الَّتِي فِيهِ، فَالَّذِي يَعْلُقُ بِهَا يُدْخِلُ رَأْسَهُ فِيهَا وَهِيَ مِثْلُهُ ذَاتُ نَوَاةٍ أَوْ نُوَيَّةٍ وَاحِدَةٍ فَيَحْصُلُ التَّلْقِيحُ بِاقْتِرَانِ النُّوَيَّتَيْنِ.
وَيَقُولُونَ: إِنَّ بُوَيْضَاتِ النَّسْلِ تَكُونُ فِي الْبِنْتِ مِنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِهَا فَتُولَدُ وَفِيهَا أُلُوفٌ مِنْهَا مَعْدُودَةٌ لَا تَزِيدُ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهَا تَسْقُطُ مِنْهَا فِي زَمَنِ الطُّفُولَةِ، ثُمَّ تَتَكَوَّنُ فِيهَا بُوَيْضَاتُ النَّسْلِ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِسَبَبِ دَمِ الْحَيْضِ، ذَلِكَ بِأَنَّ فِي دَاخِلِ الرَّحِمِ عُضْوَيْنِ مُصْمَتَيْنِ يُشْبِهَانِ خُصْيَتَيِ الرَّجُلِ يُسَمَّيَانِ الْمِبْيَضَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي دَاخِلِهِمَا بُوَيْضَاتٍ دَقِيقَةً جِدًّا لَا تُرَى إِلَّا بِالْمَنَاظِيرِ الْمُكَبِّرَةِ تَكُونُ فِي حُوَيْصِلَاتٍ يَقْتَرِبُ بَعْضُهَا مِنْ سَطْحِ الْمِبْيَضِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَنْفَجِرَ فَتَخْرُجُ مِنْهُ الْبُوَيْضَةُ إِلَى بُوقِ الرَّحِمِ، فَتَكُونُ مُسْتَعِدَّةً بِذَلِكَ لِتَلْقِيحِ الْحَيَوَانِ الْمَنَوِيِّ لَهَا، وَأَكْثَرُهَا يَضْمُرُ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ وَلَا يَنْفَجِرَ، وَإِنَّمَا يَنْفَجِرُ مَا يَنْفَجِرُ مِنْهَا فِي زَمَنِ الْحَيْضِ وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ كُلَّ حَيْضَةٍ تُفَجِّرُ حُوَيْصَلَةً وَاحِدَةً، تَكُونُ مِنْهَا بُوَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْغَالِبِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّنَاوُبِ بَيْنَ الْمِبْيَضَيْنِ مَرَّةً فِي الْأَيْمَنِ وَمَرَّةً فِي الْأَيْسَرِ، وَقَدِ اهْتَدَى أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ بِالتَّجَارِبِ الطَّوِيلَةِ إِلَى أَنَّ الْبُوَيْضَةَ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمِبْيَضِ الْأَيْمَنِ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا الذَّكَرُ وَالَّتِي تَكُونُ فِي الْمِبْيَضِ الْأَيْسَرِ تَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْأُنْثَى، وَأَنَّهُ مَتَى عُرِفَ بِوَضْعِ الْمَرْأَةِ أَوَّلَ وَلَدٍ لَهَا مَتَى كَانَ حَمْلُهَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ بَعْدَ ذَلِكَ دَوْرُ بُوَيْضَةِ الذَّكَرِ وَدَوْرُ بُوَيْضَةِ الْأُنْثَى فِي الْغَالِبِ، وَيَكُونُ لِلزَّوْجَيْنِ كَسْبٌ وَاخْتِيَارٌ لِنَوْعِ الْمَوْلُودِ إِنْ قَدَّرَهُ اللهُ لَهُمَا. وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) (٦: ٥٩) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَأَمَّا التَّوْأَمَانِ فَسَبَبُهُمَا إِمَّا انْفِجَارُ بُوَيْضَتَيْنِ فَأَكْثَرَ شُذُوذًا، وَإِمَّا اشْتِمَالُ الْبُوَيْضَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى نُوَيَّتَيْنِ يُلَقَّحَانِ مَعًا، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الِاسْتِطْرَادَ لِلِاعْتِبَارِ بِقُدْرَةِ الْخَالِقِ وَسِعَةِ عِلْمِهِ وَدَقَائِقِ حِكْمَتِهِ بَعْدَ تَوْفِيَةِ مَسْأَلَةِ الْبَعْثِ حَقَّهَا مِنَ الْبَحْثِ وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ بَحْثُ التَّكْوِينِ فِي سِيَاقِ خَلْقِ آدَمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ.
ضَرَبَ اللهُ إِحْيَاءَ الْبِلَادِ بِالْمَطَرِ، مَثَلًا لِبَعْثِ الْبَشَرِ، ثُمَّ ضَرَبَ اخْتِلَافَ إِنْتَاجِ الْبِلَادِ، مَثَلًا لِمَا فِي الْبَشَرِ مِنِ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ، لِلْغَيِّ وَالرَّشَادِ، فَقَالَ:
(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، أَيْ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَرْضَ مِنْهَا الطَّيِّبَةُ الْكَرِيمَةُ التُّرْبَةِ الَّتِي يَخْرُجُ نَبَاتُهَا بِسُهُولَةٍ. وَيُنَمَّى بِسُرْعَةٍ، وَيَكُونُ كَثِيرَ الْغَلَّةِ طَيِّبَ الثَّمَرَةِ، وَمِنْهَا الْخَبِيثَةُ التُّرْبَةِ كَالْحَرَّةِ السَّبِخَةِ الَّتِي لَا يَخْرُجُ نَبَاتُهَا عَلَى قِلَّتِهِ وَخُبْثِهِ - إِنْ أَنْبَتَتْ - إِلَّا بِعُسْرٍ وَصُعُوبَةٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: النَّكِدُ كُلُّ شَيْءٍ خَرَجَ إِلَى طَالِبِهِ بِتَعَسُّرٍ
وَيُقَالُ رَجُلٌ نَكَدٌ وَنَكِدٌ (أَيْ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا) وَنَاقَةٌ نَكْدَاءُ. طَفِيفَةُ الدَّرِّ صَعْبَةُ الْحَلْبِ - وَذَكَرَ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: (وَالَّذِي خَبُثَ) حَذَفَ مَوْصُوفَهُ، أَيْ وَالْبَلَدُ الَّذِي خَبُثَ، وَهُوَ دُونَ الْخَبِيثِ فِي الْخُبْثِ، فَإِنَّ صِيغَةَ فَعِيلٍ مِنَ الصِّيَغِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ الثَّابِتَةِ، وَالنَّكِدُ قَدْ يَكُونُ فِيمَا دُونَ هَذَا مِنَ الْخُبْثِ. وَمِنْ دِقَّةِ الْبَلَاغَةِ فِي هَذَيْنِ التَّعْبِيرَيْنِ دِلَاتُهُمَا عَلَى التَّرْغِيبِ فِي طَلَبِ الرُّسُوخِ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَتَجَنُّبِ أَدْنَى الْخُبْثِ وَالنَّقْصِ وَبَيْنَ ذَلِكَ دَرَجَاتٌ رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادَبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ طَائِفَةً أُخْرَى مِنْهَا إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ " وَقَدْ فَسَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ وَهُوَ الَّذِي نَفَعَ وَانْتَفَعَ كَالْهَادِي وَالْمُهْتَدِي، وَالثَّالِثَ الَّذِي لَمْ يَنْفَعْ وَلَمْ يَنْتَفِعْ كَالْجَاحِدِ، وَسَكَتَ عَنِ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي انْتَفَعَ غَيْرُهُ بِعِلْمِهِ مِنْ دُونِهِ كَالْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ غَيْرَهُ وَلَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ الْمُشَبَّهِ بِالْأَرْضِ الَّتِي تُمْسِكُ الْمَاءَ وَلَا تَنْبُتُ وَحَالُهُ مَعْلُومَةٌ بَلْ لَهُ أَحْوَالٌ، فَمِنْهُ الْمُنَافِقُونَ وَمِنْهُ الْمُفَرِّطُونَ وَيَدُلُّ الْمَثَلَانِ عَلَى أَنَّ الْوِرَاثَةَ سَبَبٌ فِطْرِيٌّ لِهَذَا التَّفَاوُتِ فِي الِاسْتِعْدَادِ، وَلِهَذَا يَحْسُنُ أَنْ تُفَضَّلَ الْمَرْأَةُ التَّقِيَّةُ الْكَرِيمَةُ الْأَخْلَاقِ الطَّاهِرَةُ الْأَعْرَاقِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ إِذَا كَانَتْ مِنْ بَيْتٍ دَنِيءٍ، وَكَذَا عَلَى الْمَرْأَةِ
الْمُتَعَلِّمَةِ غَيْرِ الْكَرِيمَةِ الْخُلُقِ وَلَا الطَّيِّبَةِ الْعِرْقِ، وَقَدْ شَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِالْمَعَادِنِ، وَشَبَّهَ الْمَرْأَةَ الْحَسْنَاءَ فِي الْمَنْبَتِ السُّوءِ بِخَضْرَاءِ الدِّمْنِ أَيْ حَشِيشِ الْمَزْبَلَةِ.
وَمَنِ اخْتَبَرَ النَّاسَ رَأَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ يَخْرُجُ مِنَ الطَّيِّبِينَ عَفْوًا بِلَا تَكَلُّفٍ، وَأَنَّ الْخَبِيثِينَ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالْمَعْرُوفُ وَلَا الْحَقُّ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إِلَّا نَكِدًا، بَعْدَ إِلْحَافٍ أَوْ إِيذَاءٍ فِي الطَّلَبِ أَوْ إِدْلَاءٍ إِلَى الْحُكَّامِ وَمُرَاوَغَةٍ فِي الْخِصَامِ.
(كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أَيْ كَذَلِكَ شَأْنُنَا فِي هَذَا التَّصْرِيفِ الْبَدِيعِ الْمِثَالِ الْمُوَضَّحِ بِالْأَمْثَالِ، نُصَرِّفُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِلْمِنَا وَحِكْمَتِنَا وَرَحْمَتِنَا بِالْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى أَنْوَاعٍ جَلِيَّةٍ تُبَيِّنُ مُرَادَنَا لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نِعَمَنَا، بِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا تَتِمُّ بِهِ حِكْمَتُنَا، فَيَسْتَحِقُّونَ مَزِيدًا مِنْهَا، وَتَثْوِيبَنَا عَلَيْهَا. عَبَّرَ بِالشُّكْرِ فِي الْآيَةِ الَّتِي مَوْضُوعُهَا الِاهْتِدَاءُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْإِرْشَادِ وَبِالتَّذْكِيرِ فِي الْآيَةِ الَّتِي مَوْضُوعُهَا الِاعْتِبَارُ وَالِاسْتِدْلَالُ.
اسْتِطْرَادٌ فِي بَيَانِ بَعْضِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْخَلْقِ بِالْهَوَاءِ وَالرِّيَاحِ الْهَوَاءُ جِسْمٌ لَطِيفٌ مِمَّا يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الْكِيمْيَاءِ بِالْغَازِ، لَا لَوْنَ لَهُ وَلَا رَائِحَةَ مُرَكَّبٌ تَرْكِيبًا مَزْجِيًا مِنْ عُنْصُرَيْنِ غَازِيَّيْنِ أَصْلِيَّيْنِ يُسَمُّونَ أَحَدَهُمَا (الْأُكْسُجِينَ) وَخَاصَّتُهُ تَوْلِيدُ الِاحْتِرَاقِ وَالِاشْتِعَالِ وَإِحْدَاثُ الصَّدَإِ فِي الْمَعَادِنِ وَهُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ وَإِنْسَانٍ، وَثَانِيهِمَا (الْآزُوتُّ - أَوِ النِّيتْرُوجِينُ) وَهُوَ أَخَفُّ عَنَاصِرِ الْمَادَّةِ وَزْنًا وَسَيَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِ خَوَاصِّهِ وَمِنْ عَنَاصِرَ أُخْرَى (كَالْأَيُدْرُوجِينِ) وَهُوَ الْمُوَلِّدُ لِلْمَاءِ (وَحَمْضِ الْكَرْبُونِ) وَهُوَ أَصْلُ مَادَّةِ الْفَحْمِ وَغَازِهِ السَّامِّ (وَالْهِلْيُومِ وَالنِّيُونِ وَالْكِرِيتُونِ) وَهِيَ عَنَاصِرُ اكْتُشِفَتْ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، وَتَكْثُرُ فِيهِ أَنْوَاعُ الْغَازَاتِ وَالْأَبْخِرَةِ الَّتِي تَنْفَصِلُ مِنْ مَوَادِّ الْأَرْضِ وَتَخْتَلِفُ كَثْرَةُ هَذِهِ الْمَوَادِّ وَقِلَّتُهَا بِاخْتِلَافِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِهَا إِلَى مَسَافَةِ ٣٠٠ كِيلُو مِتْرٍ بِالتَّقْرِيبِ.
يُسَمُّونَ الْهَوَاءَ عُنْصُرَ الْحَيَاةِ، فَلَوْلَاهُ لَمْ تُوجَدِ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَلَا النَّبَاتِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ فَالْإِنْسَانُ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ تَسْتَنْشِقُ الْهَوَاءَ فَيُطَهِّرُ مَا فِيهِ مِنَ الْأُكْسُجِينِ دِمَاءَهَا مِنَ الْكَرْبُونِ السَّامِّ فَيَخْرُجُ بِالتَّنَفُّسِ إِلَى الْجَوِّ فَيَتَغَذَّى بِهِ النَّبَاتُ. وَلَوِ احْتَبَسَ مَا يَتَّلِدُ فِي دَمِ الْحَيَوَانِ مِنَ السُّمُومِ الْآلِيَّةِ فِي صَدْرِهِ لَأَمَاتَهُ مَسْمُومًا كَمَا يَمُوتُ الْغَرِيقُ بِعَدَمِ دُخُولِ الْهَوَاءِ فِي رِئَتَيْهِ. فَمَثَلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ مِصْبَاحِ
زَيْتِ الْبِتْرُولِ الَّذِي يَمُدُّ أُكْسُجِينُ الْهَوَاءِ اشْتِعَالَهُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّكَ إِذَا وَضَعْتَ عَلَى فُوَّهَةِ زُجَاجَةِ الْمِصْبَاحِ غِطَاءً مُحْكَمًا يَنْطَفِئُ نُورُهُ سَرِيعًا؟ وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانَاتُ الْمَائِيَّةُ كَالسَّمَكِ فَإِنَّ الْهَوَاءَ الَّذِي يُخَالِطُ الْمَاءَ كَافٍ لَهَا.
وَالنَّبَاتُ يَمْتَصُّ الْكَرْبُونَ السَّامَّ مِنَ الْهَوَاءِ فَيَتَغَذَّى بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَيَدَعُ الْأُكْسُجِينَ لِلْحَيَوَانِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَأْخُذُ مِنْهُ حَظَّهُ، وَيُفِيدُ فِي الْحَيَاةِ صِنْوَهُ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَقْصُورَةِ:
وَالْبَاسِقَاتُ رَفَعَتْ أَكُفَّهَا تَسْتَنْزِلُ الْغَيْثَ وَتَطْلُبُ النَّدَى تَمْتَلِجُ الْكَرْبُونَ مِنْ ضَرْعِ الْهَوَى تُؤْثِرُنَا بِالْأُكْسُجِينِ الْمُنْتَقَى
وَكَذَلِكَ الْهَوَاءُ الَّذِي يَتَخَلَّلُ الْأَرْضَ يُسَاعِدُ جُذُورَ النَّبَاتِ عَلَى امْتِصَاصِهَا الْغِذَاءَ مِنَ التُّرَابِ ثُمَّ إِنَّ السُّمُومَ الَّتِي تَنْحَلُّ فِي الْبَدَنِ يَخْرُجُ قِسْمٌ عَظِيمٌ مِنْهَا مِنْ مَسَامِّهِ بُخَارًا أَوْ عَرَقًا فَيَمْتَصُّهَا الْهَوَاءُ وَيَدْفَعُهَا إِلَى الْجَوِّ الْوَاسِعِ، وَلَوِ انْسَدَّتْ مَسَامُّ الْبَدَنِ لَمَا كَانَ الْهَوَاءُ الَّذِي يَدْخُلُ الرِّئَتَيْنِ كَافِيًا لِوِقَايَةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ مِنْ مِيتَةِ التَّسَمُّمِ.
وَمِنْ مَنَافِعِ الْهَوَاءِ الَّتِي يَغْفُلُ أَكْثَرُ النَّاسِ عَنْ شُكْرِ الرَّبِّ عَلَيْهَا تَطْهِيرُهُ سَطْحَ الْأَرْضِ الَّتِي نَعِيشُ عَلَيْهَا مِنَ الرُّطُوبَاتِ الْقَذِرَةِ، وَمَا يَتَوَلَّدُ فِيهَا مِنْ جِنَّةِ الْأَحْيَاءِ الضَّارَّةِ " مَيُكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ " فَهُوَ يَمْتَصُّهَا وَيَدْفَعُهَا فِي هَذَا الْجَوِّ الْعَظِيمِ فَيَتَفَرَّقُ شَمْلُهَا وَتَزُولُ قُوَّةُ اجْتِمَاعِهَا، وَقَدْ تَمُوتُ مُحْتَرِقَةً بِأَشِعَّةِ الشَّمْسِ فِيهِ، وَيَنْبَغِي اتِّقَاءُ الْغُبَارِ الَّذِي يَحْمِلُهَا فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " تَنَكَّبُوا الْغُبَارَ فَإِنَّ مِنْهُ النَّسَمَةَ " وَهِيَ ذَاتُ النَّفْسِ الْحَيَّةِ بَلْ لَوْلَا الْهَوَاءُ لَتَعَذَّرَ أَنْ يَجِفَّ ثَوْبٌ غُسِلَ، بَلْ لَكَانَتِ الْأَرْضُ مَغْمُورَةً بِالْمَاءِ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ الْمَاءُ بِغَيْرِ الْهَوَاءِ، وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا مَعْرُوفَةٌ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُزْدَوِجٌ بِالْآخَرِ فَالْهَوَاءُ يَتَخَلَّلُ الْمِيَاهَ، وَالْمُجَاوِرُ مِنْهُ لِلْأَرْضِ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ بُخَارِ الْمَاءِ وَهُوَ يَقِلُّ فِيهِ وَيَكْثُرُ بِحَسَبِ بُعْدِهِ عَنِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَقُرْبِهِ مِنْهَا، وَمِمَّا أَثْبَتَهُ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّ بُخَارَ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ يَقِلُّ فِي الطَّبَقَاتِ الْعُلْيَا مِنَ الْجَوِّ كَقُلَلِ الْجِبَالِ وَمَا فَوْقَهَا فَإِنَّ عُنْصُرَ (الْأَيُدْرُوجِينِ) وَهُوَ الْمُوَلِّدُ لِلْمَاءِ يَكْثُرُ كَثْرَةً عَظِيمَةً فِي أَعْلَى كُرَةِ الْهَوَاءِ، وَيَقِلُّ الْأُكْسُجِينُ فِي طَبَقَاتِ
الْجَوِّ الْعُلْيَا وَيَكْثُرُ بِجِوَارِ الْأَرْضِ لِثِقْلِهِ النَّوْعِيِّ فَهُوَ أَثْقَلُ مِنْ صِنْوِهِ النِّيتْرُوجِينِ وَذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ.
وَمِنَ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْهَوَاءَ يَتَحَوَّلُ بِشِدَّةِ الْبَرْدِ وَالضَّغْطِ إِلَى مَاءٍ ثُمَّ إِلَى جَلِيدٍ - كَمَا أَنَّ الْمَاءَ يَتَبَخَّرُ بِالْحَرَارَةِ حَتَّى يَكُونَ هَوَاءً أَوْ كَالْهَوَاءِ فِي لَطَافَتِهِ وَعَدَمِ رُؤْيَتِهِ، وَقَدْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ يَحْسَبُونَهُمَا شَيْئًا وَاحِدًا، وَعُلَمَاءُ الْعَرَبِ فَرَّقُوا بَيْنَ بُخَارِ الْمَاءِ وَكُرَةِ الْهَوَاءِ. وَلَكِنَّ اسْمَ الْبُخَارِ فِي لُغَتِهِمْ يَشْمَلُ كُلَّ الْمَوَادِّ اللَّطِيفَةِ الَّتِي تَصْعَدُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْعَصْرِ " الْغَازَاتِ " وَالْمَشْهُورُ أَنَّ فِي الْهَوَاءِ مِنْ حَيْثُ حَجْمِهِ لَا ثِقْلِهِ ٢١ جُزْءًا فِي الْمِائَةِ مِنَ الْأُكْسُجِينِ و٨٧ فِي الْمِائَةِ مِنَ النِّيتْرُوجِينِ وَوَاحِدًا فِي الْمِائَةِ مِنَ الْأَرْغُونِ، وَهَذِهِ النِّسْبَةُ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ فِي الْهَوَاءِ الْمُجَاوِرِ لِلْأَرْضِ وَهِيَ ضَرُورِيَّةٌ لِحَيَاةِ أَكْثَرِ الْأَحْيَاءِ حَيَاةً صَالِحَةً مُعْتَدِلَةً، فَإِذَا زَادَ الْأُكْسُجِينُ زِيَادَةً كَبِيرَةً أَوْ نَقُصَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ لَمْ يَعُدْ صَالِحًا لِحَيَاةِ الْأَحْيَاءِ بَلْ يَصِيرُ نَارًا مُحْرِقَةً أَوَسُمًّا زُعَافًا. فَكَوْنُ النِّيتْرُوجِينِ يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْأُوكْسُجِينِ فِي حَجْمِ الْهَوَاءِ ضَرُورِيٌّ لِتَعْدِيلِهِ وَجَعْلِهِ صَالِحًا لِذَلِكَ.
وَالنِّيتْرُوجِينُ ضَرُورِيٌّ لِلْحَيَاةِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ صَالِحًا لِلْحَيَاةِ - فَهُوَ إِذَا وُضِعَ فِيهِ حَيَوَانٌ أَوْ نَبَاتٌ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَمُوتَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ سَامٍّ - وَضَرُورَتُهُ لِلْحَيَاةِ مِنْ حَيْثُ تَعْدِيلِهِ لِلْأُكْسُجِينِ وَمَنْعِهِ إِيَّاهُ مِنَ الطُّغْيَانِ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ فِي ذَاتِهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْغِذَاءِ لِلْحَيَوَانَاتِ وَلَا سِيَّمَا الْعُلْيَا مِنْهَا وَأَعْلَاهَا الْإِنْسَانُ، فَإِذَا خَلَا طَعَامُهَا مِنَ الْمَادَّةِ النِّيتْرُوجِينِيَّةِ لَمْ يَكْفِ لِحَيَاتِهَا بِهِ.
وَالنِّيتْرُوجِينُ يُوجَدُ فِي أَجْسَامِ النَّبَاتِ كَمَا يُوجَدُ فِي لَحْمِ الْحَيَوَانِ وَبَيْضِهِ وَلَبَنِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ
فِيهِ، وَالنَّبَاتُ يَأْخُذُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَسَائِرُ غِذَاءِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الْمَوَادِّ النَّبَاتِيَّةِ، وَمُعْظَمُهَا مِنَ الْكَرْبُونِ، وَهُوَ يَأْخُذُهَا مِنَ الْأَرْضِ وَمِنِ امْتِصَاصِهِ لِغَازِ الْحَامِضِ الْكَرْبُونِيِّ مِنَ الْهَوَاءِ.
فَهَذَا الْغَازُ عَلَى شِدَّةِ ضَرَرِهِ وَقُوَّةِ سُمِّهِ فِي الْهَوَاءِ لِمَنْ يَسْتَنْشِقُهُ لَابُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي رُكْنِ الْمَعِيشَةِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ النَّبَاتُ.
إِذَا كَثُرَ هَذَا الْحَامِضُ فِي الْهَوَاءِ فَصَارَ وَاحِدًا فِي الْمِائَةِ كَانَ ضَارًّا فَإِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صَارَ ١٠ فِي الْمِائَةِ صَارَ شَدِيدَ الْخَطَرِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَهُوَ يَكْثُرُ فِي الْمَبَانِي الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا النَّاسُ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْفَاسِهِمْ، وَالَّتِي تَكْثُرُ
فِيهَا السُّرُجُ وَالْمَصَابِيحُ الزَّيْتِيَّةُ وَالْغَازِيَةُ وَكَذَا الشُّمُوعُ فَإِنَّهَا تُوَلِّدُهُ بِاحْتِرَاقِهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا نَوَافِذُ مُتَقَابِلَةٌ يَدْخُلُ الْهَوَاءُ مِنْ بَعْضِهَا وَيَخْرُجُ مِنَ الْآخَرِ فَإِنَّ هَوَاءَهَا يَفْسُدُ بِهِ وَيَتَسَمَّمُ دَمُ مَنْ فِيهَا. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ ١٦ مِتْرًا مُكَعَّبًا مِنَ الْهَوَاءِ فِي السَّاعَةِ، وَهُوَ يَنْفُثُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ٢٢ لِتْرًا مِنْ هَذَا الْغَازِ السَّامِّ (الْكَرْبُونِ) فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّقِيَ جَمِيعُ النَّاسِ الِاجْتِمَاعَ وَنَوْمَ الْكَثِيرِينَ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّلُهَا الْهَوَاءُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيهَا مَصَابِيحُ مُوقَدَةٌ، وَأَنْ يَحْذَرُوا مِنْ وَقُودِ الْفَحْمِ فِيهَا فِي أَيَّامِ الْبَرْدِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ مُطَّرِدٌ لِلِاخْتِنَاقِ كَمَا ثَبَتَ عِلْمًا وَتَجْرِبَةً، إِلَّا إِذَا وُضِعَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ أَنْ تَمَّ اشْتِعَالُهُ وَذَهَبَ غَازُهُ فِي الْهَوَاءِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ رَائِحَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنَ السَّوَادِ.
عَلِمْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الْخَالِقَ الْحَكِيمَ قَدْ جَعَلَ الْهَوَاءَ مُرَكَّبًا مِنَ الْمَوَادِّ الضَّرُورِيَّةِ لِحَيَاةِ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا، وَجَعَلَ النِّسْبَةَ بَيْنَ أَجْزَائِهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَجْمِ وَالثِّقْلِ مُنَاسِبَةً لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِذَا نَقُصَ أَحَدُهَا بِتَصَرُّفِ هَذِهِ الْأَحْيَاءِ فِيهِ بِالتَّغَذِّي وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالنَّفْثِ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوقِعَ اخْتِلَالًا وَتَفَاوُتًا فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ كَانَ لَهُ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى مَا يُعِيدُ إِلَيْهِ اعْتِدَالَهُ وَيَحْفَظُهُ لَهُ، كَتَأْثِيرِ كُلٍّ مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ فِي وَرَقِ النَّبَاتِ الْأَخْضَرِ، وَمِنْ تَمَوُّجِ الْبِحَارِ فِي تَوْلِيدِ الْأُكْسُجِينِ، وَحَمْلِ الرِّيَاحِ لَهُ إِلَى الصَّحَارِي الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمَاءِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْأَشْجَارِ.
تَسْتَفِيدُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ مِنَ الْهَوَاءِ بِفِطْرَتِهَا فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ كَسْبِيٍّ وَلَا إِلَى عَمَلٍ صِنَاعِيٍّ تَهْتَدِي بِهِمَا إِلَى الْتِزَامِ مَنَافِعِهِ وَاتِّقَاءِ مَضَارِّهِ إِلَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ - وَهُوَ سَيِّدُ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ بِمَا خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لَهُ مِنِ اكْتِسَابِ الْعُلُومِ وَإِتْقَانِ الْأَعْمَالِ إِلَى غَيْرِ حَدٍّ يُعْرَفُ - وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْعِلْمِ الْوَاسِعِ وَالْعَمَلِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْعِلْمِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَكُلَّمَا اتَّسَعَ عِلْمُهُ وَدَقَّتْ صِنَاعَتُهُ صَارَ أَشَدَّ حَاجَةً إِلَى الْعِلْمِ وَالصِّنَاعَةِ، فَأَهْلُ الْبَدَاوَةِ أَقَلُّ حَاجَةً إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَارَةِ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى حَيَاةِ الْفِطْرَةِ، وَأَقَلُّ جِنَايَةً عَلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْحَضَارَةِ فِي أَغْذِيَتِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ.
يَبْنِي أَهْلُ الْحَضَارَةِ الدُّورَ فَيَجْعَلُونَ فِي كُلِّ دَارٍ بُيُوتًا كَثِيرَةً وَمَرَافِقَ مُخْتَلِفَةً، فَإِذَا لَمْ يُرَاعُوا
فِيهَا تَخَلُّلَ الْهَوَاءِ وَنُورِ الشَّمْسِ لَهَا فَسَدَ هَوَاؤُهَا، وَكَثُرَتْ فِيهَا جِنَّةُ الْأَمْرَاضِ وَالْأَدْوَاءِ الَّتِي تَفْتِكُ بِأَهْلِهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ فِي جُمْلَةِ
مَا يُقِيمُونَ مِنَ الدُّورِ وَالدَّكَاكِينِ وَالْمَعَامِلِ وَالْمَدَارِسِ وَالثُّكْنَاتِ لِلسَّكَنِ وَالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْجُنْدِ الَّتِي يُسَمَّى مَجْمُوعُهَا الْمَدِينَةَ إِلَى مِثْلِ مَا يُرَاعَى فِي كُلِّ دَارٍ مِنْ قَوَانِينِ الصِّحَّةِ، كَسِعَةِ الشَّوَارِعِ وَالْجَوَادِ الْعَامَّةِ وَمَا يَتَفَرَّعُ مِنْهَا مِنَ النَّوَاشِطِ الْخَاصَّةِ بِطَائِفَةٍ مِنَ السُّكَّانِ بِحَيْثُ يَكُونُ الِانْتِفَاعُ بِالْهَوَاءِ وَالشَّمْسِ عَامًّا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمَدِينَةِ الْكَبِيرَةِ حَدَائِقُ وَبَسَاتِينُ وَاسِعَةً مُبَاحَةً لِجَمِيعِ أَهْلِهَا لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ إِلَى الشَّجَرِ فِي اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ، وَلِيَخْتَلِفَ إِلَيْهَا النَّاسُ عِنْدَ إِرَادَةِ الِاسْتِرَاحَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَحْوَجُهُمْ إِلَيْهَا الْأَطْفَالُ يَتَفَيَّئُونَ ظِلَالَهَا وَيَسْتَنْشِقُونَ هَوَاءَهَا النَّقِيَّ الْمُنْعِشَ. فَإِذَا قَصَّرُوا فِي هَذَا انْتَابَتِ الْأَمْرَاضُ مَنْ يُقِيمُونَ فِي الدُّورِ الَّتِي لَا يُطَهِّرُهَا الْهَوَاءُ وَالنُّورُ، ثُمَّ تَسْرِي إِلَى مَنْ يُخَالِطُهُمْ مِنْ سَائِرِ طَبَقَاتِ السُّكَّانِ.
وَخَيْرُ الْهَوَاءِ الْمُعْتَدِلِ بَيْنَ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالْجَفَافِ وَالرُّطُوبَةِ، وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَارِّ إِفْرَازُ الْعَرَقِ مِنَ الْجِلْدِ وَهُوَ مُطَهِّرٌ لِبَاطِنِ الْبَدَنِ كَتَطْهِيرِ الْحَمَّامِ لِظَاهِرِهِ، بِمَا يَخْرُجُ مَعَهُ مِنَ الْفَضَلَاتِ الْمَيِّتَةِ وَالْمَوَادِّ السَّامَّةِ، فَهَذِهِ الْفَائِدَةُ تُوَازِي ضَرَرَهُ فِي عُسْرِ التَّنَفُّسِ وَقِلَّةِ مَا يَدْخُلُ مَعَهُ فِي الرِّئَةِ مِنَ الْأُكْسُجِينِ وَقِلَّةِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنَ الْكَرْبُونِ السَّامِّ، وَفِي ضَعْفِ الْهَضْمِ وَاسْتِرْخَاءِ الْجِسْمِ.
وَمِنْ فَوَائِدِ الْبَارِدِ تَشْدِيدُ الْأَعْصَابِ وَتَنْشِيطُ الْجِسْمِ، وَهُوَ يُحْدِثُ حَرَارَةً فِي الْبَاطِنِ بِكَثْرَةِ مَا يَدْخُلُ مَعَهُ مِنَ الْأُكْسُجِينِ فِي الْجَوْفِ (وَهُوَ مُوَلِّدُ الْحَرَارَةِ وَالِاشْتِعَالِ) فَيَحْتَاجُ إِلَى كَثْرَةِ الْوَقُودِ الَّذِي يَحْرِقُهُ، وَهُوَ الْغِذَاءُ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الْأَكْلُ وَيَقْوَى الْهَضْمُ فِي الْجَوِّ الْبَارِدِ، وَتَشْتَدُّ الْحَاجَةُ فِيهِ إِلَى الْحَرَكَةِ وَالْعَمَلِ لِدَفْعِ الدَّمِ إِلَى الشَّرَايِينِ الَّتِي فِي ظَاهِرِ الْجِسْمِ لِتَدْفِئَتِهِ، فَهُوَ يُفِيدُ الْأَقْوِيَاءَ الْأَصِحَّاءَ وَيَضُرُّ الضُّعَفَاءَ وَالْمُصَابِينَ بِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ الصَّدْرِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَنْبَغِي تَخْفِيفُ الطَّعَامِ فِي زَمَنِ الْحَرِّ، وَاجْتِنَابُ الْإِكْثَارِ مِنَ اللَّحْمِ وَلَا سِيَّمَا الْأَحْمَرُ مِنْهُ وَمِنَ الْحَلْوَى وَالْأَدْهَانِ، وَجَعْلُ مُعْظَمِ الْغِذَاءِ مِنَ الْبُقُولِ وَالْفَاكِهَةِ.
وَمِنْ حِكَمِ اللهِ تَعَالَى وَلُطْفِ تَدْبِيرِهِ فِي الْهَوَاءِ وَفِي اخْتِلَافِ بِقَاعِ الْأَرْضِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ مَا يُحْدِثُهُ هَذَا الِاخْتِلَافُ مِنَ الرِّيَاحِ وَمَا لَهَا مِنَ الْمَنَافِعِ لِلْأَحْيَاءِ وَلَا سِيَّمَا النَّاسُ.
فَمِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْكَوْنِ أَنَّ الْحَرَارَةَ تُمَدِّدُ الْأَجْسَامَ فَيَخِفُّ وَزْنُهَا، وَأَنَّ الْمَائِعَاتِ وَالْأَبْخِرَةَ وَالْغَازَاتِ مِنْهَا يَعْلُو مَا خَفَّ مِنْهَا عَلَى مَا ثَقُلَ، فَإِذَا وُضِعَ مَاءٌ وَزَيْتٌ فِي إِنَاءٍ يَكُونُ الزَّيْتُ فِي أَعْلَاهُ وَإِنْ وُضِعَ أَوَّلًا، وَالْمَاءُ فِي أَسْفَلِهِ وَإِنْ وُضِعَ آخِرًا؛ لِأَنَّ الزَّيْتَ أَخَفُّ مِنَ الْمَاءِ، وَالْمَاءُ السَّخِنُ يَكُونُ فِي أَعْلَى الْإِنَاءِ وَالْبَارِدُ فِي أَسْفَلِهِ، وَمَتَى سُخِّنَ كُلُّهُ يَكُونُ أَعْلَاهُ أَشَدَّ حَرَارَةً مِنْ أَسْفَلِهِ. فَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ إِذْ سُخِّنَ الْهَوَاءُ الْمُجَاوِرُ لِلْأَرْضِ بِحَرَارَتِهَا لَا يَلْبَثُ
أَنْ يَرْتَفِعَ فِي الْجَوِّ وَيَحِلُّ مَحَلَّهُ هَوَاءٌ أَبْرَدُ مِنْهُ لِحِفْظِ التَّوَازُنِ (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (٦٧: ٣) وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي حُدُوثِ الرِّيَاحِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَرَارَةَ الْأَرْضِ تَكُونُ عَلَى أَشُدِّهَا فِي خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، وَهُوَ وَسَطُ عَرْضِ الْأَرْضِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ، حَيْثُ تَكُونُ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ عَمُودِيَّةً فَيَكُونُ تَأْثِيرُ حَرَارَتِهَا فِي الْأَرْضِ عَلَى أَشُدِّهِ، ثُمَّ يَضْعُفُ تَأْثِيرُهَا فِي جِهَتَيِ الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ حَيْثُ تَقَعُ الْأَشِعَّةُ مَائِلَةً بِقَدْرِ هَذَا الْمَيْلِ فَتَكُونُ الْحَرَارَةُ مُعْتَدِلَةً، ثُمَّ تَكُونُ بَارِدَةً حَتَّى تَصِلَ فِي مِنْطَقَةِ الْقُطْبَيْنِ إِلَى دَرَجَةِ الْجَلِيدِ الدَّائِمِ لِقِلَّةِ مَا يُصِيبُهَا مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ مَائِلًا فِي الْأُفُقِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَهُنَالِكَ تَكُونُ سُنَّتُهَا يَوْمًا وَاحِدًا نِصْفُهُ لَيْلٌ وَنِصْفُهُ نَهَارٌ، وَلَيْلُ كُلٍّ مِنْ نَاحِيَةِ الْقُطْبَيْنِ نَهَارُ الْآخَرِ. وَتَحْدِيدُ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا مَوْضِعُهُ عِلْمُ (الْجُغْرَافِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ أَوِ الرِّيَاضِيَّةِ) وَلِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْحَرَارَةِ فِي كُلِّ قُطْرٍ أَسْبَابٌ غَيْرُ الْقُرْبِ مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَالْبُعْدِ عَنْهُ، أَهَمُّهَا الْجِبَالُ وَالْأَنْجَادُ وَالْأَغْوَارُ وَالْقُرْبُ أَوِ الْبُعْدُ مِنَ الْبِحَارِ.
لَوْلَا حَرَكَةُ الْهَوَاءِ وَحُدُوثُ الرِّيَاحِ بِمَا ذَكَرْنَا لَازْدَادَتْ حَرَارَةُ الْبِقَاعِ الْحَارَّةِ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ حَتَّى تَكُونَ مُحْرِقَةً لِكُلِّ شَيْءٍ فِيهَا، وَلَازْدَادَ قَرُّ الْبِقَاعِ الْبَارِدَةِ حَتَّى يَيْبَسَ كُلُّ حَيٍّ فِيهَا فَيَكُونُ جَلِيدًا كَمَا يَحْصُلُ لِأَسْمَاكِ الْأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ الشَّمَالِيَّةِ، الَّتِي تُجَمَّدُ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ حَتَّى إِذَا مَا عَادَتْ مِيَاهُهَا إِلَى سَيَلَانِهَا فِي فَصْلِ الصَّيْفِ لَانَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاكُ وَعَادَتْ إِلَيْهَا الْحَرَكَةُ وَسَائِرُ خَوَاصِّ الْحَيَاةِ.
بِالرِّيَاحِ يَنْتَفِعُ جَوُّ كُلٍّ مِنَ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ وَالْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، مِنْ جَوِّ الْآخَرِ بِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْمَزَايَا الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى الْمُهِمِّ مِنْهَا، فَبِارْتِفَاعِ هَوَاءِ الْمِنْطَقَةِ الِاسْتِوَائِيَّةِ الْحَارِّ لِخِفَّتِهِ وَانْخِفَاضِ هَوَاءِ الْقُطْبَيْنِ لِثِقْلِهِ يَحْدُثُ فِي كُلٍّ مِنْ
نِصْفَيْ كُرَةِ الْأَرْضِ تَيَّارَانِ هَوَائِيَّانِ بَيْنَ وَسَطِ الْأَرْضِ وَطَرَفَيْهَا - كَمَا يَحْدُثُ فِي جَوِّ كُلِّ قُطْرٍ عَلَى حِدَةٍ، فَإِنَّ الْحَرَّ يَشْتَدُّ عِنْدَنَا بِمِصْرَ فِي الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ مِنَ الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى إِلَى وَقْتِ الْأَصِيلِ أَوْ إِلَى اللَّيْلِ فَيَرْتَفِعُ وَيَأْتِي بَدَلَهُ هَوَاءٌ مُعْتَدِلٌ لَطِيفٌ مِنْ جَوِّنَا نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ - وَإِذَا اسْتَمَرَّ الْحَرُّ الشَّدِيدُ عِدَّةَ أَيَّامٍ يَخْلُفُهُ هَوَاءٌ بَارِدٌ مُعْتَدِلٌ أَيَّامًا أُخْرَى. وَهُوَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ مِنَ الْأَقْطَارِ الْمُجَاوِرَةِ لَنَا - فَكُلَّمَا كَانَتْ حَرَكَةُ الرِّيحِ شَدِيدَةً كَانَ مَدَاهَا أَبْعَدَ، وَأَقَلُّ حَرَكَةٍ فِي الْهَوَاءِ تُرِيكَ كَيْفَ يُعْدَلُ الْجَوُّ مَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَخْتَبِرَهُ فِي حُجْرَتِكَ إِذَا فَتَحْتَ نَافِذَةً فِيهَا وَأَخَذْتَ شَمْعَةً أَوْ ذُبَالَةً - فَتِيلَةً - مُوقَدَةً فَوَضَعْتَهَا فِي أَعْلَى النَّافِذَةِ مَرَّةً وَفِي أَسْفَلِهَا أُخْرَى، فَإِنَّكَ تَرَى النُّورَ فِي أَسْفَلِهَا مَائِلًا نَحْوَكَ وَفِي أَعْلَاهَا مَائِلًا عَنْكَ إِلَى خَارِجِ الْحُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ الْحَارَّ الَّذِي فِي الْحُجْرَةِ هُوَ الْخَفِيفُ فَيَخْرُجُ مِنْ أَعْلَاهَا وَيَدْخُلُ بَدَلَهُ هَوَاءُ الْجَوِّ الَّذِي هُوَ أَبْرَدُ مِنْ هَوَاءِ الْحُجْرَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْهَوَاءُ الْخَارِجِيُّ أَشَدَّ حَرَارَةً مِنْ هَوَاءِ الْبُيُوتِ فِي أَوْقَاتِ هُبُوبِ الرِّيحِ السَّمُومِ
وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يُعْرَفُ سَبَبُ اخْتِلَافِ النَّسِيمِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ فِي سَوَاحِلِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ تَارَةً مِنَ الْبَرِّ كَوَقْتِ اللَّيْلِ وَتَارَةً مِنَ الْبَحْرِ وَأَكْثَرُهُ فِي النَّهَارِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَاءَ أَقَلُّ تَأَثُّرًا بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا سِيَّمَا الرَّمْلِيَّةُ وَالْحَجَرِيَّةُ.
هَذَا وَإِنَّ لِلرِّيَاحِ فِي اتِّجَاهِهَا بَيْنَ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَالْقُطْبِ جَنُوبًا وَشَمَالًا وَفِيمَا بَيْنَهُمَا شَرْقًا وَغَرْبًا أَسْبَابًا مَعْرُوفَةً، كَمَا أَنَّ لِقُوَّةِ الرِّيَاحِ فِي الْبِحَارِ وَالْأَقْطَارِ أَوْقَاتًا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا مِنَ الْأَرْضِ، كَالرِّيَاحِ الْمَوْسِمِيَّةِ الَّتِي تَشْتَدُّ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ فِي الْمُحِيطِ الْهِنْدِيِّ حَيْثُ تَكُونُ الْبِحَارُ الشَّمَالِيَّةُ وَكَذَا الْبَحْرُ الْمُتَوَسِّطُ رَهْوًا أَوْ مُعْتَدِلَةَ الِاضْطِرَابِ تَبَعًا لِسُكُونِ الرِّيحِ وَاعْتِدَالِهَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ أَسْبَابَ حَرَكَةِ الْهَوَاءِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَكَوْنِ أَصْلِ الْمُنْتَظِمِ مِنْهَا أَرْبَعًا وَمِنْهُ مَا يُسَمُّونَهُ الرِّيَاحَ التِّجَارِيَّةَ الْمُوَاتِيَةَ وَالْمُضَادَّةَ أَوِ الْعَكْسِيَّةَ وَالرِّيَاحَ الْمَوْسِمِيَّةَ - كُلُّ تِلْكَ الْأَسْبَابِ - مَعْرُوفَةٌ لِلْبَشَرِ فِي الْجُمْلَةِ تَبَعًا لِعِلْمِهِمْ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَبِهَيْئَةِ الْأَرْضِ وَحَرَكَتِهَا وَفُصُولِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلْمَ إِجْمَالِيٌّ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ مَتَى تَهِبُّ الرِّيحُ فِي بِلَادِهِ وَمَتَى تَسْكُنُ وَمَتَى يَشْتَدُّ الْحَرُّ فِي أَيَّامِ شُهُورِ الصَّيْفِ وَالْبَرْدُ فِي أَيَّامِ شُهُورِ الشِّتَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ الرِّيَاحِ نَقْلُهَا لِمَادَّةِ اللَّقَاحِ مِنْ ذُكُورِ النَّبَاتِ
إِلَى إِنَاثِهِ، فَإِنَّ مِنَ الشَّجَرِ مَا هُوَ ذَكَرٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ أُنْثَى كَالنَّخْلِ، فَوَظِيفَةُ الْأَوَّلِ تَلْقِيحُ الْآخَرِ وَهَذَا إِنَّمَا يُثْمِرُ بِتَلْقِيحِ ذَاكَ لَهُ وَلَا يُثْمِرُ بِغَيْرِ تَلْقِيحٍ، وَإِذَا أُجِيدَ التَّلْقِيحُ كَانَ سَبَبًا لِجَوْدَةِ الثَّمَرِ وَإِلَّا فَلَا. وَمِنْهَا مَا تَشْتَمِلُ كُلُّ شَجَرَةٍ مِنْهُ عَلَى أَعْضَاءِ الذُّكُورَةِ الْمُلَقِّحَةِ وَأَعْضَاءِ الْأُنُوثَةِ الْمُثْمِرَةِ، وَالرِّيَاحُ تَنْقُلُ اللَّقَاحَ فِيمَا لَا تَتَّصِلُ ذُكُورُهُ بِإِنَاثِهِ نَقْلًا تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) (١٥: ٢٢) وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَعْلَمُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِيمَا يَظْهَرُ، حَتَّى الَّذِينَ كَانُوا يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ بِأَيْدِيهِمْ، إِذْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ اللَّقْحَ هُنَا مَجَازِيًّا بِتَشْبِيهِ تَأْثِيرِ الرِّيَاحِ فِي السَّحَابِ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ الَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْمَطَرُ بِتَأْثِيرِ اللَّقَاحِ فِي الْحَيَوَانِ وَكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحَمْلِ وَالنِّتَاجِ.
وَأَمَّا مَنَافِعُ الرِّيَاحِ فِي إِحْدَاثِ الْمَطَرِ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي جَعَلْنَا هَذَا الِاسْتِطْرَادَ مُتَمِّمًا لَهُ بِتَفْسِيرِهَا بِبَيَانِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْخَلْقِ بِهَا، وَالْمَطَرُ هُوَ الْأَصْلُ لِمِيَاهِ الْأَنْهَارِ وَالْيَنَابِيعِ وَالْآبَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ) (٣٩: ٢١) وَالْمَاءُ مُرَكَّبٌ مِنْ عُنْصُرَيِ الْأُكْسُجِينِ وَالْأَيُدْرُوجِينِ، وَيُخَالِطُ مَاءَ الْمَطَرِ مِنْهُ وَهُوَ أَنْقَاهُ بَعْضُ مَا يَحْمِلُهُ الْهَوَاءُ مِنَ الْعَنَاصِرِ مِنَ الْمَوَادِّ الْمُنْفَصِلَةِ مِنَ الْهَوَاءِ وَعَوَالِمِهَا، وَمِيَاهُ الْأَرْضِ يُخَالِطُهَا كَثِيرٌ مِنْ مَوَارِدِهَا وَبَعْضُهَا ضَارٌّ فِي الشُّرْبِ وَبَعْضُهَا نَافِعٌ وَلِذَلِكَ يَفْضُلُ بَعْضُ الْمِيَاهِ