
ومعنى: ﴿مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ﴾، قال ابن عباس: (مؤخرون ليقضي فيهم ما هو قاضٍ) (١).
وقوله تعالى: ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾، قال أبو إسحاق: ((إما) لأحد الشيئين، والله -عز وجل- عالم بما يصير إليه أمرهم، إلا أن هذا للعباد، خوطبوا بما يعلمون، المعنى: ليكن أمرهم عندكم على هذا أي على الخوف والرجاء) (٢)، فجعل أناس يقولون: هلكوا إذ لم ينزل لهم (٣) عذر، وجعل آخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ أي بما تؤول إليه حالهم ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما يفعله بهم.
١٠٧ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا﴾ الآية، قرأ نافع وابن عامر: (الذين) بغير واو (٤)، وكذلك هي في مصاحف الشام والمدينة (٥)، فمن ألحق (٦) الواو جعله معطوفًا على ما قبله من قوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ﴾ [التوبة: ١٠١] [(وآخرون اعترفوا)] (٧) ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ﴾ [التوبة: ١٠٦] أي ومنهم
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ٤٦٨ بتصرف.
(٣) في (ح): (بهم).
(٤) وكذلك قرأ أبو جعفر المدني، وقرأ الباقون بالواو، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٧، و"التبصرة في القراءات" ص ٢١٦، و"تقريب النشر" ص ١٢١.
(٥) انظر: "كتاب المصاحف" لأبي بكر ابن أبي داود ص ٤٩، و"كتاب السبعة في القراءات" ص ٣١٨.
(٦) في (ح): لحق.
(٧) [التوبة: ١٠٢] وهي ساقطة من النسخة (ح).

آخرون، ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا﴾ أي: ومنهم الذين اتخذوا، ومن لم يلحق الواو لم (١) يجز أن يكون (الذين) بدلًا من قوله: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ﴾ كما تبدل المعرفة من النكرة؛ لأن أولئك غير هؤلاء الذين اتخذوا مسجدًا (٢)، وإذا لم يكونوا هم لم يجز أن يبدلوا منهم، ولكن من لم يلحق الواو جاز (٣) على أمرين أحدهما: أن تضمر: ومنهم الذين اتخذوا؛ كما أضمرت الحرف مع الفعل في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] أي فيقال لهم: أكفرتم؛ فكذلك حذف الخبر مع الحرف اللاحق له هاهنا.
والثاني: أن تضمر الخبر على تقدير: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا﴾ إلى قوله: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ منهم، وحسن حذف الخبر لطول الكلام بالمبتدأ وصلته، ومثله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَالْبَادِ﴾ [الحج: ٢٥] والمعنى فيه: ينتقم منهم، أو يعذبون، ونحو ذلك مما يليق بهذا المبتدأ (٤).
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير: (هؤلاء كانوا اثني (٥) عشر رجلًا من المنافقين بنوا مسجدًا يضارون به مسجد قباء) (٦).
(٢) ساقط من (ى).
(٣) في "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٤٠ الذي نقل منه هذا النص: جاز قوله على... إلخ.
(٤) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٤٠ - ٢٤١.
(٥) في (ح): (اثنا).
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٢٢ - ٢٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٩٨، والبغوي ٤/ ٩٣، وابن الجوزي ٣/ ٤٩٩، والرازي ١٦/ ١٩٣، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٩٤ - ٤٩٥.

والضرار محاولة التفسير، كما أن الشقاق محاولة ما يشق، قال أبو إسحاق: (وانتصب (ضرارًا) لأنه (١) مفعول له، المعنى: اتخذوه للضرار ولما ذكر بعده، فلما حذفت اللام أفضى الفعل فنصب، قال: وجائز أن يكون مصدرًا محمولًا على المعنى [لأن معنى] (٢) قوله: ﴿اتَّخَذُوا مَسْجِدًا﴾: ضاروا به ضرارًا (٣)) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَكُفْرًا﴾، قال ابن عباس: (يريد ضرارًا للمؤمنين وكفرًا بالنبي - ﷺ - وما جاء به) (٥)
وقال الزجاج: (لأن عناد النبي - ﷺ - كفر) (٦)، وقال غيره: (اتخذوه ليكفروا فيه بالطعن علي النبي - ﷺ - والإسلام) (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، قال المفسرون: (يفرقون به جماعتهم؛ لأنهم كانوا يصلون جميعًا في مسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيختلفوا (٨) بسبب (٩) ذلك، ويفترقوا عن النبي - ﷺ -،
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) عبارة الزجاج: لأن اتخاذهم المسجد على غير التقوى معناه ضاروا به ضرارًا. أهـ. وعبارة الواحدي لا تؤدي هذا المعنى.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٨ بتصرف.
(٥) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١٩٣، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٤.
(٦) " معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٩.
(٧) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ١٩٣ دون تعيين القائل ولم أجد من عينه.
(٨) في (ح): (فيتخلفوا)، والصواب ما في (م) و (ى) وهو موافق لما في "تفسير ابن جرير" والثعلبي.
(٩) في (ى): (بشرك)، وهو خطأ.

فيؤدي إلى التحزب، واختلاف الكلمة وبطلان الألفة) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ قالوا: يعني أبا عامر الراهب (٢) الذي سماه رسول الله - ﷺ - الفاسق، وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب، فلما خرج رسول الله - ﷺ - عاداه، وقال: لا أجد قوماً يقاتلونك (٣) إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح (٤) وابنوا لي مسجدًا فإني آتٍ من عند قيصر بجند فأخرج محمدًا وأصحابه، فبنوا هذا المسجد، وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد) (٥).
قال الزجاج: (والإرصاد: الانتظار) (٦).
وقال ابن قتيبة: (﴿وَإِرْصَادًا﴾ أي ترقبًا بالعداوة (٧)) (٨)، وقال
(٢) هو: عبد عمرو ويقال عمرو بن صيفي بن مالك بن أمية الأوسي، المعروف بأبي عامر الراهب، كان في الجاهلية يذكر البعث ودين الحنيفية، فلما بُعث الرسول - ﷺ - عانده وحسده وخرج عن المدينة، وشهد مع قريش وقعة أحد، ثم خرج إلى الروم فمات هناك سنة تسع أو عشر. انظر: "السيرة النبوية" ٣/ ١٢، و"الإصابة" ١/ ٣٦٠ - ٣٦١.
(٣) في (ى): (يقاتلونكم).
(٤) في (ى): (السلاح).
(٥) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٢٤، والبغوي ٤/ ٩٤، و"الدر المنثور" ٣/ ٤٩٤.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه " ٢/ ٤٦٨.
(٧) في (ى): (للعداوة)، وما أثبته موافق للمصدر التالي.
(٨) "تفسير غريب القرآن" ص ١٩٩.

الأكثرون: (الإرصاد: الإعداد) (١)، روى أبو عبيد عن الأصمعي والكسائي: (رصدت فلانا أرصده: إذا ترقبته، وأرصدت له شيئًا أرصده: إذا أعددت له) (٢)، قال الأعشى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى | ولاقيت بعد الموت من قد تزودا |
ندمت على أن لا تكون كمثله | وأنك لم ترصد كما كان أرصدا (٣) |
[وقوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ يعني من قبل بناء مسجد الضرار] (٧)، وقوله تعالى: ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى﴾ أي: ليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، وهو الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المصير إلى مسجد رسول الله - ﷺ -[وذلك أنهم قالوا لرسول الله
(٢) "تهذيب اللغة" (رصد) ٢/ ١٤١٣.
(٣) البيتان في ديوان أعشي قيس ص ٤٦ من قصيدة طويلة يمدح بها النبي - ﷺ - ويذكر بعض أساسيات الدين، ومعالم الأخلاق.
(٤) ساقط من (ح).
(٥) "تهذيب اللغة" (رصد) ٢/ ١٤١٤، والنصان في كتاب: العين (رصد) ٧/ ٩٦.
(٦) "معاني القرآن الكريم" للنحاس ٣/ ٢٥٣ بنحوه.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).