
وَجُعِلَتِ الرَّحْمَةُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لِلنَّيْلِ كَمَا يُقَالُ: نَالَ الثَّمَرَةَ بِمِحْجَنٍ. فَالْبَاءُ لِلْآلَةِ. أَوْ جُعِلَتِ الرَّحْمَةُ مُلَابَسَةً لِلنَّيْلِ فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالنَّيْلُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ، وَقَدْ عَمَدُوا إِلَى هَذَا الْكَلَامِ الْمُقَدَّرِ فَنَفَوْهُ فَقَالُوا: لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ.
وَهَذَا النّظم الَّذين حُكِيَ بِهِ قَسَمُهُمْ يُؤْذِنُ بِتَهَكُّمِهِمْ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ أَغْفَلَ الْمُفَسِّرُونَ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِحَسَبِ نَظْمِهَا.
وَجُمْلَةُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ قِيلَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَقُولُ جُمْلَةً إِنْشَائِيَّةً، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ لَهُمُ اللَّهُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَكَذَّبَ اللَّهُ قَسَمَكُمْ وَخَيَّبَ ظَنَّكُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لِلدُّعَاءِ لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ بِهَؤُلَاءِ هُمْ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْحِينَ قَدِ اسْتَقَرَّ فِيهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، كَمَا تَقْتَضِيهِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الْأَعْرَاف: ٤٦، ٤٧] فَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ جَعْلُ الْأَمْرِ لِلدُّعَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ الْمَعَرِّيِّ:
ابْقَ فِي نِعْمَةٍ بَقَاء الدّهور | نَافِذا لحكم فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ |
وَرُفِعَ خَوْفٌ مَعَ (لَا) لِأَنَّ أَسْمَاءَ أَجْنَاسِ الْمَعَانِي الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا أَفْرَادٌ فِي الْخَارِجِ يَسْتَوِي فِي نَفْيِهَا بِلَا الرَّفْعُ وَالْفَتْحُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْأَعْرَاف: ٣٥].
[٥٠، ٥١]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٥٠ الى ٥١]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا. صفحة رقم 147

الْقَوْلُ فِي نَادَى وَفِي أَنْ التَّفْسِيرِيَّةِ كَالْقَوْلِ فِي: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا [الْأَعْرَاف: ٤٤] الْآيَةَ. وَأَصْحَابُ النَّارِ مُرَادٌ بِهِمْ مَنْ كَانَ مِنْ مُشْرِكِي أُمَّةِ الدَّعْوَةِ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِيُوَافِقَ قَوْلَهُ بَعْدُ وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ [الْأَعْرَاف: ٥٢].
فِعْلُ الْفَيْضِ حَقِيقَتُهُ سَيَلَانُ الْمَاءِ وَانْصِبَابُهُ بِقُوَّةٍ وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الْكَثْرَةِ، وَمِنْهُ مَا
فِي الْحَدِيثِ: «وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ»
. وَيَجِيءُ مِنْهُ مَجَازٌ فِي السَّخَاءِ وَوَفْرَةِ الْعَطَاءِ، وَمِنْهُ مَا
فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ لِطَلْحَةَ: «أَنْتَ الْفَيَّاضُ»
. فَالْفَيْضُ فِي الْآيَةِ إِذَا حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَانَ أَصْحَابُ النَّارِ طَالِبِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ أَنْ يَصُبُّوا عَلَيْهِمْ مَاءً لِيَشْرَبُوا مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَطْفَ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى الْمُفْرَدِ. فَيُقَدَّرُ عَامِلٌ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ يُنَاسِبُ مَا عَدَا الْمَاءَ تَقْدِيرُهُ: أَوْ أَعْطُونَا، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ (أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ) :
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا | حَتَّى شَبَّتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا |
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يُحْمَلَ الْفَيْضُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ سِعَةُ الْعَطَاءِ وَالسَّخَاءِ، مِنَ الْمَاءِ وَالرِّزْقِ، إِذْ لَيْسَ مَعْنَى الصَّبِّ بِمُنَاسِبٍ بَلِ الْمَقْصُودُ الْإِرْسَالُ وَالتَّفَضُّلُ، وَيَكُونُ الْعَطْفُ عَطْفَ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ وَهُوَ أَصْلُ الْعَطْفِ. وَيَكُونُ سُؤْلُهُمْ مِنَ الطَّعَامِ مُمَاثِلًا لِسُؤْلِهِمْ مِنَ الْمَاءِ فِي الْكَثْرَةِ، فَيَكُونُ فِي هَذَا الْحَمْلِ صفحة رقم 148

تَعْرِيضٌ بِأَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَهْلُ سَخَاءٍ، وَتَكُونُ (مِنْ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَيَانِيَّةً لِمَعْنَى الْإِفَاضَةِ، وَيَكُونُ فِعْلُ أَفِيضُوا مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، فَتَتَعَلَّقُ مِنْ بِفِعْلِ أَفِيضُوا.
وَالرِّزْقُ مُرَادٌ بِهِ الطَّعَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ [الْبَقَرَة: ٢٥] الْآيَةَ.
وَضَمِيرُ قالُوا لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ جَوَابُهُمْ عَنْ سُؤَالِ أَصْحَابِ النَّارِ، وَلِذَلِكَ فَصَلَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ.
وَالتَّحْرِيمُ فِي قَوْلِهِ: حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الْمَنْعُ كَقَوْلِ عَنْتَرَةَ:
حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ وَقَوْلِهِ: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٥].
وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ الْمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ عُرِفُوا فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا، وَعُرِفُوا بِإِنْكَارِ لِقَاءِ يَوْمِ الْحَشْرِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٠].
وَظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- الْحَياةُ الدُّنْيا هُوَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَكُونُ: اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً إِلَخْ صِفَةً لِلْكَافِرِينَ.
وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً مُبْتَدَأً عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يُفْضِي إِلَى جَعْلِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ دَاخِلَةً عَلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَإِ لِتَشْبِيهِ اسْمِ الْمَوْصُولِ بِأَسْمَاءِ الشَّرْطِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَاللَّذَانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النِّسَاء: ١٦] وَقَدْ جُعِلَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً- إِلَى قَوْلِهِ- وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ آيَةً وَاحِدَةً فِي تَرْقِيمِ أَعْدَادِ آيِ الْمَصَاحِفِ وَلَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ.
فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ.
اعْتِرَاضٌ حُكِيَ بِهِ كَلَامٌ يُعْلَنُ بِهِ، مِنْ جَانِبٍ اللَّهِ تَعَالَى، يَسْمَعُهُ الْفَرِيقَانِ. وَتَغْيِيرُ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ هُوَ الْقَرِينَةُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهَذَا الْأَلْيَقُ بِمَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ جَعْلِ قَوْلِهِ:
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً إِلَى آخِرِهِ حِكَايَةً لِكَلَامِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ.
وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً الْآيَةَ، وَهَذَا الْعَطْفُ بِالْفَاءِ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسَمَّى بِعَطْفِ التَّلْقِينِ الْمُمَثَّلِ لَهُ غَالِبًا بِمَعْطُوفٍ بِالْوَاوِ فَهُوَ عَطْفُ كَلَامِ. مُتَكَلِّمٍ عَلَى كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ آخَرَ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: قَالَ اللَّهُ فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ، فَحَذَفَ فِعْلَ الْقَوْلِ، وَهَذَا تَصْدِيقٌ لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلُوا قَوْلَهُ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى تَكُونُ
الْفَاءُ عِنْدَهُمْ تَفْرِيعًا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ.
وَالنِّسْيَانُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِهْمَالِ وَالتَّرْكِ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ النِّسْيَانِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي الدُّنْيَا نَاسِينَ لِقَاءَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَدْ كَانُوا يَذْكُرُونَهُ وَيَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ حَدِيثَ مَنْ لَا يُصَدِّقُ بِوُقُوعِهِ.
وَتَعْلِيقُ الظَّرْفِ بِفِعْلِ: نَنْساهُمْ لِإِظْهَارِ أَنَّ حِرْمَانَهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ كَانَ فِي أَشَدِّ أَوْقَاتِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهَا. فَكَانَ لِذِكْرِ الْيَوْمِ أَثَرٌ فِي إِثَارَةِ تَحَسُّرِهِمْ وَنَدَامَتِهِمْ، وَذَلِكَ عَذَابٌ نَفْسَانِيٌّ.