آيات من القرآن الكريم

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ

وَالْغَضَبِ عَلَيْهِمْ وَتَجَهُّمِ إِنْكَارِ لُوطٍ عَلَيْهِ السّلام عَلَيْهِم.
[٨٣، ٨٤]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٨٣ إِلَى ٨٤]
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْجَيْناهُ تَعْقِيبٌ لِجُمْلَةِ: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ [الْأَعْرَاف: ٨٢] أَوْ
لِجُمْلَةِ: قالَ لِقَوْمِهِ [الْأَعْرَاف: ٨٠] وَهَذَا التَّعْقِيبُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أُرْسِلَ إِلَى قَوْمِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ بِزَمن قَلِيل.
وفَأَنْجَيْناهُ مُقَدَّمٌ مِنْ تَأْخِيرٍ. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا وَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ، فَقَدَّمَ الْخَبَرَ بِإِنْجَاءِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْخَبَرِ بِإِمْطَارِهِمْ مَطَرَ الْعَذَابِ، لِقَصْدِ إِظْهَارِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ إِنْجَاءِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِتَعْجِيلِ الْمَسَرَّةِ لِلسَّامِعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ لِحُسْنِ عَوَاقِبِ أَسْلَافِهِمْ مِنْ مُؤْمِنِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّ تِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٦٤].
وَأَهْلُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُمْ زَوْجُهُ وَابْنَتَانِ لَهُ بِكْرَانِ، وَكَانَ لَهُ ابْنَتَانِ مُتَزَوِّجَتَانِ- كَمَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ- امْتَنَعَ زَوْجَاهُمَا مِنَ الْخُرُوجِ مَعَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَلَكَتَا مَعَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ.
وَأَمَّا امْرَأَةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهَا هُنَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنَجِّهَا، فَهَلَكَتْ مَعَ قَوْمِ لُوطٍ، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ هُودٍ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهَا لَمْ تَمْتَثِلْ مَا أَمَرَ اللَّهُ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ الْخَارِجِينَ مَعَهُ إِلَى الْمُدُنِ حِينَ يُصِيبُهَا الْعَذَابُ فَالْتَفَتَتِ امْرَأَتُهُ فَأَصَابَهَا الْعَذَابُ، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ أَنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ كَافِرَةً. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَتْ تُسِرُّ الْكُفْرَ وَتُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ سَبَبُ الْتِفَاتِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ مُوقِنَةٍ بِنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَمْ

صفحة رقم 236

تَخْرُجْ مَعَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ قَوْلَهُ:
إِلَّا امْرَأَتَكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٨١]، اسْتثِْنَاء من بِأَهْلِكَ لَا مَنِ أَحَدٌ. لَعَلَّ امْرَأَةَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ (سَدُومَ) تَزَوَّجَهَا لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُنَالِكَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ، فَإِنَّهُ أَقَامَ فِي (سَدُومَ) سِنِينَ طَوِيلَةً بَعْدَ أَنْ هَلَكَتْ أُمُّ بَنَاتِهِ وَقَبْلَ أَنْ يُرْسَلَ، وَلَيْسَتْ هِيَ أُمُّ بِنْتَيْهِ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ لَمْ تَذْكُرْ امْرَأَةَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا فِي آخِرِ الْقِصَّةِ.
وَمَعْنَى مِنَ الْغابِرِينَ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَالْغَابِرُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُنْقَضِي، وَيُطْلَقُ عَلَى الْآتِي، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ، وَأَشْهَرُ إِطْلَاقَيْهِ هُوَ الْمُنْقَضِي، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: غَبَرَ بِمَعْنَى هَلَكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا: أَيْ كَانَتْ مِنَ الْهَالِكِينَ، أَيْ هَلَكَتْ مَعَ مَنْ هَلَكَ مِنْ أَهْلِ (سَدُومَ).
وَالْإِمْطَارُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَطَرِ، وَالْمَطَرُ اسْمٌ لِلْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّحَابِ، يُقَالُ: مَطَرَتْهُمُ السَّمَاءُ- بِدُونِ هَمْزَةٍ- بِمَعْنَى نَزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرُ، كَمَا يُقَالُ: غَاثَتْهُمْ وَوَبِلَتْهُمْ، وَيُقَالُ: مَكَانٌ مَمْطُورٌ، أَيْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ، وَلَا يُقَالُ: مُمْطِرٌ، وَيُقَالُ أُمْطِرُوا- بِالْهَمْزَةِ- بِمَعْنَى نَزَلَ عَلَيْهِمْ
مِنَ الْجَوِّ مَا يُشْبِهُ الْمَطَرَ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَطَرٍ، فَلَا يُقَالُ: هُمْ مُمْطِرُونَ، وَلَكِنْ يُقَالُ: هُمْ مُمْطَرُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود: ٨٢]- وَقَالَ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَال: ٣٢]، كَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ- هُنَا- وَقَالَ، فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: قَدْ كَثُرَ الْإِمْطَارُ فِي مَعْنَى الْعَذَابِ، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَطَرَ وَأَمْطَرَ أَنَّ مَطَرَ لِلرَّحْمَةِ وَأَمْطَرَ لِلْعَذَابِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [٢٤] : قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا فَهُوَ يُعَكِّرُ عَلَى كِلْتَا التَّفْرِقَتَيْنِ، وَيُعَيِّنُ أَنْ تَكُونَ التَّفْرِقَةُ أَغْلَبِيَّةً.
وَكَانَ الَّذِي أَصَابَ قَوْمَ لُوطٍ حَجَرًا وَكِبْرِيتًا مِنْ أَعْلَى الْقُرَى كَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَكَانَ الدُّخَانُ يَظْهَرُ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلُ دُخَانِ الْأَتُونِ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ أَنَّ آبَارَ الْحُمَرِ الَّتِي وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي عُمْقِ السَّدِيمِ، كَانَتْ قَابِلَةً لِلِالْتِهَابِ بِسَبَبِ زَلَازِلَ أَوْ سُقُوطِ صَوَاعِقَ عَلَيْهَا. وَقَدْ ذُكِرَ فِي

صفحة رقم 237

آيَةٍ أُخْرَى، فِي الْقُرْآنِ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ عَالِيَ تِلْكَ الْقُرَى سَافِلًا، وَذَلِكَ هُوَ الْخَسْفُ وَهُوَ مِنْ آثَارِ الزَّلَازِلِ. وَمِنَ الْمُسْتَقْرَبِ أَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ الْمَيِّتُ هُنَالِكَ قَدْ طَغَى عَلَى هَذِهِ الْآبَارِ أَوِ الْبَرَاكِينِ مِنْ آثَارِ الزِّلْزَالِ.
وَتَنْكِيرُ: مَطَراً لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّعْجِيبِ أَيْ: مَطَرًا عَجِيبًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُهْلِكَ الْقُرَى.
وَتَفَرَّعَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ فِي عَاقِبَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ فَالْأَمْرُ لِلْإِرْشَادِ وَالِاعْتِبَارِ. وَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ بَلْ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الِاعْتِبَارُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ إِيرَادِ التَّذْيِيلِ بِالِاعْتِبَارِ عَقِبَ الْمَوْعِظَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخِطَابِ كُلُّ مَنْ قُصِدَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخطاب للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً لَهُ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِأَنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ، وَأَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ انْتِظَارَ الْعَوَاقِبِ.
وَالْمُجْرِمُونَ فَاعِلُوا الْجَرِيمَةِ، وَهِيَ الْمَعْصِيَةُ وَالسَّيِّئَةُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اللَّهَ عَاقَبَهُمْ بِذَلِكَ الْعِقَابِ عَلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ، وَأَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أُرْسِلَ لَهُمْ لِنَهْيِهِمْ عَنْهَا، لَا لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، إِذْ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ فِي الْقُرْآنِ بِخِلَافِ مَا قُصَّ عَنِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى، لَكِنَّ تَمَالُئَهُمْ عَلَى فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَاسْتِحْلَالِهِمْ إِيَّاهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، وَبِذَلِكَ يُؤْذِنُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ [١٠] : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، فَيَكُونُ إِرْسَالُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنْكَارِ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ ابْتِدَاءً بِتَطْهِيرِ نُفُوسِهِمْ، ثُمَّ يَصِفُ لَهُمُ الْإِيمَانَ، إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلَّغَهُمُ الرِّسَالَةَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، إِلَّا أَنَّ اهْتِمَامَهُ الْأَوَّلَ كَانَ بِإِبْطَالِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ فِي إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ وَمُجَادَلَتِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى مَا يَخُصُّ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ
اللَّهَ أَصَابَهُمْ بِالْعَذَابِ عُقُوبَةً، عَلَى تِلْكَ الْفَاحِشَةِ، كَمَا قَالَ فِي

صفحة رقم 238
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية