
المنَاسَبَة: لما وصف تعالى رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية، وصفهم هنا بالطمع والجشع والحرص على أكل أموال الناس، تحقيراً لشأنهم وتسفيهاً لأحلامهم، لأنهم اتخذوا الدين مطية لنيل الدنيا، وذلك نهاية الذل والدناءة، ثم ذكر تعالى قبائحهم وقبائح المشركين، ثم دعا إِلى النفير العام وذكر موقف المنافقين المثبطين عن الجهاد في سبيل الله.
اللغَة: ﴿الأحبار﴾ علماء اليهود ﴿الرهبان﴾ علماء النصارى قال ابن المبارك:
وهل أفسد الدين إِلا الملوك... وأحبار سوءٍ ورهبانها
﴿يَكْنِزُونَ﴾ أصل الكنز في اللغة: الجمع والضم ومنه حديث «ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة» أي يضمه لنفسه ويجمعه، ثم غلب استعماله على المدفون من الذهب والفضة قال الطبري: الكنز كل شيء مجموع بعضه إِلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها ﴿تكوى﴾ الكي: إِلصاق المحمي من الحديد وشبهه بالعضو حتى يتمزق الجلد وفي الأمثال «آخر الدواء لكي» ﴿النسياء﴾ التأخير يقال: نسأه وأنسأه إِذا أخره ومنه حديث «وينسأ له في أثره» أي يؤخر له في أجله قال الزمخشري: النسيء: تأخير حرمة الشهر إِلى شهر آخر ﴿لِّيُوَاطِئُواْ﴾ ليوافقوا والمواطأة: الموافقة يقال: تواطأ القوم: إِذا اتفقوا على أمر خفية ﴿انفروا﴾ النفر: الخروج بسرعة ومنه ﴿وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً﴾ [الإسراء: ٤٦] ﴿اثاقلتم﴾ أصله تثاقلتم بمعنى تباطأتم ولم تسرعوا ﴿عَرَضاً﴾ العرض: ما يعرض للانسان من منافع الدنيا سمي عرضاً لأنه لا يدوم وفي الحديث «الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر» ﴿- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َmp;
; لشُّقَّةُ﴾ المسافة البعيدة التي لا تقطع إِلا بمشقة قال الجوهري: الشقة السفر البعيد، وكأنه مأخذو من المشقة يقال: شقة شاقة.
سَبَبُ النّزول: لما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الطائف وغزوة حنين، أمر الناس بالجهاد، لغزو اليوم، وذلك في زمن عسرة من البأس، وجدبٍ من البلاد، وشدةٍ من الحر، حين أثمرت النخل، وطابت الثمار، فعظم على الناس غزو الروم، وأحبوا الظلال والمقام في المساكن والمال، وشق عليهم الخروج إِلى القتال فأنزل الله ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض... ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان﴾ أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إِن كثيراً من علماء اليهود «الأحبار» وعلماء النصارى «الرهبان» ﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي ليأخذون أموال الناس بالحرام، ويمنعونهم عن الدخول في دين الإِسلام قال ابن كثير: والمقصود التحذير من علماء السوء، وعباد الضلال قال ابن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا كان في شبه من النصارى ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة﴾ أي يجمعون الأموال ويدخرون الثروات ﴿وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله﴾ أي لا يؤدون زكاتها ولا يبذلون منها في وجوه الخير قال ابن عمر: الكنز ما لم تُؤد زكاته، وما أديت

زكاته فليس بكنز ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أسلوب تهكم أي أخبرهم بالعذاب الأليم في دار الجحيم قال الزمخشري: وإِنما قرن بين الكانزين وبين اليهود والنصارى تغليظاً عليهم ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي من المسملين من طيب ماله، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم ﴿يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ أي يوم يحمى عليها بالنار المستعرة حتى تصبح حامية كاوية ﴿فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾ أي تحرق بها الجباه والجنوب والظهور بالكي عليها قال ابن مسعود: والذي لا إِله غيره لا يكون عبد بكنزٍ فيمن دينار ديناراً، ولا درهم درهماً، ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته، وخصت هذه الأماكن بالكي لأن البخيل يرى الفقير قادماً فيقطب جبهته، فإِذا جاء أعرض بجانبه، فإذا طالبه بإِحسان ولاه ظهره، قال القرطبي: الكي في الوجه أشهر وأشنع، وفي الظهر والجنب آلم وأوجع، فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الأعضاء ﴿هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ أي يقال لهم تبكيتاً وتقريعاً: هذا ما كنزتموه لأنفسكم فذوقوا وبال ما كنتم تكنزونه وفي صحيح مسلم
«ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إِلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكون بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، ثم يرى سبيله إِما إِلى الجنة وإِما إلى النار» ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً﴾ أي إِن عدد الشهور المعتد بها عند الله في شرعه وحكمه هي اثنا عشر شهراً على منازل القمر، فالمعتبر به الشهور القمرية إِذا عليها يدور فلك الأحكام الشرعية ﴿فِي كِتَابِ الله﴾ أي في اللوح المحفوظ ﴿يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض﴾ قال ابن عباس: كتبه يوم خلق السماوات والأرض في الكتاب الإِمام الذي عند الله ﴿مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ أي منها أربعة شهور محرمة هي: «ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب» وسميت حرماً لأنها معظمة محترمة تتضاعف فيها الطاعات ويحرم القتال فيها ﴿ذلك الدين القيم﴾ أي ذلك الشرع المستقيم ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي لا تظلموا في هذه الأشهر المحرمة أنفسكم بهتك حرمتهن وراتكاب ما حرم الله من المعاصي والآثام ﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً﴾ أي قاتلوهم جميعاً مجتمعين غير متفرقين كما يقاتلوكم المشركون جميعاً ﴿واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾ أي معهم بالنصرة والتأييد، وهو بشارة وضمان لأهل التقوى ﴿إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر﴾ أي إِنما تأخير حرمة شهر لشهر آخر زيادة في الكفر لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حمره فهو كفر آخر مضموم إِلى كفرهم قال المفسرون: كان العرب أهل حروب وغارات، وكان القتال محرماً عليهم في الأشهر الحرم، فإِذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر، كأنهم يستقرضون حرمة شهر لشهر غيره، فربما أحلوا المحرم وحرموا صفر حتى يكمل في العام أربعة أشهر محرمة ﴿يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ﴾ أي يضل بسببه الكافرين ضلالاً على ضلالهم ﴿يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً﴾ أي يحلون المحرم عاماً والشهر الحلال عاماً فيجمعون هذا مكان هذا والعكس ﴿لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله﴾ أي

ليوافقوا عدة الأشهر الحرم الأربعة ﴿فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله﴾ أي فيستحلوا بذلك ما حرمه الله قال مجاهد: كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إِلى الموسم على حمار له، فيقول أيها الناس: إِني لا أعاب ولا أجاب، ولا مرد لما أقول، إِنا قد حرمنا المحرم، وأخرنا صفر، ثم يجيء العام المقبل ويقول: إِنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فذلك قوله تعالى ﴿لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله﴾ ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ﴾ أي زين الشيطان لهم أعمالهم القبيحة حتى حسبوها حسنة ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ أي لا يرشدهم إِلى طريق السعادة ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض﴾ استفهام للتقريع والتوبيخ، وهو توبيخ على ترك الجهاد وعتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك والمعنى: ما لكم أيها المؤمنون إِذا قيل لكم اخرجوا لجهاد أعداء الله تباطأتم وتثاقلتم، وملتم إِلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعه؟! ﴿أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾ أي أرضيتم بنعيم الدنيا ومتاعها الفاني بدل نعيم الآخرة وثوابها الباقي؟ ﴿فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ أي فما التمتع بلذائذ الدنيا في جنب الآخرة إِلا شيء مستحقر قليل لا قيمة له، ثم توعَّدهم على ترك الجهاد فقال ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي إِن لا تخرجوا إِلى الجهاد مع رسول الله يعذبكم الله عذاباً أليماً موجعاً، باستيلاء العدو عليكم في الدنيا، وبالنار المحرقة في الآخرة وقال ابن عباس: هو حبس المطر عنهم ﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ أي يهلككم ويستبدل قوماً آخرين خياً منكم، يكونون أسرع استجابة لرسوله وأطوع ﴿وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً﴾ ولا تضروا الله شيئاً بتثاقلكم عن الجهاد فإِنه سبحانه غني عن العالمين ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي قادر على كل ما يشاء ومنه الانتصار على الأعداء بدونكم قال الرازي: وهو تنبيه على شدة الزجر من حيث إِنه تعالى قادر لا يجوز عليه العجز، فإِذا توعد بالعقاب فعل ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله﴾ أي إِن لا تنصروا رسوله فإِن الله ناصره وحافظه وجواب الشرط محذوف تقديره: فسينصره الله دل عليه قوله ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ الله﴾ والمعنى: إن لم تنصروه أنتم فسينصره الله الذي نصره حين كان ثاني اثنين، حيث لم يكن معه أنصار ولا أعوان ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ﴾ أي حين خروجه من مكة مهاجراً إِلى المدينة، وأسند إِخراجه إِلى الكفار لأنهم ألجئوه إِلى الخروج وتآمروا على قتله حتى اضطروا إِلى الهجرة ﴿ثَانِيَ اثنين﴾ أي أحد اثنين لا ثالث لهما هو أبو بكر الصديق ﴿إِذْ هُمَا فِي الغار﴾ أي حين كان هو والصديق مختبئين في النقب في جبل ثور ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا﴾ أي حين يقول لصاحبه وهو أبو بكر الصديق تطميناً وتطييباً: لا تخف فالله معنا بالمعونة والنصر، روى الطبري عن أنس أن أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال
«بينا أنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الغار، وأقدام المشركين فوق رءوسنا فقلت يا رسول الله: لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا فقال أبو بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنهاه الرسول تسكيناً لقلبه ﴿فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ أي أنزل الله السكون والطمأنينة على رسوله ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾ أي

قواه بجنوده من عنده من الملائكة يحرسونه في الغار لم تروها أنتم ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى﴾ أي جعل كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة، أذل بها الشرك والمشركين ﴿وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا﴾ أي وكلمة التوحيد «لا إِله إِلا الله» هي الغالبة الظاهرة، أعزَّ الله بها المسلمين، وأذل الشرك والمشركين ﴿والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي قاهر غالب لا يُغلب، لا يفعل إِلا ما فيه الحكمة والمصلحة ﴿انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ أي اخرجوا للقتال يا معشر المؤمنين شيئاً وشباناً، وركباناً، في جميع الظروف والأحوال، في اليسر والعسر، والمنشط والمكره ﴿وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي جاهدوا بالاموال والأنفس لإِعلاء كلمة الله ﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي هذا النفير والجهاد خير من التثاقل إِلى الأرض والخلود إِليها والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا إِن كنتم تعلمون ذلك قال في البحر: والخيرية في الدنيا بغلبة العدو ووراثة الأرض، وفي الآخرة بالثواب العظيم ورضوان الله، ثم ذكر تعالى أحوال المخلفين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وموقف المثبطين المنافقين منهم فقال ﴿لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً﴾ أي لو كان ما دعوا إِليه غُنماً قريباص سهل المنال ﴿وَسَفَراً قَاصِداً﴾ أي وسفراً وسطاً ليس ببعيد ﴿لاَّتَّبَعُوكَ﴾ أي لخرجوا معك لا لوجه الله بل طمعاً في الغنيمة ﴿ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة﴾ أي ولكن بعدت عليهم الطريق والمسافة الشاقة ولذلك اعتذروا عن الخروج لما في قلوبهم من النفاق ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾ أي وسيحلفون لكم معتذرين بأعذار كاذبة لو قدرنا على الخروج معكم لما تأخرنا، ولو كان لنا سعة في المال أو قوة في الأبدان لخرجنا للجهاد معكم، قال تعالى رداً عليهم وتكذيباً لهم ﴿يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي يوقعون أنفسهم في الهلاك بأيمانهم الكاذبة ﴿والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي لكاذبون في دعواهم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا ﴿عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ تلطف في عتاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قدم العفو على العتاب إِكراماً له عليه السلام والمعنى سامحك الله يا محمد لم أذنت لهؤلاء المنافقين في التخلف عن الخرنوج معك بمجرد الاعتذار!! ﴿حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين﴾ أي وهلا تركتهم حتى يظهر لك الصادق منهم في عذره من الكاذب المنافق قال مجاهد: نزلت في المنافقين قال أناس منهم استأذنوا رسول الله، فإِن أذن لكم فاقعدوا، وإِن لم يأذن لكم فاقعدوا، فقد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإِن لم يأذن لهم، ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه أهل الإِيمان فقال ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ أي لا يستأذنك يا
صفحة رقم 499
محمد عن الجهاد والغزو من يؤمن بالله واليوم الآخر ﴿أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ أي كراهية الجهاد بالمال والنفس لأنهم يعلمون ما أعده الله للمجاهدين الأبرار من الأجر الجزيل فكيف يتخلفون عنه؟ ﴿والله عَلِيمٌ بالمتقين﴾ أي عليم بهم لأنهم مخلصون في الإِيمان متقون للرحمن ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ أي إِنما يستأذنك يا محمد المنافقون الذين لم يثبت الإِيمان في قلوبهم ﴿وارتابت قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ أي شكَّت قلوبهم في الله وثوابه فهم يترددون حيارى لا يدرون ما يصنعون.
البَلاَغَة: ١ - ﴿يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً﴾ بين يحلون ويحرمون طباق وهو من المحسنات البديعية.
٢ - ﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ﴾ استفهام يقصد به الإِنكار والتوبيخ.
٣ - ﴿أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾ فيه إِيجاز بالحذف أي أرضيتم بنعيم الدنيا ولذائذها بدل نعيم الآخرة.
٤ - ﴿فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا﴾ أظهر في مقام الإِضمار لزيادة التقرير والمبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها بالنسبة للآخرة.
٥ - ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً﴾ بينهما جناس الاشتقاق.
٦ - ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى﴾ «كلمة الذين كفروا» استعارة عن الشرك كما أن «كلمة الله» استعارة عن الإِيمان والتوحيد.
٧ - ﴿خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ بينهما طباق.
٨ - ﴿بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة﴾ استعار الشقة للمسافة الطويلة البعيدة التي توجب المشقة للمسافة الطويلة البعيدة التي توجب المشقة على النفس.
٩ - ﴿عَفَا الله عَنكَ﴾ خبر يقصد تقديم المسرة على المضرة وقد أحسن من قال: إِن من لطف الله بنبيه أن بدأه بالعفو قبل العتب.
فَائِدَة: روي أن أعرابياً قال لابن عمر: أخبرني عن قول الله تعالى ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة﴾ فقال ابن عمر: من كنزها فلم يؤدّ زكاتها فويل له، إِنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله ظهرةً للأموال، وما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً أزكيه، وأعمل فيه بطاعة الله تعالى!!
تنبيه: دلت الآية ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ﴾ على عظيم فضل الصديق وجليل قدره، إِذ جعله الله صاحب الرسول في الغار، ورفيقه في الهجرة، ولهذا قال العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لأنه رد كتاب الله تعالى.

لطيفَة: عن حيان بن زيد قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، فرأيت شيخاً كبيراً هرماً، قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار فأقبلت عليه فقلت: يا عم لقد أعذر الله إِليك قال: فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي: استنفرنا الله خفاقاً وثقالاً، ألا إِنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه، وإِنما يبتلي الله من بعاده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إِلا الله عَزَّ وَجَلَّ.
أقول: رحم الله تلك الأنفس الزكية التي باعت أرواحها مي مرضاة الله تعالى.