آيات من القرآن الكريم

وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
ﮰﮱ

يَا رَبَّةَ الْبَيْتِ قُومِي غَيْرَ صَاغِرَةٍ ضُمِّي إِلَيْكِ رِجَالَ الْحَيِّ وَالْغُرْبَا
فَإِذَا اتَّصَلَتْ بِفِعْلِ الْقِيَامِ الَّذِي هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى الِاسْتِعْمَالِ جُمْلَةٌ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا مَعْنَى الشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ بِجِدٍّ وَأَنْشَدُوا قَوْلَ حَسَّانَ بْنِ الْمُنْذِرِ:
عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادْ
وَقَوْلَ الشَّاعِرِ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ النَّحْوِ وَلَمْ يُعْرَفْ قَائِلُهُ:
فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ وَقَالَ أَلَا لَا مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدِ
وَأَفَادَتْ فَاءُ فَأَنْذِرْ تَعْقِيبَ إِفَادَةِ التَّحَفُّزِ وَالشُّرُوعِ بِالْأَمْرِ بِإِيقَاعِ الْإِنْذَارِ.
فَفِعْلُ قُمْ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، وَتَفْرِيعُ فَأَنْذِرْ عَلَيْهِ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ.
وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ مِنَ الرُّعْبِ لِرُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ لَا تَخَفْ وَأَقْبِلْ عَلَى الْإِنْذَارِ.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ لِأَنَّ سُورَةَ الْعَلَقِ لَمْ تَتَضَمَّنْ أَمْرًا بِالدَّعْوَةِ، وَصَدْرُ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ تَضَمَّنَ أَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِالدَّعْوَةِ لِقَوْلِهِ فِيهِ إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ [المزمل: ١٥]، وَقَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: ١١]. وَإِنَّمَا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ بَعْدَ أَنْ أَبْلَغَهُمْ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَابْتُدِئَ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ يَجْمَعُ مَعَانِيَ التَّحْذِيرِ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ لَا يَلِيقُ وَعَوَاقِبَهُ فَالْإِنْذَارُ حَقِيقٌ بِالتَّقْدِيمِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِمَحَامِدِ الْفِعَالِ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَلِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ.
وَمَفْعُولُ أَنْذِرْ مَحْذُوفٌ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ أَنْذِرِ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ جَمِيعُ النَّاسِ مَا عَدَا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنَّهَا آمَنَتْ فَهِيَ جديرة بالبشارة.
[٣]
[سُورَة المدثر (٧٤) : آيَة ٣]
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣)
انْتَصَبَ رَبَّكَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لفعل (كبّر) قذم عَلَى عَامِلِهِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَا تُكَبِّرْ غَيْرَهُ، وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ، أَيْ دُونَ الْأَصْنَامِ.

صفحة رقم 295

وَالْوَاوُ عَطَفَتْ جُمْلَةَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ عَلَى جُمْلَةِ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: ٢].
وَدَخَلَتِ الْفَاءُ عَلَى (كَبِّرْ) إِيذَانًا بِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ يَكُونُ (كَبِّرْ) جَوَابَهُ، وَهُوَ شَرْطٌ عَامٌّ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى شَرْطٍ مَخْصُوصٍ وَهُيِّئَ لتقدير الشَّرْط بِتَقْدِيم الْمَفْعُولِ. لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ قَدْ يُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»
(يَعْنِي الْأَبَوَيْنِ).
فَالتَّقْدِيرُ: مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ فَكَبِّرْ رَبَّكَ.
وَالْمَعْنَى: أَنْ لَا يَفْتُرَ عَنِ الْإِعْلَانِ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ حَالٍ وَهَذَا مِنَ الْإِيجَازِ. وَجَوَّزَ ابْنُ جِنِّي أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ زَائِدَةً قَالَ: هُوَ كَقَوْلِكَ زَيْدًا فَاضْرِبْ، تُرِيدُ:
زَيْدًا اضْرِبْ.
وَتَكْبِيرُ الرَّبِّ تَعْظِيمُهُ فَفِعْلُ (كَبِّرْ) يُفِيدُ مَعْنَى نِسْبَةِ مَفْعُولِهِ إِلَى أَصْلِ مَادَّةِ اشْتِقَاقِهِ وَذَلِكَ مِنْ مَعَانِي صِيغَةِ فَعِّلْ، أَيْ أَخْبِرْ عَنْهُ بِخَبَرِ التَّعْظِيمِ، وَهُوَ تَكْبِيرٌ مَجَازِيٌّ بِتَشْبِيهِ الشَّيْءِ الْمُعَظَّمِ بِشَيْءٍ كَبِيرٍ فِي نَوْعِهِ بِجَامِعِ الْفَضْلِ عَلَى غَيْرِهِ فِي صِفَاتِ مِثْلِهِ.
فَمَعْنَى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ: صِفْ رَبَّكَ بِصِفَاتِ التَّعْظِيمِ، وَهَذَا يَشْمَلُ تَنْزِيهَهُ عَنِ النَّقَائِصِ فَيَشْمَلُ تَوْحِيدَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَتَنْزِيهَهُ عَنِ الْوَلَدِ، وَيَشْمَلُ وَصْفَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ كُلِّهَا.
وَمَعْنَى (كَبِّرْ) : كَبِّرْهُ فِي اعْتِقَادِكَ: وَكَبِّرْهُ بِقَوْلِكَ تَسْبِيحًا وَتَعْلِيمًا. وَيَشْمَلُ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ» لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَفَادَ وَصْفَ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ كَبِيرٍ، أَيْ أَجَلُّ وَأَنْزَهُ مِنْ كُلِّ جَلِيلٍ، وَلِذَلِكَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ افْتِتَاحًا لِلصَّلَاةِ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ فِي ذِكْرِ التَّكْبِيرِ إِيمَاءً إِلَى شَرْعِ الصَّلَاةِ الَّتِي أَوَّلُهَا التَّكْبِيرُ وَخَاصَّةً اقْتِرَانُهُ بِقَوْلِهِ: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: ٤] فَإِنَّهُ إِيمَاءٌ إِلَى شَرْعِ الطَّهَارَةِ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ إِعْدَادٌ لِشَرْعِ الصَّلَاةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنْ قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ عَقِبَ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ غَيْرُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَسْجِد الْحَرَام.

صفحة رقم 296
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية