
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ، وَحْدَهُ وَكَلِمَةُ اللَّهِ بِنَصْبِ (كَلِمَةَ) عَطْفًا عَلَى كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى فَتَكُونُ كَلِمَةُ اللَّهِ عُلْيَا بِجَعْلِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ: لِأَنَّ الْعَزِيزَ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، وَالْحَكِيمَ لَا يَفُوتُهُ مَقْصِدٌ، فَلَا جَرَمَ تَكُونُ كَلِمَتُهُ الْعُلْيَا وَكَلِمَةُ ضدّه السُّفْلى.
[٤١]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٤١]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ سَبَقَ لَوْمُهُمْ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: ٣٨]، فَالنَّفِيرُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الْجِهَادِ. وَقَدْ قَدَّمَنَا أَنَّ الِاسْتِنْفَارَ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ عَامًّا لِكُلِّ قَادِرٍ عَلَى الْغَزْوِ: لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَنِ مَشَقَّةٍ، وَكَانَ الْمَغْزُوُّ عَدُوًّا عَظِيمًا، فَالضَّمِيرُ فِي انْفِرُوا عَامٌّ لِلَّذِينَ اسْتُنْفِرُوا فَتَثَاقَلُوا، وَإِنَّمَا اسْتُنْفِرَ الْقَادِرُونَ، وَكَانَ الِاسْتِنْفَارُ عَلَى قَدْرِ حَاجَةِ الْغَزْوِ، فَلَا يَقْتَضِي هَذَا الْأَمْرُ تَوَجُّهَ وُجُوبِ النَّفِيرِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ غَزْوَةٍ، وَلَا عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَاجِزِ لِعَمًى أَوْ زَمَانَةٍ أَوْ مَرَضٍ، وَإِنَّمَا يَجْرِي الْعَمَلُ فِي كُلِّ غَزْوَةٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُهَا وَمَا يَصْدُرُ إِلَيْهِمْ مِنْ نَفِيرٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»
. وخِفافاً جَمْعُ خَفِيفٍ وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنَ الْخِفَّةِ، وَهِيَ حَالَةٌ لِلْجِسْمِ تَقْتَضِي قِلَّةَ كَمِّيَّةِ أَجْزَائِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجْسَامٍ أُخْرَى مُتَعَارَفَةٌ، فَيَكُونُ سَهْلَ التَّنَقُّلِ سَهْلَ الْحَمْلِ. وَالثِّقَالُ ضِدُّ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ الثِّقَلُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: ٣٨].
وَالْخِفَافُ وَالثِّقَالُ هُنَا مُسْتَعَارَانِ لِمَا يُشَابِهُهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْجَيْشِ وَعَلَائِقِهِمْ، فَالْخِفَّةُ تُسْتَعَارُ لِلْإِسْرَاعِ إِلَى الْحَرْبِ، وَكَانُوا يَتَمَادَحُونَ بِذَلِكَ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الشَّجَاعَةِ وَالنَّجْدَةِ، قَالَ قُرَيْطُ بْنُ أَنِيفٍ الْعَنْبَرِيُّ:
قَوْمٌ إِذَا الشَّرُّ أَبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ | طَارُوا إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا |
عَلَى عَارِفَاتٍ لِلطِّعَانِ عَوَابِسٍ | بِهِنَّ كُلُومٌ بَيْنَ دَامَ وجالب (١) |
إِذْ اسْتُنْزِلُوا عَنْهُنَّ لِلضَّرْبِ أَرْقَلُوا | إِلَى الْمَوْتِ إِرْقَالَ الْجِمَالِ الْمَصَاعِبِ |
وَالْمُجَاهَدَةُ: الْمُغَالَبَةُ لِلْعَدُوِّ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجُهْدِ- بِضَمِّ الْجِيمِ- أَيْ بَذْلِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْمُغَالَبَةِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمُدَافَعَةِ بِالسِّلَاحِ، فَإِطْلَاقُهُ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي الْغَزْوِ مِنْ إِنْفَاقٍ عَلَى الْجَيْشِ وَاشْتِرَاءِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ فَمَنِ اسْتَطَاعَهُمَا مَعًا وَجَبَا عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الَّذِي اسْتَطَاعَهُ مِنْهُمَا.
وَتَقْدِيمُ الْأَمْوَالِ عَلَى الْأَنْفُسِ هُنَا: لِأَنَّ الْجِهَادَ بِالْأَمْوَالِ أَقَلُّ حُضُورًا بِالذِّهْنِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ أَهَمَّ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِهَادِ مُجْمَلًا.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الْجِهَادِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وَجاهِدُوا.
_________
(١) أَي على خيل عارفات للطعان أَي متعودات بِهِ. صفحة رقم 207