فعدم الذِّكر لا يدلُّ على العدم، ألا ترى قوله تعالى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عبس: ٣٨، ٣٩] وهم المؤمنون ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة﴾ [عبس: ٤٠ - ٤٢] فذكر المؤمنين والكافرين، ثم إنَّ عدم ذكر القسم الثَّالث، لم يدل عند الجبائيُّ على نفيه؛ فكذا ههنا.
قوله
تعالى
: ﴿والذين
اتخذوا
مَسْجِداً ضِرَاراً﴾ الآية.
قرأ نافع، وابن عامر «الذين اتَّخَذُوا» بغير «واو». والباقون بواو العطف. فأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر فلموافقةِ مصاحفهم، فإنَّ مصاحف المدينة والشَّام حذفت منها الواوُ، وهي ثابتةٌ في مصاحف غيرهم. فمنْ أسقط الواوَ ففيه أوجه:
أحدها: أنَّها بدلٌ من «آخرون» قبلها، وفيه نظر؛ لأنَّ هؤلاء الذين اتَّخَذُوا مسجداً ضراراً، لا يقال في حقِّهم: إنَّهم مُرجَوْن لأمر الله؛ لأنَّهُ رُوي في التفسير أنَّهم من كبار المنافقين، ك: أبي عامر الرَّاهب.
الثاني: أنَّهُ مبتدأ، وفي خبره حينئذٍ أقوالٌ، أحدها: أنَّهُ «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ» والعائدُ محذوفٌ تقديره: بنيانه منهم.
الثاني: أنَّهُ «لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ» قاله النَّحاسُ والحوفيُّ وفيه بعدٌ لطول الفصل.
الثالث: أنه «لا تقُمْ فيهِ» قالهُ الكسائيُّ. قال ابن عطيَّة: «ويتجه بإضمارٍ، إمَّا في أول الآية، وإمَّا في آخرها، بتقدير: لا تقمْ في مسجدهم».
الرابع: أنَّ الخبر محذوفٌ، تقديره: يعذبون، ونحوه، قاله المهدويُّ.
الوجه الثالث: أنَّه منصوبٌ على الاختصاص، وسيأتي هذا الوجه أيضاً في قراءة الواو.
وأما قراءةُ الواو ففيها ما تقدَّم، إلاَّ أنَّه يمتنع وجه البدل من «آخرون» ؛ لأجل العاطف.
وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: ﴿والذين اتخذوا﴾ ما محلُّه من الإعراب؟ قلتُ: محله النصب على الاختصاص، كقوله تعالى: ﴿والمقيمين الصلاة﴾ [النساء: ١٦٢]. وقيل: هو مبتدأ، وخبره محذوفٌ، معناه: فيمن وصفنا الذين اتَّخذُوا، كقوله: ﴿والسارق والسارقة﴾ [المائدة: ٣٨]. يريد على مذهب سيبويه فإنَّ تقديرهُ: فيما يُتْلى عليكم السارق؛ فحذف الخبر، وأبقى المبتدأ، كهذه الآية.
قال القرطبي: ﴿والذين اتخذوا مَسْجِداً﴾ معطوف، أيك ومنهم الذين اتَّخذُوا مسجداً، عطف جملة على جملة.
قوله: «ضِرَاراً» فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، أي: مُضَارَّةً لإخوانهم.
الثاني: أنَّهُ مفعولٌ ثان ل «اتَّخذوا» قاله أبُو البقاءِ.
الثالث: أنَّه مصدر في موضع الحال من فاعل «اتخذوا»، أي: اتخذوه مضارين لإخوانهم. ويجوزُ أن ينتصبَ على المصدريَّةِ أي: يَضُرُّون بذلك غيرهم ضراراً. ومتعلقاتُ هذه المصادرِ محذوفةٌ، أي: ضراراً لإخوانهم، وكفراً بالله.
فصل
قال ابنُ عباسٍ، ومجاهدٌ، وقتادةُ، وعامة المفسِّرين: الذين اتَّخَذُوا مسجد الضرار كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين، وديعة بن ثابت، وخذام بن خالد ومن داره أخرج هذا المسجد، وثعلبة بن حاطب، وحارثة بن عامرٍ، وابناهُ مجمع وزيدُ بنُ حارثة، ومعتبُ بنُ قشير وعبادُ بنُ حنيفٍ أخو سهل بن حنيفٍ، وأبُو حبيبةَ بن الأزهرِ، ونبتل بن الحارث، وبجاد بن عثمان، ورجل يقال له: بحزَجٌ، بنوا هذا المسجد ضراراً، يعني مضارة للمؤمنين، والضرار: محاولة الضّر، كما أنَّ الشقاقَ محاولة ما يشُق.
و «كُفْراً» قال ابنُ عباسٍ: يريدُ به ضراراً للمؤمنين، وكُفْراً بالنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وما جاء به. قال ابنُ عباسٍ، ومجاهد وقتادة وغيرهم: إنَّ أبا عامر الرَّاهب كان خرج إلى قيصر وتنصَّر، ووعدهم قيصر أنَّه سيأتيهم، فبنوا مسجد الضّرار يرصدون مجيئه فيه. وقال غيرهم: اتخذوه ليَكْفُرُوا فيه بالطَّعْنِ على النبيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. «وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين» أي: يفرقُون بواسطته جماعة المؤمنين وذلك لأن المنافقين قالوا: نبني مسجداً فنُصلِّي فيه؛ ولا نصلِّي خلف محمَّدٍ، فإن أتانا فيه صلينا خلفه وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده، فيؤدي ذلك إلى اختلافِ الكلمة وإبطال الألفة.
وكان يُصلِّي لهم مجمعُ بنُ حارثة، فلمَّا فرغوا أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو يتجهَّزُ إلى صفحة رقم 203
تبوك، فقالوا يا رسول الله: إنَّا بنينا مسجداً لذي العلَّة والحاجة، والليلةِ المطيرةِ، والليلة الشاتية، وإنَّا نحب أن تأتينا تصلي لنا فيه، وتدعو بالبركةِ، فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي على جناح سفرٍ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه».
فصل
قال القرطبيُّ: «تفطَّن مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - من هذه الآية وقال: لا يُصلِّي جماعتان في مسجدٍ واحدٍ بإمامين، خلافاً لسائر العلماء. وروي عن الشَّافعي المنع؛ لأنَّ في ذلك تشتيتاً للكلمة، وإبطالاً لهذه الحكمة، وذريعة إلى أن نقول: من يريدُ الانفراد عن الجماعةِ كان له عذر فيقيمُ جماعة، ويقدم إمامه فيقعُ الخلاف بينهم، ويبطل الكلام وخفي ذلك عليهم».
قوله: ﴿وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ﴾.
الإرصاد: الانتظارُ، قاله الزجاجُ: وقال ابنُ قتيبة: الانتظارُ مع العداوةِ. قالوا: والمرادُ به: أبو عامر الرَّاهبُ، وهو والد حنظلة غسيل الملائكة، وكان قد ترهَّب في الجاهليَّة، وتنصَّر ولبس المسوح، فلمَّا قدم النبيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - المدينة قال له أبُو عامرٍ: ما هذا الذي جِئْتَ به؟ قال: «جئت بالحنيفية دين إبراهيم»، قال أبو عامرٍ: أنا عليها، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنَّكَ لَسْتَ عليهَا» قال بلى، ولكنك أدخلتَ في الحنيفيَّة ما ليس منها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ما فعلتُ ولكنِّي جئتُ بها بيضَاءَ نقيَّةٌ» فقال أبُو عامرٍ، أمات اللهُ الكاذبَ طريداً وحيداً غريباً، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «آمين» وسمَّاه أبا عامر الفاسق فلمَّا كان يوم أحد، قال أبُو عامر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا أجدُ قوماً يقاتلُونك إلاَّ قاتلتك معهم؛ فلمْ يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلمَّا انهزمت هوازن يئس، وخرج هارباً إلى الشَّام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدُّوا لما استطعتم من قوَّة وسلاح، وابنُوا لِي مسجداً فإنِّي ذاهب إلى قيصر ملك الرُّوم، فآتي بجندٍ من الرُّوم، فأخرج مُحمَّداً وأصحابه من المدينة فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك قوله: ﴿وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ﴾ [التوبة: ١٠٧] وهو أبو عامر الفاسق، ليصلي فيه إذا رجع من الشَّام.
قوله: «مِنْ قبلُ» فيه وجهان:
أحدهما - وهو الذي لم يذكر الزمخشريُّ غيره -: أنَّهُ متعلقٌ بقوله: «اتَّخَذُوا»، أي: اتَّخذُوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء.
والثاني: أنه متعلقٌ ب «حَاربَ»، أي: حارب من قبل اتِّخاذ هذا المسجد.
قوله: ﴿وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا﴾ «ليَحْلفُنَّ» جوابُ قسم مقدر، أي: والله ليحْلِفنَّ. وقوله «إنْ أردْنَا» جوابٌ لقوله: «ليَحْلِفُنَّ» فوقع جوابُ القسم المقدر فعل قسم مجاب بقوله «إنْ أرَدْنَا». و «إنْ» نافية، ولذلك وقع بعدها «إلاَّ». و «الحُسْنَى» صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، صفحة رقم 204
أي: إلاَّ الخصلة الحسنى، أو إلاَّ الإرادة الحسنى. وقال الزمخشريُّ «مَا أرَدْنَا ببناء هذا المسجد إلاَّ الخصلة الحسنى، أو إلا الإرادة الحسنى، وهي الصلاةُ». قال أبو حيَّان كأنَّه في قوله: «إلاَّ الخَصْلةِ الحسْنَى» جعله مفعولاً، وفي قوله: «أو إلاَّ الإرادة الحسنى» علةً؛ فكأنه ضمَّن «أرادَ» معنى «قَصَدَ»، أي: ما قصدوا ببنائه لشيء من الأشياء إلاَّ الإرادة الحسنى. قال «وهذا وجهُ متكلف» وأرادوا بالفعلة الحسنى: الرفق بالمسلمين، والتوسعة على أهل الضعف، والعلة، والعجز عن المصير إلى مسجد رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنَّهم قالوا لرسُول الله: إنَّا بَنينا مسجداً لذي العلَّةِ والحاجة واللَّيلة المطيرة. ثم قال تعالى: ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي: أنَّ الله أطلعَ الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على أنَّهم حلفُوا كاذبين.
روي أنه لمّا انصرفَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تبوك؛ فنزل بذي أوان موضع قريب من المدينةِ، أتوهُ فسألوهُ إتيان مسجدهم، فدعا بقميصه ليلبسه، ويأتيهم، فنزل القرآن عليه وأخبره خبر مسجد الضرار، وما همُّوا به، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مالك بن الدخشم، ومعن بن عديّ، وعامر بن السكن، والوحشي قاتل حمزة، وقال لهم: «انْطلقُوا إلى هذا المَسْجدِ الظَّالم أهلُه فاهدمُوهُ وأحْرِقُوهُ» فخرجوا مسرعين حتَّى أتوا سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك: أنظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي، فدخل أهلهُ فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد، وفيه أهله فحرقوه وهدموهُ، وتفرَّق عنه أهله، وأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف، والنتن، والقمامة، ومات أبُو عامرٍ الرَّاهب بالشَّام وحيداً غريباً.
ورُوي أنَّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة، فيؤمّهم في مسجدهم، فقال: لا والله ولا نعمة عين! أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليّ، فوالله لقد صليتُ فيه وأنا لا أعلم ما أضمرُوا عليه، ولو علمتُ ما صلَّيتُ معهم، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شُيُوخاً لا يقرؤون فصليت ولا أحسب إلاَّ أنهم يتقرَّبُون إلى الله، ولم أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر وصدَّقه وأمره بالصلاةِ في مسجد قباء. قال عطاءٌ «لمَّا فتح الله على عُمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجدَ، وأمرهم ألاَّ يبنوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه».
قوله: «لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً».
قال ابن عباس «لا تُصلّ فيه» منع اللهُ نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُصلِّي في مسجد الضِّرارِ.
قال ابنُ جريج: فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة، فصلُّوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد، وانهار في يوم الاثنين.
ثم إنَّه تعالى بيَّن العلَّة في هذا النَّهْي، وهي أنَّ أحد المسجدين لمَّا كان مبنياً على التَّقوَى من أول يوم، وكانت الصَّلاة في مسجد آخر تمنع من الصَّلاة في مسجد التقوى، علم بالضرورة أنه يمنع من الصَّلاة في المسجد الثاني.
فإن قيل: كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني.
فالجواب: علة المنع وقعت بمجموع الأمرين، أعني كون مسجد الضرار سبباً للمفاسد المذكورة وهي المضارة والكفر والتَّفريق بين المؤمنين وإرصاده لمن حارب الله ورسولهُ، وكون مسجد التقوى يشتمل على الخيرات الكثيرة.
فصل
قال القرطبي «قال علماؤنا: لا يجوز أن يُبنى مسجد إلى جانب مسجد، ويجب هدمه، والمنع من بنائه، لئلاَّ ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً، إلاَّ أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجدٌ واحدٌ فيبنى حينئذٍ. وكذلك قالوا: لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلَّى فيه الجمعة لم تجزه. وقال علماؤنا: كلَّ مسجد بُنِيَ على ضرارٍ أو رياء أو سمعة فهو في حكم مسجد الضِّرارِ لا تجوز الصلاة فيه».
فصل
قال النقاش «ويلزمُ من هذا ألاَّ يصلى في كنيسة ونحوها؛ لأنَّها بنيت على شر».
قال القرطبي «وهذا لا يلزمُ؛ لأنَّ الكنيسة لم يقصد ببنائها الضَّرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شرٍّ، وإنما اتَّخذت النَّصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً لعبادتهم بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا، وقد أجمع العلماء على أن من صلَّى في كنسةٍ، أو بيعة على موضع طاهرٍ أنَّ صلاته صحيحةٌ جائزةٌ. وذكر البُخاريُّ أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل، وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمره أن يبني مسجد الطائف حيثُ كان طواغيتُهم».
فصل
قال القرطبيُّ «قال علماؤنا: من كان إماماً لظالم لا يصلِّي وارءه، إلاَّ أن يظهر عذره أو يتوب؛ لأنَّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة أن يصلِّي بهم في مسجدهم، فقال: لا والله ولا نعمة صفحة رقم 206
عين! أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليَّ، فوالله لقد صليتُ فيه، وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمتُ ما صلَّيْتُ بهم فيه، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شُيُوخاً قد عاشوا على جاهليتهم، وكانوا لا يقرءون من القرآن شيئاً، فصلَّيْتُ ولا أحسب ما صنعت إثماً، ولمْ أعلمْ ما في أنفسهم؛ فعذرهُ عمر، وصدَّقه وأمره بالصلاة في مسجد قُبَاء».
فصل
قال القرطبيُّ «قال علماؤنا: إذا كان المسجد الذي يتَّخذ للعبادة وحضَّ الشارع على بنائه بقوله:» مَنْ بنَى للهِ مسجداً، ولوْ كَمَفْحَصِ قطاةٍ بنى اللهُ لهُ بيتاً في الجنَّةِ «يُهْدم إذا كان فيه ضرر بغيره؛ فما ظنُّك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم. كمنْ بنى فرناً أو رحًى أو حفر بئراً، أو غير ذلك ممّا يدخل ضرراً على الغير. والضَّابطُ فيه: أنَّ منْ أدخَلَ ضرراً على أخيه منع، فإن أدخل على أخيه ضرراً بفعل ما كان له فعله في ماله، فأضرَّ ذلك بجاره، أو غير جاره، نظر إلى ذلك الفعل، فإن كان تركه أكبر ضرراً من الضَّررِ الدَّاخل على الفاعل قطع أكبر الضَّررين. مثل من فتح كُوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهلُ، ومن شأن النساء في بيوتهن التجرد من بعض ثيابهنّ والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أنَّ الاطلاع على العورات محرّم، نهى الشَّارعُ عن الاطلاع إلى العورات فرأى العلماء أن يغلقوا الكُوَّة وإن كان فيها منفعة وراحة؛ لأنَّ ضرر الكُوَّة أعظم من ضرر سدِّها، خلافاً للشافعي، فإنَّ أصحابه قالوا: لو حفر في ملكه بئراً، وحفر آخر في ملكه بئراً يسرقُ منه ماء البئر الأولى جاز؛ لأنَّ كلَّ واحد حفر في ملكه؛ فلا يمنع، ومثله عندهم: لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفاً يفسد عليه ماءه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه، والقرآنُ والسُّنَّةُ يردان هذا القول. ومن هذا النوع من الضَّرر الذي منع العلماء منه، دُخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدُّود المتولد من الزبل المنشور في الرحاب؛ فإنه يمنع منه ما كثر ضرره وخشي تماديه».
قوله: «...
لمَسْجِدٌ... «فيه وجهان:
أحدهما: أنَّها لامُ الابتداء.
والثاني: أنَّها جوابُ قسمٍ محذوف تقديره: والله لمسجدٌ أسِّسَ، أي: بني أصله على التقوى.
وعلى التقديرين فيكون» لمَسْجِدٌ «مبتدأ، و» أسِّسَ «في محل رفع نعتاً له، و» أحقُّ «خبره. والقائمُ مقام الفاعل ضميرُ المسجد على حذف مضاف، أي: أسِّسَ بنيانه، و» مِنْ أوَّلِ «متعلقٌ به، وبه استدلَّ الكوفيون على أنَّ» مِنْ «تكون لابتداء الغاية في الزمان؛ واستدلُّوا أيضاً بقوله: [الطويل] صفحة رقم 207
٢٨٤٥ - مِنَ الصُّبْحِ حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ لا تَرَى | من القَوْمِ إِلاَّ خَارِجيّاً مُسَوَّمَا |
٢٨٤٦ - تُخَيَّرنَ مِنْ أزمانِ يوْمِ حليمَةٍ | إلى اليوْمِ قَدْ جُرِّيْنَ كُلَّ التَّجاربِ |
٢٨٤٧ - لِمَنِ الدِّيارُ بقُنَّةِ الحَجْرِ | أقْويْنَ مِنْ حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ؟ |
قال شهابُ الدِّين: البصريون إنَّما فرُّوا من كونها لابتداء الغاية في الزَّمان، وليس في هذه العبارة ما يقتضي أنها لا تكونُ إلا لابتداء الغاية في المكان حتَّى يردّ عليهم بما ذكر، والخلاف في هذه المسألة قوي، ولأبي علي فيها كلامٌ طويلٌ. وقال ابنُ عطيَّة:» ويحْسُنُ عندي أن يستغنى عن تقدير، وأن تكون «من» تجر لفظة «أول» ؛ لأنَّها بمعنى: البداءة، كأنَّهُ قال: من مبتدأ الأيام، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو «.
وقوله:» أَحَقُّ «ليس للتفضيل، بل بمعنى» حقيقٌ «، إذْ لا مفاضلة بين المسجدينِ. صفحة رقم 208
قال القرطبيُّ» أحقُّ «هو أفعل من الحق، و» أفعل «لا يدخلُ إلاَّ بين شيئين مشرتكين لأحدهما مزيَّة في المعنى الذي اشتركا فيه على الآخر، فمسجدُ الضِّرار وإن كان باطلاً لا حقَّ فيه، فقد اشتركا في الحقِّ من جهة اعتقاد بانيه، أو من جهة اعتقاد من كان يظُن أنَّ القيام فيه جائز للمسجدية، لكن أحد الاعتقادين باطل باطناً عند الله، والآخر حق باطناً وظاهراً، ومثله قوله تعالى:
﴿أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً﴾ [الفرقان: ٢٤] ومعلومٌ أنَّه لا خيرية في النَّارِ، لكنه جرى على اعتقاد كلِّ فرقة أنَّها خير، وأنَّ مصيرها إلى خير، إذ كل حزب بما لديهم فرحُون. و «أنْ تقُوم» أي: بأن تقوم. والتاء لخطاب الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. و «فِيهِ» متعلقٌ ب÷. قوله: «فِيهِ رجالٌ» يجوزُ أن تكون «فيه» صفةً لمسجد و «رِجَالٌ» فاعلٌ، وأن تكون حالاً من الهاء في «فِيهِ»، و «رِجَالٌ» فاعلٌ به أيضاً، وهذان أولى من حيث إنَّ الوصف بالمفرد أصل، والجارُّ قريبٌ من المفرد.
ويجوزُ أن يكون «فيهِ» خبراً مقدَّماً، و «رِجَالٌ» مبتدأ مؤخر. وفي هذه الجملة أيضاً ثلاثة أوجه:
أحدها: الوصف.
والثاني: الحالُ على ما تقدم.
والثالث: الاستئناف.
وقرأ عبد الله بن زيدٍ «فِيهِ» بكسر الهاء، و «فِيهُ» بضمها، وهو الأصل، جمع بذلك بين اللغتين، وفيه أيضاً رفع توهُّم التوكيد، ورفع توهُّم أنَّ «رِجَالٌ» مرفوع ب «تَقُوم». وقوله «يُحِبُّون» صفة ل «رِجَالٌ»، و «أنْ» مفعول به. وقرأ طلحة بن مصرف، والأعمش «يَطَّهَّرُوا» بالإدغام، وعلي بنُ أبي طالب «المُتَطهِّرين» بالإظهار عكس قراءة الجمهور في اللفظتين.
فصل
معنى «أسس» أي: بُني أصله ﴿عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ﴾ بُني ووضع أساسه ﴿أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾ مُصلياً. واختلفوا في المسجدِ الذي أسِّسَ على التقوى، فقال ابنُ عمر وزيدُ ابنُ ثابت، وأبو سعيد الخدري: هو مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويدلُّ عليه ما روى حميد الخراط قال: سمعتُ أبا سلمة بن عبدِ الرَّحمنِ قال: مرَّ بي عبدُ الرحمن بن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال: قُلتُ لهُ: كيفَ سمعت أباكَ يذكرُ في المسجدِ الذي أسِّسَ على التَّقْوَى؟ قال: قال أبِي: دخلتُ على رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بيتِ بعضِ نسائِهِ فقلتُ يا رسُول الله، «أيُّ المَسْجدينِ صفحة رقم 209
الذي أسِّسَ على التَّقْوَى؟ قال: فأخَذَ كفّاً من حَصْبَاءَ فضرب به الأرض ثُمَّ قال:» هُوَ مسجدُكُمْ هذا «لِمسجدِ المدينةِ. قال: فقُلتُ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذكره. وهذا قول سعيد بن المسيّب. وقال قوم: إنَّهُ مسجد قباء، وهي رواية عطية عن ابن عباس، وهو قول عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة لما روي عن ابن عمر قال: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأتي مسجد قباء كلَّ سبتٍ ماشياً وراكباً، وكان عبدُ الله يفعله، وزاد نافع عن ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» فيُصلِّي فيه رَكعتَيْنِ «.
وقوله: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ﴾ أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات.
قال عطاءٌ: كانوا يستنجون بالماءِ، ولا ينامون الليل على جنابة. روى أبو هريرة عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: نزلت هذه الآيةُ في أهل قُباء ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ﴾ قال: كانوا يستنجون بالماءِ؛ فنزلت فيهم هذه الآية، ﴿والله يُحِبُّ المطهرين﴾.
وروي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقف على باب مسجد قباء وقال: «يا معْشَر الأنْصَارِ إنَّ الله أثْنَى عليكُم، فما الذي تصْنَعُونَ فِي الوضُوءِ؟» فقالوا: نتبع الأحجار بالماءِ، فقرأ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ﴾ الآية. «
قالوا: المرادُ منه: الطهارة بالماء بعد الحجر. وقيل: المرادُ منه: الطَّهارة من الذنوب والمعاصي.
وقيل: محمول على الأمرين.
فإن قيل: لفظ الطَّهارة حقيقة في إزالة النَّجاسات، ومجاز في البراءة عن المعاصي،
واستعمال اللفظ الواحدة في الحقيقة، والمجاز معاً لا يجوزُ.
فالجوابُ: أنَّ لفظ النَّجس اسم للمستقذر، وهذا القذرُ مفهوم مشترك فيه بين القسمين، فزال السُّؤال.
قوله: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾.
قرأ نافع، وابن عامر» أسِّسَ «مبنياً للمفعول،» بُنيانُه «بالرفع، لقيامه مقام الفاعل.
والباقون» أسَّسَ «مبنياً للفاعل،» بُنيانَهُ «مفعول به، والفاعل ضمير» مَنْ «وقرأ عمارة بن عائذ الأوَّل مبنياً للمفعول، والثاني مبنياً للفاعل، و» بُنْيَانهُ «مرفوع على الأولى ومنصوب على الثانية لما تقدَّم.
وقرأ نصر بن علي، ونصر بن عاصم» أسسُ بُنيانِهِ «. وقرأ أبُو حيوة» أساسُ بُنيانِهِ «جمع» أُسِّ «. وروي عن نصر بن عاصم أيضاً» أَسُّ «بهمزة مفتوحة وسين مضمومة.
وقرىء» إسَاسُ «بالكسر، وهي جموع أضيفت إلى» البُنيانِ «. وقرىء» أسَاسُ «بفتح الهمزة و» أسّ «بضم الهمزة وتشديد السين، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان.
ونقل صاحبُ اللوامح فيه» أسَسُ «بالتخفيف ورفع السين،» بنيانِهِ «بالجر، ف» أسس «مصدر أسس الحائط، يؤسسُه أسَساً، وأسًّا. فهذه عشر قراءات، والأسُّ والأسَاسُ القاعدةُ التي يبنى عليها الشيءُ. ويقالُ: كان ذلك على أس الدهر، كقولهم: على وجه الدهر. ويقال: أسَّ، مضعفاً: أي: جعل له أسَاساً، وآسَسَ، بزنة» فاعل «.
و» البُنْيَان «فيه قولان:
أحدهما: أنَّهُ مصدر، ك: الغُفْران، والشُّكران، وأطلق على المفعول ك» الخَلْق «بمعنى المخلوق، وإطلاق المصدر على المفعول مجاز مفهومٌ، يقالُ: هذا ضربُ الأمير ونسج زيدٍ، أي: مضروبه، ومنسوجه.
والثاني: أنَّهُ جمعٌ، وواحده» بُنْيَانة «؛ قال الشاعرُ:
٢٨٤٨ - كَبُنْيَانَةِ القَرْيِيِّ موضِعُ رَحْلِهَا | وآثَارُ نِسْعَيْهَا مِنْ الدَّفِّ أبْلَقُ |
٢٨٤٩ - متى يبلغُ البُنْيانُ يَوْماً تَمَامَهُ | إذَا كُنْتَ تَبْنيهِ وغيْرُكَ يَهْدِمُ؟ |
فصل
في كونه سبباً للريبة وجوه: الأول: أنَّ المنافقين فرحوا ببناء مسجد الضَّرار، فلمَّا أمر الرسول بتخريبة ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته.
وثانيها: أنَّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما أمر بتخريبه، ظنُّوا أنَّهُ إنَّما أمر بتخريبه حسداص، فارتفع أمانهم عنه، وعظم خوفهم منه، وصاروا مرتابين في أنَّهُ هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟
وثالثها: أنَّهم اعتقدوا كونهم محسنين في بناء ذلك المسجد، كما حبب العجل إلى قوم موسى، فلمَّا أمر الرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه؟ قاله ابن عباس. وقال الكلبيُّ: «ريبة» أي: حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنائه. وقال السُّدي: لا يزال هدم بنيانهم ريبة، أي: حزازة وغيظاً في قلوبهم.
قوله: «إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ» المستثنى منه محذوفٌ، والتقدير: لا يزالُ بنيانهم ريبةً في كلِّ وقت إلاَّ وقت تقطيع قلوبهم أو في كل حال إلاَّ حال تقطيعها.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص «تقطَّع» بفتح التَّاء، والأصل تتقطع بتاءين، فحذفت إحداهما.
وعن ابن كثير «تَقْطع» بفتح الياء وتسكين القاف «قُلوبَهُم» بالنصب، أي: تفعلُ أنت بقلوبهم هذا الفعل. وقرأ الباقون «تُقَطَّع» بضمِّها، وهو مبني للمفعول، مضارع «قطَّع» بالتشديد. وقرأ أبيّ «تَقْطَع» مخففاً من «قطع». وقرأ الحسنُ، ومجاهد وقتادة، ويعقوب «إلى أن» ب «إلى» الجارة. وأبو حيوة كذلك، وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى، إلاَّ أنَّا أبا حيوة قرأ «تُقَطِّع» بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً والفاعل ضميرُ الرسول، «قُلُوبَهُم» نصباً على المفعول به، والمعنى بذلك أنه يقتلهم ويتمكَّن منهم صفحة رقم 214
كلَّ تمكُّن. وقيل: الفاعلُ ضمير «الرِّيبة»، أي: إلى أنْ تقطع الرِّيبةُ قلوبهم وفي مصحف عبد الله «ولو قُطِّعَتْ» وبها قرأ أصحابه، وهي مخالفةٌ لسوادِ مصاحف الناس. والمعنى أنَّ هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على النِّفاق. وقيل: معناه إلاَّ أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. وقيل: حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة. «والله عَلِيمٌ» بأحوالهم، «حَكِيمٌ» في الأحكام التي يحكمُ بها عليهم.
صفحة رقم 215