آيات من القرآن الكريم

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ

صارت أنفسهم في حمل الأوزار كالجمل لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس قمع الهوى لحاف فتذهبهم وتحرق أنانيتهم. لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فيرفع عن ظاهرهم وباطنهم كلفة الإيمان والعمل حتى تيسر عليهم العبودية بحسن التوفيق.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٤ الى ٥٣]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨)
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
القراآت:
نَعَمْ بكسر العين حيث كان: علي. الباقون بالفتح مُؤَذِّنٌ بغير همز:
النجاري عن روش ويزيد والشموني وحمزة في الوقف. أَنْ مخففة لَعْنَةُ اللَّهِ بالرفع:
عاصم وأبو عمرو وأبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل.
الباقون: مشددة وبالنصب.
الوقوف:
حَقًّا ج لانتهاء الاستفهام. نَعَمْ ج للعطف مع الابتداء بالتأذين.
عَلَى الظَّالِمِينَ هـ لا لأن «الذين» صفتهم عِوَجاً ج لاحتمال الواو الاستئناف أو الحال كافِرُونَ هـ لأن ما بعده لم يدخل في التأذين ولم يجز أن يكون حالا حِجابٌ ج لتناهي حال الفئتين واتفاق الجملتين بِسِيماهُمْ ط يَطْمَعُونَ هـ أَصْحابِ النَّارِ لا لأن ما بعده جواب «إذا» الظَّالِمِينَ هـ تَسْتَكْبِرُونَ هـ بِرَحْمَةٍ ط لتناهي الاستفهام والأقسام

صفحة رقم 237

تَحْزَنُونَ هـ رَزَقَكُمُ اللَّهُ ط الْكافِرِينَ هـ الْحَياةُ الدُّنْيا ج للابتداء مع فاء التعقيب هذا لا «وما» مصدرية كما في كَما نَسُوا والتقدير ننساهم كنسيانهم وجحودهم يَجْحَدُونَ هـ يُؤْمِنُونَ هـ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ط بِالْحَقِّ ج لابتداء الاستفهام مع الفاء للتعقيب كُنَّا نَعْمَلُ ط يَفْتَرُونَ هـ.
التفسير:
ولما شرح وعيد الكفار وثواب الأبرار أتبعه المناظرات التي تدور بين الفريقين فقال: وَنادى وإنما ذكره بلفظ الماضي لأن المستقبل الذي يخبر الله تعالى عنه من حيث تحقق وقوعه كالماضي. والظاهر أن هذا النداء إنما يكون بعد الاستقرار في الجنة لأنه ورد بعد قوله: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها قيل: الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرض. ومع هذا البعد الشديد كيف يصح هذا النداء؟ وأجيب بأن البعد الشديد والقرب القريب عندنا ليس من موانع الإدراك، ولو سلم المنع في الشاهد فلا يسلم في الغائب. وهذا النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار لأن أصحاب الجنة وأصحاب النار يفيد العموم لكن الجمع إذا قرن بالجمع يوزع الفرد على الفرد، فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار. و «أن» في أَنْ قَدْ وَجَدْنا مفسرة أو مخففة من الثقيلة كما مر في قوله: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ [الأعراف: ٤٣] وكذا قوله: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ لأن النداء والتأذين في معنى القول. قال ابن عباس: وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا في الدنيا من الثواب حَقًّا صحيحا مطابقا للواقع فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العقاب حَقًّا والغرض من هذا الاستفهام إظهار الشاشة والاغتباط وإيقاع الحزن في قلب العدو، وفي هذه الحكاية لطف للمؤمنين وترغيب كما في سائر الأخبار. وإنما حذف المفعول في وَعَدَ رَبُّكُمْ لدلالة المفعول في وَعَدَنا عليه، ولأن كونهم مخاطبين من قبل الله تعالى بهذا الوعد يوجب مزيد التشريف وأنه لا يليق إلا بحال المؤمنين ويحتمل أن يكون الإطلاق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة قالُوا نَعَمْ قال سيبويه: نعم عدة وتصديق أي تستعمل تارة عدة وتارة تصديقا. فإذا قال:
أتعطيني؟ قال: نعم، فهو عدة. وإذا قال: قد كان كذا وكذا فقلت: نعم فقد صدقت.
والحاصل أن نعم للتصديق في الخبر والتحقيق في الاستفهام مثبتين كانا أو منفيين.
فلو قيل: قام زيد أو أقام زيد فتقول: نعم. كان معناه نعم قام زيد مصدقا أو محققا ولو قيل: ما قام زيد أو ألم يقم زيد فقلت: نعم. كان المعنى ما قام زيد مصدقا أو محققا. ومن ثم قال ابن عباس: لو قالوا في جواب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: ١٧٢] «نعم» لكان كفرا. هذا من حيث اللغة وقد يكون العرف على خلاف ذلك كقول الفقهاء: لو قيل أليس لي عليك دينار

صفحة رقم 238

فقلت: نعم التزمت بالدينار بناء على العرف الطارئ بعد الوضع. وكنانة تكسر العين من نعم. وروي عن عمر أنه سأل قوما عن شيء فقالوا: نعم فقال عمر: أما النعم فالإبل وقولوا نعم وأنكر هذه الرواية أبو عبيد فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قال ابن عباس: هو الملك صاحب الصور يأمره الله فينادي نداء يسمع أهل الجنة وأهل النار. ومعنى التأذين النداء والتصويت للإعلام ومنه الأذان لأنه إعلام بالصلاة وبوقتها. والظالمون في الآية قيل: عام للكافر والفاسق والظاهر أنهم الكفار لأن الصد عن سبيل الله أي المنع عن قبول الدين الحق بالقهر أو بالحيلة وإلقاء الشكوك والشبهات في الدلائل وهو المراد بقوله: وَيَبْغُونَها عِوَجاً وقد مر في آل عمران. والكفر بالآخرة كلها من أوصاف الكفرة وإنما قدم بالآخرة تصحيحا لفواصل الآي ولم يزد لفظة هم هنا على القياس. وأما في سورة هود فلما تقدم هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ وقال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الآية: ١٨] ولم يقل «عليهم» والقياس ذلك التبس أنهم هم أم غيرهم فكرر ليعلم أنهم هم المذكورون لا غيرهم. ثم وصف أهل الجنة والنار فقال: وَبَيْنَهُما يعني بين الجنة والنار أو بين الفريقين حِجابٌ وهو السور المذكور في قوله سبحانه: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ [الحديد: ١٣] قيل: أي حاجة إلى ضرب هذا السور والجنة فوق السموات والجحيم في أسفل سافلين. وأجيب بأن بعد أحدهما عن الآخر لا يمنع أن يكون بينهما سور وحجاب. والأعراف لغة جمع عرف بالضم وهو الرمل المرتفع ومنه عرف الفرس وعرف الديك، وكل مرتفع من الأرض عرف لأنه بسبب ارتفاعه يصير أعرف مما انخفض منه. الأعراف في الآية يفسر بالمكان تارة وبغيره أخرى. أما الذين فسروه بالمكان وهم الأكثرون فقال: إن الأعراف أعلى أعالي السور المضروب بين الجنة والنار ويروى عن ابن عباس. وعنه أيضا أن الأعراف شرف الصراط وعلى هذا التفسير فالذين هم على الأعراف من هم فيه قولان: أحدهما أنهم أقوام يكونون في الدرجة العليا من الثواب. وثانيهما: أنهم في الدرجة النازلة. وعلى الأول فيه وجوه:
فقال أبو مجلز: هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار. فقيل له: يقول الله تعالى:
وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ وأنت تقول: إنهم ملائكة. فقال: الملائكة ذكور لا إناث. ويرد عليه أن الرجل لغة يطلق على من يصلح أن يكون من نوعه أنثى بل يطلق على الذكر من بني آدم. وقيل: إنهم الأنبياء عليهم السلام أجلسهم الله تعالى على ذلك المكان العالي إظهارا لشرفهم وليكونوا مشرفين على الفريقين مطلعين على أحوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم.
وقيل: إنهم الشهداء. وعلى القول الثاني قيل: إنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم أوقفهم الله على هذه الأعراف لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار. ثم تؤل عاقبة أمرهم إلى الجنة

صفحة رقم 239

برحمة من الله وفضل قاله حذيفة وابن مسعود واختاره الفراء. وخصصه بعضهم فقال: هم قوم خرجوا إلى الغزو بغير إذن أمهاتهم فاستشهدوا فساوت معصيتهم طاعتهم وفي هذا التخصيص نظر. وقال عبد الله بن الحرث: إنهم مساكين أهل الجنة. وقال قوم: هم الفساق من أهل الصلاة يعفو الله عنهم ويسكنهم الأعراف. وأما الذين فسروه بغير المكان وهو قول الحسن والزجاج فقد قالوا: إن المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال يميزون البعض من البعض إما بالإلهام أو بتعريف الملائكة. قال الحسن: والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا. وعلى جميع التفاسير فهم يعرفون أهل الجنة وأهل النار. قال قوم: يعرفون أهل الجنة بكون وجوههم ضاحكة مستبشرة مبيضة، وأهل النار بسواد وجوههم وزرقة عيونهم. وزيف بأن هذا النوع من المعرفة عام لأهل المحشر فلا وجه لتخصيص أصحاب الأعراف بذلك.
ويمكن أن يقال: إن معرفتهم لكونهم على الأمكنة المرتفعة آمنين. وقال المحققون: إنهم كانوا يعرفون أهل الخير والإيمان والصلاة وأهل الشر والكفر والإفساد وهم كانوا في الدنيا شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية، فهو تعالى يجلسهم على الأعراف ليكونوا مطلعين على الكل يشهدون على كل أحد بما يليق به. ثم قال: وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي إنهم إذا نظروا إلى الجنة سلموا على أهلها. ثم أخبر على سبيل الاستئناف أن أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة وَهُمْ يَطْمَعُونَ كأن سائلا سأل عن حالهم أو على أنه صفة أخرى لرجال. فإن قلنا: إن أصحاب الأعراف هم الأشراف فيكون الله تعالى أخر إدخالهم الجنة ليطلعوا على أحوال أهل الجنة والنار، ثم إنه تعالى ينقلهم إلى الدرجات العلا في الجنة كما
روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «ان أهل الدرجات العلا ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدريّ في وسط السماء وإن أبا بكر وعمر منهم»
ومعنى يطمعون على هذا يتيقنون كقول إبراهيم: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: ٨٢] ولا يخفى ما في هذه العبارة من حسن الأدب. وإن قلنا أصحاب الأعراف هم الأوساط فلا إشكال لأنهم يطمعون من فضل الله وإحسانه أن ينقلهم من ذلك الموضع إلى الجنة وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قال الواحدي:
التلقاء جهة اللقاء وهي جهة المقابلة وهو في الأصل مصدر استعمل ظرفا. ولم يأت من المصادر على «تفعال» بالكسر إلا حرفان «تبيان» و «تلقاء» وإنه في الاسم كثير كتمثال وتقصار، والمعنى أنه كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى أن لا يجعلهم من زمرتهم. وفي بناء الفعل للمفعول وإن لم يقل وإذا أبصروا فائدة هي أن صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا. ثم بين أن أصحاب الأعراف ينادون رجالا من أكابر أهل النار واستغنى عن التصريح بهم بوصفهم بما لا يليق إلا بهم فقال

صفحة رقم 240

وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ المال أو كثرتكم واجتماعكم وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عن الحق وعلى الناس، وفيه تبكيت للمخاطبين وشماتة بهم، ثم زادوا في التبكيت مشيرين إلى فريق من أهل الجنة كانوا يستضعفونهم ويستقلون أحوالهم، وربما استهزؤا بهم وأنفوا من مشاركتهم في دينهم لقلة حظوظهم من الدنيا فقالوا: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ أما قوله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ إلى آخر الآية. فمن قول الله تعالى لأصحاب الأعراف، أو من قول الملائكة لهم بأمره، أو من قول بعضهم لبعض وذلك بعد أن يحبسوا ويجلسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويقولوا. قال المفسرون: الرجال هاهنا الوليد بن المغيرة وأبو جهل ابن هشام والعاص بن وائل السهمي ونظراؤهم. وكانوا يقولون إن بلالا وسلمان وعمارا وأمثالهم يدخلهم الله الجنة ويدخلنا النار كلا والله إن الله لا يفضل علينا خدمنا ورعاتنا، أقسموا أن لا يخصهم بفضل دونهم فناداهم أصحاب الأعراف.
ثم ختم المناظرات بقوله: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ قال ابن عباس: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بفرج بعد اليأس فقالوا: ربنا إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فأمر الله بالجنة فزخرفت ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقا آخر، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ طلبوا الماء أوّلا لما في بواطنهم من الاحتراق الشديد. وفي الإفاضة نوع دلالة على أن أهل الجنة أعلى مكانا من أهل النار.
قال بعض العلماء: إنهم سألوا ذلك مع جواز الحصول. وقال آخرون: بل مع اليأس لأنهم عرفوا دوام عقابهم ولكن الآيس من الشيء قد يطلبه كما يقال في المثل: الغريق يتعلق بالزبد. وإن علم أنه لا يغنيه. قوله: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قيل: أي سائر الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة. وقيل: أي من الثمار أو الطعام. والمراد: وألقوا علينا من الطعام والفاكهة كقوله:
علفتها تبنا وماء باردا فيكون في الآية دليل على نهاية عطشهم وشدّة جوعهم. ثم كأن سائلا سأل فبماذا أجابهم أهل الجنة؟ فقيل: قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ أي منعهم شراب الجنة وطعامها كما يمنع المكلف ما يحرم عليه وهذه نهاية الحسرة والخيبة أعاذنا الله منها. ثم

صفحة رقم 241

وصف هؤلاء الكافرين بأنهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ وقد مر تفسير الوصفين في أوسط سورة الأنعام. وقال ابن عباس: يريد المستهزئين المقتسمين، وجملة الأمر أن الإنسان يطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال وقوة الجاه فلشدة رغبته في هذه الأشياء يصير محجوبا عن طلب الدين غريقا في بحر الدنيا ومشتهياتها. ثم ذكر جزاءهم يوم القيامة على سبيل الحكاية فقال: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ أي نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا قاله الحسن ومجاهد والسدي والأكثرون، وقيل: أي نعاملهم معاملة من نسي بتركهم في النار كما فعلوا هم في الإعراض عن آياتنا، فسمي جزاء النسيان نسيانا كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
[الشورى: ٤٠] والحاصل أنه لا يجيب دعائهم ولا يرحم ضعفهم وذلهم. عن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة، ثم يذكرون الشراب فيستغيثون إلى أهل الجنة كما في هذه الآية فتقول أهل الجنة إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ، ويقولون لمالك ليقض علينا ربك فيجيبهم على ما قيل بعد ألف عام إنكم ماكثون، ويقولون ربنا أخرجنا منها فيجيبهم اخسؤا فيها ولا تكلمون، فعند ذلك ييأسون من كل خير ويأخذون في زفير وشهيق. وعن ابن عباس في صفة أهل الجنة: إنهم يرون الله عز وجل في كل جمعة، ولمنزل كل واحد منهم ألف باب فإذا رأوا الله تعالى دخل من كل باب ملك معهم الهدايا الشريفة. وقال: إن نخل الجنة خشبها الزمرد وقوائمها الذهب الأحمر وسعفها حلل وكسوة لأهل الجنة وثمرتها أمثال القلال أشد بياضا من الفضة وألين من الزبد وأحلى من العسل لا عجم فيها. فهذه صفة الفريقين من القرآن والحديث فتأهب لأيهما شئت والله الموفق. ولما شرح الله تعالى حال الطائفتين والمناظرات الجارية بينهم لتكون حاملا للمكلف على الحذر من مواجب النار وعلى الرغبة في مستتبعات الجنة بيّن شرف هذا الكتاب الكريم وغاية منافعه الجليلة فقال: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ ميزنا بعضه عن بعض تمييزا يهدي إلى الرشاد ويؤمن من الغلط والتخليط. وإنما فعلنا ذلك لا كيفما اتفق بل عَلى عِلْمٍ بما في كل فصل من تلك الفصول من الفوائد الكثيرة والمنافع الغزيرة حتى جاء بريئا من كل خلل وقدح ومعجزا باقيا على وجه الدهر. وقوله: وهُدىً وَرَحْمَةً حالان من منصوب فَصَّلْناهُ كما أن عَلى عِلْمٍ حال من مرفوعه. ويحتمل أن يكونا مفعولا لهما لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأن فائدته تعود إليهم، ثم لما بيّن إزاحة العلة بسبب إنزال هذا الكتاب المفصل الموجب للهداية والرحمة بين بعده حال من كذب به فقال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ والنظر هاهنا بمعنى الانتظار والتوقع، وكيف ينتظرون مع جحدهم وإنكارهم؟ الجواب لعل فيهم أقواما تشككوا

صفحة رقم 242

وتوقفوا ولهذا السبب انتظروه. وأيضا إنهم كانوا جاحدين إلا أنهم بمنزلة المنتظرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة. قال الفراء: الضمير في تأويله للكتاب أي إلا عاقبة أمره وما يؤل إليه من بيان صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد، أو عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب، والتأويل مرجع الشيء ومصيره من قولهم آل الشيء يؤل يَوْمَ يَأْتِي يريد يوم القيامة وانتصابه على أنه ظرف يَقُولُ ومعنى:
نَسُوهُ تركوا العمل به والإيمان أو أنهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسيه قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي متلبسين بما هو الحق، أو الباء للتعدية والمراد اعترافهم بثبوت الحشر والنشر وأحوال القيامة وأهوالها إذا عاينوها فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا منصوب بإضمار «أن» بعد الفاء والتقدير: هل يثبت لنا شفيع فيشفع أَوْ هل نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فنوحد الله تعالى بدلا عن الشرك ونطيعه بدلا عن المعصية. وفيه دليل على أن أهل الآخرة لا تكليف لهم خلافا للنجار ومن تبعه وإلا لم يسألوا الرد إلى دار التكليف ولم يتمنوه بل كانوا يتوبون في الحال. ثم حكم بأن ذلك التمني لا يفيدهم شيئا وأن مطلوبهم لا يكون البتة فقال: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي لا ينتفعون بالأصنام التي عبدوها في الدنيا وليس تفيدهم نصرة الأوثان التي بالغوا في نصرها.
التأويل:
نادى أهل المحبة أهل القطيعة أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا يعني
قوله: «ألا من طلبني وجدني»
فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حقا وهو
قوله: «ومن طلب غيري لم يجدني»
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ العزة والعظمة على الظالمين الذين وضعوا استعداد الطلب في غير موضع مطلوبه، الذين يصدون القلب والروح عن سبيل الله وطلبه، ويطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها وَبَيْنَهُما حِجابٌ من الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة النفسانية فلا يرى أهل النار أهل الجنة وكذا بين أهل الجنة وأهل الله- وهم أصحاب الأعراف- حجاب من أوصاف الخلقية والأخلاق الحميدة الروحانية. وسميت أعرافا لأنها موطن أهل المعرفة، وسموا رجالا لأنهم بالرجولية يتصرفون فيما سوى الله تصرف الرجال في النساء ولا يتصرف فيهم شيء منه، فالأعراف مرتبة فوق الجنان في حظائر القدس عند الرحمن يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة وأهل النيران بِسِيماهُمْ من آثار نور القلب وظلمته وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعني هنيئا لكم ما أنتم فيه من النعيم والحور والقصور. ثم أخبر عن همة أهل الأعراف فقال: لَمْ يَدْخُلُوها أي الجنة ونعيمها ولم يلتفتوا إلى غير المولى وَهُمْ يَطْمَعُونَ في الوصول إلى الحق سبحانه. وَإِذا صُرِفَتْ

صفحة رقم 243
غرائب القرآن ورغائب الفرقان
عرض الكتاب
المؤلف
نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
تحقيق
زكريا عميرات
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1416
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية