آيات من القرآن الكريم

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ

اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ»
بل بالعفة والستر والصلاح وكل ما هو من شأن التقوى «أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ» أيها الكفرة «ما لا تَعْلَمُونَ ٢٨» حقيقة استفهام انكار جيء به للتوبيخ والتقريع «قُلْ» يا رسولي «أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» العدل وكل ما هو مستقيم حسن طاهر فكيف تسندون له الأمر بالفحشاء ثم قال جل شأنه على طريق عطف الأمر على الخير وهو جملة «قُلْ أَمَرَ رَبِّي» أي «و» قل لهم «أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ» لأن الكلام فيه حذف وإضمار وأمثاله في القرآن كثير وهو إيجاز غير مخل وحاشا كلام الله من الخلل والنقص والزيادة الكائنة في كلام البشر بسبب الإيجاز والإطناب. وإنما يزيده براعة وبلاغة أي توجهوا اليه «عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» تقصدون فيه عبادة ربكم «وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» لا لغيره بالاستقامة الكاملة واعلموا أيها الناس أنه تعالى «كَما بَدَأَكُمْ» من العدم أول مرة فعدتم أحياء في هذه الدنيا «تَعُودُونَ ٢٩» اليه يوم القيامة أحياء كاملي الخلق لأنه تعالى يعيد لكم ما طرأ عليكم من النقص في الدنيا ويجمع كل أجزائكم المتفرقة بعد الموت وتحشرون اليه المؤمن مؤمنا والكافر كافرا، يؤيد هذا قوله تعالى «فَرِيقاً هَدى» وهم الذين خلقوا في الأزل مؤمنين لاتباعهم طريق الحق الذي خلقوا اليه «وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ» وهم الكافرون في سابق علمه وذلك «إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» باختيارهم
ورضاهم وإيثارهم عليها «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ٣٠» بفعلهم ذلك مع ما هم عليه من الضلال، كلا ان زعمهم هذا باطل روى مسلم عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم (السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه) وقوله (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) فالمخلوقون للجنة لا بد وأن يختم لهم بصالح العمل وان فعلوا ما فعلوا من الشر بتوفيق الله والمخلوقون للنار لا بد وأن يختم لهم بسيئة وان عملوا ما عملوا من الخير يخذلان الله ايّاهم.
قال تعالى «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» من اللباس النظيف الحسن والطيب والدهن وترجيل الشعر وتنظيف البراجم والأسنان لأن الصلاة مناجاة للرب فيستحب لمن يقف أمام ربه

صفحة رقم 342

أن يتزين له بكل انواع الزينة المباحة شرعا ليكون طاهر البدن والثوب والمكان طاهر القلب، فلا يليق بالمسلم إذا دعي لوليمة أو مقابلة ذي جاه أن يتزين له بما يقدر عليه حتى أن بعضهم ليستعير أو يستأجر ما يتزين به، وإذا قام بين يدي ربه قام بثياب مهنته حتى انه يؤذي جاره في المسجد من كراهة رائحته بثيابه الرثة الدنسة وجسمه أيضا لتراكم وسخه فيكون مأزورا لا مأجورا، ولهذه الحكمة كره الشارع دخول المسجد لآكل الثوم والبصل، لما يترتب عليه من أذيه من بجانبه برائحتهما الكريهة، وان ما هو مثلهما بالرائحة يكون حكمه حكمهما، حتى انه وقع لشيخنا الورع الشيخ حسين الأزهري مفتي الفرات ومدرسها ان نقض تحريمته في الصلاة لوقوف شارب تبغ بجانبه وانتشار الرائحة الكريهة منه، لأن بعضهم تكون له رائحة بحيث لا تقدر أن تصبر عليها مع أنه لا يجوز قطع الصلاة إلا لأسباب معينة، كخشية وقوع أعمى أو صغير في حفرة أو رؤية حية أو عقرب قرب غافل أو صغير أو مرور من تحت جدار متداع أو نداء والد لولده لا يعلم أنه في الصلاة، وإنه رحمه الله قطعها خوف فوات الخشوع المطلوب في الصلاة، لأن انشغاله برائحة كريهة تسبب ضياعه، والسرعة في إنهاء الصلاة قد توجب نقصا فيها. وليس المراد في هذه الآية الصلاة المكتوبة لأنها لم تفرض بعد وإنما أراد الدخول لكل مسجد يقف فيه العبد بين يدي ربه لصلاة أو عبادة أو اعتكاف أو طواف بالمسجد الحرام، قال ابن عباس كانت المرأة تطوف بالبيت عارية تقول من يعيرني تطوافا اي خرقة تجعلها على عورتها ثم تقول:

اليوم يبدو كله أو بعضه وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية، أخرجه مسلم. وقال مجاهد كان حي من اهل اليمن إذا قدم حاجا يقول لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب عصيت به ربي فإن قدر على أن يستعير مئزرا فعل وإلا طاف عاريا فنزلت وسيأتي زيادة توضيح لهذا البحث في الآية ١٩٧ فما بعدها من البقرة في ج ٣ إن شاء الله. وهذا الأمر للوجوب وفيه دليل وجوب ستر العورة بما يواريها من الثياب الطاهرة.

صفحة رقم 343

مطلب في الأكل المسنون وذم الشبع وبعض وصايا الله لعباده فيه:
قال تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا» مما أحل لكم من أنواع الطعام وأجناسه والشراب وأصنافه، قال الكلبي كانت بنو عامر في ايام حجهم لا تأكل دسما تعظيما، فقال المسلمون نحن أحق بتعظيم الله وبيته منهم يا رسول الله فأولى أن لا نأكل، فأنزل الله هذه الآية. فلما أباح الله لهم ذلك نهاهم عما من شأنه أن يكون منهم فقال: «وَلا تُسْرِفُوا» فيما أحله الله لكم من طيبات الأطعمة والأشربة بأن تتجاوزوا حدّ الشبع وتفرطوا في تعدد أوقاته وأنواعه، فإن الأكل في اليوم مرتين من الإسراف المذموم المنهي عنه شرعا، ومن الإسراف بل والشره أن يأكل كلما يشتهي، اخرج ابو نعيم عن عمر بن الخطاب قال إياكم والبطنة من الطعام والشراب فأنهما مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فانه أصلح للجسد وابعد من السرف وان الله يبغض الحبر السمين (لأنه لو كان يتعظ فيما علم لأضعفه الخوف من الله) ولهذا قالوا ان القاضي إذا سمن بعد توليه القضاء فهو دليل على عدم اهتمامه بأمور الناس، وان الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه ومن وصايا أطباء اليابان لا تأكل اللحم إلا مرة في اليوم ولا تشرب مسكرا ولا تدخن واكتف بقليل من القهوة والشاي واستحم يوميا بالماء الساخن وارتد الصوف الخفيف صيفا وشتاء ونم باكرا وأفق باكرا لتنعش بالهواء الطلق ودع غرفتك مفتوحة ليلا واجتنب المؤثرات العقلية واحرص على الراحة يوما في الأسبوع وتزوج البكر وخالط العلماء. وأخرج ابن ماجه والبيهقي عن أنس قال قال صلّى الله عليه وسلم ان من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت. واخرج البيهقي عن عائشة قالت رآني صلّى الله عليه وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين، فقال يا عائشة أما تحبين ان يكون لك شغل إلا في جوفك، الأكل في اليوم مرتين من الإسراف. وعليه فيكون الأكل الشرعي مرة في الصباح ومرة في المساء، قال تعالى: من حق اهل الجنة (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الآية ٦٢ من سورة مريم الآتية فإذا أكل نهارا مرتين وأكل مساء اخرى كان مسرفا، ولا شك ان الاكل يختلف

صفحة رقم 344

باختلاف الأشخاص والأمكنة. واخرج ابن ابي شيبة عن ابن عباس انه قال: كل ما شئت والبس ما شئت ما اخطأتك خصلتان سرف ومخيله. وهذا لا ينافي ما ذكره الثعلبي وغيره من الآدباء بأنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما تشتهيه الناس وهو عندي مطلوب لأن ما يأكله لا يطلع عليه أحد وما يلبسه يظهر للناس وهو من الاقتصاد بمكان. ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني فقال يوما لعلي بن واقد: أليس في كتابكم من علم الطب شىء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان؟ فقال له جمع الله الطب كله في نصف آية، قال ما هي؟ قال قال تعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) فقال وهل يؤثر عن رسولكم شيء في الطب؟ فقال قد جمع الطب كله في ألفاظ يسيرة، قال وما هي؟ قال قال (المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء وأعط كل بدن ما عودته.) فقال:
النصراني: والله ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا. - من الكشاف- قال ومن النصائح الطبية ما قاله الحارث بن كلدة من حكماء العرب الأقدمين: لا تتزوج من النساء إلا شابة، ولا تأكل الفاكهة إلا في أوان نضجها، ولا يتعالج المريض ما احتمل بدنه الداء. هذا وقال تعالى «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ٣١» في الأكل والشرب واللبس وغيره، والذي لا يحبه الله يبغضه فعلينا ان نجتنب ما يكرهه ربنا. واعلم ان هذه الآية والتي قبلها لا تتعارضان مع الآية ٦ من سورة التكاثر المارة لأنه ليس كل شيء يسأل عنه المرء يوم القيمة يعاقب عليه فضلا عن تلك وردت عامة وهاتين جاءتا بمعرض الرد على الكفار الذين يحللون ويحرمون من تلقاء أنفسهم. الا فلينتبه العاقل ويجتنب الإسراف المنافي لرضاء الله والويل كل الويل لمن لا يرضي الله. ويا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المتعجرفين عما أحل الله لهم من الطيبات الزاعمين تحريمها او كراهتها في بعض الأوقات والأمكنة والأحوال «مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ» من الأرض وأنزلها من السماء لنفعهم من حيوان ونبات ومعدن وما يعمل ويحصل منها «وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» الذي يستلذ به الإنسان، وفي هذه الآية دليل على ان جميع المطعومات والمشروبات

صفحة رقم 345

والملبوسات حلال طيب، تؤيدها الآية ٢٩ من البقرة وهي جملة (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) لان الأصل في جميع الأشياء الحل والإباحة الا ان الشارع خصص هذا العام والتحليل والتحريم من خصائص الله ورسوله ليس لأحد من البشر مهما علت رتبته في العلم والمعرفة وما سمت فطنته في الحذق والفهم وما رفعت مكانته في الإمارة والسلطة ان يحل شيئا مما حرم الله ورسوله او يحرم شيئا مما أحلاه، والآية تتناول جميع اصناف الزينة ولولا ورود النص بالذهب والفضة والحرير بحديث رسول الله والخنزير والميتة والدم والخمر والميتة في كتاب الله، لدخلت في هذه الآية لعموم نصّها المؤيد بقوله جل قوله «قُلْ» يا محمد لأمتك كل ما يستلذّ ويشتهى عدا ما ورد النهي فيه هو من الطيبات التي «هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» غير خالصة لهم وحدهم لأن الكفار والفساق يشاركونهم فيها جميعها ويزيدون عليهم ولكنها «خالِصَةً لهم» أي للمؤمنين وحدهم «يَوْمَ الْقِيامَةِ» في جنة الله لا يشاركهم فيها أحد من أولئك الكفرة وهي لهم خالية من الكدر والتنغيص والأذى بخلاف شهوات الدنيا فمحشوة بذلك مملوءة من الأكدار، وإيجاد هذه الطيبات في الأصل للمؤمنين في الدنيا ايضا وصارت للكافرين بالتبعية ولكنها لم تصف للمؤمنين وفيه قيل:

جبلت على كدر وأنت تريدها صفوا من الأقذاء والأكدار
وخالصة بالرفع على انها خبر لمبتدأ محذوف وقرأت بالنصب على انها حال من الضمير الذي في الظرف الذي هو الخبر أي هي ثابتة الذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها يوم القيمة والأول أوجه من حيث الإعراب والقراءة بالمصاحف على النصب لذلك كان اولى من الرفع قال تعالى «كَذلِكَ» أي مثل هذا التفصيل البديع «نُفَصِّلُ الْآياتِ» ونوضّحها ونبيّنها «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٣٢» حقائقها وخصائصها ويعتقدون ان الله وحده المحلل والمحرم لا غيره «قُلْ» يا حبيبي لهؤلاء الكفار «إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ» كل ما تزايد قبحه فهو فاحش «ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ» سرها وجهرها «وَالْإِثْمَ» من كل ما يؤثم الإنسان فعله

صفحة رقم 346

في جميع ما يطلق عليه اسم الذنب، وقد ذكر التعميم بعد التخصيص لئلا يتوهم ان التحريم مقصور على الكبائر الفاحشة من قول أو فعل لكنها صرفت في العرف الآن الى الزنى واللواطة فاذا أطلقت انصرفت إليهما والا ففي الأصل لا تقتصر عليهما.
مطلب معنى الإثم والبغي:
وأما ما جرى عليه بعض المفسرين من أن الإثم هو الخمر فلا دليل عليه، بل لا يصح لأن العرب لم تسمها بهذا الاسم في الجاهلية ولا في الإسلام. نعم هي داخلة تحت الإثم لأنها سببه، ولأن مرتكبها آثم، إلا أن هذا لا يصرف معنى الإثم إليها فتفسيرها بالخمر خطأ بين بل غلط واضح، وليعلم أن الخمر حرمت بالمدينة بعد واقعة أحد ولم يقل أحد بأن هذه الآية مدنية لينصرف معناها إليه ولو كان مراد الله في هذه تحريم الخمر لما وردت الآيات بعدها بالتحريم تدريجيا باسمه الصريح المتعارف، إذ لو كان المراد بكلمة الإثم لكان المنهي عنه صريحا وكان بتا، ولا داعي حينئذ لتحريمه بعد ورود الآيات متتابعة أولا في النهي عن تعاطيه تعريضا في الآية ٦٧ من النحل في ج ٢، ثم النهي عن تعاطيه في الآية ٢١٩ من البقرة بسبب نفعيته وائمه، ثم في الصلاة في الآية ٤٢ من النساء ج ٣، ثم في الكف عنه جزما في جميع الأحوال في الآية ٩٠ من المائدة أيضا في ج ٣، وهذا من مقاصد اقدامي على هذا التفسير بالنمط الذي سرت فيه ليعلم غير العالم هذا وشبهه مما هو مقدم أو مؤخر، مطلق أو مقيد، عام أو خاص، ناسخ أو منسوخ بالمعنى المراد فيهما والله الهادي الى سواء السبيل. هذا، وما استدل به بعض المفسرين من قول القائل:

نهانا رسول الله أن نقرب الزنى وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا
لا يكون حجة لأن الخمر بعد أن حرمت صارت اثما، ولأنها غير معروفة عندهم بهذا الاسم وقد خصها لينصرف المعنى إليها وكذلك الاستدلال بقول الآخر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول
لأنه يتأثم به وقد نعته لينصر معناه عليه وعلى هذا جرى ابن الفارض رحمه الله بقوله:

صفحة رقم 347

لا يكون دليلا على التسمية قبل التحريم وكله جار مجرى المجاز لأنها صارت إثما كبيرا بعد التحريم أما قبله فلا «وَالْبَغْيَ» أي الظلم والاستطالة على الناس وانما أفرده بالذكر مع انه داخل تحت الفواحش والإثم لعظم ارتكابه مبالغة في الزجر عن الأقدام عليه، ولو خامة عاقبته يوشك أن لا يمهل الله فاعله الى الآخرة بل يعجل عقوبته في الدنيا وفيه قيل:
لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا... جنوده ضاق عنها السهل والجبل
وقال الآخر:
ان يعد ذو بغي عليك فخله... وارقب زمانا لانتقام باغي
واحذر من البغي الوخيم فلو بغى... جبل على جبل لدك الباغي
«بِغَيْرِ الْحَقِّ» متعلق بالبغي لأنه لا يكون الا بغير الحق، فإذا كان الاعتداء بحق لا يسمى بغيا بل مقابلة وهي جائزة، أما لو بغى عليك بضربة يد فقابلته بالسيف فقد بغيث عليه، ولو شتمك بلسانه فشتمته وضربته فقد بغيت عليه لأن الله أباح المقابلة بالمثل، راجع الآية ١٩٤ من البقرة في ج ٣. وقد قال تعالى في الآية ١٩٠ منها: (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.) ومن لا يحبه الله يبغضه والأحسن عدم المقابلة والسكوت قال ابو نواس:
خل جنبيك لرام... وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير... لك من داء الكلام
ربما استفتحت بالنطق... مغاليق الحمام
انما السالم من أل... نجم فاه بلجام
وقال تعالى: (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) الآية ١٣٤ من آل عمران في ج ٢، ولهذا البحث صلة في الآية ٣٧ فما بعدها من سورة الشورى في ج ٢ فراجعه ففيه الكفاية، قال تعالى «وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ» حرم الإشراك لأنه مضاهاة للربوبية وهو أعظم المحرمات لأنه كفر، أما بقية المحرمات إذا لم يستحلها مقترفها فلا يكون كافرا بل عاصيا، أي تعبدوا شيئا «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ

صفحة رقم 348

سُلْطاناً» حجة أو برهانا بأن يشرك به أو معه غيره من مكوناته، وهذا على نفي الإنزال إذ لا يجوز أن ينزل سلطانا على ذلك، وهو تهكم بالمشركين لأنه لما امتنع حصول الحجة بالشرك وجب أن يكون قولهم به باطلا مطلقا «وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ٣٣» من الكذب والبهتان في اتخاذ الشريك والتحليل والتحريم والولد والصاحبة تعالى الله عن ذلك كله، أي كما حرم ما هو في صدد الآية كذلك حرم هذا أيضا لأنه افتراء محض على الله، فالذي حرم عليكم هو الحرام، وما حلله لكم هو الحلال لا مجال لكم في الخوض في ذلك البتة، قال تعالى «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» تلبث فيه في هذه الدنيا مع نبيها يأمرهم وينهاهم خلاله حتى إذا أصروا على كفرهم أمهلهم ليرجعوا «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» المقدر لتعذيبهم ولم ينتهوا أخذهم حالا إذ «لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً» عنه بل ولا لحظة لأن المراد بالساعة هنا مطلق الزمن «وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ٢٤» ساعة حذف من الثاني بدلالة الأول كما في الآية ١٧ من سورة ق المارة.
مطلب في الساعة بقسميها:
واعلم أن الساعة في عرف المنجمين تنقسم إلى مستوية وتسمى فلكية، وهو زمان مقداره خمس عشرة درجة أبدا وكل درجة أربع دقائق، وإلى معوجة وتسمى زمانية، وهي زمان مقدر بنصف سدس النهار أو الليل أبدا، ويستعمل الأولى أهل الحساب غالبا، والثانية الفقهاء واهل الكلام ونحوهم، وجملة الليل والنهار عندهم أربع وعشرون ساعة أبدا سواء كانت مستوية أو معوجة، إلا أن كل من الليل والنهار لا يزيد على اثنى عشر ساعة معوجة أبدا، ولهذا يطولان ويقصران، وقد تتساوى الساعة المستوية والساعة المعوجة عند استواء الليل والنهار، ونظير هذه الآية الجملة الأخيرة من الآية ٢٨ من سورة يونس في ج ٢، وفيها وعيد بإنزال العذاب على قريش إذا لم يؤمنوا بنبيهم وينتهوا عما نهاهم عنه، وتهديد عظيم بسوء العاقبة إذا أصروا، فيكون شأنهم شأن كل أمّة كذبت نبيّها بعذاب الاستئصال، وكان نزولها حين سألوا حضرة الرسول إنزال عليه الصلاة والسلام العذاب الذي يهددهم به فأخبرهم فيها

صفحة رقم 349

أن له أجلا لا يتعداء لحظة إذا سألتم استعجاله أو تأخيره مهما استغثتم به منه «يا بَنِي آدَمَ إِمَّا» هي إن الشرطية ضمت إليها ما فأدغمت لتأكيد الشرط ولذا لزمت الفعل الذي يليه النون الثقيلة والخفيفة مثل «يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ» من جنسكم لا من الملائكة «يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي» من أوامر ونواهي وقصص وأمثال، وجواب الشرط «فَمَنِ اتَّقى» ما نهي عنه واعتبر بما وقع على الأولين «وَأَصْلَحَ» نفسه باتباع ما أمر به واتعظ بما قص عليه «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» في الآخرة مما يخافه المجرمون «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ٣٥» على ما فاتهم في الدنيا، لأنهم يرون من نعيم الآخرة الدائم ما ينسيهم تلك الزخارف الدنيوية المموهة الفانية المشوبة بالأكدار المصاحبة للهم والغم المتناولة بالكد والتعب، وهي إن خلت من حرام فلا تخلو من مشبوه كما لا يخلو أهلها من كذب وكبر والله تعالى يقول «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها» ولم يؤمنوا برسلنا استعظاما عليهم وماتوا على كفرهم «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم وهذا شأنهم وديدنهم هم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ٣٥» لا يخرجون منها أبدا «فَمَنْ أَظْلَمُ» واشنع وأفظع ظلما «مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» أي تقول عليه ما لم يقله اختلاقا من لدنه من تحريم ما لم يحرم «أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» المنزلة على رسوله المصرّحة بعدم الشريك والمثيل والولد والصاحبة له جلّ شأنه «أُولئِكَ» الذين هذه سجيتهم «يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ» اللوح المحفوظ المدون فيه كل ما عملوا وهو حظهم مما قدر عليهم فيه وما قدر لهم في الدنيا من الرزق والعمر والبلاء «حَتَّى إِذا» فرغ ما لهم عنده من ذلك كله حتى الهواء «جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ» فيسألونهم سؤال توبيخ وتبكيت لا استعلام «قالُوا» لهم رسل الموت «أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من الآلهة التي كنتم تعبدونها وتلجأون إليها في مهامّكم وعند الشدة، ادعوهم الآن ليدفعوا عنكم الموت «قالُوا» المتوفون المكذبون «ضَلُّوا عَنَّا» غابوا وتركونا عند أشد حاجتنا إليهم وقد تبين لنا الآن عدم نفعهم وإنا كنا مغرورين بهم ولا ندري أين هم الآن، وذلك بعد أن استعانوا بهم فلم يردوا

صفحة رقم 350

عليهم لذلك قال تعالى «وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ٣٧» جاحدين وحدانية الله ونبوة رسله وما أنزل عليهم من الكتب، واعترافهم هذا تحسر على ما فات، وهذا السؤال والجواب واجب الإيمان به بمقتضى ظاهر القرآن وانه واقع لا محالة، وعدم سماعنا له لا يكون حجة لعدم وقوعه لأن الله قادر على ان يسمع وان لا يسمع ولا تعارض بين ما في هذه الآية وآية «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» ٢٣ من الأنعام في ج ٢ لأن مواقف القيامة متعددة كما مر في الآية ٦٠ من ص وما يرشدك لغيرها فيها وهذا غير سؤال القبر الذي يجب الاعتقاد به وهو لا يسمع ايضا أما سؤال يوم القيمة فيكون على ملأ الأشهاد ولا تردد فيه، ومنه آية الأنعام المارة ولهذا قلنا لا تعارض بينهما. هذا والطوائف مختلفة والأحوال شتى وان ما مشى عليه بعض المفسرين بأن هذا السؤال يكون يوم القيمة للكافرين من قبل ملائكة العذاب وحكمه حكم آية الأنعام ينافيه ظاهر الآية المفسرة الدالة على وقوعه في الموت، وعلى هذا يكون هنا سؤال عند الموت
وآخر في القبر لا يسمعان والثالث في البعث في جميع مواقف القيمة مسموع. تدبر و «قالَ» تعالى لأولئك الذين شهدوا على أنفسهم بالكفر «ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ» أي بيتها وهي التي «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» قدمهم لمزيد شرهم ولكون شرهم عدوانا «وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ» جزاء اشراككم وبهتكم في الدنيا فهي مأواكم ومقركم «كُلَّما دَخَلَتْ» النار فهم «أُمَّةٌ» جماعة أو ملة واحدة «لَعَنَتْ أُخْتَها» من اهل ملتها التي أضلتها فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها وتلعن المتبوعة التابعة حيث زادت في عذابها «حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها» تلاحقوا واجتمعوا جميعا الأولون والآخرون «قالَتْ أُخْراهُمْ» الأتباع «لِأُولاهُمْ» المتبوعين من القادة والرؤساء «رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا» في الدنيا عن الهدى وسنّوا لنا طرق الردى وأمرونا باتباعهم «فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» لأنهم ضلوا وأضلوا، والضعف في اللغة ما زاد على المثل غير مقيد بمثلين أو أكثر فأوله المثل وأكثره غير محصور لذلك يطلق على مثل الشيء وتضعيفه عند الإطلاق، فاذا أضيف لعدد اقتضى ذلك العدد

صفحة رقم 351

مثله فاذا قلت ضعف عشرة او ضعف مائة فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف «قالَ» تعالى «لِكُلٍّ» منهم ومنكم «ضِعْفٌ» اما هم فلضلالهم وإضلالهم، وأما أنتم فلضلالكم واتخاذكم المتبوعين أولياء تأتمرون بأمرهم وتنتهون بنهيهم. وهذا الضعف كالأول غير مقيد بالمثل فيشمل أضعافا كثيرة لأنه لم يضعف لعدد، تدبّر.
«وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ٣٨» ما أعد الله لكل منكم من العذاب لان كلا منكم مشغول بما هو فيه- وقرىء لا يعلمون بالياء-.
مطلب مواقف يوم القيامة وإمكان القدرة:
وعليه تكون هذه الجملة منفصلة عما قبلها بسبب الالتفات في الخطاب الى البغية «وَقالَتْ أُولاهُمْ» المتقدمون عليهم في المنزلة «لِأُخْراهُمْ» المتأخرين عنهم مكانة بحسب الدنيا أي قالت الأشراف للسفلة «فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ» لأنكم كفرتم فما كفرنا فنحن وأنتم متساوون في العذاب وسببه، وهذا مرتب على قوله تعالى على وجه السبب «لِكُلٍّ ضِعْفٌ» فهو يؤذن بالمساواة، والفاء جواب الشرط أي إذا كان كما قال تعالى وهو كما قال فلا فضل لكم علينا فلماذا تدعون علينا وبعد ان يزجوا فى النار ويزداد تصايحهم فيها يقول لهم تعالى قوله «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ٣٩» في الدنيا من الأعمال الخبيثة، فيسكتون بعد سماع كلام الله الذي لا يبدل وهو القائل (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على عظمتنا وقدرتنا الموضحة لأحكام ديننا المبلغة على لسان انبيائنا «وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها» فلم يعتنوا بها ويلتفتوا إليها في الدنيا «لا تُفَتَّحُ لَهُمْ» الآن كما هو الحال عند موتهم «أَبْوابُ السَّماءِ» أي لا يسمع دعاؤهم حين يستغيثون بنا في هذا الموقف كما لا يصعد لهم عمل في الدنيا ولا ترفع أرواحهم إليها إذا ماتوا لأن كلامهم وأعمالهم وأرواحهم خبيثة فهم محرومون من بركة السماء وغيرها ورحمة خالقها إذ لا يصعد الى الله الا الكلم الطيب والعمل الصالح والأرواح الطاهرة «وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» هؤلاء المستكبرون عنا في حياتهم الدنيا «حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ» يدخل «فِي سَمِّ الْخِياطِ» ومن المعلوم عدم إمكان دخوله أي لا يدخلون ابدا، وهذا من

صفحة رقم 352
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
وقالوا شربت الإثم كلا وإنما شربت التي في تركها عندي الإثم