
بأسمائهم فينادي الرجل أباه وأخاه فيقول: يا أبي ويا أخي قد احترقت بشدة حر جهنم أفض عليّ من الماء فيقال لهم: أجيبوهم فيقولون: إن الله حرمهما على الكافرين
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً أي باطلا وَلَعِباً أي فرحا فاللهو صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي شغلتهم بالطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال وقوة الجاه ونيل الشهوات فَالْيَوْمَ أي يوم القيامة نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا أي نتركهم في عذابهم تركا مثل تركهم العمل للقاء يومهم هذا. أو المعنى نعاملهم معاملة من نسي فنتركهم في النار لأنهم أعرضوا بآياتنا. والمراد من هذا النسيان أنه تعالى لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) أي ولكونهم منكرين بآياتنا أنها من عندنا وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة، وقد يؤدي إلى الضلال والكفر وَلَقَدْ جِئْناهُمْ أي هؤلاء الكفار بِكِتابٍ أي بقرآن أنزلناه عليك يا أكرم الرسل فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ أي ميزناه مشتملا على علم كثير وفصل كثير مختلف. وقد نظم بعضهم الأنواع التسعة في قوله:
حلال حرام محكم متشابه | بشير نذير قصة عظة مثل |
وقرئ شاذا بنصب «نرد» إما عطفا على «يشفعوا» فالمسؤول أن يكون لهم شفعاء لأحد الأمرين إما لدفع العذاب، أو للرد إلى الدنيا، وإما الدنيا، وإما بناء على أن أو بمعنى إلى أي فالمطلوب أن يكون لهم شفعا للرد إلى الدنيا فقط. وقرئ شاذة برفع «فنعمل» أي فنحن نعمل في الدنيا غير ما كنا نعمل فيها قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بذهاب الجنة ولزوم النار وَضَلَّ عَنْهُمْ ما صفحة رقم 374

كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣) أي وذهب عنهم دعوى نفع الشريك فإنهم كانوا يدعون أن الأصنام التي كانوا يعبدونها شركاء الله تعالى وشفعاؤهم عنده يوم القيامة إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. والمقصود من هذا الكلام أنه تعالى وإن كان قادرا على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنه جعل لكل شيء حدا محدودا ووقتا مقدرا فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه، فهو تعالى وإن كان قادرا على إيصال الثواب إلى المطيعين في الحال وعلى إيصال العقاب إلى المذنبين في الحال إلا أنه يؤخرهما إلى أجل معلوم مقدر. فهذا التأخير ليس لأجل أنه تعالى أهمل العباد، بل لأنه تعالى خصّ كل شيء بوقت معين لسابق مشيئته وهذا معنى قول المفسرين من أنه تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر فيها ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على ترك العمل ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي حصل له تعالى تدبير المخلوقات على ما أراد أي بعد أن خلق السموات والأرض استوى على عرش الملك والجلال وصحّ أن يقال: إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض. بمعنى أنه إنما ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره له بعد خلق السموات والأرض وذلك لأن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك يقال: ثل عرش السلطان أي انتقض ملكه وفسد وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا: استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه هذا ما قاله القفال، ونظير هذا قولهم للرجل الطويل: فلان طويل النجاد. وللرجل الذي يكثر الضيافة: فلان كثير الرماد. وللرجل الشيخ: فلان اشتعل رأسه شيبا، وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها وإنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا هنا فالمراد بذكر
الاستواء على العرش هو نفاذ القدرة وجريان المشيئة.
والواجب علينا أن نقطع بكونه تعالى منزها عن المكان والجهة، ولا نخوض في تأويل هذه الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله تعالى يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يأتي بالليل على النهار فيغطيه. واللفظ يحتمل العكس أيضا.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وابن عامر، وعاصم في رواية حفص «يغشى» بتخفيف الشين وهكذا في الرعد. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر بالتشديد وكذا في الرعد. وقرأ حميد بن قيس «يغشى الليل النهار» بفتح ياء «يغشى» ونصب «الليل» ورفع «النهار» أي يدرك النهار الليل. يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي يطلب كل من الليل والنهار الآخر طلبا سريعا فأخبر الله تعالى بما في تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة فإن بتعاقبهما يتم أمر الحياة وتكمل المنفعة والمصلحة وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أي مذللات لطلوع وغروب ومسير

ورجوع بإذنه. وقرأ ابن عامر برفع الأربعة على الابتداء والخبر. والباقون بنصب الثلاثة عطفا على «السموات»، ونصب «مسخرات» على الحال من هذه الثلاثة أَلا لَهُ الْخَلْقُ أي المخلوقات وَالْأَمْرُ أي التصرف في الكائنات وفي هذه الآية رد على من يقول من أهل الضلال إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) أي كثر خير الله مالك العالمين وتعالى بالوحدانية في الألوهية ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي متذللين ومسرين والتضرع إظهار ذل النفس. قال الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي: إن كان خائفا على نفسه من الرياء فالأولى إخفاء العمل صونا لعمله عن البطلان، وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنا عن شائبة الرياء كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء به إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) أي المجاوزين بترك هذين الأمرين التضرع والإخفاء أي إنه تعالى لا يثيبه ألبتة ولا يحسن إليه
وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل»
«١». ثم قرأ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي كإفساد النفوس بالقتل وقطع الأعضاء وإفساد الأموال بنحو الغصب، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة، وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على نحو الزنا وبسبب القذف، وإفساد العقول بنحو تناول المسكرات بَعْدَ إِصْلاحِها بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب. وقيل بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب فإن الله تعالى يمسك المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أي ذوى خوف نظرا إلى قصور أعمالكم وعدم استحقاقكم مطلوبكم، وذوى طمع نظرا إلى سعة رحمته ووفور فضله وإحسانه، وهذه الآية بيان فائدة الدعاء ومنفعته ففائدة الدعاء أحد هذين الأمرين أما الآية الأولى فهي بيان شرط صحة الدعاء وهي لا بد أن يكون الدعاء مقرونا بالتضرع وبالإخفاء والداعي لا يكون داعيا إلا إذا كان خائفا من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء وطامعا في حصول تلك الشرائط بأسرها، ومعنى قوله تعالى: خَوْفاً وَطَمَعاً أي حال كونكم جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم فلا تقطعوا أنكم أديتم حق ربكم وإن اجتهدتم إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) بالقول والفعل ومن الإحسان أن يكون الدعاء مقرونا بالخوف والطمع وكل من حصل له الإقرار والمعرفة كان من المحسنين كالصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر وكصاحب الكبيرة من أهل الصلاة وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر.

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الريح» على لفظ الواحد. والباقون «الرياح» على الجمع.
قرأ عاصم «بشرا» بضم الباء الموحدة وسكون الشين جمع بشير أي مبشرات. وقرئ بفتح الباء بمعنى باشرات. وقرأ حمزة والكسائي «نشرا» بالنون المفتوحة وسكون الشين بمعنى ناشرة للسحاب. أو بمعنى منشورة فكأن الرياح كانت مطوية فأرسلها الله منشورة بعد انطوائها- وهي كناية عن اتساعها- وقرأ ابن عامر بضم النون وإسكان الشين. وقرأ الباقون بضم النون والشين جمع نشور مثل رسل ورسول أي مفرقة من كل جانب أو طيبة لينة تنشر السحاب، والريح هواء متحرك يمنة ويسرة وهي أربعة:
الصبا: وهي الشرقية فتحرك السحاب. والدبور: وهي الغربية تفرقه. والشمال: التي تهب من تحت القطب الشمالي تجمعه. والجنوب: وهي التي تكثر إرسال المطر.
وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من ريح الجنة»
«١». حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا أي حتى إذا رفعت هذه الرياح سحابا ثقيلا بالماء سُقْناهُ أي السحاب لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أي إلى مكان لا نبات فيه لعدم الماء فَأَنْزَلْنا بِهِ أي في ذلك البلد الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بذلك الماء أو في ذلك البلد مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فالله تعالى إنما يخلق الثمرات بواسطة الماء. وقال أكثر المتكلمين: إن الثمار غير متولدة من الماء بل الله تعالى أجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقب اختلاط الماء بالتراب كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى أي كما يخلق الله تعالى النبات بواسطة الأمطار فكذلك يحيي الله الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة.
وروي أنه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطرا كالمني أربعين يوما، وأنهم يصيرون عند ذلك أحياء. وقيل: المعنى إنه تعالى كما أحيا هذا البلد بعد خرابه فأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر فكذلك يحيي الموتى ويخرجهم من الأجداث بعد أن كانوا أمواتا.
والمقصود من هذا الكلام إقامة الدلالة على أن البعث والقيامة حق لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) أي لكي تعتبروا أيها المنكرون للبعث وتتذكروا أن القادر على إحياء هذه الأرض بالأشجار المزينة بالأزهار والثمار بعد موتها قادر على أن يحيي الأجساد بعد موتها وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ أي المكان الذي ليس بسبخة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي بإرادة ربه وتيسيره كذلك المؤمن يؤدي ما أمر الله طوعا بطيبة النفس وَالَّذِي خَبُثَ أي المكان السبخة لا يَخْرُجُ أي نباته إِلَّا نَكِداً أي بتعب. وكذلك المنافق لا يؤدي ما أمر الله إلا كرها بغير طيبة النفس. وقيل: المراد أن الأرض