آيات من القرآن الكريم

وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ
ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ

تطعه بوساوسه في كل ما هو مخالف لشرعك وأخلاقك التي أمرت بها، وإذا ضاق صدرك مما ينزغه ولم تقدر على دفعه «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» بالالتجاء إليه «إِنَّهُ سَمِيعٌ» لإجابة استعاذاتك به سريع لقبولها بأن يعصمك من نزغه وينزعه من قلبك فلا يترك فيه شيئا منها لما فيه من الخطر على مقام النبوة الذي تكلف الله بعصمته فلا يثبت فيه شيء لا يرضاه لك، ومعنى النزغ لغة شك الجلد بالابرة أو بطرق العصاة وكذلك النخس والنسغ وقد يكون بمعنى الإفساد وهو بالنسبة لحضرة الرسول باعتباره المجازي عبارة عن اعتراء الغضب ليس إلا «عَلِيمٌ ٢٠٠» بك وبما ينالك من جميع خلقه ليسمع تضرعك إليه ويعلم ما تريده منه قبل استعاذتك به، روى مسلم عن ابن مسعود قال: قال صلّى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا وإياك يا رسول الله، قال وإياي إلا ان الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير (قال الشيخ محيي الدين النووي يروى فأسلم بفتح الميم أي صار مؤمنا لا يأمر إلا بخير، وبفتحها أي أسلم من فتنته وشره، واختاره الخطابي، ورجح القاضي عياض الأول وقال: الأمة مجمعة على عصمة الأنبياء من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه، وهذا الحديث يشير إلى التحذير من فتنته ووسوسته واغوائه وهذا الخطاب قد يراد به غير الرسول لأنه صلّى الله عليه وسلم معصوم من النزغ وهو جار على حد قوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية ٦٥ من الزمر في ج ٢ لأنه معصوم من الشرك قطعا وعليه يكون المراد بالآية جنس الإنسان ومثله فيما نحن في تفسيرها أي مطلق إنسان ونظير هذه الآية ٣٦ من سورة فصلت في ج ٢ فإنهما مطلقتان بطلب الاستعاذة في جميع الأحوال أما آية النحل عدد ٩٩ في ج ٢ فهي خاصة بالقراءة والمراد فيها مطلق قارئ لا مطلق إنسان كما هنا، تدبر، إذ يخاطب صلّى الله عليه وسلم بشيء ويراد به غيره وهو جار بين العرب حتى ضرب به المثل وهو «إياك اعني واسمعي يا جارة»
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا» ربهم ورسخت التقوى بقلوبهم واتصفوا بها «إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ» لمّة ألمت به «مِنَ الشَّيْطانِ» لأن الطائف ما يطوف بالإنسان ويلم به وقرىء «طيف» وهو مثله بالمعنى ويفيد الوسوسة أو تسمى طيفا أو طائفا

صفحة رقم 476

إيذانا بأنها لا تؤثر بالأنبياء البتة، فكأنها تطوف حولهم فلا تمسهم ولا تؤثر فيهم بل لا تصل إليهم ولهذا عبر بالنزغ بحقهم لأنه أول الوسوسة، وبالمس بحق المتقين لأنه لا يكون إلا بعد التمكن من النزغ فيهم، فيعقبه المس، ولهذا جاءت هذه الآية تأكيدا وتقريرا لوجوب الاستعاذة المارة عند حدوث الوسوسة لئلا يتخطى الأمر إلى المس، وإنباء بأن عادة المتقين إذا اعتراهم المس وأحسوا به ركنوا إلى ذكر الله استنادا لقوله «تَذَكَّرُوا» أوامره ونواهيه فيما طرأ عليهم منه فيلجأون إلى الله من مكايد الشيطان ومكره «فَإِذا هُمْ» بسبب الذكرى التي أمروا بها عند وقوع غفلة أدت إلى الوسوسة أو اعراض سبب المس «مُبْصِرُونَ ٢٠١» مواقع خطاهم فيعدلون عنها إلى السداد ويدفعون خطراته بعد أن يزنوها بميزان الشرع ويعرضوها على أصوله وقواعده ويستغفروا ربهم منها إذا ظهر لهم مخالفتها فيغفرها لهم. وقد بينا الحكم الشرعي في الاستعاذة في المقدمة فراجعها تعلم سنيتها في سائر الأحوال. هذا، ولما ذكر الله تعالى حال الأنبياء والمتقين شرع في بيان حال من يقبل نزعات الشيطان ويؤثر فيهم مسه فقال عز قوله «وَإِخْوانُهُمْ» الجاهلين المبعدين من طرق التقوى وهم الشياطين قرناء الفسقة من البشر «يَمُدُّونَهُمْ» يكونون لهم مددا وعدونا «فِي الغَيِّ» وطرقه فيزيدونهم على غيهم غيا قصد ضلالهم وإضلالهم. وقرأ الجحدري يمادّونهم من باب المفاعلة، أي كأن الشيطان يعاضدهم بالإغراء وتهوين المعاصي بأعينهم على إغواء البشر أيضا فهم يعينون الشياطين بالاتباع والامتثال «ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ٢٠٢» لا يمسكون عن إغوائهم ولا يكفون عن مسهم فيصروا على تلك الوساوس ولا يرجعوا عنها إن استطاعوا، حتى إذا تمكنوا منها عمدوا إلى المس فيتدرجوا فيه إلى أن يوقعوه في الغيّ والإغواء فيصير من صنفهم وقد علمت أن ضمير الجمع المضاف إليه أولا في إخوانهم والمفعول ثانيا في يمدونهم يعودان إلى الجاهلين، وضمير الفاعل في يقصرون يعود إلى الشياطين إخوان الجاهلين، فالخبر جاء على غير ما هو له على حد قوله: أقوم إذا الخيل جالوا في كويتها...
قال تعالى «وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ» معجزة باهرة ظاهرة «قالُوا» لك المشركون

صفحة رقم 477

يا سيد الرسل «لَوْلا اجْتَبَيْتَها» اختلقتها وأنشأتها كما أتيت بغيرها استهزاء وسخرية بك «قُلْ» يا حبيبي أنا لا أفتري شيئا من عندي، ولا أقدر على إجابة طلبكم إظهار آية ما «إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ» وأتلقاه «مِنْ رَبِّي» دون اقتراح عليه بإنزال الآيات، إذ ليس لي ذلك أبدا، وإذا كنتم تفنعون بالآيات وتؤمنون بها فدونكم «هذا» القرآن الذي أنزله علي وبلغتكم إياه فهو أعظم آية وأكبر معجزة وهو «بَصائِرُ» دلائل وحجج وبراهين قاطعة «مِنْ رَبِّكُمْ» تبصركم بصدقي وتنير لكم طرق الحق وتريكم الهدى والرشد لأنها نفسها «هُدىً» لمن أراد الاهتداء لسلوك العناية الإلهية «وَرَحْمَةٌ» من الرحيم ونعمة من المنعم لعباده ومنّة من المنّان «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٢٠٣» به ويتبعون رسله، أما الكافرون فهو لهم ضلال في الدنيا وعذاب في الآخرة لأن هذا القرآن نور لأناس ظلمة لآخرين بآن واحد، إذ يسمعه اثنان فيكون لأحدهما نور وللآخر همى كما سيأتي في تفسير الآية ٤٤ من فصلت في ج ٢ والآيه ١١ من الأحقاف أيضا فراجعهما.
مطلب الناس على ثلاث مراتب:
ومن هنا يعلم أن الناس على ثلاث مراتب: فالذين بلغوا غاية علم التوحيد حتى صار لهم كالمشاهدهم أصحاب عين اليقين فهم السابقون المقربون، فالقرآن في حق هؤلاء بصائر، والذين بلغوا درجة الاستدلال والنظر هم أصحاب علم اليقين فهم أصحاب اليمين، فالقرآن في حقهم هدّى، والذين ليسوا من الطريقين وهم عامة المسلمين فهم أصحاب اليقين وهم المقلدون لأهل العلم الماشون على طريقهم، فالقرآن في حقهم رحمة والذين دون هؤلاء إذا ماتوا على الإيمان فهم ناجون لأن من زحزح عن النار فقد فاز، وإلا فالعياذ بالله هم الخاسرون في الدنيا والآخرة مع إخوانهم الكافرين إخوان الشياطين.
وهكذا كما يتفاوت الناس في العلم والعمل والمكانة في الدنيا يتفاوتون في الآخرة بالمنازل والدرجات في الجنة، وكما أن الجنة درجات فكذلك النار دركات، وقد ألمعنا لما يتعلق في هذا البحث في سورة التكاثر المارة.

صفحة رقم 478

مطلب وجوب الاستماع والسكوت عند القراءة:
قال تعالى «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ» أيها الناس بتفكر وتدبر وأصفوا له بكليتكم لتفهموا معانيه وتعوا مواعظه «وَأَنْصِتُوا» عند قراءته ليقر في قلوبكم وتلهموا مبانيه لأن الكلام عند سماعه لا يجوز إذ يضيع المغزى المراد منه لذلك أمركم ربكم بالسكوت، وهذان أمران ظاهرهما الوجوب، فيكون الاستماع والسكوت واجبين عليكم أيها المؤمنون عند قراءة القرآن بدليل هذه الآية، وكلمة أنصتوا لم تكرر إلا في الآية ٢٩ من سورة الأحقاف ج ٢، قال الحسن وأهل الظاهر (إذا قرىء القرآن في أي وقت وموضع يجب على كل واحد الاستماع والسكوت لعموم الأمر، ولذلك قال عروة ابن الزبير والقاسم بن محمد إن المأموم يقرأ إذا أسرّ الإمام ولا يقرأ إذا جهر وهو رواية عن ابن عمرو، هذا بالنسبة للتفسير أحسن من رواية من رأى وجوبها في حالتي الإسرار والجهر إذ قال به الأوزاعي وذهب إليه الشافعي رضي الله عنه وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ، وحجتهم أن الآية نزلت على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام ولم يفرق بين السرية والجهرية، ويستدلون بالأخبار الواردة بقراءة الفاتحة، وأحسن من روايته من رأى عدم القراءة في الحالتين وهو مروي عن جابر وإليه ذهب أصحاب الرأي، وقال الحسن وأبو حنيفة رحمهما الله وحجتهم ظاهر هذه الآية لأنه لا يعدل عن الظاهر إلّا بمسوغ أقوى ولا يوجد، وإن القول الأول هو الحالة الوسطى وخير الأمور أوساطها، لأن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن، ودلّت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام، فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهر ومدلول السنة على صلاة السرّ جمعا بين دلائل الكتاب والسنة، وإذا أنعم النظر وأمعن الفكر وجد هذا القول أحسن الأقوال، فاتبعوه «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ٢٠٤» باقتضاء ما أمرتم به وابتعاد ما نهيتم عنه، وإن وجوب الاستماع هو سبب نزول هذه الآية لمناسبة السباق وموافقة السياق، وقيل نزلت في تحريم الكلام في الصلاة إذ كانوا يتكلمون فيها فمنعوا، وقيل إنها نزلت في ترك الجهر خلف الإمام إذ كانوا

صفحة رقم 479

يجهرون خلفه: ، وهذه روايات وأقاويل بعيدة عن الثبوت ولا شيء يؤيدها، لأن الصلاة لم تفرض بعد على القول بأن الإسراء وقع في السنة العاشرة من البعثة عند نزول أول سورة الإسراء الآتيه وهو الصحيح، أما على القول بأن الإسراء كان في السنه الخامسة أو السادسة عند نزول سورة والنجم المارة المنوه بها في بحث الإسراء صراحة فسديد، ولكن يا للأسف لم نجد ما يؤيده حتى الآن، وقد ذكرنا ما يتعلق في هذا البحث آخر سورة والنجم فراجعه، واعلم أن الآية عامة مطلقة في القراءة دون الصلاة مما يطلب الاستماع إليها والإنصات لها، أما ما روي عن ابن مسعود أنه سمع أناسا يقرأون مع الإمام فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) إلخ كما أمركم الله فهو لا يؤيد سبب النزول ولا دليل فيه عليه وإنما ينصرف على لزوم الإنصات عند قراءة الإمام وهو واجب بلا شك، وإذا كان الإنصات دون الصلاة واجب ففيها من باب أولى، وان ابن مسعود قال هذا القول في حادثة أناس يقرأون مع الإمام في المدينة لا في سبب النزول الكائن في مكة: لأنه لا يعرف تاريخ قوله هذا ليستدل به على النزول فإن في مكة فهو غير صحيح وإن في المدينة لا دليل له عليه، وأضعف من هذه الأقوال القول بأنها نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة، لأن هذه الآية مكية قطعا وإنما وجبت الجمعة في المدينة، تأمل هذا واعرف مزية هذا التفسير الذي جاء على ترتيب نزول القرآن وعرفك المقدم والمؤخر، وإلا لغرقت في أقوال ينسيك آخرها أولها ولا رتبكت واحتججت بروايات تضارب إحداها الأخرى فتفحم من غير غلب وتحقر من غير ذنب فتسكت للواقع وأنت محق في المواقع، فاحمد الله.
مطلب في الذكر السري وحالة الخوف والرجاء:
«وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ» سرالا تسمع به غيرك، وهذا خطاب لخاصة الرسول وعامة المؤمنين، لأن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع على هذه الصفة لقربها من الإخلاص وبعدها من الرياء، لا سيما إذا كان الذاكر استحضر في قلبه عظمة المذكور لما فيه من الإشعار بقرب العبد من ربه عز وجل.

صفحة رقم 480

وفي هذه الآية إيذان بمقام الرجاء لأن لفظ الرب يشعر بالتربية والرحمة والفضل والإحسان فإذا تذكر العبد إنعام ربه عليه وإحسانه إليه يقوى مقام رجائه، وإذا كان الذكر باللسان فقط عاريا عن حضور القلب كان عديم الفائدة التي هي استشعار عظمة المذكور واستحضاره وتخيلك بين يديه وتصورك بلا كيف وجود عظيم الوجود أمامك وجلاله وكبريائه فوقك. وبعد أن بين الله تعالى مقام الرجاء في صدر هذه الآية أعقبه بالإشارة إلى مقام الخوف فقال وإذا ذكرت ربك فاذكره «تَضَرُّعاً» إليه بإظهار الذل والخضوع وإبداء الاستكانة إلى المذكور «وَخِيفَةً» من هيبته لأنك في حال مخاطبته في حضرته، ومن عرف عظم المقام وجب أن يكون في حالة خوف ورهبة وخشية لا محالة، وإذا حصل هذا في قلب الذاكر وكان بين الخوف والرجاء، قوي إيمانه وتنور قلبه وثبت جنانه فتفجرت منه الحكمة، فعلى العاقل أن لا يفارق حالة الخوف والرجاء في الشدة والرخاء وأن يصاحبهما في جميع حالاته لا في حالة الذكر فقط، إلا أنه يستحب له أن يغلب حالة الخوف على الرجاء في حالة الصحة والرفاء، وحالة الرجاء على الخوف في حالة المرض والاحتياج، لأن مقام الموت والحاجة مقام رجاء ومقام الصحة والرفاه مقام خوف فى الغالب لأنه لا يدري ما يحل به ويفجأ به. قال أنس رضي الله عنه: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على شاب وهو في الموت فقال كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال صلّى الله عليه وسلم: لا يجتمعان (الخوف والرجاء) في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو منه وآمنه مما يخاف- أخرجه الترمذي-.
ومن هذه الآية الكريمة أخذ السادة الصوفية بارك الله فيهم الذكر السري وجعلوه من أورادهم وهو دليل واضح لهم لا يحتاج إلى تعليل مؤيد لقوله صلّى الله عليه وسلم: خير الذكر الخفي وخير المال ما يكفي- أخرجه أحمد- فمن تقول بعد هذا النص القاطع بأن الذكر الخفي لا أجر فيه لذاكره فقد أخطأ وهو لا أجر له على اجتهاده هذا بل يأثم، والله أعلم إذ لا اجتهاد في مورد النص وإنما يجتهد في المشكلات والمتشابهات مما لا نص قطعي فيها ففي مثلها إذا أخطأ يكون له أجر وإذا أصاب أجران ت (٣١)

صفحة رقم 481

لأن اجتهاده فيما لا نص فيه غاية وسعه ونهاية جهده في بذل فكرته وقدح فطنته أما الأمور الظاهرة كهذه فلا محل للاجتهاد فيها. هذا، وقد جاء النص هنا بلفظ الأمر الدال على الوجوب ولا صارف له عن حقيقته فالمعترض عليه غير مصيب، تنبه، ثم بين جل شأنه حالة ثانية لذكره جل ذكره فقال «وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ» أي مقتصدا، أرفع من الذكر الخفي وأدنى من الجهري لما فيه من رعاية الأدب مع المذكور، لان ارتفاع الصوت بحضرته غير جائز لما فيه من سوء الأدب، وهذه الحالة مطلوبة في الصلاة أيضا، قال تعالى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) الآية ١١٠ من سورة الإسراء الآتية ومطلوبة في الدعاء أيضا قال صلّى الله عليه وسلم لأناس يرفعون أصواتهم بالدعاء (إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا) ومرغوبة في كل حال قال تعالى (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) الآية الثانية هن سورة الحجرات في ج ٣، هذا ومن كمال فقه الرجل لزومه هذه الحالة في هذه الأحوال وغيرها، ومن تأدبه مراعاتها في مخاطبة الناس ولا سيما للعلماء العاملين لأنهم ورثة الأنبياء والمشايخ الكاملين لاقتقائهم آثارهم. ثم بين جل شأنه أحسن الأوقات لذكره بقوله «بِالْغُدُوِّ» أول النهار بكرة «وَالْآصالِ» آخره عشيا والغدوة من طلوع الفجر أو طلوع الشمس وتمامها من طلوع الشمس إلى الضحوة والآصال جمع أصيل ما بين العصر والمغرب، فإذا قام الإنسان بذكر ربه في هذين الوقتين ختم نهاره بخير كما بدأه بخير وإذا سلمت الغاية والمغيا فالله أكرم بالعفو عما يقع بينهما، وإنما خص هذين الوقتين لأن الإنسان يقوم صباحا من نومه الذي هو أخو الموت ليتداول عمله نهارا فينبغي له أن يذكر الله فيه شكرا على نعمة نومه وافاقته وأنه لم يتوفاه فيه قال تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الآية ٤٢ من سورة الزمر في ج ٢، وكذلك ينبغي له أن نذكره بعد المساء بعد فراغ أشغاله وخاصة عند النوم ليختم يومه بخير شكرا على نعمة إبقائه وراحته من أعماله، لأنه قد لا يقوم من نومه فيموت على ذكر الله، قال صلّى الله عليه وسلم: من كان آخر كلامه

صفحة رقم 482

لا إله إلا الله دخل الجنة، ففيه بشارة عظيمة للذاكر فإذا فعل هذا بات مطمئنا قرير العين فمن تلبس بهاتين الحالتين وداوم عليهما كان ناجيا ومن تركهما يخشى عليه الهلاك لذلك ختم الله تعالى هذه الآية المشتملة عليهما بقوله عظم قوله «وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ ٢٠٥» عن الذكر في هذين الوقتين المقربين إلى الله فتعتريك الغفلة عن ذكره فتكون بعيدا عنه، والبعد عنه والعياذ بالله هلاك ما بعده هلاك لأن مقام الغفلة خطر عظيم، إذ ربما أن كان الأجل الذي أخبرنا الله بإتيانه على بغته، فإياك أيها العبد أن تغفل عن ذكر ربك الذي سواك فعدلك ولم يجعلك كالبهائم الغافلة عما يراد بها، ودوام على ذكره في كل الأوقات والأحوال وان فاتك الذكر لأمر ما في هذين الوقتين فاقضه في غيرهما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) الآية ٦٢ من سورة الفرقان الآتية. ترشد هذه الآية إلى أن من فاته الذكر النهار قضاه ليلا ومن قامه ليلا قضاه نهارا لأن الليل يخلف النهار وبالعكس، وانظر إلى مدح الله عباده الذاكرين في قوله (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الآية ١٩١ من آل عمران في ج ٣ وفي قوله (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) الآية ١٦ من سورة السجدة في ج ٢، فمن فعل هذا كان قريبا من الله وحصل على ملاك الخير في
الدنيا والآخرة ودخل في جملة من مدحهم الله وهنيئا لمن كان في عدادهم ثم أخبر الله عباده أهل السماء ليقتدوا بهم فقال «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ» من الملائكة المقربين مكانة ومنزلة لأقرب مكان ومنزل، فهم مع علو مراتبهم ورفعة شأنهم وقربهم من ربهم بالزلفى والرقى «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ» ولا يلتفتون لغيره بل يتذللون لعظمته ويخضعون لهيبته، فيؤدون العبادة له حسبما أمروا بها أمام كبريائه لأنهم عبيد طائعون منقادون لسلطانه وقد قال في وصفهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (الآية ٧ من سورة التحريم ج ٣) طوعا واختيارا وحبا بقربهم منه طلبا لمرضاته وليتصف عباده أهل الأرض بصفة عباده أهل السماء «وَيُسَبِّحُونَهُ»

صفحة رقم 483

ينزهونه عما لا يليق بجنابه ويقدسونه ويمجدونه بما هو أهله «وَلَهُ يَسْجُدُونَ ٢٠٦» خضوعا وخشوعا لجلاله ويفوزون بهذه الصفات المحمودة المرضية.
مطلب ما قاله بعض الأكابر في هذه الآية:
قال بعض الأكابر إن قوله واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية إشارة إلى أعلى المراتب وهي صفة الواصلين المشاهدين، وقوله سبحانه (ودون الجهر) رمز إلى المرتبة الوسطى وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة وقوله جل قوله (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) ايماء الى مرتبة النازلين من السالكين وقال مشيرا إلى كلمة (خيفة) :
أشتاقه فإذا بدا... اطرقت من إجلاله
لا خيفة بل هيبة... وصيانة لجماله
وقوله عز قوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) هم المقربون من الملائكة والمفنون أنفسهم به من البشر الباقون به سبحانه وهم أرباب الاستقامة أهل المقام العظيم (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) لعدم احتجابهم بالأنانية وانمحاقهم بالكيفية والكمية (ويسبحونه) بنفيها (وله يسجدون) بالفناء التام وطمس البقية الباقية من مهجهم، وهذه السجدة من عزائم السجود واجبة على القارئ والمستمع كما نوهنا به آخر سورة والنجم المارة وقد بينا فيها وفي سورة العلق كيفية السجود وما يقرأ فيه بصورة مفصلة. روى البخاري ومسلم عن عبد الله ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن فقرأ سورة فيها سجدة فسجد وسجدنا معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت الصلاة. وروى مسلم عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم في السجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأببت فلي النار. ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة، هذا، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

صفحة رقم 484
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية