
والخلاصة- إنهم لو رضوا من الله بنعمته، ومن الرسول بقسمته، وعلّقوا أملهم بفضل الله وكفايته، وبما سينعم به عليهم فى مستأنف الأيام، وبأن الرسول يعدل فى القسمة لكان فى ذلك الخير كل الخير لهم.
وفى ذلك إيماء إلى أن المؤمن يجب أن يكون قانعا بكسبه وما يناله بحق من صدقة ونحوها مع توجيه قلبه إلى ربه، ولا يرغب إلا إليه فى الحصول على رغائبه التي وراء كسبه وحقوقه الشرعية.
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٠]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
تفسير المفردات
الصدقة: هى الزكاة الواجبة على النقد والأنعام والزرع والتجارة، والفقير، من له مال قليل دون النصاب (أقل من اثنى عشر جنيها) والمسكين من لا شىء له فيحتاج للمسألة لقوته وكسوته، والعامل عليها: هو الذي يولّيه السلطان أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء، والمؤلفة قلوبهم: هم الذين يراد استمالة قلوبهم إلى الإسلام أو التثبيت فيه، وفى الرقاب: أي وللإنفاق فى إعانة الأرقاء لفكاكهم من الرق، والغارمين: أي الذين عليهم غرامة من المال تعذر عليهم أداؤها، وفى سبيل الله:
أي وفى الطريق الموصل إلى مرضاة الله ومثوبته، والمراد بهم كل من سعى فى طاعة الله وسبل الخيرات كالغزاة والحجاج الذين انقطعت بهم السبل ولا مورد لهم من المال وطلبة العلم الفقراء، وابن السبيل: هو المسافر الذي بعد عن بلده ولا يتيسر له إحضار شىء من ماله فهو غنى فى بلده، فقير فى سفره، فريضة من الله: أي فرض الله ذلك فريضة ليس لأحد فيها رأى.

الإيضاح
مصارف الزكاة والأشخاص الذين تعطى لهم أصناف ثمانية:
(١) (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) أي إنما تعطى زكاة النقد أو النّعم أو التجارة أو الزرع للفقراء الذين يحتاجون إلى مواساة الأغنياء، لعدم وجود ما يكفيهم من المال بحسب حالهم.
(٢) (وَالْمَساكِينِ) وهم أسوأ حالا من الفقراء لقوله تعالى: «أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ» أي ألصق جلده بالتراب فى حقرة استتر بها مكان الإزار، وبطنه به لشدة الجوع وذلك منتهى الضر والشدة.
(٣) (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) وهم الذين يبعثهم السلطان لجبايتها أو حفظها، فيشمل الجباة (المحصّلين) وخزنة المال (مديرى الخزائن) وهم يأخذون منها عمالتهم على عملهم لا على فقرهم.
روى أحمد والشيخان أن ابن السعدي المالكي قال: استعملني عمر على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لى بعمالة، فقلت إنما عملت لله، فقال: خذ ما أعطيت فإنى عملت على عهد رسول الله ﷺ فعمّلنى (أعطانى العمالة) فقلت مثل قولك، فقال لى رسول الله ﷺ «إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدّق».
(٤) (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) وهم قوم يراد استمالتهم إلى الإسلام، أو تثبيتهم فيه، أو كفّ شرهم عن المسلمين، أو رجاء نفعهم فى الدفاع عنهم أو نصرهم على عدوّ لهم، وهم أصناف ثلاثة:
(ا) صنف من الكفار يرجى إيمانهم بتأليف قلوبهم كصفوان بن أمية الذي
وهب له النبي ﷺ الأمان يوم فتح مكة وأمهله أربعة أشهر لينظر فى أمره وأعطاه إبلا محمّلة، فقال هذا عطاء من لا يخشى الفقر،
وروى أنه قال: والله

لقد أعطانى وهو أبغض الناس إلىّ، فما زال يعطينى حتى إنه لأحبّ الناس إلى، وقد حسن إسلامه.
(ب) صنف أسلم على ضعف، ويرجى بإعطائه تثبيته وقوة إيمانه ومناصحته فى الجهاد كالذين أعطاهم النبي ﷺ العطايا الوافرة من غنائم هوازن، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة الذين أسلموا وكان منهم المنافق ومنهم ضعيف الإيمان، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم.
(ح) صنف من المسلمين فى الثغور وحدود بلاد الأعداء يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.
ويرى أبو حنيفة أن سهم هؤلاء قد انقطع بإعزاز الله الإسلام، واحتج بأن مشركا جاء يلتمس من عمر مالا فلم يعطه وقال (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وبأنه لم ينقل أن عثمان وعليا أعطيا أحدا من هذا النوع.
(٥) (وَفِي الرِّقابِ) أي وللإنفاق فى فك الرقاب بإعانة المكاتبين من الأرقاء فى فك رقابهم من لرق، أو لشراء العبيد واعتقاقهم، وهذا من أكبر الإصلاح البشرى الذي هو المقصود من رحمة الإسلام وعدله.
روى أحمد والبخاري عن البراء بن عازب قال: «جاء رجل إلى النبي ﷺ وقال: دلنى على عمل يقربنى من الجنة ويبعدنى من النار، فقال: أعتق النّسمة وفكّ الرقبة، فقال يا رسول الله أو ليسا واحدا؟ قال لا: عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين بثمنها».
(٦) (وَالْغارِمِينَ) وهم الذين عليهم ديون ركبتهم وتعذر عليهم أداؤها. وقد كان العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة فى دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، وكانوا إذا علموا أن واحدا منهم التزم غرامة أو تحمل حمالة بادروا إلى معونته على أدائها وإن لم يسأل، وكانوا يعدون سؤال المساعدة على ذلك فخرا لا ذلا.

فعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: «تحملت حمالة فأتيت رسول الله ﷺ أسأله فيها، فقال أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال يا قبيصة: إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من أهل الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، فما سواها من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا» رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود.
(٧) (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته، والمراد به الغزاة والمرابطون للجهاد، وروى عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله ويدخل فى ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد ونحو ذلك.
والحق أن المراد بسبيل الله مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد كتأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج وإن لم يوجد مصرف آخر، وليس منها حج الأفراد لأنه واجب على المستطيع فحسب.
(٨) (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المنقطع عن بلده فى سفر لا يتيسر له فيه شىء من ماله إن كان له مال، فهو غنى فى بلده، فقير فى سفره، فيعطى لفقره العارض ما يستعين به على العودة إلى بلده.
وفى ذلك عناية بالسياحة وتشجيع عليها على شرط أن يكون سفره فى غير معصية، ويكون هذا من أسباب التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.
وسهولة طرق الوصول فى العصر الحاضر ونقل الأخبار فى الزمن القليل جعلت نقل المال من بلد إلى آخر ميسورا بلا كلفة، فيسهل على الغنى أن يجلب ماله فى أي وقت أراد، وإلى أي مكان طلب.