
ومعنى الآية: ليكونن أحد الأمرين: إما الإخراج من القرية، أو عودكم في ملتنا، ولا نُقارّكم (١) في مخالفتنا (٢)، وذكرنا الكلام في هذا مشروحًا عند قوله: ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ﴾ [إبراهيم: ١٣] في سورة إبراهيم. فقال شعيب: ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾. [وهذا مختصر معناه: أو لو كنا كارهين] (٣) تجبروننا عليه؟ كقوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠]. ومعناه: يتبعونهم وإن كانوا بهذه الصفة؟ وقد ذكرنا (٤) ذلك.
٨٩ - قوله تعالى: ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا﴾، معنى العود هاهنا: الابتداء كما ذكرنا، والذي عليه أهل العلم (٥) والسنة
(٢) قال أكثرهم: (عاد تكون بمعنى صار ولا إشكال في ذلك، والمعنى: لتصيرن في ملتنا بعد إن لم تكونوا، وتكون بمعنى رجع إلى ما كان عليه، وشعيب عليه السلام لم يكن قط على دينهم وأجيب على ذلك بأوجه منها:
- إن رؤساءهم قالوا ذلك على سبيل الإبهام والتلبيس على العامة.
- إن المراد رجوعه إلى حال سكوته عنهم قبل بعثته.
- تغليب الجماعة على الواحد لأنهم لما صحبوه سحبوا عليه حكمهم في العود.
قال صديق خان في "فتح البيان" ٤/ ٤١٠: (الأولى ما قاله الزجاج أن العود بمعنى الابتداء). ورجح شيخ الإِسلام في "الفتاوى" ١٥/ ٢٩ - ٣١ أن شعيبًا والذين آمنوا معه كانوا على ملة قومهم لظاهر الآية ولأنه هو المحاور لهم، وذكر عدة أدلة على ذلك. وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٢٥٧، والزمخشري ٢/ ٩٦، وابن عطية ٦/ ٣، والرازي ١٤/ ١٧٧، و"البحر" ٤/ ٣٤٢، و"الدر المصون" ٥/ ٣٧٩ - ٣٨٠.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ١٠٤ أ.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٢، و"معاني النحاس" ٣/ ٥٥، والسمرقندي ١/ ٥٥٥، والماوردي ٢/ ٢٤٠، والبغوي ٣/ ٢٥٧، وابن عطية ٦/ ٢.

في هذه الآية: إن شعيبًا وأصحابه قالوا: ما كنا لنرجع في ملتكم (١) بعد إذ وقفنا على أنها ضلالة تُكسبُ دخول النار إلا أن يريد الله إهلاكنا، فأمورنا راجعة إلى الله (٢)، غير خارجة عن قبضته، يسعد من يشاء بالطاعة، ويشقي من يشاء بالمعصية، وهذا من شعيب وقومه استسلام للمشيئة، ولم يزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر، ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: ٣٥]، وكثيرًا ما كان يقول (٣) نبينا محمد - ﷺ -: "يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك" (٤).
وقال أبو إسحاق: (المعنى: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن
(٢) في (ب): (راجعة إليه).
(٣) في (ب): (وكثير ما كان نبينا محمد - ﷺ - يقول).
(٤) أخرج مسلم في "صحيحه" رقم (٢٦٥٤) كتاب القدر، باب: تعريف الله القلوب كيف يشاء، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أن رسول الله - ﷺ - قال: "اللَّهُمَّ مُصَرَفَ القُلُوب صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ" اهـ، وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" ٦/ ١٦٨ (٣٠٣٩٦)، وأحمد في "المسند" ٢/ ١٦٨ و١٧٣، وابن ماجه كتاب المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية رقم (١٩٩)، رقم ٣٨٣٤، والترمذي كتاب القدر، باب: ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن رقم (٢١٤٠)، (٣٥٢٢)، وابن أبي عاصم في "السنة" ١/ ١٠١ - ١٠٤، والآجري في "الشريعة" ٢/ ٧٣٠، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٢٨٨ - ٢٨٩، من عدة طرق جيدة أن النبي - ﷺ - كان يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، قال الترمذي: (حديث حسن)، وصححه الألباني في "ظلال الجنة في تخريج السنة"، وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" ٤/ ٢٦١ رقم (١٦٨٩).

[يكون] (١) قد سبق في علم الله جل وعز و (٢) في مشيئته أن نعود فيها. وتصديق ذلك قوله: ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾، قال: وهذا مذهب أهل السنة)، ثم ذكر وجهين آخرين، هما من قول من لا يؤمن بإرادة الله تعالى الخير والشر:
أحدهما: إن هذا على طريق التبعيد، كما يقال: لا نفعل ذلك إلا أن يبيض القار ويشيب الغراب (٣)، وهذا لا يصح مع قوله: ﴿يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [المدثر: ٣١]، وقوله: ﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ﴾ [الأنعام: ٣٩]، وآيات كثيرة تصرح بأن الله تعالى يشاء [كل] (٤) ما يحدث في العالم.
والثاني: أن في ملتهم ما يجوز التعبد به من وجوه البر الذي كانوا يتقربون به إلى الله تعالى (٥)، ويكون معنى الآية: وما يكون لنا أن نعود في بعض ملتكم، وفي معنى من معاني شرائعكم إلا أن يردنا الله إليه بأن يتعبدنا به).
قال ابن الأنباري: (و (٦) هذا قول مُتَنَاولُهُ بعيد؛ لأن فيه تبعيض الملة) (٧).
وقال الزجاج: (والقول هو القول (٨) الأول؛ لأن قوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا
(٢) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).
(٣) انظر: شرح ذلك فيما تقدم (سورة الأعراف: آية ٤٠ من هذا المجلد).
(٤) لفظ: (كل) ساقط من (أ).
(٥) لفظ: (تعالى) ساقط من (أ).
(٦) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٧) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٣٨٣.
(٨) لفظ (القول) ساقط من (أ).

اللَّهُ مِنْهَا} أنه النجاة من الكفر ومن أعمال المعاصي، لا من أعمال البر) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ منصوب على التمييز (٢). قال ابن عباس: (يريد يعلم ما يكون قبل أن يكون) (٣).
وقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: ٨٩]. قال ابن عباس (٤)، والحسن، وقتادة (٥)، والسدي: (احكم واقض).
قال الفراء: (وأهل عُمَان يسمون القاضي الفاتح والفتاح) (٦).
(٢) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٧، و"الفريد" ٢/ ٣٣٣، و"الدر المصون" ٥/ ٣٨٣.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٠، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٢٣١.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٩/ ٢ - ٣ من عدة طرق جيدة عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي.
وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٢٣ بسند جيد عن ابن عباس وفي "صحيح البخاري" ٨/ ٢٩٧ كتاب التفسير، في تفسير سورة الأعراف قال ابن عباس: (الفتاح: القاضي، ﴿افْتَحْ بَيْنَنَا﴾: اقض بيننا).
(٥) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/٢٣٣ بسند جيد وهو قول الأكثر. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٠، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤٨، و"تفسير غريب القرآن" ١/ ١٧٩، و"تفسير الطبري" ١٢/ ٥٦٣، و"الزاهر" ١/ ٩٣، و"نزهة القلوب" ص ١٢٦، و"معاني النحاس" ٣/ ٥٥، و"تفسير المشكل" ص ٨٥.
(٦) "معاني الفراء" ١/ ٣٨٥، وجاء في "مجاز القرآن" ١/ ٢٢١، والطبري ٩/ ٢ - ٣، =

وروي أبو العباس عن ابن الأعرابي: (الفتاح: الحكومة، ويقال للقاضي: الفَتَّاح لأنه يفتح مواضع الحق) (١).
وروي عن ابن عباس أنه قال: (ما كنت أدري قوله: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا﴾ حتى سمعت ابنة ذي يزن (٢) تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي: أحاكمك) (٣).
قال أبو إسحاق: (وجائز أن يكون ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا﴾ أي: أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف، فجائز أن يكون يسألون بهذا أن ينزل بقومهم من العذاب والهلكة ما يظهر أن الحق معهم) (٤).
(١) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٣٢، والفَتْح أصله من فتح الباب بعد إغلاقه ثم كثر واتسع فيه حتى سمي الحاكم فاتحًا لأنه يفتح المستغلق بين الخصمين ويفتح الباب إلى الحق ويبينه. انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص ٣٩، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ١٨٩.
(٢) ذو يَزَن -ملك من ملوك اليمن- اسمه النعمان بن قيس الحِمْيَري، وقيل: عامر بن أسلم بن غَوْث، ويزن وادٍ باليمن أضيف إليه، انظر: "معجم البلدان" ٥/ ٤٣٦، و"نزهة الألباء" لابن حجر ١/ ٣١٣.
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ٢ - ٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٢٣ بسند جيد عن قتادة عن ابن عباس، لكن قتادة لم يسمع من ابن عباس. انظر: "المراسيل" ص ١٦٨، وذكر الأثر عن ابن عباس. وابن دريد في "الجمهرة" ١/ ٣٨٦، والسمرقندي ١/ ٥٥٦، والثعلبي في "الكشف" ١٩٤ ب، والماوردي ٢/ ٢٤١، والرازي ١٤/ ١٨٠، والسيوطي في "الدر" ٣/ ١٩١.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٨.