آيات من القرآن الكريم

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ

وثالثا: ليس المحسنون والمسيئون على سواء من رحمة الله.. فالمحسنون أقرب إليها، وأكثر تعرضا لها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ». والمسيئون وإن يعدوا عن رحمة الله، فليس ذلك بالذي يحجبهم عنها، ويحرم بعض المسيئين منهم حظهم منها، وذلك لمشيئة الله فيهم، وإرادته بهم.. كما يقول سبحانه: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ».
وأما قوله تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» وقوله سبحانه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».. فهو الميزان الذي يوزن به عمل كل عامل، وسعى كل ساع.. ومع هذا، فإن الله يضاعف للمحسنين إحسانهم، وأنه سبحانه إذ يرى المحسن عمله لا يقف به عند هذا العمل، بل يفضل عليه بأضعاف ما عمل..
وكذلك المسيء، إذا كان لا يقدم على الله إلا بما سعى، وما حصّل من سيئات، فإنه ليس من حرج على فضل الله أن يتجاوز عنه.. ليرى آثار رحمة الله فيه.. وذلك رهن بمشيئة الله وتقديره.. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».. يقضى بعلم، ويحكم بحكمة.. والله سبحانه وتعالى يقول على لسان المسيح عليه السلام:
«إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ..».
الآيات: (١٠٧- ١١٠) [سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)

صفحة رقم 893

التفسير: الضّرار: المضارّة، وطلب إلحاق الضرر بالغير، والإرصاد:
الترقب والتربص، والانتظار.. وشفا جرف: أي حافة الجرف وشفيره..
والجرف: رأس الهاوية المطلّ على منحدرها.. والهارى: المنهار..
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».
قرأ أهل المدينة «الَّذِينَ اتَّخَذُوا» بغير واو العطف، وذلك على الاستئناف وابتداء عرض وجه آخر من وجوه المنافقين..
وقرىء بالعطف، وهو القراءة المشهورة وعليها تنتظم وجوه المنافقين فى سلك واحد، على تقدير: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا..
- وقوله تعالى: «ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ».. المنصوبات المتعاطفة هنا هى مفعول لأجله، تكشف عن السبب الذي لأجله بنى هذا المسجد، وهو للمضارة، لا للنفع، وللكفر لا للإيمان، ولإيواء من حارب الله ورسوله، لا لدعوة من آمن بالله ورسوله..
قيل إن هذا المسجد بناه جماعة من المنافقين، من بنى غنم بن عوف، حسدا لبنى عمهم عمرو بن عوف، الذين كانوا قد بنوا مسجد قباء، ودعوا رسول الله ﷺ أن يصلّى فيه، فأجابهم، وصلى المسلمون معه..
فكان أول مسجد بنى فى الإسلام..

صفحة رقم 894

وحين أتم بنو غنم بناء هذا المسجد إلى جوار مسجد قباء، جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يدعونه أن يصلى فى مسجدهم هذا، وكان النبىّ يتهيأ لغزوة تبوك، فقال لهم: «إنى على جناح سفر، فلو قدمنا أتيناكم، إن شاء الله، فصلينا لكم فيه».. فلما انصرف الرسول من تبوك، نزلت عليه هذه الآية وهو فى طريق العودة إلى المدينة..
وقد فضح الله فى هذه الآية نفاق هؤلاء المنافقين، وكشف عن تدبيرهم السيّء.. فإنهم ما بنوا هذا المسجد ليكون بيتا من بيوت الله، وإنما بنوه مضارّة بمسجد قباء، حتى لا يعمر بالمصلين، وليكون مأوى يأوى إليه المنافقون، ويدارون نفاقهم بالاجتماع فيه، والاستظلال بظلّه، ثم ليفرقوا بين المؤمنين، حيث لا تجتمع جماعتهم فى مكان واحد، بل يتوزعهم المسجدان المتجاوران، فيقلّ بذلك جمعهم، وتصغر فى الأعين جماعتهم، الأمر الذي يخالف ما يدعو إليه الإسلام من جمع المسلمين فى صلاة الجماعة والجمعة والعيدين، لتتوحد مشاعرهم، وتمتلىء العيون مهابة وإجلالا لهم.. ثم إنهم بنوا هذا المسجد ليكون راية منصوبة لأهل النفاق والضلال، حيث لا يخطئهم أن يجدوا فيه- فى أي وقت- من هم على شاكلتهم فى نفاقهم وضلالهم..
- قوله تعالى: «وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».. المنافقون هكذا دائما يتخذون أيمانهم جنّة يحتمون بها من نظرات الاتهام التي يرمون بها، أو يقدّرون أنهم يرمون بها من كل عين تنظر إليهم.. وهؤلاء الذين فضحهم الله وأخزاهم بما كشف من سوء تدبيرهم، يحلفون للرسول وللمؤمنين أنهم لا يريدون بهذا المسجد لذى بنوه إلا ما يراد من بناء المساجد وعبادة الله فيها.. وقد كذبهم الله سبحانه بقوله: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».. وصدق الله العظيم، وكذب المنافقون، ولعنوا..

صفحة رقم 895

هذا وقد أمر الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بعض أصحابه بهدم هذا البنيان، فهدموه..
قوله تعالى: «لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ».
هذا نهى للنبىّ الكريم أن يلمّ بهذا المسجد، أو أن يتلبّث عنده، فإنه وإن أخذ سمت المساجد، وسمّى اسمها، فلن يشفع له ذلك فى أن يكون على طهر المساجد وقدسيتها، لما وسمه به المنافقون من دنس ورجس.. فكما يظهر المنافقون فى سمت الآدميين، ويأخذون مظاهر الناس.. ثم لم يكن لهم من الإنسانية نصيب إلا هذا السّمت الظاهر، أما حقيقتهم فإنهم دنس ورجس- كذلك كان شأن البنيّة التي بنوها، وأطلقوا عليها اسم المسجد.. إنها لا تمثل من المسجد إلا وجهه الظاهر، أما باطنها فكفر ونفاق وضلال! - وفى قوله تعالى: «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ.. فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» تنويه بمسجد قباء، وتكريم له، ورفع لقدره، وقدر الذين بنوه، والذين يلقون الله فيه- بقدر ما هو إزراء بأصحاب مسجد الضرار، وتشنيع عليهم، وعلى هذا البناء الذي رفعوه فهدمه الله عليهم..
والمراد بالرجال الذين يحبّون أن يتطهروا، هم الذين يلقون الله فى الصلاة فى هذا المسجد.. فهى صلاة مقبولة، فى مكان طاهر تؤدى فيه عبادة خالصة لله، من شأنها أن تطهّر أهلها، الذين يداومون عليها، ويقيمونها بقلوب مؤمنة، خالية من الرياء والنفاق..

صفحة رقم 896

قوله تعالى: «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».
قرىء أفمن أسس بنيانه «ببناء الفعل للمجهول»، كما قرئ «أُسِّسَ» فى الموضعين، جمع أسّ، بمعنى الأصل والأساس..
والآية تعرض المسجدين، مسجد قباء، ومسجد الضرار، فى وضع يواجه فيه أحدهما الآخر.. فيكشف ذلك عن مدى ما بينهما من تفاوت.. هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج.. هذا طيب، أطيب الطيب، وهذا خبيث، أخبث الخبث..
والضدّ إذا قرن بضدّه، زاد كل منهما فى الصفة الغالبة عليه زيادة لا ترى إلا حيث يتقابل مع ضده.. فيزداد الحسن حسنا وروعة، ويزداد القبيح شناعة وقبحا.. وبضدها تتميز الأشياء- كما يقولون! - وفى قوله تعالى: «فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ» تصوير للعاقبة التي ينتهى إليها هذا المسجد- مسجد الضرار- بأهله الذين بنوه، وأنه إذ بنوه على ضلال ونفاق وزيف، فهو بناء على خواء.. على شفا جرف هار، وأنه إذ ينهار فسينهار بهم فى نار جهنم، فهم بهذا قد ظلموا أنفسهم: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».
وقوله تعالى: «لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
نفى القرآن فى هذه الآية عن مسجد الضرار، كلّ ما تتسم به المساجد، حتى اسمه، فلم يعد مسجدا بعد أن فضحه الإسلام، وفضح أهله، وكشف عن

صفحة رقم 897
التفسير القرآني للقرآن
عرض الكتاب
المؤلف
عبد الكريم يونس الخطيب
الناشر
دار الفكر العربي - القاهرة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية