آيات من القرآن الكريم

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ

إِخْرَاجَهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ بِأَنَّهُمْ يَتَطَهَّرُونَ وَيَتَنَزَّهُونَ مِنْ أَدْرَانِ الْفَوَاحِشِ، وَهُوَ شَهَادَةٌ لَهُمْ بِالْكَمَالِ وَشَهَادَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالنَّقْصِ؟.
(فَالْجَوَابُ) : مَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ: سُخْرِيَةٌ بِهِمْ وَبِتَطَهُّرِهِمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَافْتِخَارِهِمْ بِمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْقَذَارَةِ، كَمَا يَقُولُ الشُّطَّارُ مِنَ الْفَسَقَةِ لِبَعْضِ الصُّلَحَاءِ إِذَا وَعَظَهُمْ: ابْعِدُوا عَنَّا هَذَا الْمُتَقَشِّفَ، وَأَرِيحُونَا مِنْ هَذَا الْمُتَزَهِّدِ اهـ. وَمِثْلُهُ مَعْهُودٌ مِنَ الْمُجَاهِرِينَ بِالْفِسْقِ، وَلِلنَّقْصِ وَالرَّذَائِلِ دَرَكَاتٌ، كَمَا أَنَّ لِلْكَمَالِ وَالْفَضَائِلِ دَرَجَاتٌ، فَأُولَاهَا أَنْ يُلِمَّ بِالرَّذِيلَةِ وَهُوَ يَشْعُرُ بِقُبْحِهَا، وَيَلُومُ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَتُوبُ إِلَى رَبِّهِ مِنْهَا، وَيَلِيهَا أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مُسْتَتِرًا مُسْتَخْفِيًا، وَيَلِيهَا أَنْ يُصِرَّ عَلَيْهَا، حَتَّى يَزُولَ شُعُورُهُ بِقُبْحِهَا، وَيَلِيهَا
أَنْ يَجْهَرَ بِهَا، وَيَكُونُ قُدْوَةً سَيِّئَةً لِلْمُسْتَعِدِّينَ لَهَا، وَيَلِيهَا أَنْ يُفَاخِرَ بِهَا أَهْلَهَا، وَيَحْتَقِرَ مَنْ يَتَنَزَّهُونَ عَنْهَا، وَهَذِهِ أَسْفَلُ الدَّرَكَاتِ، وَهِيَ دَرَجَةُ قَوْمِ لُوطٍ، وَلَا يَهْبِطُ إِلَيْهَا وَلَا بِسَفِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، بَلْ وَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ إِذَا عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ يَعْمَلُونَهَا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، وَأَنَّهُمْ لَا يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
(فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) أَيْ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُمُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تُؤْمِنْ بِهِ، بَلْ خَانَتْهُ بِوِلَايَةِ قَوْمِهِ الْكَافِرِينَ الْفَاسِقِينَ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ مِنْ جَمَاعَةِ الْغَابِرِينَ أَيِ الْهَالِكِينَ، أَوِ الْبَاقِينَ الَّذِينَ نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَيَلِيهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ. يُقَالُ: غَبَرَ بِمَعْنَى بَقَى وَبِمَعْنَى مَضَى وَذَهَبَ وَهَلَكَ. وَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنْ أَهْلَهُ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ سَوَاءً كَانُوا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ أَمْ لَا، فَقَدْ غَفَلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٥١: ٣٥، ٣٦). (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا) أَيْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا عَجِيبًا أَمْرُهُ، وَهُوَ الْحِجَارَةُ الَّتِي رُجِمُوا بِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَطِرَ وَأَمْطَرَ أَنَّ مَعْنَى مَطِرَتْهُمُ السَّمَاءُ أَصَابَتْهُمْ بِالْمَطَرِ، كَقَوْلِهِمْ غَاثَتْهُمْ وَوَبِلَتْهُمْ وَجَادَتْهُمْ وَرَهِمَتْهُمْ. وَيُقَالُ: أَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ كَذَا - بِمَعْنَى أَرْسَلَتْهُ عَلَيْهِمْ إِرْسَالَ الْمَطَرِ اهـ. وَعَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَنَّ مَطَرَ وَأَمْطَرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا فِي الصِّحَاحِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ " مَطَرَ " لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الرَّحْمَةِ وَ " أَمْطَرَ " لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْعَذَابِ. نُقِلَ هَذَا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَتَبِعَهُ الرَّاغِبُ وَالْفَيْرُوزَابَادِيُّ فِي الْقَامُوسِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يُقَالُ: مَطَرَتْهُمُ السَّمَاءُ وَأَمْطَرَتْهُمْ، وَسَمَاءٌ مَاطِرَةٌ وَمُمْطِرَةٌ - قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي حَقِيقَةِ الْمَادَّةِ مِنْ أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْمَجَازِ أَمْطَرَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْحِجَارَةَ اهـ. فَالْأَمْطَارُ حَقِيقَةٌ فِي

صفحة رقم 458

الْمَطَرِ مَجَازٌ فِيمَا يُشْبِهُهُ فِي الْكَثْرَةِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ حِسِّيَّيْنِ أَوْ مَعْنَوِيَّيْنِ مِمَّا يَجِيءُ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ مِنَ الْأَرْضِ. وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِالشَّرِّ، إِلَّا مِنْ تَكَرُّرِ الْآيَاتِ فِي إِرْسَالِ الْحِجَارَةِ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى
حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: (وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (٨: ٣٢) وَغَفَلُوا عَنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) (٤٦: ٢٤).
نَحْنُ نُؤْمِنُ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَمَا وَرَدَتْ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ وَلَا نَقُولُ فِي حَقِيقَتِهَا وَصِفَتِهَا قَوْلًا جَازِمًا، وَلَكِنْ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ سَبَبُ إِمْطَارِ الْحِجَارَةِ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ إِرْسَالَ إِعْصَارٍ مِنَ الرِّيحِ حَمَلَتْهَا وَأَلْقَتْهَا عَلَيْهِمْ وَمِثْلُ هَذَا مَعْهُودٌ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا بَعْضُ أَهْلِ سَاحِلِ الْبَحْرِ أَنَّ السَّمَاءَ أَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ مَرَّةً طِينًا وَمَرَّةً سَمَكًا - أَيْ مَعَ الْمَطَرِ - وَسَأَلُوا: مِنْ أَيْنَ جَاءَ ذَلِكَ؟ فَقُلْنَا: أَمَّا التُّرَابُ فَأَثَارَتْهُ السَّافِيَاءُ مِنَ الرِّيحِ فَحَمَلَتْهُ إِلَى السَّحَابِ فَنَزَلَ مَعَ الْمَطَرِ طِينًا، وَأَمَّا السَّمَكُ فَهَذَا الْإِعْصَارُ الَّذِي يُرَى مُتَدَلِّيًا مِنَ السَّحَابِ إِلَى الْبَحْرِ أَوْ مُرْتَفِعًا مِنَ الْبَحْرِ إِلَى السَّحَابِ كَعَمُودٍ مِنَ الدُّخَّانِ وَتُسَمُّونَهُ التِّنِّينَ، هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْمَاءَ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى السَّحَابِ، فَاتَّفَقَ أَنْ كَانَ فِيمَا رَفَعَهُ سَمَكٌ حَمَلَتْهُ الرِّيحُ إِلَيْكُمْ لِقُرْبِكُمْ مِنَ الْبَحْرِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْحِجَارَةُ مِنْ بَعْضِ النُّجُومِ الْمُحَطَّمَةِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْفَلَكِيُّونَ الْحِجَارَةَ النَّيْزَكِيَّةَ، وَهِيَ بَقَايَا كَوْكَبٍ مُحَطَّمٍ تَجْذِبُهُ الْأَرْضُ إِلَيْهَا إِذَا صَارَتْ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَهِيَ تَحْتَرِقُ غَالِبًا مِنْ سُرْعَةِ الْجَذْبِ وَشِدَّتِهِ وَهِيَ الشُّهُبُ الَّتِي تُرَى فِي اللَّيْلِ، فَإِذَا سَلِمَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنَ الِاحْتِرَاقِ وَوَصَلَ إِلَى الْأَرْضِ سَاخَ فِيهَا، وَكَانَ لِسُقُوطِهِ صَوْتٌ شَدِيدٌ، وَقَدِ اهْتَدَى النَّاسُ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ الْحِجَارَةِ وَوَضَعُوهَا فِي الْمَتَاحِفِ، وَلَمْ يُعْهَدْ أَنْ تَكُونَ كَثِيرَةً، وَالْآيَاتُ تُخَالِفُ الْمَعْهُودَ وَتَخْتَرِقُ الْمُعْتَادَ وَإِنْ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِسُنَنٍ خَفِيَّةٍ فِي الْكَوْنِ بِفِعْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي سُورَتَيْ هُودٍ وَالْحِجْرِ أَنَّهَا حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلٍ مُسَوَّمَةً. وَاخْتَلَفَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ فِي تَفْسِيرِ السِّجِّيلِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوَّلُهَا حِجَارَةٌ وَآخِرُهَا طِينٌ، وَفِي قَوْلِهِ: (مُسَوَّمَةً) (١١: ٨٣) قَالَ: مُعَلَّمَةً. وَمِثْلِهِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حِجَارَةٌ فِيهَا طِينٌ، وَقَالَ: السَّوْمُ بَيَاضٌ فِي حُمْرَةٍ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالسِّجِّيلُ حَجَرٌ وَطِينٌ مُخْتَلِطٌ وَأَصْلُهُ فِيمَا قِيلَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ اهـ. وَهَذَا يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ كَوْنُ تِلْكَ الْحِجَارَةِ مِنَ الْأَرْضِ وَقَلَعَتْهَا الْأَعَاصِيرُ مِنْ أَرْضٍ رَطْبَةٍ مِنَ الْمَطَرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَحِجَارَةُ النَّيَازِكِ لَا تَكُونُ إِلَّا جَافَّةً، بَلْ تَسْقُطُ حَامِيَةً مِنْ شِدَّةِ الْجَذْبِ ثُمَّ تَبْرُدُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفِيلِ: السِّجِّيلُ طِينٌ مُتَحَجِّرٌ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّهُ فَارِسِيُّ الْأَصْلِ. وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ إِنْ شَاءَ اللهُ
تَعَالَى، وَفِيهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ عَالِيَ تِلْكَ الْقُرَى سَافِلَهَا، وَنُبَيِّنُ أَنَّ وُقُوعَ هَذَا وَذَاكَ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الْجَلِيَّةِ أَوِ الْخَفِيَّةِ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا آيَةً.

صفحة رقم 459
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية