
تقرير يتضمن التوبيخ، وقوله تِلْكُمَا يؤيد بحسب ظاهر اللفظ أنه إنما أشار إلى شخص شجرة، وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ إشارة إلى الآية التي في سورة طه في قوله فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه: ١١٧].
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من يجعل النسيان على بابه، وقرأ أبيّ بن كعب «ألم تنهيا عن تلكما الشجرة وقيل لكما»، وقولهما رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا اعتراف من آدم وحواء عليهما السلام وطلب للتوبة والستر والتغمد بالرحمة، فطلب آدم هذا وطلب إبليس النظرة ولم يطلب التوبة فوكل إلى رأيه، قال الضحاك هذه الآية هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه.
قوله عز وجل:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)
المخاطبة بقوله: اهْبِطُوا قال أبو صالح والسدي والطبري وغيرهم: هي لآدم وحواء وإبليس والحية، وقالت فرقة: هي مخاطبة لآدم وذريته وإبليس وذريته.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لعدمهم في ذلك الوقت، فإن قيل خاطبهم وأمرهم بشرط الوجود فذلك يبعد في هذه النازلة لأن الأمر بشرط الوجود إنما يصح إذا ترتب على المأمور بعد وجوده وصح معناه عليه كالصلاة والصوم ونحو ذلك، وأما هنا فإن معنى الهبوط لا يتصور في بني آدم بعد وجودهم ولا يتعلق بهم من الأمر به شيء، وأما قوله في آية أخرى اهْبِطا [طه: ١٢٣] فهي مخاطبة لآدم وإبليس بدليل بيانه العداوة بينهما، وعدو فرد بمعنى الجمع، تقول قوم عدو وقوم صديق. ومنه قول الشاعر:
لعمري لئن كنتم على النأي والغنى | بكم مثل ما بي إنكم لصديق |
قال القاضي أبو محمد: وإنما يعرض في أمرهن حديث الفتى في غزوة الخندق، وقول النبي عليه السلام: إن جنا بالمدينة قد أسلموا فمن رأى من هذه الحيات شيئا في بيته فليحرج عليه ثلاثا فإن رآه بعد ذلك فليقتله فإنما هو كافر.
وقوله تعالى، مُسْتَقَرٌّ لفظ عام لزمن الحياة ولزمن الإقامة في القبور، وبزمن الحياة فسر أبو العالية وقال: هي كقوله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: ٢٢] وبالإقامة في القبور فسر ابن عباس واللفظ يعمهما فهي كقوله: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً [المرسلات: ٢٥] وأما «المتاع» فهو بحسب صفحة رقم 387

شخص شخص، في زمن الحياة اللهم إلا أن يقدر سكنى القبر متاعا بوجه ما، و «المتاع» التمتع والنيل من الفوائد، وإِلى حِينٍ هو بحسب الجملة قيام الساعة، وبحسب مفرد بلوغ الأجل والموت، والحين في كلام العرب الوقت غير معين.
وروي أن آدم عليه السلام أهبط بالهند وحواء بجدة، وتمناها بمنى، وعرف حقيقة أمرها بعرفة، ولقيها بجمع وأهبط إبليس بميسان وقيل بالبصرة وقيل بمصر فباض فيها وفرخ، قال ابن عمر وبسط إبليس فيها عبقريه، وذكر صالح مولى التؤمة قال في بعض الكتب لما أهبط إبليس قال رب أين مسكني؟ قال مسكنك الحمام ومجلسك الأسواق ولهوك المزامير وطعامك ما لم يذكر عليه اسمي وشرابك المسكر، ورسلك الشهوات وحبائلك النساء. وأهبطت الحية بأصبهان.
وروي أنها كانت ذات قوائم كالبعير فعوقبت بأن ردت تنساب على بطنها، وروي أن آدم لما أهبط إلى شقاء الدنيا علم صنعة الحديد ثم علم الحرث فحرث وسقى وحصد وذرا وطحن وعجن وخبز وطبخ وأكل فلم يبلغ إلى ذلك حتى بلغ من الجهد ما شاء الله، وروي أن حواء قيل لها يا حواء كما دميت الشجرة فأنت تدمين في كل شهر وأنت لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها، قال فرنت عند ذلك فقيل لها الرنة عليك وعلى ولدك.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه القصة من الأنباء كثير اختصرتها إذ لا يقتضيها اللفظ.
وقوله تعالى: فِيها تَحْيَوْنَ الآية، حكم من الله عز وجل أمضاه وجعله حتما في رقاب العباد يحيون في الأرض ويموتون فيها ويبعثون منها إلى الحشر أحياء كما أنشأ أول خلق يعيده، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو «تخرجون» بضم التاء وفتح الراء هنا، وفي الروم وكَذلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آياتِهِ [الآية: ١٩] وكذلك حيث تكرر إلا في الروم إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الآية: ٢٥] وفي سأل سائل يَوْمَ يَخْرُجُونَ [الآية: ٤٣] فإن هذين بفتح التاء والياء وضم الراء، ولم يختلف الناس فيهما، وقرأ حمزة والكسائي في الأعراف وَمِنْها تُخْرَجُونَ [الآية: ٢٥] بفتح التاء وضم الراء وفتح ابن عامر التاء في الأعراف وضمها في الباقي.
وقوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ الآية، هذا خطاب لجميع الأمم وقت النبي عليه السلام والسبب والمراد قريش ومن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت، ذكر النقاش ثقيفا وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج وعامرا والحارث ابني عبد مناف فإنها كانت عادتهم رجالا ونساء، وذلك غاية العار والعصيان، قال مجاهد ففيهم نزلت هذه الأربع الآيات، وقوله: أَنْزَلْنا يحتمل أن يريد التدريج أي لما أنزلنا المطر فكان عنه جميع ما يلبس، قال عن اللباس أنزلنا، وهذا نحو قول الشاعر يصف مطرا.
أقبل في المستن من سحابه | اسنمة الآبال في ربابه |

أبيّ «سوءاتكم وزينة ولبس التقوى»، وفي مصحف ابن مسعود «ولباس التقوى خير ذلكم»، ويروى عنه ذلك، وسقطت «ذلك» الأولى، وقرأ سكن النحوي «ولبوس التقوى» بالواو مرفوعة السين، وقرأ الجمهور من الناس «وريشا» وقرأ الحسن وزر بن حبيش وعاصم فيما روى عنه أبو عمرو أيضا، وابن عباس وأبو عبد الرحمن ومجاهد وأبو رجاء وزيد بن علي وعلي بن الحسين وقتادة «ورياشا»، قال أبو الفتح: وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو حاتم: رواها عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهما عبارتان عن سعة الرزق ورفاهية العيش ووجود الملبس والتمتع، وفسره قوم بالأثاث، وفسره ابن عباس بالمال، وكذلك قال السدي والضحاك، وقال ابن زيد «الريش» الجمال، وقيل «الرياش» جمع ريش كبير وبئار وذيب وذياب ولصب ولصاب وشعب وشعاب وقيل الرياش مصدر من أراشه الله يريشه إذا أنعم عليه، والريش مصدر أيضا من ذلك وفي الحديث «رجل راشه الله مالا».
قال القاضي أبو محمد: ويشبه ان هذا كله من معنى ريش الطائر وريش السهم إذ هو لباسه وسترته وعونه على النفوذ، وراش الله مأخوذ من ذلك، ألا ترى أنها تقرن ببرى ومن ذلك قول الشاعر: [لعمير بن حباب]
فرشني بخير طال ما قد بريتني | وخير الموالي من يريش ولا يبري |
وقوله: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ إشارة إلى جميع ما أنزل من اللباس والريش، وحكى النقاش أن الإشارة إلى لباس التقوى أي هو في العبد آية علامة وأمارة من الله أنه قد رضي عنه ورحمه، ولَعَلَّهُمْ ترج بحسبهم ومبلغهم من المعرفة وقال ابن جريج لِباسُ التَّقْوى الإيمان، وقال معبد الجهني: هو الحياء، وقال ابن عباس هو العمل الصالح، وقال أيضا، هو السمت الحسن في الوجه، وقاله عثمان بن عفان على المنبر، وقال عروة بن الزبير هو خشية الله، وقال ابن زيد هو ستر العورة، وقيل لِباسُ التَّقْوى الصوف وكل ما فيه تواضع لله عز وجل، وقال الحسن: هو الورع والسمت والحسن في الدنيا، وقال ابن عباس لِباسُ التَّقْوى العفة، وقال زيد بن علي لِباسُ التَّقْوى السلاح وآلة الجهاد.
قال القاضي أبو محمد: وهذه كلها مثل وهي من لِباسُ التَّقْوى.
قال القاضي أبو محمد: وتتصور الصفة التي حكاها أبو علي في قوله: ذلِكَ لأن الأسماء توصف بمعنى الإشارة كما تقول جاءني زيد هذا كأنك قلت جاءني زيد المشار إليه فعلى هذا الحد توصف الأسماء بالمبهمات، وأما قوله فيه عطف بيان وبدل فهما واحد في اللفظ إنما الفرق بينهما في المعنى والمقصد، وذلك أنك تريد في البدل كأنك أزلت الأول وأعملت العامل في الثاني على نية تكرار العامل، وتريد في عطف البيان كأنك أبقيت الأول ثم ثنيته بعينه في ذكر الثاني وإنما يبين الفرق بين البدل وعطف البيان في صفحة رقم 389