
قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ الآية.
أي: لا يستأذنوك في التخلف ﴿والله عَلِيمٌ بالمتقين﴾.
قوله: «أَن يُجَاهِدُواْ» فيه وجهان:

أظهرهما: أنَّهُ متعلقُ «الاستئذان»، أي: لا يستأذنوك في الجهادِ، بل يمضُون فيه غير مترددين.
والثاني: أن متعلق «الاستئذان» محذوف و «أن يُجاهدُوا» مفعولٌ من أجله، تقديره: لا يستأذنك المؤمنون في الخروج والقعود كراهة أن يجاهدوا، بل إذا أمرتُهم بشيءٍ بادروا إليه. وقال بعضهم: لا بدّ في الكلام من إضمار آخر؛ لأنَّ ترك استئذان الإمام في الجهادِ غير جائز، فلا بدَّ من إضمار، والتقديرُ: لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا، إلاَّ أنَّه حذف حرف النفي كقوله: ﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: ١٧٦] ويدلُّ على هذا المحذوف أنَّ ما قبل الآية، وما بعدها يدل على أن هذا الذم إنَّما كان على الاستئذان في القعود.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ الآية.
بيَّن أنَّ هذا الاستئذان لا يصدر إلاَّ عند عدم الإيمان باللهِ واليوم الآخر، ولمَّا كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشَّك فيه، وقد يكون بسبب القطع والجزم بعدمه، بيَّن تعالى أنَّ عدم إيمان هؤلاء، إنَّما كان بسبب الشك والريب، فدلَّ على أنَّ الشَّاك المرتاب غير مؤمن بالله وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة في سورة الأنفال عند قوله: ﴿أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً﴾ [الأنفال: ٤] ثم قال: ﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ أي: متحيرين.
قوله: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً﴾.
قرأ العامة «عُدَّة» بضمِّ العين وتاء التأنيث، وهي الزَّادُ والراحلةُ، وجميعُ ما يحتاج إليه المسافرُ.
وقرأ محمد بنُ عبد الملك بن مروان، وابنه معاوية «عُدَّهُ» كذلك، إلاَّ أنَّهث جعل مكان تاء التأنيث هاء ضمير غائب، يعود على «الخُرُوجِ». واختلف في تخريجها، فقيل: أصلها كقراءة الجمهور بتاء التأنيث، ولكنهم يحذفونها للإضافةِ، كالتَّنوين، وجعل الفراء من ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِقَامَ الصلاة﴾ [الأنبياء: ٧٣].
ومنه قول زهير: [البسيط]
٢٧٨٥ - إنَّ الخليطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا | وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذي وعَدُوا |
وقال صاحبُ اللَّوامح «لمَّا أضاف جعل الكناية نائبةً عن التاء، فأسقطها، وذلك لأن العُدَّ بغير تاء، ولا تقديرها، هو» البئرُ الذي يخرج في الوجه «. وقال أبو حاتم:» هو جمع «عُدَّة»، ك: «بُرّ» جمع «بُرّة»، و «دُرّ» جمع «دُرَّة» والوجهُ فيه «عُدَد» ولكن لا صفحة رقم 104

يوافق خطَّ المصحف «. وقرأ زر بن حبيش، وعاصم في رواية أبان» عِدَّهُ «بكسر العين، مضافة إلى هاء الكناية.
قال ابن عطيَّة: هو عِنْدِي اسمٌ لما يُمَدُّ، ك «الذَّبْح»، و «القِتْل».
وقُرىء أيضاً «عِدَّة» بكسر العين، وتاء التأنيث، والمرادُ: عدة من الزَّاد والسلاح، مشتقاً من «العَدَدِ».
قوله: ﴿ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم﴾. الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمُّلٍ، فلذلك قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف موقعُ حرفِ الاستدراك؟ قلتُ: لمَّا كان قوله: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج﴾ معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل: ﴿ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم﴾ كأنه قيل: ما خرجوا، ولكن تَثَبَّطُوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم،: «ما أحْسَنَ زَيْدٌ إليَّ ولكن أساءَ إليَّ». انتهى. يعني أنَّ ظاهرَ الآية يقتضي أنَّ ما بعد «لكن» موافقٌ لما قبلها، وقد تقرَّر فيها أنَّها لا تقع إلاَّ بين ضدين، أو نقيضين، أو خلافين، على خلاف في هذا الأخير، فلذلك احتاج إلى الجواب المذكور.
قال أبُو حيان «وليست الآيةُ نظير هذا المثالِ - يعني: ما أحْسَنَ زيدٌ إليَّ، ولكن أساء -، لأنَّ المثال واقعٌ فيه» لكن «بين ضِدَّيْن، والآيةُ واقعٌ فيها» لكن «بين متفقين من جهة المعنى».
قال شهابُ الدِّين «مُرادُهم بالنقيضين: النفيُ والإثبات لفظاً، وإن كانا يتلاقيان في المعنى ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً».
والانبعاثُ: الانطلاقُ، يقال: بعثتُ البعير فانبعث، وبعثته لكذا فانبعث، أي: نفذ فيه والتَّثْبِيطُ: التَّعْويق، يقالُ: ثَبَّطْتُ زيداً، أي: عُقْتُه عمَّا يريده، من قولهم: ناقة ثَبِطَة أي: بطيئة السير، والمراد بقوله: «اقْعُدُوا» : التَّخْلية، وهو كنايةٌ عن تباطئهم، وأنَّهم تشبهوا بالنساء، والصبيان، والزَّمْنَى، وذوي الأعذار، وليس المرادُ قعوداً؛ كقوله: [البسيط]
٢٧٨٦ - دَعِ المكَارِمَ لا تَقْصِدْ لبُغْيتهَا | واقْعُدْ فإنَّكَ أنْتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي |
٢٧٨٩ - بِزُجَاجةٍ رفَضَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا | رَفَضَ القَلُوصِ بِراكبٍ مُسْتعْجِلِ |
٢٧٩٠ -................................. والرَّافِضَاتِ إلى مِنى فالغَبْغَبِ
يقال: رَفَضَ في مشيه رفْضاً، ورَفَضاناً. صفحة رقم 108

فإن قيل: كتب في المصحفِ «ولاَ أوْضَعُوا» بزيادة ألف. أجاب الزمخشريُّ «أنَّ الفتحة كانت تُكْتَب ألفاً قبل الخطِّ العربي، والخطُّ العربي اخترع قريباً من نزول القرآن، وقد بقى من ذلك الألف أثرٌ في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً، وفتحتها ألفاً أخرى، ونحوه ﴿أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ﴾ [النمل: ٢١]. يعني: في زيادة الألف بعد» لا «وهذا لا يجوزُ القراءةُ به ومن قرأ به متعمداً بكفّر».
قوله: «يَبْغُونَكُمُ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ، من فاعل «أوْضَعُوا» أي: لأَسْرعُوا فيما بينكم، حال كونهم باغين، أي: طالبين الفتنة لكم، ومعنى الفتنة: افتراقُ الكلمة.
قوله: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول «يَبْغُونكُمْ» أو من فاعله، وجاز ذلك؛ لأنَّ في الجملة ضميريهما. ويجوزُ أن تكون مستأنفةً، والمعنى: أنَّ فيكم من يسمع لهم، ويُصْغِي لقولهم.
فإن قيل: كيف يجوزُ ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم؟
فالجوابُ: لا يمتنع لمنْ قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم، أو يكون بعضهم مجبولاً على الجبن والفشل؛ فيؤثر قولهم فيهم، أو يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساءِ المنافقين فينظرون إليهم بعض الإجلال والتَّعظيم؛ فلهذا الأسباب يؤثر قول المنافقين فيهم ويجوز أن يكون المراد: وفيكم جواسيس منهم، يسمعون لهم الأخبار منكم، فاللاَّمُ على الأوَّلِ للتقوية لكون العامل فرعاً، وفي الثاني للتعليل، أي: لأجلهم. ثم قال تعالى: ﴿والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات.
فصل
﴿لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ﴾. أي: طلبُوا صد أصحابك عن الدِّين وردهم إلى الكُفْرِ، وتخذيل النَّاس عنكَ قبل هذا اليوم، كفِعْلِ عبد الله بن أبيّ يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه. وقال ابنُ جريج: هو أنَّ اثني عشر رجلاً من المنافقين، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة، ليفتكوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: ﴿وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور﴾. قرأ مسلمة بن محارب «وقلبُوا» مخففاً. والمرادُ بتقليب الأمر: تصريفه وترديده، لأجل التدبر والتأمل فيه، أي: اجتهدوا في الحيلةِ والكيدِ لك يقال للرجل المتصرف في وجوه الحيل: فلان حُوَّلٌ قلبٌ، أي: يتقلب في وجوه الحيل.
ثم قال تعالى: ﴿حتى جَآءَ الحق﴾ أي: النصرُ والظفرُ. صفحة رقم 109

وقيل: القرآن. ﴿وَظَهَرَ أَمْرُ الله﴾ دين الله. ﴿وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ حالٌ، والرَّابط الواو؛ أي: كارهون لمجيء الحق ولظهور أمر الله.
صفحة رقم 110