آيات من القرآن الكريم

وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
ﮪﮫ ﮭﮮ ﮰﮱ ﯔﯕ ﯗﯘ ﯚﯛﯜ ﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮ

بكاهن، وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر، وقال بعضهم: بل سحر يؤثر، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فحزن وقنّع رأسه وتدثر، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ.
إرشادات للنبي صلّى الله عليه وسلّم في بدء الدعوة
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠)
الإعراب:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أصله المتدثر، فأدغمت التاء في الدال لتقارب مخرجهما. ولم تدغم الدال في التاء لأن التاء مهموسة، والدال مجهورة، والمجهور أقوى من المهموس، فكان إدغام الأضعف في الأقوى أولى من العكس.
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ تَسْتَكْثِرُ جملة فعلية في موضع نصب على الحال، أي ولا تمنن مستكثرا.
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فِي النَّاقُورِ إما في موضع الرفع لأنه قام مقام النائب للفاعل، وإما في موضع النصب لأن المصدر قام مقام الفاعل، فاتصل الفعل به بعد تمام الجملة، فوقع فضلة، فكان في موضع نصب.
فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ فَذلِكَ مبتدأ، ويَوْمَئِذٍ بدل منه، ويَوْمٌ عَسِيرٌ خبر المبتدأ، ولا يجوز أن يتعلق. يَوْمَئِذٍ بقوله عَسِيرٌ لأن ما تعمل فيه الصفة لا يجوز تقدمه على الموصوف. والعامل في فَإِذا في قوله: فَإِذا نُقِرَ.. ما دلت عليه الجملة، أي اشتد الأمر.

صفحة رقم 218

البلاغة:
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ تقديم المفعول به لإفادة الاختصاص.
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ جناس اشتقاق.
عَسِيرٌ ويَسِيرٍ بينهما طباق، وجناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
الْمُدَّثِّرُ المتلفف بثيابه عند نزول الوحي عليه، وأصله: المتدثر، وأجمعوا على أن المدثر هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو لابس الدثار: وهو الثوب الظاهر الذي يلبس فوق لباس داخلي يلاصق الجسد قُمْ من مضجعك، أو قيام عزم وجدّ فَأَنْذِرْ خوّف أهل مكة وغيرهم النار إن لم تؤمنوا. فَكَبِّرْ عظّم. فَطَهِّرْ أي طهر ثيابك من النجاسات، فإن التطهير واجب في الصلاة، محبوب في غيرها، وذلك بغسلها، أو بحفظها عن النجاسة، أو طهر نفسك من الأفعال والأخلاق الذميمة.
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أي اترك الأسباب والمآثم المؤدية إلى العذاب، وداوم على هجرها، والرجز: بضم الراء وكسرها: العذاب، قال تعالى: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ [الأعراف ٧/ ١٣٤]. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي لا تعط شيئا فتطلب أكثر منه، أو لا تمنن على الله بعبادتك مستكثرا إياها، أو على الناس بالتبليغ مستكثرا به الأجر منهم أو مستكثرا إياه. فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ نفخ في الصور وهو القرن النفخة الثانية. فَذلِكَ أي وقت النقر. يَوْمٌ عَسِيرٌ شديد على الكفار. غَيْرُ يَسِيرٍ غير سهل عليهم.
سبب النزول:
تقدم، وملخصه:
أخرج الشيخان عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري، نزلت، فاستنبطت الوادي، فنوديت، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء، فرجعت، فقلت:
دثروني. فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ»
.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ أي يا أيها النبي الذي قد تدثر بثيابه، أي

صفحة رقم 219

تغطى بها رعبا من رؤية الملك عند نزول الوحي أول مرة، انهض، فخوّف أهل مكة، وحذرهم العذاب إن لم يسلموا.
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي عظم الله وصفه بالكبرياء، في عبادتك وكلامك وجميع أحوالك، فإنه أكبر من أن يكون له شريك، وطهّر ثيابك واحفظها عن النجاسات. وقال قتادة: أي طهرها من المعاصي والذنوب، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد الله: إنه لدنس الثياب، وإذا وفّى وأصلح: إنه لمطهر الثياب. وكلا المعنيين صحيح، فإن الطهارة الحسية أو النظافة تلازم عادة الطهارة المعنوية، أي التجرد والتباعد من المعاصي، والعكس صحيح، فإن وجود الأوساخ ملازم لكثرة الذنوب.
والآية دليل على تعظيم الله مما يقول عبدة الأوثان، وعلى النظافة وتحسين الأخلاق واجتناب المعاصي.
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أي اترك الأصنام والأوثان، فلا تعبدها، فإنها سبب العذاب، واهجر جميع الأسباب والمعاصي المؤدية إلى العذاب في الدنيا والآخرة، فالآية دالة على وجوب الاحتراز عن كل المعاصي.
والنهي عن جميع ذلك لا يعني تلبسه بشيء منها وإنما يبدأ به لكونه قدوة، وللمداومة على الهجران، فهو كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب ٣٣/ ١] وقوله سبحانه: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف ٧/ ١٤٢] فمثل هذا الخطاب للنبي يراد به الأمر بالدوام والمتابعة، واستمرار تجنب الفساد.
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي لا تمنن على أصحابك وغيرهم بتبليغ الوحي، مستكثرا ذلك عليهم، أو إذا أعطيت أحدا عطية، فأعطها لوجه الله، ولا تمنّ

صفحة رقم 220

بعطيتك على الناس، أو لا تضعف أن تستكثر من الخير، فإن تَمْنُنْ في كلام العرب تضعف.
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عز وجل، فإنك حمّلت أمرا عظيما، ستحاربك العرب عليه والعجم، فاصبر عليه لله.
واصبر أيضا على طاعة الله وعبادته. وبعد إرشاد النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته، أبان الله تعالى وعيد الأشقياء، فقال:
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ أي اصبر على أذاهم، فأمامهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية للبعث من القبور، فوقت النقر يومئذ يوم شديد جدا على الكفار، غير سهل عليهم.
أخرج ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة والإمام أحمد عن ابن عباس في قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف أنعم، وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر، فينفخ؟ فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ملاطفة في الخطاب ولين في الكلام من الله إذ ناداه ربه بحاله وعبّر عنه بصفته.
٢- أمر الله نبيه بتخويف أهل مكة وغيرهم من الناس قاطبة، وبتحذيرهم العذاب إن لم يسلموا.

صفحة رقم 221

٣- ما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإنذار إلا لحكمة بالغة، ومهمات عظيمة، لا يجوز له الإخلال بها.
أولها- تعظيم الله ووصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد، كما يقول عبدة الأوثان.
ثانيها- تطهير الثياب من النجاسة المادية أو الحكمية، وتطهير النفس من المعاصي المؤدية إلى العذاب، وتجميلها بمحاسن الأخلاق.
ثالثها- هجر الأوثان والمآثم التي هي سبب العذاب، ويراد بذلك الأمر بالمداومة على ذلك الهجران.
رابعها- عدم الامتنان على الله بالأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعل، وإنما الواجب الصبر على ذلك لوجه الله تعالى، متقربا إليه، غير ممتنّ به عليه، وعدم الامتنان على الناس بتعليم أمور الدين والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام، وبالنبوة لأخذ أجر يستكثر به ماله. وقال أكثر المفسرين: المعنى: ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه، حتى تكون عطاياه لأجل الله عز وجل، لا لأجل طلب الدنيا. وهذا سمة أهل الجود والكرم.
خامسها- الصبر على أداء الفرائض والعبادات وإيذاء الناس بسبب تبليغ الدين. والخلاصة: أن الله تعالى وضع أساسين لنجاح دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد استكمال العقل وتحرره من الشرك، واستكمال النفس بالخلق الكامل، وهما:
الجود والصبر.
٤- هدد الله الكفار الأشقياء بأهوال يوم القيامة، فإنه إذا نفخ إسرافيل في الصور- وهو كهيئة البوق- النفخة الثانية، كان ذلك اليوم يوما شديدا على كل من كفر بالله وبأنبيائه، غير سهل ولا هيّن عليهم، فإنهم دائما يواجهون صعابا أشد، بخلاف المؤمنين الذين يتجهون دائما إلى ما هو الأخف، حتى يدخلوا الجنة

صفحة رقم 222
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية