
على ما ذكرنا عن الأئمة والسلف (١)؛ يدل على هذا ما روى الجريري (٢) عن طلحة بن عبيد الله بن كريز (٣) قال: (رأيت عبيد بن عمير (٤) وعطاء بن أبي رباح يتحدثان والقاص يقصّ فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود، فنظرا إليّ وقالا: إنما ذلك في الصلاة: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾. ثم أقبلا علي حديثهما) (٥).
٢٠٥ - قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾، الخطاب في هذا للنبي - ﷺ -، وغيره داخل فيه لأنه عام لسائر المكلفين.
قال ابن عباس: (يعني بالذكر القراءة في الصلاة) (٦).
﴿تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾ قال: (يريد: يتضرع إليّ ويخاف مني) (٧).
(٢) الجريري: سعيد بن إياس الجريري، أبو مسعود البصري، إمام، محدث من كبار العلماء، ثقة، اختلط قبل موته بثلاث سنين. توفي سنة ١٤٤ هـ.
انظر: "الجرح والتعديل" ٤/ ١، و"سير أعلام النبلاء" ٦/ ١٥٣، و"تذكرة الحفاظ" ١/ ١٥٥، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٧، و"تقريب التهذيب" ص ٢٣٣ (٢٢٧٣).
(٣) طلحة بن عبد الله بن كريز بن جابر بن ربيعة الخزاعي الكعبي، تقدمت ترجمته.
(٤) عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، إمام مجمع على ثقته، وكان قاضي أهل مكة. تقدمت ترجمته.
(٥) أخرجه الطبري ٩/ ١٦٣ بسند جيد.
(٦) ذكره الثعلبي ٦/ ٣٥ أ، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٤، والبغوي ٣/ ٣٢١، وابن الجوزى ٣/ ٣١٣، الخازن ٢/ ٣٣٢.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٤، والبغوي ٣/ ٣٢١.

ومعناه: (١) استكانة لي وخوفًا من عذابي.
﴿وَخِيفَةً﴾ قال الزجاج: (أصلها خوفة. فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها) ذكر ذلك في سورة طه (٢). ﴿وَدُونَ الْجَهْرِ﴾ دون الرفع ﴿مِنَ الْقَوْلِ﴾ من القرآن.
قال (٣): (يريد: لا ترفع بذلك صوتك، تسمع نفسك، وإن جاوزك إلى من هو إلى جانبك فلا بأس). ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾. قال: (يريد: بكرة وعشيًا، يريد: الصلوات) (٤).
فعلى (٥) هذا القول الآية وردت في القراءة في الصلوات كلها لقوله تعالى: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢].
وقد مر، فأمر ان يقرأ في نفسه في بعضها وهو صلاة الإسرار، ودون
(٢) "معاني الزجاج" ٣/ ٣٦٧: (والخيف بالكسر جمع خيفة من الخَوْف، فأصله خوفة سكنت الواو إثر كسر فقلبت ياء) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٦٢، و"تهذيب اللغة" ١/ ٩٦٦ (خاف)، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ٣١٧، و"اللسان" ٣/ ١٢٩٠ (خوف)، و"معجم مفردات الإبدال والإعلال" للخراط ص ١٠٣.
(٣) كأنه يعني بقال ابن عباس رضي الله عنهما، ولم أقف عليه عنه.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٥ عن ابن عباس.
(٥) قال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣١٢ - ٣١٣: (المراد بالآية الحض على كثرة الذكر من العباد ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ لئلا يكونوا من الغافلين، ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار ولا يفترون ليقتدي بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم، وزعم أن المراد بها: أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة، وهذا بعيد منافٍ للإنصات المأمور به، ثم إن المراد بذلك في الصلاة أو الصلاة والخطبة ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان سواء كان سرًا أو جهرًا فهذا الذي قيل لم يتابع عليه) اهـ. بتصرف.

الجهر في بعضها وهو ما يرفع فيها (١) الصوت بالقراءة والمسنون دون الجهر لقوله: ﴿وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ١١٠].
وقال قتادة (٢): (أمر الله بذكره ونهى عن الغفلة، أما ﴿بِالْغُدُوِّ﴾ فصلاة الصبح، وأما بالعشي فصلاة العصر)، وعلى هذا القول الآية مقصورة على الصلاتين.
وقال مجاهد (٣) وابن جريج (٤): (أمر أن تذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة، ويكره رفع الصوت والنداء بالدعاء).
وعلى هذا الآية وردت في ذكر الله تعالى بالقلب، وترك الصياح في الدعاء (٥).
وقوله تعالى: ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾. الغَدْو مصدر، يقال: غَدوت أغدُو (٦) غدوًا وغدوَّا ومنه قوله: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ﴾ [سبأ: ١٢] أي: غدوها للسير، ثم سمي وقت الغدو غدوًا كما يقال: دنا الإصباح، أي: وقته، ودنا الإمساء، ويجوز أن يكون الغدو هاهنا جمع غدوة، قال الليث:
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ١٦٨ بسند جيد، وفيه ﴿وَالْآصَالِ﴾ بالعشي، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٨٨، وزاد نسبته إلى (عبد الرزاق وعبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة).
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ١٦٦ بسند ضعيف، وذكره الثعلبي ٦/ ٣٥ أ، والبغوي ٣/ ٣٢١ عن مجاهد وابن جريج وليس فيه عند الطبري: (ويكره رفع الصوت..).
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ١٦٧ بسند جيد.
(٥) قال النحاس في "معانيه" ٣/ ١٢٣: (لم يختلف في معنى قوله: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ أنه في الدعاء.
وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٦٦، والسمرقندي ١/ ٥٩١، والماوردي ص ٢٩٠.
(٦) في (أ): (غدوت أغدوا).

(الغدوُّ جمع مثل الغدوات وواحد الغدوات غدوة) (١).
قال الراجز (٢):
جرَّت عليه كلَّ ريح ريدة | هو جاء سفواء نؤوج الغدوة |
قال: ويقال: جئناهم مؤصلين، أي: عند الآصال) (٣).
وقال الزجاج: (الآصال العشيات جمع الجمع) (٤).
انظر: "العين" ٤/ ٤٣٧، و"الجمهرة" ٢/ ٦٧١، و"البارع" ص ٤٢٥، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٤٤، و"المجمل" ٢/ ٦٩٢، و "مقاييس اللغة" ٤/ ٤١٥، و"المفردات" ص ٦٠٣، و"اللسان" ٦/ ٣٢٢٠ (غدا).
(٢) الشاهد لهميان بن قحافة السعدي، شاعر، وراجز، أموي في "الصحاح" ٢/ ٤٧٩ (ريد) وهو لعلقمة بن عبدة التيمي الفحل، شاعر، جاهلي في "تهذيب إصلاح المنطق" ١/ ٢٨٠، وهو في "اللسان" ٣/ ١٧٩٠ (ريد) لهميان أو علقمة وبلا نسبة في: "إصلاح المنطق" ص ٩٤، و"المخصص" ٩/ ٨٦ و ١٥/ ٨١ قال التبريزي في "تهذيب إصلاح المنطق في شرح الشاهد": (ريح ريدة لينة الهبوب والهوجاء التي تهب بشدة، والسفواء الخفيفة، والنؤوج المصوتة في هبوبها أخبر أنها تهب في وقت الغدوة) اهـ.
(٣) ذكره النحاس في "إعرابه" ١/ ٦٦٢ - ٦٦٣، والرازي ١٥/ ١٠٩، والقرطبي ٧/ ٣٥٦، ولم أقف عليه في معانيه وهذا القول هو قول الأكثر. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٩، و"معاني النحاس" ٣/ ١٢١، وفي "معاني الأخفش" ٢/ ٣١٧، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٦: (الآصال، واحدها أصيل).
وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٦٧، و"نزهة القلوب" ص ٨٨.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٨ وفيه: (الآصال: جمع أُصل والأصل جمع أصيل فالآصال جمع الجمع وهي العشيات) اهـ.
وانظر: "معجم الإبدال والإعلال" للخراط ص ٢٢.

ومنه قول النابغة (١):
وقفت فيها أصيلًا كي (٢) أسائلها
أي: عشية، ويقال: الأصيل (٣) مأخوذ من الأصل وهو أسفل كل شيء، وما بعد العصر ينتهي إليه النهار إلى آخر النهار، فقيل لذلك الوقت: أصيل (٤).
عيت جوابًا وما بالربع من أحد
(٢) في (ب): (أصيلًا لا أسائلها) ورواية الأكثر. (أصيلانًا).
قال النحاس في "شرح القصائد المعلقات" ١/ ١٥٨ في شرح البيت: (يروى: أصيلًا كي أسائلها، وهو واحد وجمعه أصُل وجمع أصل آصال ويروى: أصيلانًا وفيه قولان:
أحدهما: أنه تصغير أصلان، وأصلان جمع أصيل.
والثاني: أنه بمنزلة قولهم: على الله التكلان، وقولهم: غفران، وهذا هو الصحيح، والأول خطأ لأن أصلانًا لا يجوز أن يصغر إلا أن يرد إلى أقل العدد وهو حكم كل جمع كثير.
وقوله: عيت أي: عجزت عن الإجابة، والربع المنزل في الربيع ثم كثر استعماله في كل منزل) اهـ. بتصرف.
ورواية أصيلال أصله: أصيلان أبدل النون لاما على غير القياس.
(٣) هذا قول الليث في "تهذيب اللغة" ١/ ١٦٨. وانظر: "العين" ٧/ ١٥٦، و"المجمل" ١/ ٩٧، و"مقاييس اللغة" ١/ ١٠٩، و"المفردات" ص ٧٨ (أصل).
(٤) في (ب): (أصل).