
والمكاء، والتصدية، ونحو ذلك من خصال الجاهلية.
قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ قال الزجاج: أي: نتركهم في العذاب كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا. و «ما» نسق على «كما» في موضع جر. والمعنى: وكجحدهم. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون المعنى: فاليوم نتركهم في النار على علم منا ترك ناسٍ غافلٍ كما استعملوا في الإعراض عن آياتنا وهم ذاكرون ما يستعمله من نسي وغَفَل.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٢]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ يعني القرآن. فَصَّلْناهُ أي: بينَّاه بايضاح الحق من الباطل.
وقيل: فصَّلناه فصولاً مرة بتعريف الحلال، ومرة بتعريف الحرام، ومرة بالوعد، ومرة بالوعيد، ومرة بحديث الأمم. وفي قوله تعالى: عَلى عِلْمٍ قولان: أحدهما: على علم منا بما فصَّلناه. والثاني: على علم منا بما يصلحكم مما أنزلناه فيه. وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن، وعاصم، والجحدريّ، ومعاذ القارئ: «فضّلناه» بضاد معجمة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٣]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ قال ابن عباس: تصديق ما وُعدوا في القرآن. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ وهو يوم القيامة يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أي: تركوه مِنْ قَبْلُ في الدنيا قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي بالبعث بعد الموت. قوله تعالى: أَوْ نُرَدُّ قال الزجاج: المعنى: أو هل نُردُّ. وقوله.
فَنَعْمَلَ منصوب على جواب الفاء للاستفهام.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤)
قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اختلفوا أي يوم بدأ بالخلق على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم السبت.
(٥٨٥) روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيدي، فقال:
وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ١/ ٩٩: هذا الحديث من غرائب «صحيح مسلم» وقد تكلم عليه ابن المديني والبخاري. وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة، فجعله مرفوعا، وذكره أيضا في «تفسيره» ٣/ ٤٢٢، وقال: وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا

«خلق الله عزّ وجلّ التربة يومَ السبت، وخلق الجبال فيها يومَ الأحد، وخلق الشجر يومَ الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النُّور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدواب يومَ الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل»، وهذا اختيار محمد بن إسحاق. وقال ابن الانباري: وهذا إجماع أهل العلم.
والثاني: يوم الأحد، قاله عبد الله بن سلام، وكعب، والضحاك، ومجاهد، واختاره ابن جرير الطبري، وبه يقول أهل التوراة.
والثالث: يوم الاثنين، قاله ابن إسحاق، وبهذا يقول أهل الإنجيل.
ومعنى قوله: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي: في مقدار ذلك، لأن اليوم يعرف بطلوع الشمس وغروبها، ولم تكن الشمس حينئذ. قال ابن عباس: مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة، وبه قال كعب، ومجاهد، والضحاك، ولا نعلم خلافاً في ذلك. ولو قال قائل: إنها كأيام الدنيا، كان قوله بعيداً من وجهين: أحدهما: خلاف الآثار. والثاني: أن الذي يتوهمه المتوهِّم من الإِبطاء في ستة آلاف سنة، يتوهمه في ستة أيام عند تصفح قوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «١». فان قيل:
فهلاَّ خلقها في لحظة، فانه قادر؟ فعنه خمسة أجوبة: أحدها: أنه أراد أن يوقع في كل يوم أمراً تستعظمه الملائكة ومن يشاهده، ذكره ابن الانباري. والثاني: أن التثبُّت في تمهيد ما خُلق لآدم وذرّيّته قبل
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الفتاوى» ١٧/ ٢٣٦: وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله: «خلق الله التربة يوم السبت» فهو حديث معلول قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره، وقال البخاري: الصحيح أنه موقوف على كعب الأحبار، وقد ذكر تعليله البيهقي أيضا وبينوا أنه غلط ليس مما رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم وهو مما أنكر الحذاق على مسلم إخراجه إياه وقال أيضا فيما نقله عنه القاسمي في «الفضل المبين» ص ٤٣٢- ٤٣٤: هذا الحديث طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل يحيى بن معين ومثل البخاري وغيرهما وذكر البخاري أن هذا من كلام كعب الأحبار وطائفة اعتبرت صحته مثل أبي بكر بن الأنباري، وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهما، والبيهقي وغيره وافقوا الذين ضعفوه، وهذا هو الصواب، لأنه قد ثبت بالتواتر أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وثبت أن آخر الخلق كان يوم الجمعة، فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد وهكذا عند أهل الكتاب، وعلى ذلك تدل أسماء الأيام وهذا المنقول الثابت في أحاديث وآثار أخر، ولو كان أول الخلق يوم السبت وآخره يوم الجمعة، لكان قد خلق في الأيام السبعة، وهي خلاف ما أخبر به القرآن، مع أن حذّاق علم الحديث يثبتون علة هذا الحديث في غير هذه الجهة، وأن راويه فلان غلط فيه لأمور يذكرونها، وهذا الذي يسمى معرفة علل الحديث، يكون الحديث إسناده في الظاهر جيدا، ولكن عرف من طريق آخر أن راويه غلط فرفعه وهو موقوف، أو أسنده وهو مرسل، أو دخل عليه الحديث في حديث، وهذا فن شريف وكان يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم صاحبه على ابن المديني، ثم البخاري أعلم الناس به، وكذلك الإمام أحمد، وأبو حاتم، وكذلك النسائي والدارقطني وغيرهم، وفيه مصنفات معروفة. وقال المناوي في «فيض القدير» ٣/ ٤٤٨: قال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة فمن ذلك: أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام وهذا خلاف القرآن، لأن الأرض خلقت في أربعة أيام، ثم خلقت السماوات في يومين. اه.
__________
(١) سورة يس: ٨٢.

وجوده، أبلغُ في تعظيمه عند الملائكة. والثالث: أن التعجيل أبلغ في القدرة، والتثبيت أبلغ في الحكمة، فأراد إظهار حكمته في ذلك، كما يظهر قدرته في قول: كُنْ فَيَكُونُ. والرابع: انه علّم عباده التثبُّت، فاذا تثبت من لا يزلُّ، كان ذو الزّلل أولى بالتثبُّت. والخامس: أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء، أبعد من أن يُظن أن ذلك وقع بالطبع أو بالاتفاق.
قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قال الخليل بن أحمد: العرش: السرير وكل سرير لملك يسمى عرشاً وقلما يُجمع العرش إلا في اضطرار واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام. قال أُمية بن أبي الصلت:
مجِّدوا الله فَهْو لِلمَجْدِ أهْلُ | ربُّنا في السَّمَاءِ أمْسَى كَبِيْرا |
بالبناء الأعلى الذي سبق النَّا | س وسوَّى فوق السمَّاءِ سَرِيرَا |
شَرْجَعَاً لا يَنَالُهُ نَاظِرُ العَيْ | نِ تَرَى دُوْنَه المَلائِكَ صُوْرا |
وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء؟ وبعضهم يقول: استوى بمعنى استولى «١»، ويحتج بقول الشاعر:
حتَّى اسْتَوى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ | مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقٍ |
هُمَا اسْتَويا بِفَضْلِهِما جَمِيْعاً | عَلى عَرْشِ المُلوكِ بغَيْرِ زُوْرِ |
وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ٢٨٠ عند هذه الآية: للناس في هذا المقام مقالات كثيرة، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد وإسحاق وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهي إمرارها كما جاءت، من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى اه.