
، هذه الآيةُ بلا خلافٍ أنها نزلَتْ عتاباً على تخلّف من تخلّف عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تَبُوكَ، وكانَتْ سنةَ تسْعٍ من الهجرةِ بعد/ الفَتْح بعامٍ، غزا فيها الرُّوم في عِشْرينَ ألْفاً بين راكبٍ وراجلٍ، والنَّفْر: هو التنقُّل بسرعة من مكانٍ إلى مكانٍ، وقوله: «أثاقلتم» أصله تَثَاقَلْتُمْ، وكذلك قرأ الأعمش «١» وهو نحو قوله: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الأعراف:
١٧٦] وقوله: أَرَضِيتُمْ تقريرٌ، والمعنى: أرضيتمْ نَزْرَ الدنيا، على خطير الآخرةِ، وحَظِّها الأَسْعَد.
قَالَ ابنُ هِشامٍ ف «مِنْ» من قوله: مِنَ الْآخِرَةِ للبدل. انتهى. ثم أخبر سبحانه، أنَّ الدنيا بالإِضافة إِلى الآخرة قليلٌ نَزْرٌ، فتعطي قُوةُ الكلام التعجُّبَ مِنْ ضلالِ مَنْ يرضَى النزْرَ الفانِيَ بَدَل الكثير الباقي.
ت: وفي «صحيح مُسْلم» و «الترمذي»، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَا الدُّنْيَا في الآخرة إِلاَّ مَثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا تَرْجعٌ». قال أبو عيسَى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى «٢».
وقوله سبحانه: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ: شرطٌ وجوابٌ، ولفظُ «العذاب» عامٌّ يدخل تحته أنواعُ عذابِ الدنيا والآخرة.
وقوله: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ: تَوعُّدٌ بأن يبدل لرسوله عليه السلام قوماً لا يقعدون عند استنفاره إِياهم، والضميرُ في قوله: وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً عائدٌ على اللَّه عزَّ وجلَّ، ويحتمل أن يعود على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو أليق.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
(٢) أخرجه مسلم (٤/ ٢١٩٣) كتاب «الجنة» باب: فناء الدنيا، حديث (٥٥/ ٢٨٥٨)، والترمذي (٤/ ٤٨٦) كتاب «الزهد» باب: هوان الدنيا، حديث (٢٣٢٣)، وابن ماجه (٢/ ١٣٧٦) كتاب «الزهد» باب: مثل الدنيا، حديث (٤١٠٨)، وأحمد (٤/ ٢٢٨، ٢٣٠)، وابن حبان (٤٣٣٠)، والحاكم (٤/ ٣١٩) من طريق قيس بن أبي حازم، عن المستورد بن شداد به.

وقوله سبحانه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ هذا أيضاً شرطٌ وجوابٌ، ومعنى الآية:
إِنكم إِن تركتم نَصْره، فاللَّه متكفِّل به إِذ قد نصره في موضع القلَّة والانفراد وكثرةِ العدو، ولَنْ يترك نَصْرَهُ الآن.
وقوله: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، أسند الإخراج إِليهم تذنيباً لهم، ولما كان مَقْصِدُ أبي سفيان بن الحارثِ الفَخْرَ في قوله: من طردت كل مطرد، لم يقرّه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى ما عُلِمَ في كتب «السِّيرَةِ»، والإِشارةُ إلى خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ مكَّة إلى المدينة، وفي صحبته أبو بكر، واختصار القصّة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ينتظر إِذْنَ اللَّه سبحانه في الهِجْرة من مكَّة، وكان أبو بَكْر حينَ تَرَكَ ذمَّة ابنِ الدِّغِنَّةِ قد أراد الخروجَ، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«اصبر، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُسَهِّلَ الصُّحْبَةَ» فَلَمَّا أَذِنَ اللَّه لنبيِّه في الخروج، تجهَّز مِنْ دار أبي بَكْر، وخَرَجَا، فبقيا في الغار الذي في جَبَلِ ثَوْرٍ في غَرْبِيِّ مَكَّة ثلاثَ ليالٍ، وخرج المشركُونَ في إِثرهِمْ حتى انتهوا إِلى الغار، فَطَمَسَ اللَّهُ عَلَيْهِم الأَثَرَ، وقال أبو بكر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لَوْ نَظَر أَحَدُهُمْ إِلى قدمه، لرآنَا، فَقَالَ له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا ظَنُّكَ باثنين اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» «١» هكذا في الحديث الصحيحِ، ويروَى أن العنكبوتَ نَسَجَتْ على باب الغَار.
ويُرْوَى أن الحمامة عشَّشَتْ عند باب الغارِ، وكان يروحُ عليهما باللَّبَنِ عامرُ بْنُ فُهَيْرَةَ «٢».
وقوله: ثانِيَ اثْنَيْنِ، معناه: أحد اثنين، وقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، يريد: بالنصر والنجاة واللُّطْف.
وقوله سبحانه: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، قيل: يريد: لا إله إِلا اللَّه، وقيل: الشرع بأسره.
(٢) عامر بن فهيرة التيميّ، مولى أبي بكر الصّديق، أحد السّابقين، وكان ممن يعذّب في الله.
له ذكر في «الصّحيح»، حديثه في الهجرة عن عائشة قالت: خرج معهم عامر بن فهيرة، وعنها: لما قدمنا المدينة اشتكى أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، منهم: أبو بكر، وبلال، وعامر بن فهيرة... الحديث.
وفيه: وكان عامر بن فهيرة إذا أصابته الحمى يقول: [الرجز]
إنّي وجدت الموت قبل ذوقه... إنّ الجبان حتفه من فوقه
كلّ امرئ مجاهد بطوقه... كالثّور يحمي جلده بروقه
وقال ابن إسحاق في «المغازي» عن عائشة: كان عامر بن فهيرة مولّدا من الأزد، وكان للطفيل بن عبد الله بن سخيرة، فاشتراه أبو بكر منه فأعتقه، وكان حسن الإسلام.
ينظر ترجمته في: «الإصابة» (٣/ ٤٨٢)، (٤٤٣٣).