
لو وقفوا مع الله بسرّ الرضا لأتتهم فنون العطاء وتحقيقات المنى، ولحفظوا مع الله- عند الوجدان «١» - ما لهم من الأدب، من غير معاناة تعب، ولا مقاساة نصب.. ولكنّهم عرّجوا فى أوطان الطمع فوقعوا فى الذّلّ والحرب.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٠]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
«٢» تكلّم الفقهاء فى صفة الفقير، والفرق بينه وبين المسكين لما احتاجوا إليه فى قسمة الزكاة المفروضة.. فأبو حنيفة رحمة الله عليه- يقول: المسكين الذي لا شىء له. والفقير الذي له بلغة من العيش.
ويقول الشافعي رحمة الله عليه: الفقير الذي لا شىء له، والمسكين الذي له بلغة من العيش- أي بالعكس.
وأهل المعرفة اختلفوا فيه فمنهم من قال بالأول، ومنهم من قال بالقول الثاني، واختلافهم ليس كاختلاف الفقهاء وذلك لأن كلّ واحد منهم أشار إلى ما هو حاله ووقته ووجوده وشربه ومقامه. فمن أهل المعرفة من رأى أنّ أخذ الزكاة المفروضة أولى، قالوا إن الله تعالى جعل ذلك ملكا للفقير، فهو أحلّ له مما يتطّوع به عليه.
ومنهم من قال: الزكاة المفروضة مستحقة لأقوام، ورأوا الإيثار على الإخوان أولى من أن يزاحموا أرباب السهمان- مع احتياجهم أخذ الزكاة- وقالوا: نحن آثرنا الفقر اختيارا.
فلم نأخذ الزكاة المفروضة؟
(٢) نلفت النظر إلى أهمية موقف القشيري عند استخراج إشارات من هذه الآية الكريمة، فقد كانت فرصة جيدة لكى يقارن بين نظرة الفقهاء ونظرة الصوفية

ثم على مقتضى أصولهم فى الجملة- لا فى أخذ الزكاة- للفقر مراتب:
أوّلها الحاجة ثم الفقر ثم المسكنة فذو الحاجة من يرضى بدنياه وتسدّ الدنيا فقره، والفقير من يكتفى بعقباه وتجبر الجنة فقره، والمسكين من لا يرضى بغير مولاه لا إلى الدنيا يلتفت، ولا بالآخرة يشتغل، ولا بغير مولاه يكتفى قال رسول الله ﷺ «اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا، واحشرنى فى زمرة المساكين» «١» وقال ﷺ «أعوذ بك من الفقر» لأن عليه بقية «٢» فهو ببقيته محجوب عن ربّه.
ويحسن أن يقال إن الفقر الذي استعاذ منه ألا يكون له منه شىء، والمسكنة المطلوبة أن تكون له بلغة ليتفرّغ بوجود تلك البلغة إلى العبادة لأنه إذا لم تكن له بلغة شغله فقره عن أداء حقّه، ولذلك استعاذ منه.
وقوم سمت همهم عن هذا الاعتبار- وهذا أولى بأصولهم- فالفقير الصادق عندهم من لاسماء تظله ولا أرض تقلّه ولا معلوم يشغله، فهو عبد بالله لله، يردّه إلى التمييز فى أوان العبودية، وفى غير هذا الوقت فهو مصطلم عن شواهده، واقف بربّه، منشق عن جملته.
ويقال الفقير من كسرت فقاره- هذا فى العربية.
والفقير- عندهم «٣» - من سقط اختياره، وتعطلت عنه دياره، واندرست- لاستيلاء من اصطلمه- آثاره، فكأنه لم تبق منه إلا أخباره، وأنشدوا:
أمّا الرسوم فخبّرت أنهم رحلوا قريبا ويقال المسكين هو الذي أسكنه حاله بباب مقصوده، لا يبرح عن سدّته، فهو معتكف بقلبه، لا يغفل لحظة عن ربّه.
(٢) التفت السهروردي إلى ذلك حين ميز بين الفقير والصوفي فقال إن الفقير يتطلع إلى الأعواض، أما الصوفي فيترك الأشياء لا للأعواض الموعودة بل للأحوال الموجودة فإنه ابن وقته، والفقير له إرادة فى اختيار فقره، أما الصوفي فلا إرادة بنفسه ولكن فيما يوقفه الحق (عوارف المعارف ص ٤٢).
(٣) أي عند أرباب الأحوال. [.....]

وأمّا «العاملون عليها» فعلى لسان العلم: من يتولى جمع الزكاة على شرائطها المعلومة.
وعلى لسان الإشارة: أولى الناس بالتصاون عن أخذ الزكاة من صدق فى أعماله لله، فإنهم لا يرجون على أعمالهم عوضا، ولا يتطلبون فى مقابلة أحوالهم عرضا، وأنشدوا:
وما أنا بالباغى على الحب رشوة | قبيح هوىّ يرجى عليه ثواب «١» |
وحاشا أن يكون فى القوم «٢» من يكون حضوره بسبب طمع أو لنيل ثواب أو لرؤية مقام أو لاطلاع حال.. فذلك فى صفة العوام، فأما الخواص فكما قالوا.
من لم يكن بك فانيا عن حظه | وعن الهوى والإنس والأحباب |
أو تيمته صبابة جمعت له | ما كان مفترقا من الأسباب. |
فلأنّه بين المراتب واقف | لمنال حظّ أو لحسن مآب «٣» |
وهؤلاء «٤» لا يتحررون ولهم تعريج على سبب، أو لهم فى الدنيا والعقبى أرب، فهم لا يستفزّهم طلب، فمن كان به بقية من هذه الجملة فهو عبد لم يتحرر، قال رسول الله ﷺ وعلى آله: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وأنشد بعضهم:
أتمنى على الزمان محالا | أن ترى مقلتاى طلعة حرّ |
(٢) القوم هنا مقصود بها أرباب الأحوال.
(٣) الأبيات لأبى على الروذبارى (اللمع ص ٤٣٥)
(٤) وهؤلاء هنا مقصود بها أيضا ارباب الأحوال.