
وهم حملة الكتاب «التوراة والإنجيل» ووصفهم بأن العلم قد جاءهم إذ أمر رسول الله مكتوب عندهم، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأراد هنا- جل شأنه- أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وصدق نبوة محمد- عليه الصلاة والسلام- على سبيل المبالغة فقال: فإن وقع منك شك فرضا وتقديرا- كما تقول لابنك: إن كنت ابني حقا فافعل كذا- مما أنزلناه إليك من قصص نوح وموسى مثلا، فسل علماء أهل الكتاب الذين يقرءون الكتاب من قبلك، والمراد أنهم على علم تام بصحة ما أنزل إليك، وهم يصلحون لمراجعة مثلك ومساءلتهم فضلا عن غيرك، فالغرض وصف الأخبار بالعلم لا وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم بالشك والريب، وعن ابن عباس- رضى الله عنه-:
لا والله ما شك طرفة عين، ولا سأل أحدا منهم، وقيل: خوطب رسول الله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ والمراد أمته أو من يقع في شك فعليه بالرجوع إلى مصادر العلم من الكتب الإلهية، ومناقشة أهل العلم ورجاله.
تالله لقد جاءك الحق الثابت من ربك الذي لا شك فيه أبدا ولا ريب، فلا تكونن من الممترين الشاكين. والمراد دم على ما أنت عليه. ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين في الدنيا والآخرة، وفي هذا تعريض بالكفار المكذبين الخاسرين الضالين.
إن الذين حقت عليهم كلمة ربك وثبت فيهم حكمه وقضاؤه لا يؤمنون أبدا، وليس المعنى أن الله يمنعهم من الإيمان، بل هم الذين يختارونه ويكسبونه، والمراد أن من علم الله فيهم خيرا أو شرا لا بد من حصوله لأن علم الله لا يتخلف.
إن هؤلاء الذين علم الله أنهم لا يؤمنون. هم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية كونية أو علمية أو قرآنية، لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، وحينئذ لا ينفعهم إيمان ولا توبة.
إيمان قوم يونس [سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠)

المفردات:
الرِّجْسَ القذارة، وأقبح الخبث المعنوي.
المعنى:
الإيمان الذي ينفع صاحبه هو الإيمان وقت التكاليف، أما إذا حصل في وقت تسقط فيه التكاليف. وذلك عند حشرجه الموت، أو عند الغرق، كما حصل لفرعون، أو عند نزول العذاب، فلا ينفع نفسا- والحالة هذه- إيمانها.
فهلا كانت قرية من القرى التي أرسل فيها الأنبياء السابقون آمنت في وقت ينفعها الإيمان أى: وقت العمل لا وقت نزول العذاب واستحالة العمل والمعنى: ما كانت قرية آمنت إلا قوم يونس آمنوا لما ذهب مغاضبا، وحذرهم العذاب الشديد، ورأوا تباشيره، فلما آمنوا كشفنا عنهم العذاب، ومنعنا عنهم الخزي والهلاك في الدنيا، ومتعناهم لما آمنوا إلى انقضاء آجالهم المقدرة لهم.
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا. بأن يخلقهم وفيهم الاستعداد للإيمان فقط كالملائكة، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولكن شاءت مشيئته العالية لحكم هو يعلمها أن يخلق الإنسان وفيه استعداد للخير والشر، وللإيمان وللكفر وتركه بلا إلجاء وقسر بل جعل له الحرية الكاملة لاختيار إحدى الطريقتين بعد أن هداه النجدين وأبان له الأمرين.
أفأنت تكره الناس على الإيمان؟!! لا، لا إكراه في الدين لمخلوق أبدا وإنما الذي يقدر على الإكراه هو الله- سبحانه وتعالى- القادر على كل شيء.