آيات من القرآن الكريم

إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ

التحريض على الجهاد والتحذير من تركه ومعجزة الغار في الهجرة
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)
الإعراب:
إِلَّا تَنْفِرُوا بإدغام لا في نون إن الشرطية، ومثلها: إِلَّا تَنْصُرُوهُ. إِذْ أَخْرَجَهُ منصوب ب نَصَرَهُ اللَّهُ وثانِيَ اثْنَيْنِ أي أحد اثنين، وهو منصوب على الحال من هاء أَخْرَجَهُ وهو النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. وقيل: هو حال من ضمير محذوف تقديره: فخرج ثماني اثنين.
فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جواب الشرط.
إِذْ هُما فِي الْغارِ منصوب على البدل من قوله تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهو بدل الاشتمال.

صفحة رقم 211

إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ بدل من قوله: إِذْ هُما فِي الْغارِ وهاء لِصاحِبِهِ يراد بها أبو بكر.
لا تَحْزَنْ جملة فعلية في موضع نصب ب يَقُولُ. وهاء أَيَّدَهُ يراد بها النبي عليه الصلاة والسّلام.
وَكَلِمَةُ اللَّهِ مبتدأ مرفوع، وهِيَ الْعُلْيا خبره. وقرئ كلمة بالنصب، وفيه بعد لأن كلمة الله لم تزل عالية، فيبعد نصبها ب جَعَلَ لما فيه من إيهام أنها صارت عالية بعد أن لم تكن. والذي عليه جماهير القراء: هو الرفع.
هِيَ الْعُلْيا هِيَ ضمير فصل أو مبتدأ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلو وأنها المختصة به دون سائر الكلم.
البلاغة:
ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ استفهام للإنكار واللوم أو التوبيخ.
أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فيه إيجاز بالحذف، أي أرضيتم بنعيم الدنيا بدل نعيم الآخرة.
فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا إظهار الدنيا في مقام الإضمار لزيادة التقرير، والمبالغة في التهوين بشأن الدنيا وبيان حقارتها بالنسبة للآخرة.
يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً بينهما جناس اشتقاق.
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى: كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا استعارة للشرك والدعوة إلى الكفر، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا استعارة للإيمان والتوحيد والدعوة إلى الإسلام.
المفردات اللغوية:
انْفِرُوا أقدموا على القتال بخفة ونشاط، والمصدر: النفر والنفور، واستنفر الإمام الناس إلى القتال: أعلن النفير العام، وحثهم ودعاهم إلى جهاد العدو، واسم ذلك القوم الذين يخرجون:
النفير. اثَّاقَلْتُمْ تباطأتم وملتم عن الجهاد. إِلَى الْأَرْضِ قعدتم فيها، والاستفهام للتوبيخ.
مِنَ الْآخِرَةِ آثرتم الدنيا على الآخرة، وقبلتم بدل نعيمها. مَتاعُ ما يتمتع به من لذائذ الدنيا. فِي الْآخِرَةِ في جنب متاعها. إِلَّا قَلِيلٌ حقير. إِلَّا تَنْفِرُوا إن لم تخرجوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للجهاد. أَلِيماً مؤلما. وَيَسْتَبْدِلْ أي يأت بهم بدلكم. وَلا تَضُرُّوهُ أي الله

صفحة رقم 212

أو النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. شَيْئاً بترك نصره، فإن الله ناصر دينه. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مقتدر، ومنه نصر دينه ونبيه.
إِلَّا تَنْصُرُوهُ إن لم تنصروا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. إِذْ حين. أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من مكة، أي ألجؤوه إلى الخروج، لما أرادوا قتله أو حبسه أو نفيه، بدار الندوة. ثانِيَ اثْنَيْنِ أحد اثنين، والآخر أبو بكر، والمعنى: نصره الله في مثل تلك الحالة، فلا يخذله في غيرها. الْغارِ غار جبل ثور، والغار: النقب أو الفتحة في الجبل. إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ أبي بكر الذي قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما رأى أقدام المشركين: لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا. لا تَحْزَنْ المراد بالنهي عن الحزن مجاهدة النفس وتوطينها على عدم الاستسلام له. إِنَّ اللَّهَ مَعَنا بنصره وتأييده.
سَكِينَتَهُ طمأنينته. عَلَيْهِ الضمير يعود على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقيل: على أبي بكر. وَأَيَّدَهُ أي النبي. بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ملائكة في الغار، وفي مواطن قتاله. كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي دعوة الشرك والكفر. السُّفْلى المغلوبة. وَكَلِمَةُ اللَّهِ أي كلمة التوحيد أو الشهادة بتوحيد الإله. هِيَ الْعُلْيا الغالبة. وَاللَّهُ عَزِيزٌ في ملكه. حَكِيمٌ في صنعه.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٨) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: أخرج ابن جرير عن مجاهد في هذه الآية قال:
هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين في الصيف حين طابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشق عليهم المخرج، فأنزل الله هذه الآية.
نزول الآية (٣٩)
إِلَّا تَنْفِرُوا:
أخرج ابن أبي حاتم عن نجدة بن نفيع قال: سألت ابن عباس عن هذه الآية، فقال: استنفر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أحياء من العرب، فتثاقلوا عنه، فأنزل الله: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً فأمسك عليهم المطر، فكان عذابهم.
والخلاصة: لا خلاف أن هذه الآيات نزلت عتابا على تخلّف من تخلّف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام.

صفحة رقم 213

قال المحققون: وإنما استثقل الناس الخروج لغزوة تبوك لجهاد الروم لأسباب.
أحدها- شدة الزمان في الصيف والقحط.
وثانيها- بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات.
وثالثها- إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت.
ورابعها- شدة الحر في ذلك الوقت.
وخامسها- مهابة عسكر الروم «١».
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أسباب قتال الكفار من المشركين واليهود والنصارى، وذكر منافع مقاتلتهم، كقوله: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ. ذكر هنا ما يوجب قتال الروم وأتباعهم من النصارى من عرب الشام في غزوة تبوك. وتبوك في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، تبعد عن الأولى ٦٩٠ كم وعن الثانية ٦٩٢ كم، وكانت هذه الغزوة في رجب السنة التاسعة للهجرة بعد رجوع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من غزوة حنين والطائف.
ونزلت هذه الآيات لما دعا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك، وكانوا في عسرة وضيق. وشدة حر وقد حان قطاف التمر عندهم، فشق ذلك عليهم، فأبان تعالى أنه لا يصح ترك سعادة الآخرة والخير الكثير من أجل سعادة الدنيا وطيباتها، فذلك جهل وسفه.
والكلام من هنا إلى آخر السورة في غزوة تبوك، وما صاحبها من هتك ستر

(١) تفسير الرازي: ١٦/ ٥٩

صفحة رقم 214

المنافقين وضعفاء الإيمان، وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق، إلا آيتين في آخرها، وإلا ما جاء في أثنائها من أحكام وحكم، جريا على منهج القرآن في أسلوبه الذي اختص به.
وسبب الغزوة: استعداد الروم والقبائل العربية المتنصرة من لخم وجذام وغيرهم، وتجهيز جيش كثيف، لغزو المدينة، بقيادة «قباذ» وعدد جنده أربعون ألفا.
فندب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الناس للخروج لقتالهم، وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام للتجارة، فقال: يا رسول الله، هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية (من الفضة) فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم».
ولما لم يجد النبي من يقاتله عاد إلى المدينة، بسبب انسحاب الروم وعدولهم عن فكرة الزحف واقتحام الحدود. ولكن كان لهذه الغزوة أثر معنوي كبير في نظر العرب والروم، فكانت كفتح مكة لأنها كانت احتكاكا بأعظم قوة حينذاك، وأثرت على المدى البعيد في نفوس الأعداء، بعد أن كان العرب يخشون غزو الروم في عقر دارهم.
وقد مهد الله بهذا الغزو الذي كان له أثر عميق في نفوس العرب، لغزو المسلمين للشام في عهد الخليفتين: أبي بكر وعمر.
التفسير والبيان:
يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، ما لكم تثاقلتم وتباطأتم عن الجهاد، حين قال لكم الرسول الأمين: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم ومهاجمتكم؟ فقوله: ما لَكُمْ ما: حرف استفهام معناه التقرير والتوبيخ، والتقدير: أي شيء يمنعكم عن كذا؟

صفحة رقم 215

ومعنى: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ: إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله ولإعلاء كلمته. واثَّاقَلْتُمْ: تكاسلتم وملتم إلى الراحة وطيب الثمار والتفيؤ في الظلال. فهذا ليس من شأن الإيمان الذي يدعو إلى بذل النفس والمال في سبيل الله وطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات ٤٩/ ١٥].
أرضيتم بلذات الحياة الدنيا بدلا من الآخرة وسعادتها ونعيمها؟ إن كنتم فعلتم ذلك فقد تركتم الخير الكثير في سبيل الشيء الحقير، فما تتمتعون به في الدنيا متاعا مقترنا بالهم والألم، إذا قيس بنعيم الآخرة الدائم المقيم، إلا شيء حقير، لا يصلح عوضا عن الشيء الكثير.
روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن المستورد أخي بني فهر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع؟» وأشار بالسبابة.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة» ثم تلا هذه الآية: فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ.
فالآية والحديث تزهيد في الدنيا، وترغيب في الآخرة.
ثم توعد الله تعالى من ترك الجهاد، فقال: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ... أي إن لم تخرجوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى ما دعاكم إليه، يعذبكم عذابا مؤلما في الدنيا كالهلاك بالقحط وغلبة العدو، ويستبدل بكم قوما غيركم، لنصرة نبيه وإقامة دينه، كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد ٤٧/ ٣٨] أي أنه تعالى يهلكهم ويستبدل بهم قوما آخرين خيرا منهم وأطوع،

صفحة رقم 216

وأنه غني عنهم في نصرة دينه، لا يؤثر تثاقلهم فيها شيئا. قال ابن عباس:
استنفر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حيا من العرب، فتثاقلوا عنه، فأمسك الله عنهم القطر، فكان عذابهم.
ولا تضروا الله شيئا بتوليكم عن الجهاد، وتثاقلكم عنه لأنه هو القاهر فوق عباده. وقيل: الضمير للرسول، أي ولا تضروه لأن الله وعده أن يعصمه من الناس، وأن ينصره، ووعد الله كائن لا محالة: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران ٣/ ١٩٤]. وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [الحج ٢٢/ ٤٧].
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم.
ثم رغبهم الله تعالى في الجهاد ثانية ومناصرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: إِلَّا تَنْصُرُوهُ... أي إن لم تنصروا رسوله، فإن الله ناصره ومؤيده، وكافيه وحافظه، كما تولى نصره عام الهجرة، لما همّ المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه من بلده: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ...
[الأنفال ٨/ ٣٠].
فخرج منهم هاربا بصحبة صدّيقه وصاحبه أبي بكر، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام، ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم، ثم يسيروا نحو المدينة.
ففزع أبو بكر على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما رأى المشركين، حال كون النبي أحد اثنين، والثاني أبو بكر في غار جبل ثور، إذ قال لصاحبه: لا تخف ولا تحزن، إن الله معنا يؤيدنا بنصره وعونه وحفظه.
روى أحمد والشيخان عن أنس قال: «حدثني أبو بكر قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الغار، فرأيت آثار المشركين، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه، لأبصرنا تحت قدمه، فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، الله

صفحة رقم 217

ثالثهما»
وفي رواية أحمد: «لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه... ».
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ.. أي فأنزل الله طمأنينته وتأييده ونصره عليه، أي على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، في أشهر القولين، وقيل: على أبي بكر، قال ابن عباس وغيره: لأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لم تزل معه سكينة، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال. والسكينة: ما ألقى في قلبه من الأمن. وقال ابن العربي:
عود الضمير على أبي بكر هو الأقوى لأنه خاف على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من القوم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ بتأمين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فسكن جأشه، وذهب روعه، وحصل الأمن، ورجح الرازي هذا القول لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكورات في هذه الآية: هو أبو بكر، ولأن الحزن والخوف كان حاصلا لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام، ولو كان الرسول خائفا لما أمكنه تسكين خوف أبي بكر بقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، وقال الجمهور: الضمير عائد على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، لأن السكينة هنا بمعنى الصون وخصائص النبوة.
ثم قال: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أي قوّاه وآزره بالملائكة. وجعل كلمة الشرك والكفر هي السفلى أي المغلوبة، وكلمة الله التي هي لا إله إلا الله أو الدعوة إلى الإسلام هي العليا الغالبة، والله عزيز غالب في انتقامه وانتصاره، منيع الجناب، لا يضام من لاذ به، حكيم في أقواله وأفعاله، يضع الأشياء في مواضعها. وقد تم نصر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وارتقاء دولته، وهزمت كلمة المشركين وذلت دولة الشرك، وأظهر الله دينه على كل الأديان: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف ٦١/ ٩] قال ابن عباس: يعني بكلمة الذين كفروا: الشرك، وكلمة الله: هي لا إله إلا الله.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حميّة، ويقاتل رياء، أي

صفحة رقم 218

ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله».
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات عتاب من تخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام واحد.
ودلت الآية الأولى: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ... على وجوب الجهاد في كل حال، وذلك ليس من صيغة الأمر عند القائلين بأن الأمر يقتضي الفعل فقط، وإنما من النص على العقاب، وإنكار التثاقل لأنه تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر، ولو لم يكن الجهاد واجبا، لما كان هذا التثاقل منكرا. ثم إن الآية التي بعدها وهي إِلَّا تَنْفِرُوا فيها تهديد شديد، ووعيد مؤكد في ترك النفير، بعذاب أليم، ولا يكون العذاب أو العقاب إلا على ترك واجب، فوجب بمقتضى الآيتين النفير للجهاد والخروج إلى الكفار لمقاتلتهم، على أن تكون كلمة الله هي العليا، لكن قيل: المراد بهذه الآية الثانية وجوب النفير عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم.
وآية: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ وإن دلت على خطاب كل المؤمنين، إلا أن المراد بها البعض، وخطاب الكل وإرادة البعض مجاز مشهور في القرآن، وفي سائر أنواع الكلام، كقول بعضهم: إياك أعني واسمعي يا جارة.
ثم إن فرضية الجهاد العينية المستفادة من هاتين الآيتين قد نسخت بما يدل على أن فرض الجهاد استقر كونه فرض كفاية روى أبو داود عن ابن عباس قال: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ- إلى قوله- يَعْمَلُونَ [التوبة ٩/ ١٢٠- ١٢١] نسختها الآية التي تليها: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة ٩/ ١٢٢]. وهو قول الضحاك والحسن البصري وعكرمة.

صفحة رقم 219

وقال المحققون: إن هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فلم ينفروا، وعلى هذا التقدير فلا نسخ.
وتضمنت آية إِلَّا تَنْصُرُوهُ عتاب الله أيضا للمؤمنين بعد انصراف نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم من تبوك لأن معناها كما عرفنا: إن تركتم نصره، فالله يتكفّل به إذ قد نصره الله في مواطن القلة، وأظهره على عدوه بالغلبة والعزة.
وأبانت الآية في قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ: لا تَحْزَنْ، إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فضل أبي بكر بسبب صحبته النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في أحلك الظروف وشدة الخوف، وتعرضه للقتل إن عثر المشركون عليه وعلى النبي، واختيار النبي له لعلمه بأنه من المؤمنين الصادقين، ولأن الظاهر يدل على كون الاختيار بأمر الله. ولتسميته بأنه ثانِيَ اثْنَيْنِ ولوصف الله تعالى أبا بكر بكونه صاحبا للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.
قال الليث بن سعد: ما صحب الأنبياء عليهم السّلام مثل أبي بكر الصديق.
وقال سفيان بن عيينة: خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله:
إِلَّا تَنْصُرُوهُ.
وفي قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن الخليفة لا يكون أبدا إلا ثانيا.
وجاء في السنة أحاديث صحيحة، يدل ظاهرها على أنه الخليفة بعده، وقد انعقد الإجماع على ذلك، ولم يبق منهم مخالف. روى البخاري عن ابن عمر قال: كنا نخيّر بين الناس في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فنخيّر أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان.

صفحة رقم 220

وجمهور أئمة السلف على تقديم عثمان على علي رضي الله عنهم أجمعين.
وتضمنت آية إِلَّا تَنْصُرُوهُ أيضا معجزتين هما: تأييد الله نبيه بجند من الملائكة في قوله: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها والضمير يعود إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وحماية الله نبيه في الغار من أذى المشركين في قوله: إِذْ هُما فِي الْغارِ والمراد غار ثور.
وقصة الهجرة ومعجزة الغار هي بإيجاز: لما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة، قالوا: هذا شر شاغل لا يطاق فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فبيّتوه ورصدوه على باب منزله طوال ليلتهم، ليقتلوه إذا خرج فأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه «١»، ودعا الله أن يعمّي عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم، فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض، فلما أصبحوا، خرج عليهم علي رضي الله عنه، وأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قد فات ونجا.
وتواعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة، فدفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أرقط، ويقال: ابن أريقط، وكان كافرا، لكنهما وثقا به، وكان دليلا بالطرق، فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة.
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من خوخة (ثغرة) في ظهر دار أبي بكر التي في بني جمح، ونهضا نحو الغار في جبل ثور.
وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع ما يقول الناس، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه، ويريحها (يردّها) عليهما ليلا، فيأخذا منها حاجتهما. ثم نهضا فدخلا الغار.

(١) وفي هذا مخاطرة وفضل كبير أيضا لسيدنا علي كرم الله وجهه، وهي طاعة عظيمة ومنصب رفيع.

صفحة رقم 221

وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام، ويأتيهما عبد الله بن أبي بكر بالأخبار، ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم، فيعفّي آثارهما، فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر، حتى وقف على الغار، فقال:
هنا انقطع الأثر، فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته «١» ولهذا نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن قتله. فلما رأوا نسج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا وجعلوا في النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مائة ناقة لمن ردّه عليهم، والخبر مشهور، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم في ذلك مشهورة أيضا.
وقد روي من حديث أبي الدرداء وثوبان رضي الله عنهما: أن الله عز وجل أمر حمامة، فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إليها ردهم ذلك عن الغار.
روى البخاري عن عائشة قالت: استأجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر رجلا من بني الدّيل هاديا خرّيتا «٢»، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث، فارتحلا وارتحل معهما عامر بن فهيرة والدليل الدّيلي، فأخذ بهما طريق الساحل، أي موضع بعينه، ولم يرد به ساحل البحر.
قال المهلب: وفي هذا من الفقه ائتمان أهل الشرك على السرّ والمال إذا علم منهم وفاء ومروءة، كما ائتمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم هذا المشرك على سرّه في الخروج من مكة وعلى الناقتين. وقال ابن المنذر: فيه استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق «٣».

(١) هذا ثابت في صحاح السيرة، وإن لم يثبته أهل الحديث.
(٢) الخرّيت: الدليل الحاذق والماهر بطرق المفاوز.
(٣) تفسير القرطبي: ٨/ ١٤٤ وما بعدها.

صفحة رقم 222
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية