
سورة المدّثّر
في هذه السورة أول أمر صريح للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالقيام بمهمة الدعوة والإنذار، ورسم الخطة التي يجب عليه اتباعها في ذلك. وفيها إنذار للكفار بيوم القيامة وتنديد بمن وقف من النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن موقف الهزء والإنكار والإعراض والتحدي. وتقرير لمسؤولية الإنسان عن عمله. وذكر للملائكة وأهل الكتاب لأول مرة أيضا. ومن المحتمل أن تكون آياتها الأولى نزلت لحدتها، وأن يكون ترتيب السورة بسبب نزول هذه الآيات مبكرة لأن الآيات الأخرى احتوت مشاهد ومواقف لا يمكن أن تقع إلّا بعد مضي النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته شوطا ما. على أن أسلوب آيات السورة وانسجامها يسوغ القول أيضا أنها نزلت دفعة واحدة أو متلاحقة. وأن الآيات الأولى بسبيل التثبيت. وحينئذ يكون ترتيبها كرابع سورة غير صحيح.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١ الى ٧]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧)
. (١) المدثر: المتدثر أي المتلفف بدثاره أو غطائه.
(٢) الرجز: الفحش قولا وعملا أو المعصية والأوثان والإثم «١».
(٣) ولا تمنن تستكثر: لا تعط ما تعطيه بقصد نيل الأكثر مقابلة له، وقيل لا

تستكثر ما تفعله من الخير وتمنن به أي تفخر به أو تحمل من تعطيه الجميل «١»، ويمكن أن تكون بمعنى أنك إذا لم تمنن بما تعطيه ييسر الله لك الأكثر منه، من باب لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم/ ٧].
ظاهر أن في ألفاظ بعض الآيات تأخيرا وتقديما لحفظ الوزن والقافية وأن تقديرها: وكبر ربك وطهر ثيابك واهجر الرجز ولا تستكثر ما تفعل ولا تمنن به أو لا تفعله للاستكثار من المقابلة عليه واصبر لحكم ربك، ومعانيها واضحة لا تحتاج إلى شرح آخر.
وقد ذكرت الروايات أن هذه الآيات نزلت بعد فترة قصيرة من الوحي، بعد نزوله الأول على النبي صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء. ومما جاء في حديث مروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يحدث عن فترة الوحي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
بينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثوت منه خوفا وجئت أهلي فقلت زملوني زملوني، وفي رواية دثروني دثروني، فدثروني فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. ثم تتابع الوحي «٢» وهناك روايات تذكر أنها أول ما أنزل أو أنها ثاني أو ثالث أو رابع مجموعة نزلت «٣».
ولما كانت الآيات التالية لها قد احتوت حكاية أقوال بعض المكذبين ومواقفهم، ولا يمكن أن يكون هذا إلّا بعد نزول جملة من القرآن وسير النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة شوطا، فيكون ترتيب السورة المتقدم بسبب رواية تبكير نزول آياتها الأولى هذه.
والرواية التي تذكر أولية نزولها على غيرها وردت في حديث رواه البخاري
(٢) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وحديث جابر رواه الشيخان والترمذي أيضا بصيغة قريبة جدا. انظر التاج ج ٣ ص ٢٢٨.
(٣) انظر تفسير الآيات في تفسير الآلوسي وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٥٠- ٥٢ مطبعة الاستقامة.

ومسلم عن يحيى قال: «سألت أبا سلمة أيّ القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قلت: أنبئت أنه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ! فقال: لا أخبرك إلّا بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض. فأتيت خديجة فقلت دثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا ففعلوا وأنزل عليّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) » «١» [سورة المدثر: ١- ٣].
ومع ذلك فليس في الكلام النبوي ما يساعد على الجزم بأولية الآيات. ويظل حديث أولية آيات سورة العلق الأولى أقوى.
والآيات تحتوي أول أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بإنذار الناس ودعوتهم وبما يجب عليه من الظهور بالمظهر الطاهر النظيف واللسان العفيف والتواضع. وهذا مما يمكن أن يدعم رواية كونها ثانية مجموعة نزلت بعد آيات العلق الأولى. والمصحف الذي اعتمدناه هو الذي ذكر أنها نزلت بعد المزمل، وجعلها رابع السور نزولا فلم نشأ أن نخلّ في ترتيبه.
على أن روح الآيات ونظمها وروح الآيات التالية لها ونظمها أيضا يمكن أن يلهم أنها غير منفصلة عن بعضها. وحينئذ فإن الآيات تكون قد نزلت بقصد تثبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وتكون قد نزلت هي والآيات التالية لها معا أو متلاحقة بعد نزول سور وفصول قرآنية فيها مبادئ الدعوة وأهدافها. وفي هذه الحالة يكون ترتيبها كرابعة سورة قرآنية غير صحيح.
وعلى كل حال فالآيات وآيات السورة معا مما نزل مبكرا على ما يلهم أسلوبها ومضمونها والخطة التي رسمها الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة والاتصال بالناس

ودعوتهم وإنذارهم من الأدلة القوية على ذلك. وهي خطة رائعة جليلة الشأن، فالله أكبر من كل شيء، وكل ما عداه حقير صغير، فلا ينبغي أن يعتبر غيره كبيرا مرهوبا ويجب أن يكون التعظيم له وحده. والصبر والثبات في المهمة كافلان للنجاح فيها. والداعي إلى الله ومكارم الأخلاق يجب أن يكون القدوة الصالحة لمن يدعوهم في الاستغراق في الله ومكارم الأخلاق وفعل الخير، بدون منّ واستكثار وانتظار جزاء ومقابلة، والطهارة مع البعد عن كل فحش وإثم وبذاءة ومظهر مستنكر.
والمدقق في السيرة النبوية وآيات القرآن التي احتوت أصدق الصور عنها يرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم التزم هذه الخطة. وكانت من أقوى وسائل نجاح دعوته وتفاني أصحابه السابقين إلى الإيمان به في تأييده والالتفاف حوله وتهيب غير المؤمنين له وتقديرهم إياه وعدم إنكارهم مزاياه الخلقية.
وهذه الخطة وإن كانت كما يتبادر قد رسمت للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن ما احتوته من تلقين موجه إلى كل مسلم وبخاصة إلى كل صاحب دعوة إصلاح ومعروف وإلى كل صاحب شأن ممن يتولون في الأمة الزعامة والتوجيه والإرشاد والإصلاح.
بل إنه موجه إلى كل مسلم إطلاقا في كل زمن ومكان ليكون عنوانا للخلق الذي يجب أن يكون عليه المسلمون مظهرا وسيرة.
وفي القرآن آيات عديدة تؤكد ذلك، من ذلك في صدد المنّ آيات سورة البقرة هذه: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [٢٦٤].
وفي صدد الفواحش والآثام في الأقوال والأفعال آية سورة الأعراف هذه:
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ

يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
(٣٣).
وهناك أحاديث عديدة متساوقة مع الآيات، من ذلك حديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللّعان ولا الفاحش ولا البذيء» «١»، وحديث رواه الترمذي أيضا عن أبي بكر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل الجنة خبّ ولا منّان ولا بخيل» «٢».
وحديث رواه الترمذي كذلك عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق» «٣». ولقد أثرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث توجب غسل النجاسات عن الثياب مثل الدم والبول والغائط من ذلك حديث رواه البزار عن عمار بن ياسر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّما يغسل الثوب من الغائط والبول والقيء والدم» «٤». وقد رتّب الفقهاء على ذلك كون طهارة الثياب ركنا من أركان الصلاة، ولقد أوجب الله على المسلم أن يصلي خمس مرات كل يوم، ويستتبع هذا واجب عناية المسلم بطهارة ثيابه في كل وقت في الليل والنهار، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال.
ومن الجدير بالذكر أن حثّ الله ورسوله على الطهارة لا يقتصر على طهارة الثياب. ففي القرآن والأحاديث نصوص كثيرة توجب على المسلم طهارة البدن بالإضافة إلى طهارة ثيابه فيتوضأ إذا قام إلى الصلاة ويغتسل إذا كان جنبا ويغسل أطرافه ويغتسل حتى لغير الوضوء والجنابة مما سوف نورده وننبه عليه في مناسبات أخرى.
هذا، والتساوق في مطلعي السورتين المزمل والمدثر لافت للنظر، ففي مطلع الأولى إعداد للنبي صلّى الله عليه وسلّم لمهمته العظمى وفي مطلع الثانية خطة له حينما أمر
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) مجمع الزوائد ج ١ ص ٢٨٣.