفر أي الستر ومعنى التوبة الرجوع، ويطلق الأول على طلب ستر الذنب من الله تعالى والعفو عنه والثاني على الندم عليه مع العزم على عدم العود فلا اتحاد بينهما بل ولا تلازم عقلا، لكن اشترط شرعا لصحة ذلك الطلب وقبوله الندم على الذنب مع العزم على عدم العود إليه، وجاء أيضا استعمال الأول في الثاني، والاحتياج إلى توجيه العطف على هذا ظاهر، وأما على ذاك فلأن الظاهر أن المراد من الاستغفار المأمور به الاستغفار المسبوق بالتوبة بمعنى الندم فكأنه قيل: استغفروا ربكم بعد التوبة ثم توبوا إليه ولا شبهة في ظهور احتياجه إلى التوجيه حينئذ، والقلب يميل فيه إلى حمل الأمر الثاني على الإخلاص في التوبة والاستمرار عليها، والتراخي عليه يجوز أن يكون رتيبا وأن يكون زمانيا كما لا يخفى يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً مجزوم بالطلب، ونصب مَتاعاً على أنه مفعول مطلق من غير لفظه كقوله تعالى: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] ويجوز أن يكون مفعولا به على أنه اسم لما ينتفع به من منافع الدنيا من الأموال والبنين وغير ذلك، والمعنى كما قيل يعشكم في أمن وراحة، ولعل هذا لا ينافي كون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ولا كون أشد الناس بلاء الأمثل فالأمثل لأن المراد بالأمن أمنه من غير الله تعالى وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: ٣] وبالراحة طيب عيشه برجاء الله تعالى والتقرب إليه حتى يعد المحنة منحة:
وتعذيبكم عذب لدي وجوركم علي بما يقضي الهوى لكم عدل
(١) قوله بهز إلخ كذا في خطه رحمه الله والمعروف
كهز الرديني تحت العجاج
جرى إلخ. [.....]

صفحة رقم 194

وقال الزجاج: المراد يبقيكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الذين كفروا، والخطاب لجميع الأمة بقطع النظر عن كل فرد فرد إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى مقدر عند الله تعالى وهو آخر أعماركم أو آخر أيام الدنيا كما يقتضيه كلام الزجاج، ولا دلالة في الآية على أن للإنسان أجلين كما زعمه المعتزلة وَيُؤْتِ أي يعط كُلَّ ذِي فَضْلٍ أي زيادة في العمل الصالح فَضْلَهُ أي جزاء فضله في الدنيا أو في الآخرة لأن العمل لا يعطي، وقد يقال:
لا حاجة إلى تقدير المضاف، والمراد المبالغة على حد سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ [الأنعام: ١٣٩] والضمير لكل، ويجوز أن يعود إلى الرب، والمراد بالفضل الأول ما أريد به أولا وبالثاني زيادة الثواب بقرينة أن الإعطاء ثواب وحينئذ يستغني عن التأويل.
واختار بعض المحققين التفسير الأول ثم قال: وهذه تكملة لما أجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتبيين لما عسى أن يعسر فهم حكمته من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحال بين العالمين فرب إنسان له فضل طاعة وعمل لا يمتع في الدنيا أكثر مما متع آخر دونه في الفضل وربما يكون المفضول أكثر تمتيعا فقيل: ويعط كل فاضل جزاء فضله إما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة وذلك مما لا مرد له انتهى.
ويفهم من كلام بعضهم عدم اعتبار الانفصال على أنه سبحانه ينعم على ذي الفضل في الدنيا والآخرة ولا يختص إحسانه بإحدى الدارين، ولا شك أن كل ذي عمل صالح منعم عليه في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وكذا في الدنيا بتزيين العمل الصالح في قلبه والراحة حسب تعليق الرجاء بربه ونحو ذلك ولا إشكال في ذلك كما هو ظاهر للمتأمّل، وقيل: في الآية لف ونشر فإن التمتيع مرتب على الاستغفار وإيتاء الفضل مرتب على التوبة انتهى.
وأيّا ما كان ففي الكلام ضرب تفصيل لما أجمل فيما سبق من البشارة، ثم شرع في الإنذار بقوله سبحانه:
وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تستمروا على الإعراض عما ألقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة، وأصله تتولوا فهو مضارع مبدوء بتاء الخطاب لأن ما بعده يقتضيه وحذفت منه إحدى التاءين كما فعل في أمثاله، وقيل: إن تَوَلَّوْا ماض غائب فلا حذف ويقدر فيما بعد فقل لهم وهم خلاف الظاهر، وأخر الإنذار عن البشارة جريا على سنن تقدم الرحمة على الغضب أو لأن العذاب قد علق بالتولي عما ذكر من التوحيد وما معه وذلك يستدعي سابقة ذكره.
وقرأ عيسى بن عمرو واليماني «تولوا» بضم التاء وفتح الواو وضم اللام وهو مضارع- ولى- من قولهم: ولى هاربا أي أدبر فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ بمقتضى الشفقة والرأفة أو أتوقع عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة وصف بذلك لكبر ما يكون فيه ولذا وصف بالثقل أيضا، وجوز وصفه بالكبر لكونه كذلك في نفسه، وقيل: المراد به زمان ابتلاهم الله تعالى فيه في الدنيا، وقد روي أنهم ابتلوا بقحط عظيم أكلوا فيه الجيف، وأيّا ما كان ففي إضافة العذاب إليه تهويل وتفظيع له إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ مصدر ميمي وكان قياسه فتح الجيم لأنه من باب ضرب وقياس مصدره الميمي ذلك كما علم من محله، أي إليه تعالى رجوعكم بالموت ثم البعث للجزاء في مثل ذلك اليوم لا إلى غيره جميعا لا يتخلف منكم أحد وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيندرج في تلك الكلية قدرته سبحانه على إماتتكم ثم بعثكم وجزائكم فيعذبكم بأفانين العذاب، وهذا تقرير وتأكيد لما سلف من ذكر اليوم وتعليل للخوف.
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ كأنه جواب سؤال مقدر، وذلك أنه لما ألقي إليهم ما ألقي وسيق إليهم ما سيق من الترغيب والترهيب وقع في ذهن السامع أنهم بعد ما سمعوا مثل هذا المقال الذي تخر له صم الجبال

صفحة رقم 195

هل قابلوا بالإقبال أم تمادوا فيما كانوا عليه من الإعراض والضلال فقيل: مصدرا بكلمة التنبيه إشعارا بأن ما بعدها من هناتهم أمر ينبغي أن يفهم ويتعجب منه أَلا إِنَّهُمْ إلخ، فضمير إِنَّهُمْ للمشركين المخاطبين فيما تقدم و «يثنون» بفتح الياء مضارع ثنى الشيء إذا لواه وعطفه، ومنه على ما قيل الاثنان، لعطف أحدهما على الآخر والثناء لعطف المناقب بعضها على بعض وكذا الاستثناء للعطف على المستثنى منه بالإخراج، وأصله يثنيون فأعل بالإعلال المعروف في نحو يرمون، وفي المراد منه احتمالات: منها أن الثني كناية أو مجاز عن الإعراض عن الحق لأن من أقبل على شيء واجهه بصدره ومن أعرض صرفه عنه، أي إنهم يثنون صدورهم عن الحق ويتحرفون عنه، والمراد استمرارهم على ما كانوا عليه من التولي والإعراض المشار إليه بقوله سبحانه: وَإِنْ تَوَلَّوْا إلخ. ومنها أنه مجاز عن الإخفاء لأن ما يجعل داخل الصدر فهو خفي أي إنهم يضمرون الكفر والتولي عن الحق وعداوة النبي صلّى الله عليه وسلم. ومنها أنه باق على حقيقته، والمعنى أنهم إذا رأوا النبي عليه الصلاة والسلام فعلوا ذلك وولوا ظهورهم، والظاهر أن اللام متعلقة- بيثنون- على سائر الاحتمالات، وكأن بعضهم رأى عدم صحة التعلق على الاحتمال الأول لما أن التولي عن الحق لا يصلح تعليله بالاستخفاء لعدم السببية فقدر لذلك متعلقا فعل الإرادة على أنه حال أو معطوف على ما قبله، أي ويريدون ليستخفوا من الله تعالى فلا يطلع رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على أغراضهم، وجعله في قود المعنى أليه من قبيل الإضمار في قوله تعالى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: ٦٣] أي فضرب فانفلق، لكن لا يخفى أن انسياق الذهن إلى توسيط الإرادة بين ثني الصدور والاستخفاء ليس بمثابة انسياقه إلى توسيط الضرب بين الأمر والانفلاق كما ذكره العلامة القسطلاني وغيره، وقيل: إنه لا حاجة إلى التقدير في الاحتمالين الأولين لأن انحرافهم عن الحق بقلوبهم وعطف صدورهم على الكفر والتولي وعداوة النبي صلّى الله عليه وسلم وعدم إظهارهم ذلك يجوز أن يكون للاستخفاء من الله تعالى لجهلهم بما لا يجوز على الله تعالى، وأما على الاحتمال الثالث فالظاهر أنه لا بد من التقدير إلا أن يعاد الضمير منه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما ذكره أبو حيان من أن الآية نزلت في بعض الكفار الذين كانوا إذا لقيهم النبي صلّى الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه وكراهة للقائه عليه الصلاة والسلام وهم يظنون أنه يخفى عليه صلّى الله عليه وسلم، لكن ظاهر قوله تعالى الآتي:
يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ يقتضي عود الضمير إليه تعالى. واختار بعض المحققين الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاث، وأمر التعليل والضمير عليه ظاهر، وأيده بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو المنطق حسن السياق للحديث يظهر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم المحبة ويضمر في قلبه ما يضادها لكنه ليس بمجمع عليه لما سمعت عن أبي حيان.
وقيل: إنه كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي فنزلت، وأخرج ابن جرير: وغيره عن عبد الله بن شداد أنها نزلت في المنافقين كان أحدهم إذا مر بالنبي صلّى الله عليه وسلم ثنى صدره وتغشى لئلا يراه، وهو في معنى ما تقدم عن أبي حيان إلا أن فيه بعض الكفار دون المنافقين، فلا يرد عليه ما أورد على هذا من أن الآية مكية والنفاق إنما حدث بالمدينة فكيف يتسنى القول بأنها نزلت في المنافقين؟ وقد أجيب عن ذلك بأنه ليس المراد بالنفاق ظاهره بل ما كان يصدر من بعض المشركين الذين كان لهم مداراة تشبه النفاق، وقد يقال: إن حديث حدوث النفاق بالمدينة ليس إلا غير مسلم بل ظهوره إنما كان فيها والامتياز إلى ثلاث طوائف، ثم لو سلم فلا إشكال بل يكون على أسلوب قوله سبحانه: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ [الحجر: ٩٠] إذا فسر باليهود ويراد به ما جرى على بني قريظة فإنه إخبار عما سيقع، وجعله كالواقع لتحققه وهو من الإعجاز لأنه وقع كذلك فكذا

صفحة رقم 196

ما نحن فيه. نعم الثابت في صحيح البخاري. وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق محمد بن عباد ابن جعفر أنه سمع ابن عباس يقرأ الآية فسأله عنها فقال: أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وإن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم، وليس في الروايات السابقة ما يكافىء هذه الرواية في الصحة، وأمر يَثْنُونَ عليها ظاهر خلا أنه إذا كان المراد بالأناس جماعة من المسلمين كما صرح به الجلال السيوطي أشكل الأمر، وذلك لأن الظاهر من حال المسلم إذا استحى من ربه سبحانه فلم يكشف عورته مثلا في خلوة كان مقصوده مجرد إظهار الأدب مع الله تعالى مع علمه بأنه جل شأنه لا يحجب بصره حاجب ولا يمنع علمه شيء ومثل هذا الحياء أمر لا يكاد يذمه أحد بل في الآثار ما هو صريح في الأمر به وهو شعار كثير من كبار الأمة، والقول بأن استحياء أولئك المسلمين كان مقرونا بالجهل بصفاته عز وجل فظنوا أن الثني يحجب عن الله سبحانه فرد عليهم بما رد لا أظنك تقبله، وبالجملة الأمر على هذه الرواية لا يخلو عن إشكال ولا يكاد يندفع بسلامة الأمر، والذي يقتضيه السياق ويستدعيه ربط الآيات كون الآية في المشركين حسبما تقدم فتدبر والله تعالى أعلم.
وقرأ الحبر رضي الله تعالى عنه ومجاهد، وغيرهما «تثنوني» بالتاء لتأنيث الجمع وبالياء التحتية لأن التأنيث غير حقيقي، وهو مضارع اثنونى كاحلولى فوزنه تفعوعل بتكرير العين وهو من أبنية المزيد الموضوعة للمبالغة لأنه يقال حلي فإذا أريد المبالغة قيل احلولى وهو لازم- فصدورهم- فاعلة، ويراد منه ما أريد من المعاني في قراءة الجمهور إلا أن المبالغة ملحوظة في ذلك فيقال: المعنى مثلا تنحرف صدورهم انحرافا بليغا. وعن الحبر أيضا وعروة وغيرهما أنهم قرؤوا «تثنون» بفتح التاء المثناة من فوق وسكون التاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة، والأصل تثنونن بوزن تفعوعل من الثن بكسر الثاء وتشديد النون وهو ما هش وضعف من الكلأ أنشد أبو زيد:
يا أيها المفضل المعني... إنك ريان فصمت عني
تكفي اللقوح أكلة من ثن
ولزم الإدغام لتكرير العين إذا كان غير ملحق وصُدُورَهُمْ على هذه مرفوع أيضا على الفاعلية، والمعنى على وصف قلوبهم بالسخافة والضعف كذلك النبت الضعيف، فالصدور مجاز عما فيها من القلوب، وجوز أن يكون مطاوع ثناه فإنه يقال: ثناه فانثنى واثنونى كما صرح به ابن مالك في التسهيل فقال: وافعوعل للمبالغة وقد يوافق استفعل ويطاوع فعل ومثلوه بهذا الفعل، فالمعنى أن صدورهم قبلت الثني ويؤول إلى معنى انحرفت كما فسر به قراءة الجمهور. وعن مجاهد وكذا عروة الأعشى أنه قرأ «تثنئن» كتطمئن وأصله يثنان فقلبت الألف همزة مكسورة رغبة في عدم التقاء الساكنين وإن كان على حدة، ويقال في ماضيه اثنان كاحمأر وابيأض، وقيل: أصله تثنون بواو مكسورة فاستثقلت الكسرة على الواو فقلبت همزة كما قيل في وشاح أشاح وفي وسادة إسادة فوزنه على هذا تفوعل وعلى الأول تفعال، ورجح باطراده وهو من الثن الكلأ الضعيف أيضا، وقرىء «تثنوي» كترعوي ونسب ذلك إلى ابن عباس أيضا، وغلط النقل بأنه لا حظ للواو في هذا الفعل إذ لا يقال: ثنوته فانثوى كرعوته فارعوى ووزن ارعوى من غريب الأوزان، وفي الصحاح تقديره افعول ووزنه افعلل، وإنما لم يدغم لسكون الياء وتمام الكلام فيه يطلب من محله، وقرىء بغير ذلك، وأوصل بعضهم القراءات إلى ثلاث عشرة وفصلها في الدر المصون، ومن غريبها أنه قرىء «يثنون» بالضم.
واستشكل ذلك ابن جني بأنه لا يقال: أثنيته بمعنى ثنيته ولم يسمع في غير هذه القراءة، وقال أبو البقاء: لا يعرف ذلك في اللغة إلا أن يقال: معناه عرضوها للانثناء كما تقول: أبعت الفرس إذا عرضته للبيع أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي يجعلونها أغشية، ومنه قول الخنساء:

صفحة رقم 197

أرعى النجوم وما كلفت رعيتها وتارة أتغشى فضل أطماري
وحاصله حين يأوون إلى فراشهم ويلتحفون بما يلتحف به النائم، وهو وقت كثيرا ما يقع فيه حديث النفس عادة، وعن ابن شداد حين يتغطون بثيابهم للاستخفاء، وأيّا ما كان فالمراد من الثياب معناه الحقيقي وقيل: المراد به الليل وهو يستر كما تستر الثياب، ومن ذلك قولهم: الليل أخفى للويل، والظرف متعلق بقوله سبحانه: يَعْلَمُ أي ألا يعلم ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ حين يستغشون ثيابهم ولا يلزم منه تقييد علم الله تعالى بذلك الوقت لأن من يعلم فيه يعلم فيه غيره بالطريق الأولى، وجوز تعلقه بمحذوف وقدره السمين وأبو البقاء يستخفون وبعضهم يريدون، و «ما» في الموضعين إما مصدرية أو موصولة عائدها محذوف أي الذي يسرونه في قلوبهم والذي يعلنونه أي شيء كان ويدخل ما يقتضيه السياق دخولا أوليا، وخصه بعضهم به، وقدم هنا السر على العلن نعيا عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذانا بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه وتحقيقا للمساواة بين العلمين على أبلغ وجه فكأن علمه سبحانه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه، وحاصل المعنى يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه سبحانه ما عسى أن يظهروه.
وقرأ ابن عباس «على حين يستغشون» قال ابن عطية: ومن هذا الاستعمال قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل لما سبق وتقرير له، والمراد- بذات الصدور- الأسرار المستكنة فيها أو القلوب التي في الصدور، وأيّا ما كان فليست الذات مقحمة كما في ذات غدوة ولا من إضافة المسمى إلى اسمه كما توهم، أي إنه تعالى مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم أو بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها فكيف يخفى عليه ما يسرون وما يعلنون، وكان التعبير بالجملة الاسمية للإشارة إلى أنه سبحانه لم يزل عالما بذلك، وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها الخارجي، وهذا مما لا ينكره أحد سوى شرذمة من المعتزلة قالوا: إنه تعالى إنما يعلم الأشياء بعد حدوثها تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولا يلزم هذا بعض المتكلمين المنكرين للوجود الذهني لأنهم إذا لم يقولوا به مع إنكار الوجود الذهني يلزمهم القول بتعلق العلم بالمعدوم الصرف، وامتناعه من أجل البديهيات، والإنكار مكابرة أو جهل بمعنى التعلق بالمعدوم الصرف، وقد أورد ذلك عليهم المحقق الدواني، وهو ناشىء على ما قيل عن الذهول عن معنى إنكار الوجود الذهني وبعد تحقيق المراد منه يندفع ذلك وبيانه أنه ليس معنى إنكارهم ذلك أنه لا يحصل صورة عند العقل إذا تصورنا شيئا أو صدقنا به لأن حصولها عنده في الواقع بديهي لا ينكره إلا مكابر، وكيف ينكره الجمهور والعلم الحادث مخلوق عندهم والخلق إنما يتعلق بأعيان الموجودات بل هو بمعنى أن ذلك الحصول ليس نحوا آخر من وجود الماهية المعلومة بأن يكون الماهية واحدة كالشمس مثلا وجودان، أحدهما خارجي والآخر ذهني كما يقول به مثبتوه، فهم لا ينكرون الوجود عن صور الأشياء وأشباحها وهي موجودات خارجية وكيفيات نفسانية وهي المخلوقة عندهم، وإنما ينكرون الوجود الذهني عن أنفس تلك الأشياء وذلك بشهادة أدلتهم حيث قالوا: لو حصلت النار في الأذهان لاحترقت الأذهان بتصورها واللازم باطل فإنه كما ترى إنما ينفي الوجود عن نفس النار لا عن شبحها ومثالها، فالحق أن الجمهور إنما أنكر وإما ذهب إليه محققو الحكماء من أن الحاصل في الأذهان أنفس ماهيات الأشياء ولم ينكروا ما ذهب إليه أهل الأشباح، وحينئذ يقال: علم الواجب عندهم إما تعلقه بأشباح الأشياء أو صفة ذات ذلك التعلق فلا يلزمهم القول بما قاله الشرذمة، ولا يتجه عليهم أن التعلق بتلك الأشباح الموجودة في الأزل لكونه نسبة بينها وبينه تعالى متأخر عنها فيلزم إيجاد تلك الأشباح بلا علم

صفحة رقم 198

وهو محال، لأنا نقول لما كان الواجب (١) تعالى موجبا فيعلمه وسائر صفاته الذاتية كان وجود تلك الصور الإدراكية التي هي تلك الأشباح مقتضى ذاته تعالى فلا بأس في كونها سابقة على العلم بالذات وإنما المسبوق بالعلم هو أفعاله الاختيارية، ثم ينبغي أن يعلم أنه ليس معنى قولهم: إن علم الواجب تبارك وتعالى بالأشياء أزلي وتعلقه بها حادث أنه ليس هناك إلا تعلق حادث لأنه يلزم حدوث نفس العلم فيعود ما ارتكبه الشرذمة للقطع بأنه لا يصير المعلوم معلوما قبل تعلق العلم به وهو من الفساد بمكان، بل معناه أن التعلق الذي لا تقتضيه حقيقة العلم حادث وهناك تعلق تقتضيه تلك الحقيقة وهو قديم، وذلك لأن الأشباح والأمثال معلومة بالذات وبواسطتها تعلم الأشياء، فتعلق العلم عندهم أعم من تعلقه بذات الشيء المعلوم أو بمثاله وشبحه، ولما لم يمكن وجود الحوادث في الأزل كان العلم الممكن بالنسبة إليها بالتعلق بأمثالها وأشباحها وبعد حدوثها يتجدد التعلق بأن يكون بذات تلك الحوادث. وبالجملة تعلق العلم بأمثال الحوادث وأشباحها أزلي وبأنفسها وذواتها حادث ولا إشكال فيه أصلا، وبهذا التحقيق يندفع شبهات كثيرة كما قيل، لكن أورد عليه أن برهان التطبيق جار في هاتيك الأشباح لما أنها متميزة الآحاد في نفس الأمر فيلزم أحد المحذورين.
وفي المقام أبحاث طويلة الذيل وقد بسط الكلام في ذلك مولانا إسماعيل أفندي الكلنبوي في حواشيه على شرح العضدية، وللمولى الشيخ إبراهيم الكوراني تحقيق على طرز آخر ذكره في كتابه مطلع الجود فارجع إليه.
وبالجملة لا تخفى صعوبة هذه المسألة وهي مما زلت فيها أقدام أقوام، ولعل الله سبحانه يرزقك تحقيقها بمنه سبحانه، وقد قال به أفضل المتأخرين مولانا إسماعيل أفندي الكنبوي (٢).

(١) قوله «لما كان الواجب» إلخ كذا بخطه وتأمله
(٢) تم الجزء الحادي عشر بحول الله وقوته ويليه الجزء الثاني عشر واوله وَما مِنْ دَابَّةٍ.

صفحة رقم 199

الجزء الثاني عشر

صفحة رقم 201
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية