آيات من القرآن الكريم

لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ

وللجهاد ثمرة يانعة عظيمة، فهو يحقق إحدى الحسنيين: إما النصر، وما الشهادة في سبيل الله، وفي ذلك من الخير العظيم مالا يوصف، سواء في الدنيا بإعلاء كلمة الله وإعزاز المسلمين، وفي الآخرة بالقرار في نعيمها والاستمتاع بخلود الجنة، ولا يقدّر هذا إلا المؤمن الصادق الإيمان، الذي يؤمن بأن القيامة حق، وبأن الثواب والعقاب فيها حق وصدق.
فما يستفاد بالجهاد من نعيم الآخرة خير وأعظم مما يستفيده القاعد عنه من الراحة والدعة والتنعم بهما، ولا تدرك هذه الخيرات إلا بالتأمل، ولا يعرفها إلا المؤمن بالآخرة، لذا قال الله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
تخلف المنافقين عن غزوة تبوك وقضية الإذن لهم
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
الإعراب:
بِاللَّهِ متعلق ب سَيَحْلِفُونَ أو هو من جملة كلامهم، والقول مراد في الوجهين، أي سيحلفون، يعني المتخلفين، عند رجوعك من غزوة تبوك، معتذرين يقولون: بِاللَّهِ.

صفحة رقم 227

لَخَرَجْنا سادّ مسدّ جوابي القسم والشرط. وهذا من المعجزات لأنه إخبار عما وقع قبل وقوعه.
يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ إما أن يكون بدلا من سَيَحْلِفُونَ أو حالا بمعنى: مهلكين. ويحتمل أن يكون حالا من قوله: لَخَرَجْنا أي لخرجنا معكم، وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك المشقة.
أَنْ يُجاهِدُوا في موضع نصب بإضمار: في، وقيل: التقدير كراهية أن يجاهدوا، مثل:
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء ٤/ ١٧٦].
البلاغة:
بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ استعار الشقة للمسافة الطويلة البعيدة الشاقة.
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ كناية عن خطئه في الإذن لأن العفو يعقب الخطأ، وهو خبر قصد به تقديم المسرة على المضرة، وإن من لطف الله بالنبي أن بدأه بالعفو قبل العتاب.
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ بيان لما كني عنه بالعفو، ومعناه: مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك وهلا استأنيت بالإذن؟
المفردات اللغوية:
لَوْ كانَ ما دعوتهم إليه من الخروج للجهاد عَرَضاً متاعا من الدنيا قريبا سهل المأخذ، أو ما يعرض من منافع الدنيا، ويكون غنيمة قريبة سَفَراً قاصِداً أي سهلا لا عناء فيه ولا مشقة، أي وسطا معتدلا لَاتَّبَعُوكَ طلبا للغنيمة الشُّقَّةُ المسافة البعيدة التي تحتاج لعناء ومشقة وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إذا رجعتم إليهم لَوِ اسْتَطَعْنا الخروج يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بالحلف الكاذب عَفَا اللَّهُ عَنْكَ العفو: التجاوز عن الخطأ وترك المؤاخذة عليه إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ في التخلف وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ شكت قلوبهم في الدين يَتَرَدَّدُونَ يتحيرون.
سبب النزول: نزول الآية (٤٣) :
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ: أخرج ابن جرير الطبري عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: اثنتان فعلهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذ

صفحة رقم 228

الفداء من الأسارى، فأنزل الله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ، لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ. وهذا مروي أيضا عن قتادة.
قال بعض العلماء: إنما بدر منه ترك الأولى، فقدّم الله العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب.
وهو عتاب تلطف إذ قال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. وكان صلّى الله عليه وآله وسلم أذن من غير وحي نزل فيه.
المناسبة:
بعد أن بالغ الله تعالى في ترغيب المؤمنين في الجهاد في سبيل الله، ووبخ المتثاقلين عنه بقوله: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين، وبيّن أن أقواما، مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد، تخلفوا عن غزوة تبوك، وأما الأكثر فكان يلبي نداء الجهاد بسرعة ونشاط لأنهم ينتظرون إحدى الحسنيين: إما الشهادة، وإما النصر.
فهذه الآيات نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وهي أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال، لذا سميت سورة براءة كما بينت آنفا «الفاضحة» لأنها فضحت أحوال المنافقين، قال ابن عباس: لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة أي لم يعرف شؤونهم مفصلة، فلما رجع من غزوة تبوك أظهر الله نفاق قوم.
التفسير والبيان:
وبخ الله تعالى في هذه الآيات المتخلفين عن غزوة تبوك، الذين استأذنوا

صفحة رقم 229

النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في التخلف، مظهرين أنهم ذوو أعذار، ولم يكونوا كذلك، فقال:
لَوْ كانَ عَرَضاً....
أي لو كان الأمر الذي دعوتهم إليه غنيمة أو منفعة قريبة المنال، أو سفرا سهلا قريبا لا عناء فيه، لاتبعوك أي لجاؤوا معك، وسارعوا إلى الذهاب، ولكنهم تخلفوا حينما رأوا أن السفر شاق إلى مسافة بعيدة إلى الشام، وأن القتال لأكبر قوة في العالم وهم الروم حينذاك، فآثروا الجبن والراحة والسلامة، والتفيؤ في الظلال وقت الحر والقيظ، فدل ذلك على انهم جماعة نفعيون ماديون دنيويون، كما
قال صلّى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: «لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا- أي عظما عليه لحم- سمينا أو مرماتين «١» حسنتين، لشهد العشاء»
أي لو علم أحدهم أنه يجد شيئا ماديا حاضرا معجّلا يأخذه، لأتى المسجد من أجله.
ثم أخبر الله تعالى عن شيء سيقع منهم فقال: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي سيقسمون بالله اليمين الكاذبة عند رجوعك من غزوة تبوك، كما قال: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ [التوبة ٩/ ٩٤] يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التوبة ٩/ ٩٦] قائلين: لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، أي لو لم يكن لنا أعذار لخرجنا معكم.
يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ في العذاب باليمين الكاذبة أو بالكذب والنفاق،
كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه خيثمة بن سليمان: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع».
وَاللَّهُ يَعْلَمُ، إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في الاعتذار والاعتلال وحلفهم بالله، وقولهم: لو استطعنا الخروج لخرجنا معكم، فإنهم لم يكونوا ذوي أعذار، وإنما كانوا أقوياء الأجسام، وأصحاب يسار. قال قتادة: لقد كانوا يستطيعون الخروج، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم وزهادة في الجهاد.

(١) المرماتان: تثنية مرماة: وهي ظلف الشاة، أو ما بين ظلفها من اللحم.

صفحة رقم 230

ثم عاتب الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم في إذنه لطائفة ممن تخلف من هؤلاء المنافقين، فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ... أي سامحك الله بإذنك لهم، لم أذنت لهم بالتخلف، وهلا استأنيت بالإذن وتوقفت عنه حتى تظهر لك الحقيقة، ويتبين لك الفريقان: الذين صدقوا، والذين كذبوا في إبداء الأعذار، وهلا تركتهم لما استأذنوك لتعلم الصادق منهم من الكاذب، فإنهم كانوا مصرين على التخلف وإن لم تأذن لهم فيه. على أن الله كره انبعاثهم، وكان في خروجهم ضرر وخطر على المسلمين.
قال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
لهذا أخبر الله تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله، فقال: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... أي لا يستأذنك في القعود عن الغزو المؤمنون بالله واليوم الآخر في أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، بل يقدمون على الجهاد من غير استئذان لأنهم يرون أن الجهاد قربة وسبيل إلى الجنة، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات ٤٩/ ١٥].
فليس من شأن المؤمنين ولا من عادتهم أن يستأذنوك في الجهاد، وكان أكابر المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الجهاد، فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى، فأي فائدة في الاستئذان؟
والله عليم بالمتقين خبير بمن خافه فاتقاه، باجتناب ما يسخطه، وفعل ما يرضيه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال فيما رواه مسلم وابن ماجه عن

صفحة رقم 231

أبي هريرة: «من خير معاش الناس لهم: رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعا، طار على متنه، يبتغي القتل والموت في مظانّه... »
أي خير أعمال الرجل إعداد فرسه في سبيل الله، كلما سمع صيحة لقتال أو دعوة لجهاد، أقدم قاصدا الاستشهاد في المواضع التي يظن فيها ذلك.
وإذا كان أهل الإيمان لا يستأذنون للجهاد عادة، فإن الذي يستأذنك في التخلف عن الجهاد من غير عذر، إنما هم المنافقون الذين لا يصدّقون بالله واليوم الآخر، ولا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة على أعمالهم، وشكّت قلوبهم في صحة ما جئتم به، فهم في شكهم أو ريبهم يتحيرون، ليس لهم ثبات على شيء، فهم قوم حيارى هلكى.
روي أن عدد هؤلاء كان تسعة وثلاثين رجلا.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- إن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، كما
قال صلّى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتقدم عن خيثمة بن سليمان: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع».
٢- الجهاد يتطلب التضحية والإيمان، للتغلب على أهواء النفس، وميلها إلى حب المنافع المادية العاجلة، وإيثارها على الباقي الدائم الخالد.
٣- القرآن معجز لأسباب كثيرة منها إخباره عن المغيبات في المستقبل، مثل إخباره تعالى هنا أنهم سيحلفون، والأمر لما وقع كما أخبر، كان هذا إخبارا عن الغيب، فكان معجزا.
٤- كان تقديم العفو على العتاب واللوم بالإذن للمنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك لطفا عظيما من الله برسوله، ومبالغة في تعظيمه وتوقيره، وهو أخف من

صفحة رقم 232

العتاب على قبوله مفاداة أسرى بدر، الذي صدر بتقرير حازم صارم في قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [الأنفال: ٨/ ٦٧].
أما ما احتج به بعضهم بهذه الآية على صدور الذنب عن الرسول من وجهين:
الأول- إصدار العفو، والعفو يستدعي سابقة الذنب، والثاني- الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فيجاب عن الأول بأنا لا نسلم أن قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يوجب الذنب، وإنما ذلك دليل على مبالغة الله في تعظيم نبيه وتوقيره. ويجاب عن الثاني بأنه بعد حصول العفو عنه يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، ويحمل قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ على ترك الأولى والأكمل، لا سيما وهذه الوقعة من قضايا الحرب ومصالح الدنيا التي يجوز للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم الاجتهاد فيها اتفاقا، فكان ما حكم به صادرا بمقتضى الاجتهاد.
٥- دل قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ.. على وجوب الاحتراز عن العجلة، ووجوب التثبت والتأني، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص والتريث.
٦- قال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية، ثم رخص له في سورة النور، فقال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [٦٢].
٧- لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات، وفضائل العادات مثل إكرام الضيف، وإغاثة الملهوف، وفعل المعروف، قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ، أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء ٤/ ١١٤].
٨- المنافقون غير مؤمنين بالله ورسوله واليوم الآخر، وعدم إيمانهم إنما كان بسبب الشك والريب، لا بسبب الجزم والقطع بعدمه، وهذا يدل على أن الشاك المرتاب غير مؤمن بالله تعالى.

صفحة رقم 233

٩- قوله: أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ دليل على أن الجهاد نوعان:
جهاد بالمال وجهاد بالنفس. والجهاد بالمال له وجهان: إنفاق المال في التسليح والإعداد المادي الذي تتطلبه المعارك عادة، وإنفاق المال على المجاهدين وأسرهم وإعانتهم بالزاد والعتاد. والجهاد بالنفس أنواع منها: مباشرة القتال بالفعل وهو الأفضل، ومنها التحريض على القتال والأمر به، ومنها الإخبار بعورات العدو ومواطن الضعف لديه، والإرشاد إلى مكايد الحرب، وتنبيه المسلمين إلى الأولى والأصلح في أمر الحروب،
كما قال الحباب بن المنذر حين نزل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ببدر، فقال: يا رسول الله، أهذا رأي رأيته أم وحي؟ فقال: بل رأي رأيته، قال:
فإني أرى أن تنزل على الماء وتجعله خلف ظهرك، وتغوّر الآبار التي في ناحية العدو، ففعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ذلك.
ومنها بيان ما افترض الله من الجهاد وذكر الثواب الجزيل لمن قام به والعقاب لمن قعد عنه.
وأي الجهادين أفضل، أجهاد النفس والمال، أم جهاد العلم؟ الحقيقة أن جهاد العلم أصل، وجهاد النفس فرع، والأصل أولى بالتفضيل من الفرع.
فإذا كان النفير عاما: تعين فرض الجهاد على كل أحد، فيكون الاشتغال في هذه الحال بالجهاد أفضل من تعلم العلم لأن ضرر العدو إذا وقع بالمسلمين لم يمكن تلافيه، وتعلم العلم ممكن في سائر الأحوال، ولأن تعلم العلم فرض على الكفاية، لا على كل أحد في خاصة نفسه.
وأما إذا لم يكن النفير عاما: ففرض الجهاد على الكفاية، مثل تعلم العلم، إلا أن الاشتغال بالعلم في هذه الحال أولى وأفضل من الجهاد، لعلو مرتبة العلم على مرتبة الجهاد لأن ثبات الجهاد بثبات العلم، ولأن الجهاد فرع عن العلم ومبني عليه «١».

(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ١١٩

صفحة رقم 234
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية