
قُلْنَا: إِنَّهُمْ إِنَّمَا حَرَّفُوهَا بِسَبَبِ إِخْفَاءِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنْ بَقِيَتْ فِيهَا آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهَا لَمَّا بَقِيَتْ مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى إِزَالَتِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَإِمَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ مَعْرِفَةُ أَيِّ الْأَشْيَاءِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَمَعْرِفَةُ نُبُوَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَجَعَ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ [يُونُسَ: ٩٣] وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ وَالْحَاجَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ أَتَمُّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذَا الطَّرِيقَ قَالَ بَعْدَهُ: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أَيْ فَاثْبُتْ وَدُمْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنِ انْتِفَاءِ الْمِرْيَةِ عَنْكَ، وَانْتِفَاءِ التَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللَّه، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّهْيِيجِ وَإِظْهَارِ التَّشَدُّدِ وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ نُزُولِهِ «لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ بَلْ أَشْهَدُ أَنَّهُ الْحَقُّ».
ثُمَّ قَالَ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِرَقَ الْمُكَلَّفِينَ ثَلَاثَةٌ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُصَدِّقِينَ بِالرَّسُولِ، أَوْ مِنَ الْمُتَوَقِّفِينَ فِي صِدْقِهِ، أَوْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَمْرَ الْمُتَوَقِّفِ أَسْهَلُ مِنْ أَمْرِ الْمُكَذِّبِ، لَا جَرَمَ قَدْ ذَكَرَ الْمُتَوَقِّفَ بِقَوْلِهِ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْمُكَذِّبِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنَ الْخَاسِرِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا فَصَّلَ هَذَا التَّفْصِيلَ، بَيَّنَ أَنَّ لَهُ عِبَادًا قَضَى عَلَيْهِمْ بِالشَّقَاءِ فَلَا يَتَغَيَّرُونَ وَعِبَادًا قَضَى لَهُمْ بِالْكَرَامَةِ، فَلَا يَتَغَيَّرُونَ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: كَلِمَاتُ عَلَى الْجَمْعِ، وقرأ الباقون: كَلِمَتُ عَلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ، وَأَقُولُ إِنَّهَا كَلِمَاتُ بِحَسَبِ الْكَثْرَةِ النَّوْعِيَّةِ أَوِ الصِّنْفِيَّةِ وَكَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ بِحَسَبِ الْوَاحِدَةِ الْجِنْسِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ حُكْمُ اللَّه بِذَلِكَ وَإِخْبَارُهُ عَنْهُ، وَخَلْقُهُ فِي الْعَبْدِ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةِ، الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْأَثَرِ، أَمَّا الْحُكْمُ وَالْإِخْبَارُ وَالْعِلْمُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَجْمُوعُ/ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي فَظَاهِرٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَمَّا كَانَتْ صَالِحَةً لِلطَّرَفَيْنِ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ مِنَ اللَّه تَعَالَى قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وَعِنْدَ حُصُولِ هَذَا الْمَجْمُوعِ يَجِبُ الْفِعْلُ، وَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي إِثْبَاتِ الْقَضَاءِ اللَّازِمِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَلَا مَحِيصَ عَنْهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الْبَتَّةَ، وَلَوْ جَاءَتْهُمُ الدَّلَائِلُ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَهْدِي إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّه تَعَالَى فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ تِلْكَ الْإِعَانَةُ ضَاعَتْ تِلْكَ الدَّلَائِلُ.
الْقِصَّةُ الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، قصة يونس عليه السلام
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٨]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى

يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
[يونس: ٩٦، ٩٧] أَتْبَعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ آمَنُوا بَعْدَ كُفْرِهِمْ وَانْتَفَعُوا بِذَلِكَ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِخَاتِمَةِ الْكُفْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِخَاتِمَةِ الْإِيمَانِ وَكُلُّ مَا قَضَى اللَّه بِهِ فَهُوَ وَاقِعٌ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَلِمَةِ فَلَوْلا فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَرِيقَانِ:
الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» قَالَ: قَالَ أَبُو مَالِكٍ صَاحِبُ ابْنِ عَبَّاسٍ كُلُّ مَا فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى مِنْ ذِكْرِ لَوْلَا، فَمَعْنَاهُ هَلَّا، إِلَّا حَرْفَيْنِ، فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها مَعْنَاهُ فَمَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ، فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا، وَكَذَلِكَ فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ [هود: ١١٦] مَعْنَاهُ، فَمَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ، فَعَلَى هَذَا تَقْدِيرُ الْآيَةِ، فَمَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ. وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عَنِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى الْقَرْيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَهْلَهَا وَوَقَعَ اسْتِثْنَاءُ الْقَوْلِ مِنَ الْقَرْيَةِ، فَكَانَ كَقَوْلِهِ:
وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أحد... ألا أواري
وَقُرِئَ أَيْضًا بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ (لَوْلَا) مَعْنَاهُ هَلَّا، وَالْمَعْنَى هَلَّا كَانَتْ قرية واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عَنِ الْكُفْرِ وَأَخْلَصَتْ فِي الْإِيمَانِ قَبْلَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ. وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي اسْتِثْنَاءَ قَوْمِ يُونُسَ مِنَ الْقُرَى، إِلَّا أَنَّ الْمَعْنَى اسْتِثْنَاءُ قَوْمِ يُونُسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى وَلَكِنَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا فَعَلْنَا بِهِمْ كَذَا وَكَذَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ إِلَى نِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَكَذَّبُوهُ فَذَهَبَ عَنْهُمْ مُغَاضِبًا، فَلَمَّا فَقَدُوهُ خَافُوا نُزُولَ الْعِقَابِ، فَلَبِسُوا الْمُسُوحَ وَعَجُّوا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ يُونُسُ قَالَ لَهُمْ إِنَّ أَجْلَكُمْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً فَقَالُوا: إِنْ رَأَيْنَا أَسْبَابَ الْهَلَاكِ آمَنَّا بِكَ، فَلَمَّا مَضَتْ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ لَيْلَةً ظَهَرَ فِي السَّمَاءِ غَيْمٌ أَسْوَدُ شَدِيدُ السَّوَادِ، فَظَهَرَ مِنْهُ دُخَانٌ شَدِيدٌ وَهَبَطَ ذَلِكَ الدُّخَانُ حَتَّى وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ وَسَوَّدَ سُطَوَحَهُمْ فَخَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَبَيْنَ الدَّوَابِّ وَأَوْلَادِهَا فَحَنَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَعَلَتِ الْأَصْوَاتُ، وَكَثُرَتِ التَّضَرُّعَاتُ وَأَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَالتَّوْبَةَ وَتَضَرَّعُوا إِلَى اللَّه تَعَالَى فَرَحِمَهُمْ وَكَشَفَ عَنْهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَلَغَ مِنْ تَوْبَتِهِمْ أَنْ يَرُدُّوا الْمَظَالِمَ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَقْلَعُ الْحَجَرَ بَعْدَ أَنْ وَضَعَ عَلَيْهِ بِنَاءَ أَسَاسِهِ فَيَرُدُّهُ إِلَى مَالِكِهِ، وَقِيلَ خَرَجُوا إِلَى شَيْخٍ مِنْ بَقِيَّةِ عُلَمَائِهِمْ فَقَالُوا قَدْ نَزَلَ بِنَا الْعَذَابُ فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَهُمْ قُولُوا يَا حَيُّ حِينَ لَا حَيَّ وَيَا حَيُّ يَا مُحْيِي الْمَوْتَى وَيَا حَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، فَقَالُوا فَكَشَفَ اللَّه الْعَذَابَ عَنْهُمْ، وَعَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنَّ ذُنُوبَنَا قَدْ عَظُمَتْ وَجَلَّتْ وَأَنْتَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَأَجَلُّ افْعَلْ بِنَا مَا أَنْتَ أَهْلُهُ وَلَا تَفْعَلْ بِنَا مَا نَحْنُ أَهْلُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ تَابَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَقْبَلْ تَوْبَتَهُ وَحَكَى عَنْ قَوْمِ يُونُسَ أَنَّهُمْ تَابُوا وَقَبِلَ تَوْبَتَهُمْ فَمَا الْفَرْقُ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ إِنَّمَا تَابَ بَعْدَ أَنْ شَاهَدَ الْعَذَابَ، وَأَمَّا قَوْمُ يُونُسَ فَإِنَّهُمْ تَابُوا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا ظَهَرَتْ لَهُمْ أَمَارَاتٌ دَلَّتْ عَلَى قُرْبِ الْعَذَابِ تَابُوا قَبْلَ أن شاهدوا فظهر الفرق.