هؤلاء العرب (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) الآية ٥٧ من سورة النحل في ج ٢ «قاتَلَهُمُ اللَّهُ» جميعا «أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (٣٠) يصرفون الحق إلى الباطل والصّدق إلى الكذب وفي هذه الجملة معنى التعجب وهو راجع إلى الخلق لأن الخالق لا يتعجب من شيء. واعلم أن ما ذاع على ألسنة النّاس في قولهم أي شيء خلقه الله وتعجب منه ويريدون الإبل في قوله تعالى (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) الآية ١٨ من سورة الغاشية ج ٢ فهو من هذا القبيل لا كما يزعم العوام تأمل.
واعلم أن هؤلاء اليهود والنّصارى «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» لأنهم أطاعوهم في معصيته واتبعوهم فيما يحللون ويحرمون حسب شهواتهم وأهوائهم فكأنهم عبدوهم «وَ» أن النّصارى اتخذوا «الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ» إلها لاعتقادهم البنوة فيه والحلول في ذات الله كما اتخذت اليهود عزيرا ابنا لله «وَما أُمِرُوا» من قبل أنبيائهم ولا في كتبهم المنزلة عليهم من الله «إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً» وهو الإله العظيم الذي «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (٣١) به من خلقه وإنهم بدّلوا وغيروا أحكام الله المنزلة إليهم على لسان رسلهم اتباعا لقادتهم ورؤسائهم قال عبد الله بن المبارك:
وهل بدّل الدّين إلّا الملوك | وأحبار سوء ورهبانها |
أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة قال تعالى «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى» أي القرآن الهادي للناس أجمع لو اتبعوا أحكامه وأوامر المنزل عليه وعملوا فيهما «وَدِينِ الْحَقِّ» الإسلام الذي لا أحق منه قال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الآية ٨٥ من آل عمران المارة: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (٣٣) وسيتم هذا عند نزول سيدنا عيسى عليه السّلام، إذ لا يبقى دين في زمنه غير دين الإسلام، ولا يبقى على وجه الأرض إلّا مسلم وكافر، ثم ينهار الإسلام أولا بأول حتى لا يبقى من يقول الله، فتقوم السّاعة على شرار الخلق وكلهم إذ ذاك أشرار، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلّا بالله. روي عن أبي هريرة في حديث نزول عيسى قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويهلك في زمنه الملل كلها إلّا الإسلام. يدل على هذا قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) الآية ١٥٨ من سورة النّساء المارة، ونظير هاتين الآيتين الآيتان ٩ و ١٠ من سورة الصّف المارة، وقد عدّد الله تعالى في هذه الآيات مثالب بني إسرائيل، وسبق أن بينا قسما منها في الآيات من ٤٠ إلى ٦٠ من سورة البقرة في معرض تعداد النّعم عليهم، وكذلك في الآيات ص ٦٢ إلى ١٢٣ ومن ١٣٠ إلى ١٤٧ من البقرة أيضا وآيات أخر منها ومن غيرها، مما يدل على أنهم لم يقابلوا نعم الله التي أسبغها عليهم بالشكر بل بالإنكار والجحود، وأوامره بالعناد والكفر، حتى توصلوا إلى قتل أنبيائهم قاتلهم الله وأخزاهم في الدّنيا والآخرة.
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» أنفسهم وغيرهم لقاء ما يأخذونه منهم من حطام الدّنيا، مع أن الواجب عليهم ألّا يفعلوا شيئا من ذلك، لأن الأحبار بمثابة العلماء العاملين، والرّهبان بمثابة المشايخ الصّوفية الكاملين المتقيدين بحدود الله، وكلمة كثير تفيد أن القليل منهم لا يفعل ذلك بل يجمع لنفسه وغيره منه ويتقيد بأوامره ونواهيه «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ»
(٣٤) يوم القيمة «يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ» ويقال لهم حين يفعل بهم ذلك «هذا» جزاء وعقاب وعذاب «ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» من الذهب والفضة التي لم تؤدوا حق الله منها «فَذُوقُوا» وبال تضييعكم حق الله وعدم إعطائه لفقرائه جزاء «ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» (٣٥) في دنياكم، وفي هذا معنى الذم لمالهم ذلك لأنهم لم ينتفعوا به.
والكنز يطلق على الجمع وغيره، راجع الآية ٢٦٧ من سورة البقرة الدّالة على فرضية الزكاة، وهذه الآية عامة في كلّ من ذلك شأنه، لأنها نزلت في مانعي الزكاة، وإن ورودها بسياق ذم أهل الكتاب الّذين يأخذون أموال النّاس بالباطل لا يخصصها فيهم، روى مسلم عن زيد بن وهب قال مررت بالربذة فإذا بأبي ذر، فقلت ما أنزلك بهذا المنزل؟ قال كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) فقال معاوية نزلت في أهل الكتاب، فقلت نزلت فينا وفيهم. فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليّ عثمان أن أقدم إلى المدينة، فقدمتها، فكثر علي النّاس حتى كأنهم لم يروني من قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال إن شئت تنحيت قريبا، فذلك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّر عليّ عبد حبشي لسمعت وأطعت، يريد رضي الله عنه إفهامهم بأن عثمان رضي الله عنه نفاه إلى ذلك المكان وأن طاعته واجبة عليه. ومعنى الكنز ما روي عن ابن عمر قال أعرابي أخبرني عن قول الله تعالى عز وجل (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ إلخ) قال ابن عمر من كنزها فلم يؤدّ زكاتها ويل له، وهذا كان قبل أن تنزل آية الزكاة، فلما نزلت جعلها الله طهرا للأموال أخرجه البخاري. وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار قال سمعت عبد الله بن عمر قال كلّ مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا. وهذا هو الحكم الشّرعي في ذلك، وإن مانع الزكاة يدخل في هذا الوعيد.
مطلب في ذم مانعي الزكاة وعقابهم، ومعنى الكنز، وسبب نفي أبي ذر، والأشهر الحرم، واختلاف السّنين، وعدد أيامها:
أخرج مسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلّا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جبينه وجنبه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنّة وإما إلى النّار. قيل يا رسول الله فالإبل؟ قال ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها إلّا إذا كان يوم القيمة يبطح لها بقاع قرقر (المستوي من الأرض الواسعة الملساء) أوفر مما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا فتطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما الى الجنّة وإما إلى النار، قيل يا رسول الله والبقر والغنم؟ قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء (ملتوية القرنين) ولا حلجاء (لا قرون لها) ولا عضباء (مكسورة القرنين) تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مرّ عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقدارة خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنّة وإما إلى النّار. وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثل له ماله شجاع أقرع (حيّة مسنّة) له زبيبتان (شعرتان) في شدقيه يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهمزتيه (العظمان النّاتئان من لحييه) يعني شدقيه، ثم يقول أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا قوله تعالى (ولا تحسبن الّذين يبخلون) الآية ١٨٠ من آل عمران المارة. وفي موطأ مالك من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطلبه حتى يمكنه يقول له أنا كنزك. وروى البخاري ومسلم عن أبي ذر قال انتهيت إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال هم الأخسرون ورب الكعبة، قال فجئت حتى جلست فلم أتقار حتى قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم قال
هم الأكثرون أموالا إلّا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلّا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفدت أخراها عادت أولاها حتى يقضى بين النّاس. ورويا عن الأحنف بن قيس قال قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب خشن الجسد خشن الوجه فقام عليه فقال بشّر الكافرين برحف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل قال فرفع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا، قال فأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت ما رأيت هؤلاء إلّا كرهوا ما قلت لهم، فقال إن هؤلاء لا يعقلون شيئا، قلت من هذا قالوا أبو ذر، قال فقمت إليه فقلت ما شيء سمعتك تقول من قبل؟ فقال ما قلت إلا شيئا سمعته من رسول الله نبيهم صلّى الله عليه وسلم. والرّضف هو الحجارة المحماة، والغض بالضم والفتح غرضوف الكتف، والغرضوف كلّ عظم رخص يؤكل كمارن الأنف ورؤوس الأضلاع ورهابة الصّدور وداخل قوف الأذن ونغض الكتف (والقوف هو أعلى الأذن أو مستدار سمعها) وجاء في حديث عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له ألا أخبرك بخير ما يكنز المرأة الصّالحة التي إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته. أخرجه أبو داود. وجاء عن ثوبان أن بعض الأصحاب سأل حضرة الرّسول عن خير المال قال أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه- أخرجه الترمذي- قال تعالى «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ» قدرها على ما هي عليه الآن «يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» فجعلها لكل سنة وأيّام السّنة ثلاثمائة وخمسون يوما وربع يوم
تقريبا بحسب الهلال، فتنقص السّنة الهلالية عن الشّمسية عشرة أيّام وثلث اليوم تقريبا، ويسبب هذا النّقص تدور السنة الهلالية، فيقع الحج والصّوم تارة في الصّيف، وطورا في الخريف، ومرة في الشّتاء، وأخرى في الرّبيع بحيث يدوران في كلّ يوم من أيّام السّنة ويعودان
للمركز الذي كانا فيه في كلّ ثلاث وثلاثين سنة وثلث السّنة مرة، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية ١٦ من سورة الحجر في ج ٢ والآية ١٣ من الإسراء في ج ١ بصورة مفصلة فراجعها «مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» واحد فرد وهو رجب وثلاثة مرة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وهي محترمة في الجاهلية والإسلام زادها الله حرمة وتعظيما وجعل الحسنات فيها مضاعفة وكذلك السّيئات لما فيها من انتهاك حرمتها، راجع الآية الخامسة المارة، من حرمتها أنه إذا وجد الرّجل قاتل ابنه أو سالب أو هانك عرضه لا يتعرض له، ولهذا فإن الّذين بينهم شىء من ذلك لا ينقطعون عن مكة فيها فيجلبون لهم الطّعام والألبسة ويبيعونهم إياها، لأن أهالي مكة دائما محتاجون للقوت واللّباس من أهل البلاد الآخرين، ولعل هذا أحد أسباب التحريم رحمة بأهالي مكة لئلا ينقطع عنهم الجلب ولو من أعدائهم «ذلِكَ» جعل الشّهور اثني عشر أحدا للسنّة وتخصيص أربعة منها بالحرمة «هو الدِّينُ الْقَيِّمُ» الذي سنة الله لعباده وأراد بقاءه ودوامه على مر السّنين بلا تغيير ولا تبديل ولا تحويل، وان تعظيم الحرم فيها من مقتضيات الدّين الذي تعبدنا الله به. الحكم الشّرعي: وجوب التقيد بمراسم الحج والصّوم والأخذ بهذا الحساب من أجلها واتخاذ الأعياد التي سنت فيها وإجراء المعاملات على حسبها لما فيها من قوام الأمر بين الله والنّاس، وان التغيير والتبديل والتحويل يسبب الظّلم للنفس وللغير، ومن المهلكات في الدّنيا والآخرة، ولهذا قال الله تعالى «فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ» أيها النّاس فتقدموا بعض الأشهر على بعض أو تضعوا شهرا مكان الآخر كما فعله من قبلكم حال جاهليتهم «وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» فتعاونوا وتناصروا على قتلهم ولا تفرقوا وتخاذلوا فتفشلوا وتجبنوا، بل كونوا يدا واحدة على قلب واحد متكاتفين متعاونين على قتال أعدائكم، فإذا كنتم كذلك فإن الله تعالى يبشركم بالفوز ويضمن لكم النّصر والظّفر إذا اتقيتموه بقوله عز قوله «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (٣٦) مناهية المتبعين أوامره ومن يكن الله معه ينصره ويخذل عدوه في الأشهر الحرم وغيرها، لأن الكفرة إذا قاتلوا المؤمنين فيها جاز لهم قتالهم فيها كما هي الحال في الحرم
صفحة رقم 432
أيضا، راجع الآيتين ١٩١، ٢١٧ من سورة البقرة المارة. قال تعالى «إِنَّمَا النَّسِيءُ» التأخير من شهر محرم إلى غير محرم الذي كان يفعله الجاهلية «زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ» لا يجوز لأحد أن يفعله أبدا، إذ لا مبرر له، وأما ما كان من زعم الجاهلية وفعلهم التأخير فإنه كان حال كفرهم وتجردهم من الدّين وعدم معرفتهم الحلال من الحرام، فكان عملهم يزيد في كفرهم وقد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم اختلاقا، وذلك أنهم كانوا إذا حاربوا واستداموا في الحرب حتى جاءهم شهر حرام ولم ينتهوا من حربهم بعد يحلونه ويحاربون فيه ويحرمون شهرا بدله تبعا لهواهم، ولذلك ذم الله صنيعهم هذا وجعله من الإضلال بعد الضّلال، فقال عز قوله «يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا» من قبل كبارهم فيحملون على ذلك بعضهم فيوافقوهم على ضلالهم، وكان عليهم إذا حل الشّهر الحرام أن يتركوا الحرب ويتعاهدوا أمورهم ويتفاوضوا بينهم ويتداولوا بما يفضي الى الصّلح حقنا للدماء، لأن الله تعالى لم يحرم القتال في هذه الأشهر عبثا ولا لعبا، وإنما لغايات سامية تكون في منفعة النّاس، وقد نشأ هذا الضّلال لأنهم «يُحِلُّونَهُ» أي ذلك الشّهر الحرام «عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً» آخر إذا لم يصادف حربا، ثم يبدلون الأشهر ويحورونها «لِيُواطِؤُا» يوافقوا ويماثلوا «عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ» من إبقائها على حالها أربعة بمواقعها «فَيُحِلُّوا» بفعلهم هذا «ما حَرَّمَ اللَّهُ» من الأشهر ويحرموا بدلها مما أحله الله بحسب ما تسول لهم أنفسهم، وهؤلاء قوم «زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ» فظنوها حسنة وهي في غاية من القبح ونهاية من الخبث وزيادة في الكفر «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» (٣٧) الى الصّواب بل يضلهم ويعميهم عنه لركونهم للاعوجاج وميلهم له اختيارا ورضى به ورغبة فيه عن
طيب نفس، ونائب فاعل زين هو الشّيطان الذي يلقي في قلوبهم النّجسة أمثال هذه المخالفات فيعملونها.
واعلم أنه لا يجوز إنقاص أشهر السّنة عن هذا العدد، ولا إنقاص الأشهر الحرم منها أو تبديلها لورود النّص القاطع فيه، لأن نقصها وزيادتها مخالف لأمر الله تعالى، أما ما تعمله اليهود من نقص عدد أشهر بعض السّنين وزيادتها في بعضها فهو من جملة مخالفاتهم لأوامر أنبيائهم وكتابهم وتحريفهم ما جاء عن الله تعالى
فيكفيهم ما ذمهم الله به في القرآن العظيم في آيات عديدة وليس بعد ذم الله ذم، فمن تسول له نفسه الاقتداء بفعلهم هذا فليشاركهم بغضب الله عليهم في الدّنيا وعذابهم في الآخرة وبهما كفاية له ولأمثاله. روى البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السّموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مفرد الذي بين جمادى وشعبان. أي حافظوا عليها ولا تبدلوا أو تؤخروا أو تحوروا فتخالفوا أمر الله فتسترجبوا غضبه. واعلم أن أول من سنّ التأخير في الأشهر الحرم نعيم بن ثعلبة وتبعه فيه قومه ومنهم جنادة بن عوف الذي أدرك رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم، وآخر ملوكهم القلمس وهو الذي أخر المحرم عن وقته من أجل السّبب المتقدم ذكره وفيه يقول الكميت:
ونحن النّاسئون على معدّ | شهور حلّ نجعلها حراما |
مطلب فى المجاهدين وما ذكره الله من هجرة رسوله والحث على الجهاد وغزوة تبوك وما وقع فيها:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ» تباطئتم عن تلبية الأمر حالا ولم تسرعوا للاجابة وملتم الى الإخلاد «إِلَى الْأَرْضِ» والمكث فيها وكراهية الذهاب للجهاد في سبيل الله «أَرَضِيتُمْ» أيها المؤمنون الأعزاء الكرام «بِالْحَياةِ الدُّنْيا» الدنيئة واغتررتم بزخارفها المموّهة الفانية وآثرتموها «مِنَ الْآخِرَةِ» الباقية ذات النّعيم الدّائم، فتبّا وخسرا لمن آثر ما يفنى على ما يبقى، وآثر القعود على الجهاد «فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي» جنب الحياة «الْآخِرَةِ» مستمرة الرّاحة عظيمة الاستراحة «إِلَّا قَلِيلٌ» (٣٨) جدا، أخرج مسلم عن المسور قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم صفحة رقم 434
والله ما الدّنيا من الآخرة إلّا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ثم يرفعها فلينظر بم يرجع. أي لا يرجع بشيء أصلا. وهذه الآية تشير الى وجوب الجهاد في كل وقت وحال لأنها تنصّ على أن التشاغل عنه منكر، ولذلك عابهم الله عليه.
ثم ذكر ما يترتب على عدم إجابتهم والمسارعة للجهاد فقال «إِلَّا» إن لم «تَنْفِرُوا» الى ما استنصركم إليه رسولكم وتخرجوا حالا إلى جهاد عدوكم الذي يوجهكم اليه وتتقاعسوا عن تلبية أمره لقتال أعداء الله أعدائكم الحريصين على استئصالكم «يُعَذِّبْكُمْ» ربكم الذي أمر نبيكم بذلك إرادة عزكم وإكرامكم «عَذاباً أَلِيماً» في الدّنيا بالذل والهوان والخزي والعار، وفي الآخرة بالعذاب الأليم وإحراقكم بنار الجحيم، ويوشك أن يدمركم حال مخالفته «وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ» يلبون دعوته ويسرعون لما أمرهم به دون توان رهبة من الله ورسوله ورغبة في إعلاء كلمته وإهلاك أعدائه وانتشار دعوته وإعزاز المسلمين وإذلال الكافرين. ونظير هذه الآية في المعنى الآية الأخيرة من سورة محمد عليه الصلاة والسّلام والآية الثالثة من سورة الجمعة المارتين «وَلا تَضُرُّوهُ» أيها المخالفون أمره «شَيْئاً» أبدا بعدم تلبيتكم أمره كما أنه لا يضرّه شيء إذا أبادكم وأتى بغيركم بل يعود الضّرر كله عليكم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (٣٩) لا يعجزه شيء لأن إهلاككم وإحداث قوم غيركم يكون بكلمة كن ليس إلا. ثم أكد تعالى استغناء رسوله عنهم إذا شاء بقوله «إِلَّا تَنْصُرُوهُ» حين يستنصركم لما به صلاحكم ونجاحكم «فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ» من قبل وأغناه عنكم في حادثة بدر والأحزاب وغيرهما، وهو قادر الآن أيضا على نصره «إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» حين عزموا على قتله أو إخراجه من مكة أو حبسه فأذن الله له بالخروج من بينهم وأعمى أبصار أعدائه عن أن يروه حين خروجه وهم على بابه بانتصاره مصلتين سيوفهم لقتله حين خروجه، وحتى عليهم التراب ولم يروه وأعمى الّذين لحقوه من أن يدركوه وأعجزهم من أن يمسكوه حينما كان «ثانِيَ اثْنَيْنِ» هو وصاحبه أبو بكر فقط لا ثالث لهما إلّا الله، وقد حفظه ورعاه «إِذْ هُما فِي الْغارِ» الواقع في الجبل الكائن عن يمين مكة على مسيرة ثلاث فراسخ وكان
يسمع قوله «إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ» أبي بكر رضي الله عنه الذي من أنكر صحبته فقد كفر لجحده ما نص الله عليه في كتابه. روى البخاري ومسلم عن أبي بكر قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على روسنا، فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ وقد بقينا فيه ثلاثا بحمى الله فقط وخفارة ملائكة الكرام.
ولما ضاق ذرع أبي بكر أنزل الله على رسوله قوله جل قوله يا محمد قل لصاحبك «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» ومن كان الله معه لا يخاف ولا يحزن ولا ينبغي له أن يضيق صدره مما يقدره عليه «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ» أمنه وطمأنينته «عَلَيْهِ» وعلى صاحبه «وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها» وهم الملائكة الّذين تولوا حفظهما وصرفوا وجوه الكفار عنهما في الغار، فلم يروهما مع وقوفهم عليهما، لما رأوا من أعشاش الحمام ونسج العنكبوت وكأنها قديمة مما أيقنهم أنه لم يكن في الغار أحد، ولم يدخل إليه من عهد قديم، وكذلك كلأه ورفيقه حينما خرجا من الغار وأعمى المشركين عنهم وفعل ما فعل بسراقة كما بيناه في قصة الهجرة المندرجة آخر الجزء الثاني، فراجعها، وقد أيده بهذه الجنود أيضا في حوادث بدر والأحزاب وحنين وأحد بعد الهزيمة «وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى» لأنها مدعاة الى الكفر به «وَكَلِمَةُ اللَّهِ» بالرفع والواو فيها للحال وقرأ بعضهم كلمة بالنصب عطفا على كلمة الأولى وليست بشيء، وقراءة الرّفع أولى وأبلغ لأن كلمة الله عالية ولا تزال عالية سامية، وهي نداء للاسلام ودعاء للإيمان ولذلك فإنها «هِيَ الْعُلْيا» في الماضي والحال والاستقبال إلى الأبد إن شاء الله «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» غالب قوي على أعلائها ودوامها ورفعة شأنها وشأن الإسلام على غيرهم «حَكِيمٌ» (٤٠) بإعلاء كلمته وإعظامها وإذلال كلمة الكفر وإدنائها، فيعلي الإيمان وأهله بعزته، ويهين الكفر وملته بعظمته، قال الزهري: لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغار أرسل الله زوجا من الحمام فباضتا في أسفل النّقب ونسجت العنكبوت بيتا. وقال صلّى الله عليه وسلم اللهم أعم أبصارهم، فجعل الطّلب يضربون يمينا وشمالا