آيات من القرآن الكريم

أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ

ونقل عن مولانا شيخ الإسلام شهاب الدين السهروردي أنه كتب إلى الإمام فخر الدين الرازي تغمدهما الله تعالى برضوانه من تعين في الزمان لنشر العلم عظمت نعمة الله تعالى عليه فينبغي للمتيقظين الحذاق من أرباب الديانات أن يمدوه بالدعاء الصالح ليصفي الله تعالى مورد علمه بحقائق التقوى ومصدره من شوائب الهوى إذ قطرة من الهوى تكدر بحرا من العلم ونوازع الهوى المركوز في النفوس المستصحبة إياه من محتدها من العالم السفلي إذا شابت العلم حطته من أوجه وإذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى أمدته كلمات الله تعالى التي ينفد البحر دون نفادها ويبقى العلم على كمال قوته، وهذه رتبة الراسخين في العلم لا المترسمين به وهم ورثة الأنبياء عليهم السلام كر عملهم على علمهم وتناوب العلم والعمل فيهم حتى صفت أعمالهم ولطفت وصارت مسامرات سرية ومحاورات روحية وتشكلت الأعمال بالعلوم لمكان لطافتها وتشكلت العلوم بالأعمال لقوة فعلها وسرايتها إلى الاستعدادات، وفي اتباع الهوى إخلاد إلى الأرض قال تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فتطهير نور الفكرة عن رذائل التخيلات والارتهان بالموهومات التي أورثت العقول الصغار والمداهنة للنفوس القاصرة هو من شأن البالغين من الرجال فتصحب نفوسهم الطاهرة الملأ الأعلى فتسرح في ميادين القدس، فالنزاهة من محنة حطام الدنيا والفرار من استحلاء نظر الخلق وعقائدهم فتلك مصارع الأدوان، وطالب الرفيق الأعلى مكلم محدث، والتعريفات الإلهية واردة عليه لمكان علمه بصورة الابتلاء واستئصاله شأفة الابتلاء بصدق الالتجاء وكثرة ولوجه في حريم القرب الإلهي وانغماسه مع الأنفاس في بحار عين اليقين وغسله نفث دلائل البرهان بنور العيان فالبرهان للأفكار لا للأسرار إلى آخر ما قال، ويا لها من موعظة حكيم ونصيحة حميم نسأل الله تعالى أن يهدينا لما أشارت إليه.

صفحة رقم 109

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ تذييل وتأكيد لما تضمنته القصة السابقة على ما يشير إليه كلام بعضهم. وقال آخر: إنه تعالى لما أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن يقص على أولئك الضالين قصص أخيهم ليتفكروا ويتركوا ما هم عليه عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من جهته سبحانه وتعالى وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء لكونها دواعي إلى صرف المكلف اختياره نحو تحصيله حسبما نيط به خلق الله تعالى إياه، والمراد بهذه الهداية ما يوجب الاهتداء قطعا لا لأن حقيقتها الدلالة الموصلة إلى البغية كما يوهمه كلام بعض الأصحاب بل لأنها الفرد الكامل من حقيقة الهداية التي هي الدلالة إلى ما يوصل لإسنادها إلى الله تعالى وتفريع الاهتداء عليها ومقابلتها بالضلال وما معه ولا يخفى أن الهداية بهذا المعنى يلزمها الاهتداء فيكون الإخبار باهتداء من هداه الله تعالى على ما قيل على حد الأخبار في- شعري شعري- وهو يفيد تعظيم شأن الاهتداء وأنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم وأنه كاف في نيل كل شرف في الأولى والعقبى.
واختار بعض المحققين أنه ليس المقصود مجرد الإخبار بما ذكر ليتوهم عدم الإفادة بحسب الظاهر ويصار إلى توجيهه بذلك بل هو قصر الاهتداء على من هداه الله تعالى حسبما يقضي به تعريف الخبر، فالمعنى من يخلق فيه الاهتداء فهو المهتدي لا غير كائنا من كان ولا يخلو عن حسن إلا أنه قد يقال: إن الأول أوفق بالمقابل، وإفراد المهتدي رعاية للفظ «من»، وجمع الخاسرين رعاية لمعناها للإيذان بأن الحق واحد وطرق الضلال متشعبة، وفي الآية تصريح بأن الهدى والضلال من الله تعالى فسبحان من أضل المعتزلة وَلَقَدْ ذَرَأْنا كلام مستأنف مقرر لمضمون ما قبله بطريق التذييل، والذرأ بالهمزة الخلق وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره أي والله تعالى لقد خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وهم المصرون على الكفر في علمه سبحانه وتعالى، واللام للعاقبة عند الكثير كما في قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [يونس: ٨٨] وقول الشاعر:

له الملك ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب
وفي الكشاف أنهم جعلوا لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وأنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخولها، وأشار إلى أن ذلك تذييل لقصة اليهود بعد ما عد من قبائحهم تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنه قيل: من الذين لا ينجع فيهم الإنذار فدعهم واشتغل بأمر نفسك ومن هو على دينك في لزوم التوحيد، والآية على ما قال من باب الكناية الإيمائية عند القطب قدس سره ويفهم كلامه أن الذي دعا الزمخشري إلى ذلك لزوم كون الكفر مراد الله تعالى إذا أريد الظاهر وهو خلاف مذهبه، وأنت تعلم أن الكثير من أهل السنة تأولوا الآية بحمل اللام على ما عملت لقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] فإن تعليل الخلق بالعباد يأبى تعليله بجهنم ودخولها، نعم ذهب ابن عطية منا إلى الحمل على الظاهر وكون اللام للتعليل، وادعى أناس أن التأويل مخالف للأحاديث الواردة في الباب كبعض الأحاديث السابقة في آية أخذ الميثاق، وما
أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن قتادة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله تعالى خلق آدم عليه السلام ثم أخذ الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي قال قائل: فعلى ماذا العمل؟ قال: على موافقة القدر»
وما
أخرجه محيي السنة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم جنازة صبي من صبيان الأنصار فقلت: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طوبى له عصفور من عصافير الجنة

صفحة رقم 110

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما يدريك إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم»
إلى غير ذلك.
وإلى هذا ذهب الطيبي وأيده بما أيده وادعى أن فائدة القسم التنبيه على قلع شبه من عسى أن يتصدى لتأويل الآية وتحريف النص القاطع، ونقل عن الإمام أن الآية حجة لصحة مذهب أهل السنة في مسألة خلق الأعمال وإرادة الكائنات لأنه سبحانه وتعالى صرح بأنه جل وعلا خلق كثيرا من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد لبيان الله تعالى، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر مخالف لظاهر الآية التي ذكرناها، وفي الكتاب الكريم كثير مما يوافقها على أن التعليل الحقيقي لأفعاله تعالى يمنع عنه في المشهور الإمام الأشعري وأصحابه.
وقال بعض الجلة: المراد بالكثير الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ولكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إلى ذلك بل لعله سبحانه وتعالى: بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق أبدا بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر، فبهذا الاعتبار جعل خلقهم مغيا بجهنم كما أن جمع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطري للعبادة وتمكنهم التام منها جعل خلقهم مغيا بها كما نطق به قوله سبحانه وتعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] انتهى، وعندي أنه لا محيص من التأويل في هذا المقام فتدبر ولا تغفل، ثم إن الجار الأول متعلق بما عنده وتقديمه على المفعول الصريح لما في توابعه من نوع طول يؤدي توسيطه بما بينهما وتأخيره عنهما إلى الإخلال بجزالة النظم الجليل، والجار الثاني متعلق بمحذوف وقع صفة لكثير، وتقديم الجن لأنهم أعرف من الإنس في الاتصاف بما ذكر من الصفات وأكثر عددا وأقدم خلقا ولا يشكل أنهم خلقوا من النار فلا يشق عليهم دخولها ولا يضرهم شيئا لأنا نقول في دفع ذلك على علاته خلقهم من النار بمعنى أن الغالب عليهم الجزء الناري لا يأبى تضررهم بها فإن الإنس خلقوا من الطين ويتضررون به، ويوضح ذلك أن حقيقة النار لم تبق فيهم على ما هي عليه قبل خلقهم منها كما أن حقيقة الطين لم تبق في الإنس على ما هي عليه قبل خلقهم منها على أن المخلوق من نار هو البدن والمعذب هو الروح وليست مخلوقة منها وعذاب الروح في قالب ناري معقول كعذابها في قالب طيني، وقوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ في محل النصب على أنه صفة أخرى لكثير، وقوله سبحانه وتعالى: لا يَفْقَهُونَ بِها في محل الرفع على أنه صفة لقلوب مبينة لكونها غير معهودة مخالفة لسائر أفراد الجنس فاقدة لما ينبغي أن يكون أو هي مؤكدة لما يفيده تنكيرها وإبهامها من كونها كذلك، وأريد بالقلب اللطيفة الإنسانية، وبالفقه الفهم وهو المعنى اللغوي له، يقال: فقه بالكسر أي فهم وفقه بالضم إذا صار فقيها أي فهما أو عالما بالفقه بالمعنى العرفي المبين في كتب الأصول، والفعل هنا متعد إلا أنه حذف مفعوله للتعميم أي لهم قلوب ليس من شأنها أن يفهموا بها شيئا مما شأنه أن يفهم فيدخل فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائله دخولا أوليا، وكذا الكلام في قوله جل وعلا: وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها فيقال: المراد لا يبصرون بها شيئا من المبصرات فيندرج فيه الشواهد التكوينية الدالة على الحق اندراجا أوليا، وكذا يقال في قوله تبارك وتعالى: وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها حيث يراد لا يسمعون بها شيئا من المسموعات فيتناول الآيات التنزيلية على طرز ما سلف، وأمر الوصيفة في الأخيرين مثله في الأول، والمراد بالإبصار والسماع المنفيين ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفة الثقلين لا ما يتناول مجرد الإحساس بالشبح والصوت كما هو وظيفة الأنعام، وجاء في كلامهم نحو فلان لا يسمع الخنا أي لا يعتني به ولا يصرف سمعه إليه ولا يقبله، ومن ذلك قول الشاعر:

صفحة رقم 111

وفي إعادة الخبر في الجملتين المعطوفتين مع انتظام الكلام بدون ذلك بأن يقال: وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها ما لا يخفى من تقرير سوء حالهم، وكذا في إثبات المشاعر الثلاثة لهم ثم وصف كل بما وصف به دون سلبها عنهم ابتداء بأن يقال: ليس لهم في قلوب يفقهون بها ولا أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها ما لا يخفى على ما قيل من الشهادة بكمال رسوخهم في الجهل والغواية، وتفسير الآية على هذا الوجه واعتبار حذف المفعول لما ذكرنا من الأفعال الثلاثة هو الذي اختاره بعض المحققين لما فيه من الإفصاح بكنه حالهم على ما أشار إليه، واختار بعضهم التخصيص أي لا يفقهون الحق ودلائله ولا يبصرون ما خلق الله تعالى إبصار اعتبار ولا يسمعون الآيات والمواعظ سماع تأمل وتفكر، وأيّا ما كان فالمراد أنهم لم يصرفوا ما خلق لهم لما له فكأنهم خلقوا كذلك، ولو أريدت الحقيقة لم يتوجه الذم ولم تقم الحجة، ومن ادعاها قال: إن ذلك بسبب إفاضة الحكيم حسب الاستعداد الأزلي الغير المجعول فالذم بذلك لدلالته على سوء الاستعداد لأنه كالأثر له، وبالجملة لا تقوم الآية دليلا للجبر الصرف ولو ضم إليها ما قبل، والجبر المتوسط مما قال به أهل الحق وهو لبن خالص أخرج من بين فرث ودم، وحاصله عند بعض المشايخ أن العبد مختار مجبور باختياره، ولعل كلام حجة الإسلام الغزالي حيث قال من كلام طويل: فان قلت: إني أجد في نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلا بي لا بغيري، أجبنا وقلنا: هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول: وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شئت وإن شئت أن لا تشأ لم تشأ؟ ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار انتهى. يرجع إلى ما ذكرنا، وقد استوفينا الكلام في هذا البحث في كتابنا الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية وهو لعمري من مشكلات المباحث التي سأل عنها الإيرانيون.
أُولئِكَ أي الموصوفون بالأوصاف المذكورة كَالْأَنْعامِ أي في انتفاء الشعور على الوجه المذكور، وقيل في أن مشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها وكأن وجه الشبه مدرك مما قبل فتكون الجملة كالتأكيد له فلذا فصلت عنه بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الأنعام لأنها تدرك ما من شأنها أن تدركه من المنافع والمضار فتجهد في جلبها وسلبها غاية ما يمكنها وهؤلاء ليسوا كذلك حيث لم يميزوا بين المنافع والمضار بل يعكسون الأمر فيتركون النعيم ويقدمون على العذاب الأليم، وقيل: لأنها إذا زجزت انزجرت وإذا أرشدت إلى طريق اهتدت وهؤلاء لا يهتدون إلى شيء من الخيرات. وقيل: لأنها لم تعط قدرة على تحصيل الفضائل وهؤلاء أعطوا ولم ينتفعوا بما أعطوا، ولأنها وإن لم تكن مطيعة لم تكن عاصية وهؤلاء لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه ولا يطيعونه، وبالجملة كون هؤلاء أضل مما لا شك فيه ووجوه ذلك كثيرة ولا تنافي بين الخبرين كما لا يخفى.
أُولئِكَ أي المنعوتون بما ذكر من مثلية الأنعام والشرية منها هُمُ الْغافِلُونَ أي الكاملون في الغفلة عما فيه صلاحهم. وقال عطاء: عما أعد الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب، وجعل بعضهم هذه الجملة كالبيان للجملة قبلها فلذا فصلت عنها وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قيل: تنبيه للمؤمنين على كيفية ذكره تعالى وكيفية المعاملة مع المخلين بذلك الغافلين عنه سبحانه وتعالى وعما يليق بشأنه عز شأنه أثر بيان غفلتهم التامة وضلالتهم التامة، وسيأتي إن شاء الله تعالى وجه آخر لذكر ذلك.
والمراد بالأسماء كما قال حجة الإسلام الغزالي وغيره الألفاظ المصوغة الدالة على المعاني المختلفة، والحسنى تأنيث الأحسن أفعل تفضيل، ومعنى ذلك أنها أحسن الأسماء وأجلها لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها:

صفحة رقم 112

وقيل: المراد بالأسماء الصفات ويكون من قولهم طار اسمه في البلاد أي صيته ونعته، والجمهور على الأول لقوله عزّ اسمه: فَادْعُوهُ بِها لأنه اما من الدعوة بمعنى التسمية كقولهم: دعوته زيدا أو بزيد أي سميته أو من الدعاء بمعنى النداء كقولهم: دعوت زيدا أي ناديته، وعلى التقديرين إنما يلائم ظاهر المعنى الأول على ما قيل.
وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أي يميلون وينحرفون فيها عن الحق إلى الباطل يقال: ألحد إذا مال عن القصد والاستقامة، ومنه لحد القبر لكونه في جانبه بخلاف الضريح فإنه في وسطه، وقرأ حمزة هنا وفي [فصلت:
٤٠] «يلحدون» بالفتح من الثلاثي والمعنى واحد، وروى أبو عبيدة عن الأحمر أن ألحد بمعنى مارى وجادل، ولحد بمعنى مال وانحرف، واختار الواحدي قراءة الجمهور قال: ولا يكاد يسمع لأحد بمعنى ملحد، والإلحاد في أسمائه سبحانه أن يسمى بما لا توقيف فيه أو بما يوهم معنى فاسدا كما في قول أهل البدو يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه يا سخي ونحو ذلك، فالمراد بالترك المأمور به الاجتناب عن ذلك، وبأسمائه ما أطلقوه عليه تعالى وسموه به على زعمهم لا أسماؤه تعالى حقيقة، وعلى ذلك يحمل ترك الإضمار بأن يقال: يلحدون بها، وما قيل: إنه أريد بالأسماء التسميات فلذا ترك الإضمار ليس بشيء، ومن فسر الإلحاد في الأسماء بما ذكر ذهب إلى أن أسماء الله تعالى توقيفية يراعى فيها الكتاب والسنة والإجماع فكل اسم ورد في هذه الأصول جاز إطلاقه عليه جل شأنه وما لم يرد فيها لا يجوز إطلاقه وإن صح معناه، وبهذا صرح أبو القاسم القشيري في مفاتيح الحجج ومصابيح النهج، وفي أبكار الأفكار للآمدي ليس مأخذ جواز تسميات الأسماء الحسنى دليلا عقليا ولا قياسا لفظيا وإلا لكان تسمية الرب تعالى فقيها عاقلا مع صحة معاني هذه التسميات في حقه وهي العلم والفقه أولى من تسميته سبحانه وتعالى بكثير مما يشكل ظاهره بل مأخذ ذلك إنما هو الإطلاق والإذن من الشارع فكل ما ورد الإذن به منه جوزناه وما ورد المنع منه منعناه وما لم يوجد فيه إطلاق ولا منع فقد قال بعض أصحابنا بالمنع منه وليس القول بالمنع مع عدم وروده أولى من القول بالجواز مع عدم وروده إذ المنع والجواز حكمان، وليس إثبات أحدهما مع عدم الدليل أولى من الآخر بل الحق في ذلك هو الوقف وهو أنا لا نحكم بجواز ولا منع والمتبع في ذلك كله الظواهر الشرعية كما هو المتبع في سائر الأحكام وهو أن يكون ظاهرا في دلالته وفي صحته ولا يشترط فيه القطع كما ذهب إليه بعض الأصحاب لكون المنع والجواز من الأحكام الشرعية، والتفرقة بين حكم وحكم في اشتراط القطع في أحدهما دون الآخر تحكم لا دليل عليه انتهى، وأنت تعلم أن المشهور التفرقة بين الأحكام الأصولية الاعتقادية والأحكام الفرعية العملية كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى قريبا، وخلاصة الكلام في هذا المقام أن علماء الإسلام اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء والصفات على الباري تعالى إذا ورد بها الإذن من الشارع وعلى امتناعه إذا ورد المنع عنه، واختلفوا حيث لا إذن ولا منع في جواز إطلاق ما كان سبحانه وتعالى متصفا بمعناه ولم يكن من الأسماء الاعلام الموضوعة في سائر اللغات إذ ليس جواز إطلاقها عليه تعالى محل نزاع لأحد، ولم يكن إطلاقه موهما نقصا بل كان مشعرا بالمدح فمنعه جمهور أهل الحق مطلقا للخطر، وجوزه المعتزلة مطلقا، ومال إليه القاضي أبو بكر لشيوع إطلاق نحو خدا وتكرى من غير نكير فكان إجماعا، وردّ بأن الإجماع كاف في الإذن الشرعي إذا ثبت.
واعترضه أيضا إمام الحرمين بأنه قول بالقياس وهو حجة في العمليات والأسماء والصفات من العمليات، وروى بعضهم عنه التوقف، وذكر في شرح المواقف أن القاضي أبا بكر ذهب إلى أن كل لفظ دل على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه إذا لم يكن موهما لما لا يليق بذاته تعالى، ثم قال: وقد يقال: لا بد مع نفي ذلك الإيهام من الإشعار بالتعظيم حتى يصح الإطلاق بلا توقف وجعل مذهب المعتزلة غير مذهبه والمشهور ما ذكرناه.

صفحة رقم 113

وفصل الغزالي قدس سره فجوز إطلاق الصفة وهو ما دل على معنى زائد على الذات ومنع إطلاق الاسم وهو ما يدل على نفس الذات محتجا بإباحة الصدق واستحبابه والصفة لتضمنها النسبة الخبرية راجعة إليه وهي لا تتوقف إلا على تحقق معناها بخلاف الاسم فإنه لا يتضمن النسبة الخبرية وأنه ليس إلا للأبوين أو من يجري مجراهما. وأجيب بأن ذلك حيث مانع من استعمال اللفظ الدال على تلك النسبة والخطر قائم، وأين التراب من رب الأرباب؟.
واختار جمع من المتأخرين مذهب الجمهور قالوا: فيطلق ما سمع على الوجه الذي سمع ولا يتجاوز ذلك إلا في التعريف والتنكير سواء أوهم كالصبور والشكور والجبار والرحيم أو لم يوهم كالقادر والعالم، والمراد بالسمعي ما ورد به كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع لأنه غير خارج عنهما في التحقيق بخلاف الضعيفة والقياس أيضا إن قلنا: إن المسألة من العمليات أما إن قلنا: إنها من العمليات فالسنة الضعيفة كالحسنة الواهية جدا، والقياس كالإجماع، وأطلق بعضهم المنع في القياس وهو الظاهر لاحتمال إيهام أحد المترادفين دون الآخر.
وجعل بعضهم من الثابت بالقياس المترادفات من لغة أو لغات، وليس بذاك، ومن الثابت بالإجماع الصانع والموجود والواجب القديم، قيل: والعلة، وقيل: الصانع والقديم مسموعان كالحنان والمنان، ونص بعض المحققين على أنه يمنع إطلاق غير المضاف إذا كان مرادفا للمضاف المسموع قياسا كما يمنع إطلاق ما ورد على وجه المشاكلة والمجاز، وأنه لا يكفي ورود الفعل والمصدر ونحوهما في صحة إطلاق الوصف فلا يطلق الحارث والزارع والرامي والمستهزئ والمنزل والماكر عليه سبحانه وتعالى وإن جاءت آيات تشعر بذلك.
هذا ومن الناس من قال: إن الألفاظ على الصفات ثلاثة أقسام: الأول ما يدل على صفات واجبة وهو أصناف:
منها ما يصح إطلاقه مفردا لا مضافا نحو الموجود والأزلي والقديم وغيرها، ومنها ما يصح إطلاقه مفردا ومضافا إلى ما لا هجنة فيه نحو الملك والمولى والرب والخالق. ومنها ما يصح مضافا غير مفرد نحو يا منشىء الرفات ومقيل العثرات، والثاني ما يدل على صفات ممتنعة نحو اليد والوجه والنزول والمجيء فلا يصح إطلاقه البتة، وإن ورد به السمع كان التأويل من اللوازم. والثالث ما لا يدل على صفات واجبة ولا ممتنعة بل يدل على معان ثابتة نحو المكر والخداع وأمثالهما فلا يصح إطلاقه إلا إذا ورد التوقيف، ولا يقال: يا مكار يا خداع البتة وإن كان مذكورا ما يدل عليه كقوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: ٥٤] انتهى، ولا يخفى ما فيه. وذكر الطيبي أن الحق الاعتماد في الإطلاق على الإطلاق على التوقيف، وأن كل ما أذن الشارع أن يدعى به الله عزّ وجلّ سواء كان مشتقا أو غير مشتق فهو اسم، وكل ما نسب إليه سبحانه وتعالى من غير ذلك الوجه سواء كان مؤولا أو غير مؤول فهو وصف وجعل الحي وصفا والكريم اسما وادعى أنه يقال يا كريم ولا يقال يا حي مع ورود اللفظين فيه سبحانه وتعالى فيما
أخرجه أبو داود والترمذي من حديث سلمان رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الله تعالى حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يده أن يردها صفرا حتى يضع فيها خيرا»،
وذكر أن التعريف في الأسماء للعهد وأنه لا بد من المعهود لأنه سبحانه وتعالى أمر بالدعاء بها ونهى عن الدعاء بغيرها وأوعد على ذلك.
وروى الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة» وفي رواية أحصاها، وفي أخرى «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا» »
وأوتي فيه بالفذلكة والتأكيد لئلا يزاد على ما ورد. وجاءت معدودة في بعض الروايات
بقوله عليه الصلاة والسلام «هو الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت

صفحة رقم 114

الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعال البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور».
ونقل عن أهل البيت رضي الله تعالى عنهم غير ذلك وأخذوها من القرآن وجاء أيضا عندنا ما يخالف هذه الرواية في بعض الأسماء.
وذكر غير واحد من العلماء أن هذه الأسماء منها ما يرجع إلى صفة فعلية ومنها ما يرجع إلى صفة نفسية ومنها ما يرجع إلى صفة سلبية. ومنها ما اختلف في رجوعه إلى شيء مما ذكر وعدم رجوعه وهو الله والحق أنه اسم للذات وهو الذي إليه يرجع الأمر كله، ومن هنا ذهب الجل إلى أنه الاسم الأعظم، وتنقسم قسمة أخرى إلى ما لا يجوز إطلاقه على غيره سبحانه وتعالى كالله والرحمن وما يجوز كالرحيم والكريم وإلى ما يباح ذكره وحده كأكثرها وإلى ما لا يباح ذكره كذلك كالمميت والضار فإنه لا يقال: يا مميت يا ضار بل يقال: يا محيي يا مميت ويا نافع يا ضار، والذي أراه أنه لا حصر لأسمائه عزت أسماؤه في التسعة والتسعين، ويدل على ذلك ما
أخرجه البيهقي عن ابن مسعود قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أصابه هم أو حزن فليقل: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي في يدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت له نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وذهاب همي وجلاء حزني» الحديث،
وهو صريح في عدم الحصر لمكان أو وأو.
وحكى محيي الدين النووي اتفاق العلماء على ذلك وأن المقصود من الحديث الإخبار بأن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة وهو لا ينافي أن له تعالى أسماء غيرها غير موصوفة بذلك. ونقل أبو بكر بن العربي عن بعضهم أن له سبحانه وتعالى ألف اسم ثم قال: وهذا قليل وهو كما قال. وعن بعضهم أنها أربعة آلاف، وعن بعض الصوفية أنها لا تكاد تحصى، والمختار عندي عدم توقف إطلاق الأسماء المشتقة الراجعة إلى نوع من الصفات النفسية والفعلية وكذا الصفات السلبية عليه تعالى على التوقيف الخاص بل يصح الإطلاق بدونه لكن بعد التحري التام وبذلك الوسع فيما هو نص في التعظيم والتحفظ إلى الغاية عما يوهم أدنى أدنى نقص معاذ الله تعالى في حقه سبحانه لأنا مأذونون بتعظيم الله تبارك وتعالى بالأقوال والأفعال ولم يحد لنا حد فيه، فمتى كان في الإطلاق تعظيم له عزّ وجلّ كان مأذونا به، والتكليف منوط بالوسع لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فبعد بذل الوسع في التعظيم يرتفع الحرج.
وحديث الخطر الذي يذكرونه يستدعي أن لا يصح إلا إطلاق ما ثبت تواترا إطلاقه عليه جل وعلا أو اجتمعت الأمة على إطلاقه لأن الثبوت فيما عدا ذلك ظني والخطر فيه يقيني، والأسماء المتقدمة آنفا لم يوجد في كثير من الروايات ذكرها وهي مشهورة من حديث الترمذي، وقد قال: إنه حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديثه وهو ثقة عند أهل الحديث، وأنت تعلم أن هذا القدر لا يثبت به اليقين بل ولا بمثله ومثله، على أن عد بعض أهل البيت كما في الدر المنثور للتسعة والتسعين وكذا غيرهم كما لا يخفى على المتتبع يخالف هذا العد، وسند ذلك الخبر وإن لم يكن في المتانة كسند هذا إلا أنه لا أقل يورث الشبهة اللهم إلا أن يقال: حصل الإجماع على ما في حديث الترمذي دون ما في حديث غيره المخالف له لكن لم أقف على من حكى ذلك.

صفحة رقم 115

ثم إن هذه الأسماء المأخوذة مما ذكرنا لا مانع من الدعاء بها ومن إجرائها اخبارا عنه سبحانه وتعالى أو أوصافا له جل وعز وكلها حسنى، وتسميتها بذلك من جهة أنها بالمعنى المراد منها بالنسبة إليه تعالى مختصة به جل وعلا اختصاص الاسم ولا تطلق على غيره بالمعنى المراد منها حال إطلاقها على الله تعالى وإنما تطلق على الغير بمعنى آخر ليس بينه وبين ذلك المعنى إلا كما بين السواد والبياض فإن بينهما غاية البعد الذي لا يتصور أن يكون بعد فوقه لكنهما متشاركان في العرضية واللونية والمدركية بالبصر وأمور أخر سوى ذلك، وبهذا لا يعد البياض مماثلا للسواد أو بالعكس لأن المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهية وهي مفقودة هنا وكذا هي مفقودة بين العلم مثلا الذي يوصف الله تعالى به والعلم الذي يوصف غيره سبحانه وتعالى به ولا يعلم حقيقة ذلك وماهيته إلا الله تعالى كما لا يعرف حقيقة الله تعالى إلا الله تعالى في الدنيا والآخرة. نعم لو قال قائل: لا أعرف إلا الله تعالى صدق ولكن من جهة أخرى، ونهاية معرفة العارفين العجز عن المعرفة ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه فإذا انكشف لهم ذلك فقد عرفوا وبلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته سبحانه وتعالى.
وهذا الذي أشار إليه الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه حيث قال: العجز عن درك الإدراك إدراك بل هو الذي عناه سيد البشر صلّى الله عليه وسلّم
بقوله: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»
فإنه عليه الصلاة والسلام أراد إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتك وإنما أنت المحيط به وحدك لا أني أعرف منك ما لا أستطيع التعبير عنه بلساني، وتفاوت درجات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والملائكة والأولياء في المعرفة إنما هو بالوقوف على عجائب آياته في ملكوت السموات والأرض وخلق الأرواح والأجساد وحينئذ يتفاوتون في معرفة الأسماء والصفات، ومعرفة أن زيدا عالم مثلا ليس كمعرفة تفاصيل علومه كما لا يخفى، ولا يرد على ما ذكرنا من الاختصار أنه يأباه تقسيمهم أسماءه تعالى إلى مختص كالرحمن وغير مختص كالرحيم لأن مرادهم بالمختص ما اعتبر في مفهومه المطابقي ما يمنع من الإطلاق على الغير، وقد نص البيضاوي على أن معنى الرحمن المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره تعالى فلذا لا يوصف به، وبغير المختص ما لم يعتبر في مفهومه ذلك بل اعتبر فيه معنى عام فيطلق لذلك على الله تعالى وعلى غيره، لكن حال إطلاقه عليه تعالى يراد الفرد الكامل من ذلك المفهوم الذي لا يليق ولا يمكن أن يثبت إلا لله عزّ وجلّ، وقد يقال: لا فرق بين الأسماء المشتقة التي يوجد في الغير مبدأ اشتقاقها في الجملة من حيث إن اعتبار ذلك الوجود يقتضي عدم الاختصاص، واعتبار الوجود على أتم وجه وأكمله يقتضي الاختصاص من غير تفرقة بين اسم واسم إلا انا حكمنا بالاختصاص في بعض وبعدمه في آخر لأمر آخر كالاستعمال وعدم الاستعمال وإذن الشارع وعدم إذنه فلا يأبى ما قلناه أيضا نعم اعتبار الاختصاص بالله تعالى في الأسماء المذكورة في الآية لا يتأتى فيها بناء على أن تقديم الخبر يفيد الاختصاص أيضا فيكون المعنى لله لا لغيره الأسماء التي تختص به تعالى ولا تطلق على غيره، ويؤول ذلك إلى أن الأسماء المختصة به سبحانه وتعالى مختصة به جل وعلا وهو مما لا فائدة فيه، وحينئذ لا بد اما من حمل الأسماء على الصفات كما قال البعض، ومعنى الحسنى الكاملة من كل وجه أي لله تعالى لا لغيره الصفات الكاملة لأن صفات غيره سبحانه وتعالى كيفما كانت ناقصة لا أقل من أن العدم محيط بطرفيها، ومعنى فادعوه بها إلخ سموه بما يشتق منها أو نادوه بذلك وذروا الذين يميلون عن الحق في صفاته فيسمون بها غيره أو يدعون معتقدين الشركة ودعوهم وإلحادهم، واما من ارتكاب ضرب من التجوز، وما ذكره الطيبي من أن التعريف في الأسماء للعهد إلى آخر ما قاله مما لا أظنك في مرية من ركاكته فتأمل.
وجوز أن يراد بالإلحاد العدول عن تسميته تعالى ببعض أسمائه الكريمة كما قالوا: وما الرحمن؟ انا لا نعرف إلا

صفحة رقم 116

رحمن اليمامة، وعليه فالمراد بالترك الاجتناب كما أريد أولا بالأسماء أسماؤه تعالى حقيقة، فالمعنى سموه تعالى بجميع أسمائه واجتنبوا إخراج بعضها من البين، وأن يراد به إطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من الله تعالى والعزى من العزيز، فالمراد من الأسماء أسماؤه تعالى حقيقة، والإظهار في موضع الإضمار مع التجريد عن الوصف في الكل للإيذان بأن إلحادهم في نفس الأسماء من غير اعتبار الوصف. والمراد بالترك الاعراض وعدم المبالاة بما فعلوا ترقبا لنزول العقوبة فيهم عن قريب كما يشير إليه قوله تعالى: سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فإنه استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل: لم لا نبالي؟ فقيل: لأنه سينزل بهم عقوبة وتشتفون عن قريب، والمعنى على الأمر بالاجتناب اجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم ما يصيبهم فإنه سينزل بهم عقوبة ذلك وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قيل بيان إجمالي لحال من عدا المذكورين من الثقلين الموصوفين بما ذكر من الضلال على أتم وجه، وهو عند جمع من المحققين على ما ظهر للعلامة الطيبي عطف على جملة وَلَقَدْ ذَرَأْنا وقوله سبحانه وتعالى:
يَهْدُونَ إلخ إذا أخذ بجملته وزبدته كان كالمقابل لقوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ إلى هُمُ الْغافِلُونَ وكلتا الآيتين كالنشر لقوله عزّ شأنه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وهو كالتذييل لحديث الذي أوتي آيات الله تعالى والأسماء العظام فانسلخ منها وقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى اعتراض لمناسبة حديث الأسماء حديث أسماء الله تعالى العظام التي أوتيها ذلك المنسلخ كما في بعض الروايات وقد تعلق بقوله عز شأنه: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ باعتبار أنه كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله تعالى وعن أسمائه الحسنى، وأرباب الذوق والمشاهدة يجدون ذلك من أرواحهم لأن القلب إذا غفل عن ذكر الله تبارك وتعالى واقبل على الدنيا وشهواتها وقع في نار الحرص ولا يزال يهوي من ظلمة إلى ظلمة حتى ينتهي إلى دركات الحرمان، وبخلاف ذلك إذا انفتح على القلب باب الذكر فإنه يقع في جنة القناعة ولا يزال يترقى من نور إلى نور حتى ينتهي إلى أعلى درجات الإحسان، ومن إما نكرة موصوفة أو بمعنى الذي، والمراد بعض من خلقنا أو بعض ممن خلقنا طائفة جليلة كثيرة يهدون الناس ملتبسين بالحق أو يهدونهم بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة وبالحق يحكمون في الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجورون فيها.
أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أنه قال: ذكر لنا «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: هذه أمتي».
وأخرج عن قتادة أنه قال: بلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: «هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون».
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام».
وروى الشيخان عن معاوية والمغيرة بن شعبة قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك».
واستدل الجبائي بالآية على صحة الإجماع في كل عصر سواء في ذلك عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة رضي الله تعالى عنهم وغيره إذ لو اختص لم يكن لذكره فائدة لأنه معلوم، وعلى أنه لا يخلو عصر عن مجتهد إلى قيام الساعة لأن المجتهدين هم أرباب الإجماع، قيل: وهو مخالف لما روي من أنه لا تقوم الساعة إلا على أشرار الخلق ولا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله، وأجيب بأن ذلك الزمان ملحق بيوم القيامة لمعانقته له، والمراد عدم خلو العصر عن مجتهد فيما عداه، وقيل: المراد من الخبرين الإشارة إلى غلبة الشر فلا ينافي وجود النزر من أهل ذلك العنوان، والواحد منهم كاف وهو حينئذ الأمة، والاقتصار على نعتهم بهداية الناس للايذان بأن اهتداءهم في أنفسهم أمر محقق غني عن التصريح وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ولم تنفعهم هداية الهادين كأهل مكة وغيرهم، واقتصر بعضهم على

صفحة رقم 117

الأولين والعموم أولى، وإضافة الآيات إلى ضمير العظمة لتشريفها واستعظام الاقدام على تكذيبها، والموصول في محل الرفع على أنه مبتدأ خبره جملة سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أي سنستدنيهم البتة إلى الهلاك شيئا فشيئا، وجوز أن يكون في محل النصب بفعل محذوف يفسره المذكور، والاستدراج استفعال من الدرجة بمعنى النقل درجة بعد درجة من سفل إلى علو فيكون استصعادا أو بالعكس فيكون استنزالا وقد استعمله الأعشى في قوله:

وعوراء الكلام صممت عنها وإني لو أشاء لها سميع
فلو كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
ليستدرجنك القول حتى تهره وتعلم أني عنكم غير مفحم
في مطلق معناه، وقال بعضهم: هو استفعال من درج إما بمعنى صعد ثم اتسع فيه فاستعمل في كل نقل تدريجي سواء كان بطريق الصعود أو الهبوط أو الاستقامة، وإما بمعنى مشى مشيا ضعيفا ومنه درج الصبي وإما بمعنى طوى ومنه أدرج الكتاب ثم استعير لطلب كل نقل تدريجي من حال إلى حال من الأحوال الملائمة للمنتقل الموافقة لهواه، واستدراجه تعالى إياهم بادرار النعم عليهم مع انهماكهم في الغي، ولذا قيل: إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج، وهذا يمكن حمله على الاستصعاد باعتبار نظرهم وزعمهم أن متواترة النعم اثرة من الله تعالى وهو الظاهر، وعلى الاستنزال باعتبار الحقيقة فإن الجبلة الإنسانية في أصل الفطرة سليمة متهيئة لقبول الحق لقضية كل مولود يولد على الفطرة فهو في بقاع التمكن على الهدى والدين فإذا أخلد إلى الأرض واتبع الشهوات وارتكب المعاصي والسيئات ينزل درجة درجة إلى أن يصير أسفل السافلين، وأيّا ما كان فليس المطلوب إلا تدرجهم في مدراج المعاصي إلى أن يحق عليهم كلمة العذاب الأخروي أو الدنيوي على ما قيل على أفظع حال وأشنعها وإدرار النعم وسيلة إلى ذلك مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أنه كذلك بل يحسبون أنه أثرة من الله تعالى، وقيل: لا يعلمون ما يراد بهم، والجار والمجرور متعلق بمضمر وقع صفة لمصدر الفعل المذكور أي سنستدرجهم كائنا من حيث لا يعلمون وَأُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم والواو للعطف وما بعده معطوف على سنستدرجهم غير داخل في حكم السين لما أن الامهال ليس من الأمور التدريجية كالاستدراك الحاصل في نفسه شيئا فشيئا بل هو مما يحصل دفعة والحاصل بطريق التدريج آثاره وأحكامه ليس إلا، ويلوح بذلك تغيير التعبير بتوحيد الضمير مع ما فيه من الافتنان المنبئ عن مزيد الاعتناء بمضمون الكلام لابتنائه على تجديد القصة والعزيمة، وجعله غير واحد داخلا في حكمها، ولا يخفى التوحيد حينئذ، وقيل: إنه كلام مستأنف أي وأنا أملي لهم، والخروج من ذلك الضمير إلى ضمير المتكلم المفرد شبيه الالتفات واستظهر أنه من التلوين.
وما قيل: إن هذا للإشعار بأن الامهال بمحض التقدير الإلهي وذاك للإشارة إلى أن الاستدراج بتوسط المدبرات ليس بشيء لمكان لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ [آل عمران: ١٧٨] إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ تقرير للوعيد وتأكيد له، والمتين من المتانة بمعنى الشدة والقوة، ومنه المتن للظهر أو اللحم الغليظ في جانبي الصلب، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الكيد بالمكر. وفسره بعضهم بالاستدراج والاملاء مع نتيجتهما، وتسميته كيدا لما أن ظاهره لطف وباطنه قهر، وبعضهم بنفس الأخذ فقط فتسميته حينئذ بذلك قيل: لكون مقدماته كذلك، وقيل:
لنزوله بهم من حيث لا يشعرون، وأيا ما كان فالمعنى أن كيدي قوي لا يدافع بقوة ولا بحيلة، والآية حجة لأهل السنة في مسألة القضاء والقدر. وادعى بعض المفسرين أنها نزلت في المستهزئين من قريش أمهلهم الله تعالى ثم أخذهم في يوم بدر، ثم إنه سبحانه وتعالى لما بالغ في تهديد الملحدين المعرضين الغافلين عن آياته والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام عقب ذلك على ما قيل بالجواب عن شبهتهم وإنكار عدم تفكرهم فقال عز من قائل: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما

صفحة رقم 118

بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ
فالهمزة للإنكار والتوبيخ، والواو للعطف على مقدر يستدعيه السياق والسباق، والخلاف في مثل هذا التركيب مشهور وقد تقدمت الإشارة إليه.
وما قال أبو البقاء: تحتمل أن تكون استفهامية إنكارية في محل الرفع بالابتداء والخبر بِصاحِبِهِمْ وأن تكون نافية اسمها جِنَّةٍ وخبرها بِصاحِبِهِمْ. وجوز أن تكون موصولة، وفيه بعد. والجنة مصدر كالجلسة بمعنى الجنون، وليس المراد به الجن كما في قوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس: ٦] لأنه يحتاج إلى تقدير مضاف أي مس جنة أو تخبطها، والتنكير للتقليل والتحقير، والتفكر التأمل وإعمال الخاطر في الأمر، وهو من أفعال القلوب فحكمه حكمها في أمر التعليق، ومحل الجملة على الوجهين النصب على نزع الخافض، ومحل الموصول نصب على ذلك في الوجه الأخير، أي أكذبوا ولم يتفكروا في أي شيء من جنون ما كائن بصاحبهم الذي هو أعظم الهادين الحق وعليه أنزلت الآيات، أو في أنه ليس بصاحبهم شيء من جنة حتى يؤديهم التفكر في ذلك إلى الوقوف على صدقه وصحة نبوته فيؤمنوا به وبما أنزل عليه من الآيات أو في الذي بصاحبهم من جنة بزعمهم ليعلموا أن ذلك ليس من الجنة في شيء فيؤمنوا، واختار الطبرسي أن الكلام قد تم عند قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا أي أكذبوا ولم يتفكروا في أقواله وأفعاله أو أو لم يفعلوا التفكر، ثم ابتدئ فقيل: أي شيء بصاحبهم من جنة ما على طريقة الإنكار والتعجيب والتبكيت، أو قيل: ليس بصاحبهم شيء منها. والمراد بصاحبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بذلك لتأكيد النكير وتشديده لأن الصحبة مما يطلعهم على نزاهته صلّى الله عليه وسلّم عن شائبة مما ذكر، والتعرض لنفي الجنون عنه عليه الصلاة والسلام مع وضوح استحالة ثبوته له لما أن التكلم بما هو خارق لا يصدر إلا عمن به مس من الجنة كيفما اتفق من غير أن يكون له أصل أو عمن له تأييد إلهي يخبر به عن الغيوب، وإذ ليس به عليه الصلاة والسلام شيء من الأول تعين الثاني.
وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا يا بني فلان يحذرهم بأس الله تعالى ووقائعه إلى الصباح حتى قال قائلهم: إن صاحبكم هذا المجنون بات يهوت حتى أصبح فأنزل الله تعالى الآية،
وعليه فالتصريح بنفي الجنون للرد على عظيمتهم الشنعاء عند من له أدنى عقل، والعبير بصاحبهم وارد على مشاكلة كلامهم مع ما فيه من النكتة السالفة. وذكر بعضهم في سبب النزول أنهم كانوا إذا رأوا ما يعرض له صلّى الله عليه وسلّم من برحاء الوحي قالوا: جن فنزلت إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ تقرير لما قبله وتكذيب لهم فيما يزعمونه حيث تبين فيه حقيقة حاله صلّى الله عليه وسلّم أي ما هو عليه الصلاة والسلام إلا مبالغ في الانذار مظهر له غاية الإظهار، ثم لما كان أمر النبوة مفرعا على التوحيد ذكر سبحانه ما يدل عليه فقال جل شأنه: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو مسوق للإنكار والتوبيخ بإخلالهم بالتأمل بالآيات التكوينية إثر ما نعي عليهم ما نعي، والهمزة هنا كالهمزة فيما قبل، والواو للعطف على مقدر كما تقدم أو على الجملة المنفية بلم، والملكوت الملك العظيم، أي أكذبوا أو لم يتفكروا فيما ذكر ولم ينظروا نظر تأمل واستدلال فيما يدل على كما قدرة الصانع ووحدة المبدع وعظيم شأن المالك ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه ذاك الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وكأن التعبير بالنظر هنا دون التفكر الذي عبر به فيما قبل للإشارة إلى أن الدليل هنا أوضح منه فيما تقدم. وقوله سبحانه وتعالى: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يحتمل أن يكون عطفا على ملكوت وتخصيصه بالسماوات والأرض لكمال ظهور عظم الملك فيهما، وأن يكون عطفا على المضاف هو إليه فيكون منسحبا على الجميع، والتعميم لاشتراك الكل في عظم الملك في الحقيقة، ومِنْ شَيْءٍ بيان «لما»، وفي ذلك تنبيه على أن الدلالة على التوحيد غير مقصورة على السموات والأرض بل كان ذرة من ذرات العالم دليل على توحيده:

صفحة رقم 119

وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
وهذا أمر متفق عليه عند العقلاء. نعم منهم من جعل وجه الدلالة الحدوث وهو الذي عليه معظم المتكلمين، ومنهم من جعل وجهها الإمكان وهو الذي عليه الفلاسفة واختاره بعض المتكلمين، ورجح الأول قطب عصره الشيخ خالد المجددي قدس سره في تعليقاته على حواشي عبد الحكيم على الخيالي فارجع إليها، وقوله تعالى: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ عطف على ملكوت فهو معمول لينظروا لكن لا يعتبر فيه بالنظر إليه أنه للاستدلال بناء على ما قالوا: إن قيد المعطوف عليه لا يلزم ملاحظته في المعطوف، وقد تقدم الكلام في ذلك، وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وخبرها عسى مع فاعلها الذي هو أَنْ يَكُونَ، وخبر ضمير الشأن لا يشترط فيه الخبرية ولا يحتاج إلى التأويل كما نص عليه المحققون فلا معنى معنى للمناقشة في ذلك، واسم يكون أيضا ضمير الشأن والخبر قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ، ولم يجعلوا هذا من باب التنازع لأن تنازع كان وخبرها مما لم يعهد لا لأن ذلك خلاف الأصل لما فيه من الإضمار قبل الذكر لأن ذلك لازم على جعل الاسم ضمير الشأن ولا ضير في كل، وأمر التكرار فيما ذكرنا سهل فلا يرتكب له خلاف المعهود خلافا للقطب الرازي، وجوز أبو البقاء أن تكون مصدرية، وتعقب بأنها لا توصل إلا بالفعل المتصرف وعسى ليست كذلك، والمعنى أولم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مغافصة الموت ومفاجأته ونزول العذاب، فالمراد بأجلهم أجل موتهم، وجوز أن يكون عبارة عن الساعة، والإضافة إلى ضميرهم لملابستهم لها من جهة انكارهم إياها وبحثهم عنها، وقوله جل وعلا: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ قطع لاحتمال إيمانهم رأسا ونفي له بالكلية بعد الزام الحجة والإرشاد إلى النظر، والباء متعلقة بيؤمنون، وضمير بعده للقرآن على ما ذهب إليه غالب المفسرين وهو معلوم من السياق، والحديث بمعنى الكلام فلا دليل في الآية لمن يزعم حدوث القرآن، وقيل: ولئن سلمنا كونه دليلا يراد من القرآن الألفاظ وهي محدثة على المشهور، والمعنى إذا لم يؤمنوا بالقرآن وهو النهاية في البيان فبأي كلام يؤمنون بعده، وقيل: الضمير للآيات على حذف المضاف المفهوم من كذبوا، والتذكير باعتبار كونها قرآنا أو بتأويلها بالمذكور أو إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة.
والمعنى أكذبوا بالآيات ولم يتفكروا فيما يوجب تصديقها من أحواله عليه الصلاة والسلام وأحوال المصنوعات فبأي حديث بعد تكذيبها يؤمنون، وفيه بعد، وقيل: إنه يعود على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بتقدير مضاف أيضا أي بعد حديثه يؤمنون وهو أصدق الناس، وقيل: المراد بعد هذا الحديث، وقيل: بعد الأجل أي كيف يؤمنون بعد انقضاء أجلهم؟، وجعل الزمخشري ذلك مرتبطا بقوله تعالى: وَأَنْ عَسى إلخ ارتباط التسبب عنه، والضمير للقرآن كأنه قيل: لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الايمان بالقرآن قبل الموت وماذا ينظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا، وتقدير ما قدر عند صاحب الكشف ليس لأنه لا بد من تقديره ليستقيم الكلام بل للتنبيه على معنى الاستبطاء الذي في ضمن أي، وأنه ليس بعد هذا البيان الواضح أمر منتظر، وقوله عز شأنه: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ استئناف مقرر لما قبله مبني على الطبع على قلوبهم، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وقوله سبحانه وتعالى: وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ بالياء والرفع على الاستئناف أي وهو يذرهم، وقرأ غير واحد بنون العظمة على طريقة الالتفات أي ونحن نذرهم، وقرأ حمزة. والكسائي بالياء والجزم عطفا على محل الجملة الاسمية الواقعة جواب الشرط كأنه قيل: من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم، ويحتمل أن يكون ذلك تسكينا للتخفيف كما قرىء يشعركم وينصركم، وقد روي الجزم مع النون عن نافع وأبي عمرو في الشواذ، وتخريجه على أحد الاحتمالين، وقوله تبارك

صفحة رقم 120

وتعالى: يَعْمَهُونَ حال من مفعول يذرهم، والعمه التردد في الضلال والتحير أو أن لا يعرف حجة، وإفراد الضمير في حيز النفي رعاية للفظ مَنْ وجمعه في حيز الإثبات رعاية لمعناها للتنصيص على شمول النفي والإثبات للكل كما قيل هذا.
«ومن باب الإشارة في الآيات» وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها إشارة إلى من ابتلي بالحور بعد الكور بأن سلك حتى ظهر له ما ظهر ثم رجع من الطريق لسوء استعداده وغلبة الشقاوة والعياذ بالله تعالى عليه، وفي التعبير بانسلخ ما لا يخفى وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها إلى حظيرة القدس وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي مال إلى أرض الطبيعة السفلية وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار السوي فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ في أخس أحواله إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ بالزجر يَلْهَثْ يدلع لسانه مع التنفس الشديد أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أيضا. والمراد أنه يلهث دائما وكأنه إشارة إلى أن هذا المنسلخ لا يزال يطلق لسانه في أهل الكمال سواء زجر عن ذلك أو لم يزجر وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وهم مظاهر القهر لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها الأسرار وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها الحجج الكونية وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الآيات التنزيلية فهم صم بكم عمي أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ ليس لهم هم إلا الأكل والشرب بَلْ هُمْ أَضَلُّ منها لأنهم لا ينزجرون إذا زجروا ولا يهتدون إذا أرشدوا.
ومما يستبعد من طريق العقل ما نقله الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس سره أن البهائم مكلفون محتجا بقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: ٣٨] مع قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ وبما
ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم «إنه ليؤخذ للشاة الجماء من الشاة القرناء»
وهذا وإن كان في الشاة لكن لا قائل بالفرق، ونقل عنه القول بأن كل ما في الوجود من حيوان ونبات وجماد حي دراك، ثم قال:
فقلت له فهل تشبيه الحق تعالى من ضل من عباده بالأنعام بيان لنقص الأنعام عن الإنسان أم لكمالها في العلم بالله تعالى؟ فقال رضي الله تعالى عنه: لا أعلم، ولكني سمعت بعضهم يقول: ليس تشبيههم بالأنعام نقصا وإنما هو لبيان كمال مرتبتها في العلم بالله عزّ وجلّ حتى حارت فيه فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار فيه فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى، فأعلى ما يصل إليه العلماء في العلم بربهم سبحانه وتعالى مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل عن أصله وإن كانت منتقلة في شؤونه بتنقل الشؤون الإلهية لأنها لا تثبت على حال، ولذلك كان من وصفهم سبحانه وتعالى من هؤلاء القوم أضل سبيلا من الأنعام لأنهم يريدون الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن لهم ذلك، والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه لشدة علمها بالله تعالى، وذكر أنها ما سميت بهائم إلا لأن أمرها قد أبهم على غالب الخلق فلم يعرفوه كما عرفه أهل الكشف انتهى.
وهو كلام يورث المؤمن به حسدا للبهائم نفعنا الله تعالى بها وأعاذنا من الحسد وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي يدبر كل أمر باسم منها فَادْعُوهُ بِها حسب المراتب وأعلاها الدعاء بلسان الفعل وهو التحلي بمعانيها بقدر ما يتصور في حق العبد وذلك حظ المقربين منها، وذكر حجة الإسلام الغزالي قدس سره أن حظوظهم من معاني أسمائه تعالى ثلاثة. الأول معرفتها على سبيل المكاشفة والمشاهدة حتى يتضح لهم حقائقها بالبرهان الذي لا يجوز فيه الخطأ وينكشف لهم اتصاف الله تعالى بها انكشافا يجري الوضوح والبيان مجرى اليقين الحاصل للإنسان بصفاته الباطنة التي يدركها بمشاهدة باطنة لا بإحساس ظاهره، وكم بين هذا وبين الاعتقاد المأخوذ من الآباء والمعلمين تقليدا، والتصميم عليه وإن كان مقرونا بأدلة جدلية كلامية.
الثاني استعظامهم ما يكشف لهم من صفات الجلال والكمال على وجه ينبعث منه شوقهم إلى الاتصاف بما

صفحة رقم 121

يمكنهم من تلك الصفات ليقربوا بها من الحق قربا بالصفة لا بالمكان فيأخذوا من الاتصاف بها شبها بالملائكة المقربين عند الله تعالى، والخلو من هذا الشوق لا يكون إلا لأحد أمرين إما لضعف المعرفة، وإما لكون القلب ممتلئا بشوق آخر مستغرقا به. والثالث السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلق بها والتحلي بمحاسنها، وبذلك يصير العبد ربانيا رفيقا للملأ الأعلى من الملائكة شبيها بهم، وحينئذ لا يؤثر القرب والبعد في إدراكه بل لا يقتصر إدراكه على ما يتصور فيه ذلك ويكون مقدسا عن الشهوة والغضب فلا تكون أفعاله بمقتضاها بل الداعي إليها حينئذ طلب التقرب إلى الله تعالى ولا يلزم من هذا إثبات المماثلة بين الله سبحانه وتعالى وبين العبد، وقد قال جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] لأن المماثلة هي المشاركة في النوع والماهية لا مطلق المشاركة فالفرس الكيس وإن كان بالغا في الكياسة ما بلغ لا يكون مماثلا للإنسان لمخالفته له بالنوع وإن شابهه بالكياسة التي هي عارضة خارجة عن المقومات الإنسانية وأنت تعلم بأدنى التفات أنه لا يتصور الشركة بين الله تعالى الحي العليم المريد القادر المتكلم السميع البصير وبين العبد المتصف بالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر إلا في إطلاق الاسم لا غير، والكلام
في خبر «لا زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل» إلخ
يستدعي الخوض في بحر لا ساحل له فخذ ما آتيناك وذر الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ يطلبون معانيها من غيره سبحانه وتعالى ويضيفونها إليه وهؤلاء مما ذرأهم سبحانه وتعالى لجهنم سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإلحاد وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وهم المرشدون الكاملون وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كالمنكرين على هؤلاء الأمة سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ انا سنستدرجهم وَأُمْلِي لَهُمْ أمهلهم إِنَّ كَيْدِي أخذي مَتِينٌ شديد، وقد جرت عادة الله تعالى في المنكرين على أوليائه أن يأخذهم أشد أخذ وقد شاهدنا ذلك كثيرا نعوذ بالله تعالى من مكره، أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وهي الآيات التكوينية، وقد تقدم معنى الملكوت وهو في مصطلح الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم عبارة عن عالم الغيب المختص بالأرواح والنفوس وفسروا الملك بعالم الشهادة من المحسوسات الطبيعية كالعرش والكرسي وغيرهما وكل جسم يتركب من الاستقصاءات مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ إذ لا هادي سواه سبحانه:

إلى الماء يسعى من يغص بلقمة إلى أين يسعى من يغص بماء
وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يترددون لأن استعدادهم يقتضي ذلك، والله تعالى الموفق، ثم لما تقدم ذكر اقتراب أجلهم عقبه سبحانه بذكر سؤالهم عن الساعة فقال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ وقيل هو استئناف مسوق لبيان بعض طغيانهم وضلالهم، والساعة في الأصل اسم لمقدار قليل من الزمان غير معين، وهي عند المنجمين جزء من أربعة وعشرين جزءا من الليل والنهار، وتنقسم إلى معوجة ومستوية، وتطلق في عرف الشرع على يوم موت الخلق وعلى يوم قيام الناس لرب العالمين، وفسروها بيوم القيامة، ولعل المراد منه أحد ذينك اليومين وإن كان المشهور فيه اليوم الآخر، والظاهر أن المسئول عنه اليوم الأول، وإليه ذهب الزجاج، والساعة في ذلك من الأسماء الغالبة، ووجه إطلاقها عليه وكذا على وقت القيام ظاهر إن أريد زمان الموت أو زمان القيام بدون ملاحظة الامتداد لظهور أنه قدر يسير في نفسه، وإن أريد الزمان الممتد فإطلاقها عليه إما لمجيئه بغتة كما قيل، أو لأنه يدهش من يأتيهم فيقل عندهم أو يقلل ما قبله، أو لأنه على طوله قدر يسير عند الله تعالى، أو لسرعة حسابه، وجوز أن يكون تسميته بذلك من باب التسمية بالضد تمليحا كما يسمى الأسود كافورا، والسائل عن ذلك أناس من اليهود،
فقد أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال: حمل بن أبي قشير وسمول بن زيد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أخبرنا متى الساعة إن

صفحة رقم 122

كنت نبيا كما تقول فإنا نعلم متى هي؟ وكان ذلك امتحانا منهم مع علمهم أنه تعالى قد استأثر بعلمها فأنزل الله تعالى الآية.
وذهب بعض إلى أن السائل قريش،
فقد أخرج عبد بن حميد. وابن جرير عن قتادة أن قريشا قالوا: يا محمد أسر إلينا متى الساعة لما بيننا وبينك من القرابة؟ فنزلت.
وقوله سبحانه: أَيَّانَ مُرْساها بفتح همزة أيان. وقرأ السلمي بكسرها وهو لغة فيها، وهي ظرف زمان متضمن لمعنى الاستفهام ويليها المبتدأ أو الفعل المضارع دون الماضي بخلاف متى حيث يليها كلاهما، والتحقيق أنها بسيطة مرتجلة، وقيل: اشتقاقها من أي وهي فعلان منه لأن معناه أي وقت، وأي فعل، وأي من أويت بمعنى رجعت لأن باب طويت وشويت أضعاف باب حييت ووعيت ولقربه منه معنى لأن البعض آو إلى الكل ومستند إليه. وأصله على هذا أوي فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصار أيا وإنما لم تجعل أيان فعلا لا من أين لأنها ظرف زمان وأين ظرف مكان، ومن الناس من زعم أن أصلها أي أوان أو أي آن وليس بشيء.
وتعقب في الكشف حديث الاشتقاق من أي بأنه مخالف لما ذكره الزمخشري في سورة النمل ولو سمي به لكان فعالا من آن يئين ولا تصرف، ثم قال: والوجه ما ذكره هناك لأن الاشتقاق في غير المتصرفة لا وجه له. ثم إنه ليس اشتقاقه من أي أولى من اشتقاقه من الأين بمعنى الحينونة لأن أيان زمان وكأنه غيره الاستفهام وليس بشيء لأنه بالتضمين كما في متى ونحوه وكذلك اشتقاق أي من أويت لا وجه له إلا أن الأظهر أنه يجوز الصرف وعدمه كما في حمار قبان اهـ.
وأجيب بأن ما ذكر أمر قدروه للامتحان وليعلم حكمها إذا سمي بها فلا ينافي ما ذكره الزمخشري وكذا لا ينافي لتحقيق فتأمل، وأيا ما كان فهي في محل الرفع على أنها خبر مقدم ومرساها مبتدأ مؤخر وهو مصدر ميمي من أرساه إذا أثبته وأقره أي متى إثباتها وتقريرها، ولا يكاد يستعمل الإرساء إلا في الشيء الثقيل كما في قوله تعالى:
وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات: ٣٢] ومنه مرساة السفن، ونسبته هنا إلى الساعة باعتبار تشبيه المعاني بالأجسام.
وجوز بعضهم أن يكون اسم زمان، ولا يرد عليه أنه يلزم أن يكون للزمان زمان، وفي جوازه خلاف الفلاسفة لأنه يؤول بمتى وقوع ذلك، والجملة قيل في محل النصب على المفعولية به لقول محذوف وقع حالا من ضمير يسألونك أي يسألونك قائلين أيان مرساها، وقيل في محل الجر على البدلية عن الساعة.
والتحقيق عند بعض جلة المحققين أن محلها النصب بنزع الخافض لأنها بدل من الجار والمجرور لا من المجرور فقط، وفي تعليق السؤال بنفس الساعة أولا وبوقت وقوعها ثانيا تنبيه على أن المقصد الأصلي من السؤال نفسها باعتبار حلولها في وقتها المعين باعتبار كونه محلا لها، وما في الجواب أعني قوله سبحانه: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي مخرج على ذلك أيضا أي إن علمها بالاعتبار المذكور عنده سبحانه لا غير فلا حاجة إلى أن يقال: إنما علم وقت إرسائها عنده عزّ وجلّ، وبعضهم حيث غفل عن النكتة المشار إليها حمل النظم الجليل على حذف المضاف، وإليه يشير كلام أبي البقاء، ومعنى كون ذلك عنده عزّ وجلّ خاصة أنه استأثر به حيث لم يخبرا أحدا به من ملك مقرب أو نبي مرسل، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم قيل للإيذان بأن توفيقه عليه الصلاة والسلام للجواب على الوجه المذكور من باب التربية والإرشاد وهو أولى مما سنشير إليه إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ بيان لاستمرار خفائها إلى حين قيامها واقناط كلي عن إظهار أمرها بطريق الإخبار، والتجلية الكشف والإظهار، واللام لام التوقيت واختلف فيها فقيل هي بمعنى في، وقال ابن جني: بمعنى عند، وقال الرضي: هي اللام المفيدة للاختصاص، وهو على ثلاثة أضرب اما أن يختص الفعل بالزمان لوقوعه فيه ككتبت

صفحة رقم 123

لغرة كذا أو لوقوعه بعده نحو لخمس خلون أو قبله نحو لليلة بقيت، ومع الإطلاق يكون الاختصاص لوقوعه فيه وإلا فحسب القرينة، وفسرها هنا غير واحد بفي.
والمعنى لا يكشف عنها ولا يظهر للناس أمرها الذي تسألون عنه إلا الرب سبحانه بالذات من غير أن يشعر به أحد من المخلوقين فيتوسط في إظهاره لهم لكن لا بأن لا يخبرهم بوقتها كما هو المسئول بل بأن يقيمها فيعلموها على أتم وجه، والجار والمجرور متعلق بالتجلية وهو قيد لها بعد ورود الاستثناء كأنه قيل: لا يجليها إلا هو في وقتها إلا أنه قدم للتنبيه من أول الأمر على أن تجليها ليس بطريق الاخبار بوقتها بل بإظهار عينها في وقتها الذي يسألون عنه، وقوله تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استئناف كما قبله مقرر لما سبق، والمراد كبرت وعظمت على أهلهما حيث لم يعلموا وقت وقوعها. وعن السدي أن من خفي عليه علم شيء كان ثقيلا عليه، وعن قتادة أن المعنى عظمت على أهل السموات والأرض حيث يشفقون منها ويخافون شدائدها، وفي رواية أخرى عنه أن المراد ثقل علمها عليهم فلا يعلمونها، ويرجع إلى ما ذكر أولا، وقيل: المعنى ثقلت عند الوقوع على نفس السموات حتى انشقت وانتثرت نجومها وكورت شمسها وعلى نفس الأرض حتى سيرت جبالها وسجرت بحارها وكان ما كان فيها، وإلى ذلك يشير ما روي عن ابن جريج وعليه فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، وكلمة في على سائر إلا وجه استعارة منبهة على تمكن الفعل كما لا يخفى لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أي إلا فجأة على حين غفلة،
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتقومن الساعة وقد نشر رجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها»
يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أي عالم بها كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن المنذر وغيره «فحفي» فعيل من حفى عن الشيء إذا بحث عن تعرف حاله، وذكر بعضهم أن الحفاوة في الأصل الاستقصاء في الأمر للاعتناء به قال الأعشى:

فإن تسألوا عني فيا رب سائل حفيّ عن الأعشى به حيث أصعدا
ومنه إحفاء الشارب، وتطلق أيضا على البر واللطف كما قال تعالى: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مريم: ٤٧]، والمعنى المراد هنا متفرع على المعنى الأول لأن من بحث عن شيء وسأل منه استحكم علمه به فأريد به لازم معناه مجازا أو كناية وعدي الوصف بعن اعتبار الأصل معناه وهو السؤال والبحث، وقيل: لأنه ضمن معنى الكشف ولولا ذلك لعدي بالباء، وجوز أن البقاء أن تكونن بمعنى الباء، وروي عن الحبر. وابن مسعود أنهما قرآ بها.
والجملة التشبيهية في محل نصب على أنها حال من مفعول يسألونك أي مشبها حالك عندهم بحال من هو حفي، وقيل: إن عنها متعلق بيسألونك، والجملة التشبيهية معترضة وصلة حفي محذوفة أي بها أو بهم بناء على ما قيل إن حفي من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشا قالوا له عليه الصلاة والسلام: إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة؟ وروي ذلك عن قتادة وترجمان القرآن أيضا، والمعنى عليه أنهم يظنون أن عندك علمها لكن تكتمه فلشفقتك عليهم طلبوا منك أن تخصهم به وتعلق عَنِ على هذا الوجه بمحذوف كتخبرهم وتكشف لهم عنها بعيد، وقيل:
هو من حفي بالشيء إذا فرح به، وروي ذلك عن مجاهد والضحاك وغيرهما، والمعنى كأنك فرح بالسؤال عنها تحبه، وعَنِ على هذا متعلقة- بحفي- كما قيل: لتضمنه معنى السؤال، والكلام على ما قال شيخ الإسلام استئناف مسوق لبيان خطئهم في توجيه السؤال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بناء على زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام عالم بالمسئول عنه أو أن العلم بذلك من مقتضيات الرسالة أثر بيان خطئهم في أصل السؤال بإعلام بيان المسئول عنه، وفي

صفحة رقم 124

الانتصاف في توجيه تكرير يسألونك أن المعهود في أمثال ذلك أن الكلام إذا بني على مقصد وعرض في أثنائه عارض فأريد الرجوع لتتمة المقصد الأول وقد بعد عهده وطوي ذكره لتتصل النهاية بالبداية، وهنا لما ابتدأ الكلام بقوله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ثم اعترض ذكر الجواب بقل إلى بغتة أريد تتمة سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم وهو المضمن في قوله سبحانه: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وهو شديد التعلق بالسؤال وقد بعد عهده فطري ذكره ليليه تمامه، ولا تراه أبدا يطري إلا بنوع من الإجمال، ومن ثم لم يذكر المسئول عنه وهو الساعة اكتفاء بما تقدم، ثم لما كرر جل وعلا السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا فقال عزّ من قائل: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ ومنه يعلم وجه ذكر الاسم الجليل هنا، وذكر المحقق الأول أنه عليه الصلاة والسلام أمر بإعادة الجواب الأول تأكيدا للحكم وتقريرا له وإشعارا بعلته على الطريقة البرهانية بإيراد اسم الذات المنبئ عن استتباعها لصفات الكمال التي من جملتها العلم وتمهيدا للتعريض بجهلهم بقوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وزعم الجبائي أن السؤال الأول كان عن وقت قيام الساعة وهذا السؤال كان عن كيفيتها وتفصيل ما فيها من الشدائد والأحوال قيل:
ولذلك خص جوابه باسم الذات إذ هو أعظم الأسماء مهابة، وإلى ذلك ذهب النيسابوري ونقل عن الإمام وغيره، ولا أرى لهم مسندا في ذلك، ومفعول العلم على ما يشير إليه كلام بعضهم محذوف أي لا يعلمون ما ذكر من اختصاص علمها به تعالى فبعضهم ينكرها رأسا فلا يسأل عنها إلا متلاعبا، وبعضهم يعلم أنها واقعة البتة ويزعم أنك واقف على وقت وقوعها فيسأل جهلا، وبعضهم يزعم أن العلم بذلك من مقتضيات الرسالة فيتخذ السؤال ذريعة إلى القدح فيها، والواقف على جلية الحال ويسأل امتحانا ملحق بالجاهلين لعدم عمله بعمله هذا، وإنما أخفى سبحانه أمر الساعة لاقتصاء الحكمة التشريعية ذلك فإنه ادعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك، ولو قيل بأن الحكمة التكوينية تقتضي ذلك أيضا لم يبعد، وظاهر الآيات أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم وقت قيامها. نعم علم عليه الصلاة والسلام قربها على الإجمال وأخبر صلّى الله عليه وسلّم به.
فقد أخرج الترمذي وصححه عن أنس مرفوعا «بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى»،
وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا أيضا «إنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى غروب الشمس»
وجاء في غير ما أثر أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وأنه عليه الصلاة والسلام بعث في أواخر الألف السادسة ومعظم الملة في الألف السابعة.
وأخرج الجلال السيوطي عدة أحاديث في أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وذكر أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ الزيادة عليها خمسمائة سنة، واستدل على ذلك بأخبار وآثار ذكرها في رسالته المسماة- بالكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف- وسمى بعضهم لذلك هذه الألف الثانية بالمخضرمة لأن نصفها دنيا ونصفها الآخر أخرى، وإذا لم يظهر المهدي على رأس المائة التي نحن فيها ينهدم جميع ما بناه كما لا يخفى على من راجعه، وكأني بك تراه منهدما، ونقل السفاريني عن الفلاسفة أنهم زعموا أن تدبير العالم الذي نحن فيه للسنبلة فإذا تم دورها وقع الفساد والدثور في العالم فإذا عاد الأمر إلى الميزان تجتمع المواد ويقدر النشور عودا، وقال البكري: إن سلطان الحمل عندهم اثنا عشر ألف سنة وسلطان الثور دونه بألف وهكذا ينقص ألف ألف إلى الحوت فيكون سلطانه ألف سنة ومجموع ذلك ثمانية وسبعون ألف سنة فإذا كملت انقضى عالم الكون والفساد، ونقل ذلك عن هرمس وادعى أنه قال: إنه لم يكن في حكم الحمل والثور والجوزاء على الأرض حيوان فلما كان حكم السرطان تكونت دواب الماء وهو أم الأرض ولما كان حكم الأسد تكونت الدواب ذوات الأربع ولما كان حكم السنبلة تولد الإنسانان الأولان آدم نوس وحوا نوس وزعم بعضهم أن مدة العالم مقدار قطع الكواكب الثابتة لدرج الفلك، والكوكب منها يقطع البرج بزعمه

صفحة رقم 125

في ثلاثة آلاف سنة فذلك ست وثلاثون ألف سنة انتهى. ولا يخفى على من اطلع على كتب الأرصاد والزيجات أن الأدوار عندهم ثلاثة أكبر وأوسط وأصغر ويسمونها التسييرات، وهي على السوية في جميع البروج فالدور الأكبر ما يكون فيه قطع كل درجة بمائة سنة والأوسط ما يكون فيه قطع كل درجة بعشر سنين والأصغر ما يكون فيه قطع كل درجة بسنة، وعندهم دور أعظم ويسمونه أيضا التسيير الأعظم وهو ما يكون فيه قطع كل درجة بألف سنة والتسيير اليوم في الميزان وقد مضى منه أربع درجات وست وخمسون دقيقة وإحدى وثلاثون ثانية واثنتا عشرة ثالثة، وإذا اعتبرت مدة ذلك من نقطة رأس الحمل إلى هنا بلغت مائة ألف سنة وأربعا وثمانين ألف سنة وتسعمائة وثلاثا وأربعين سنة، وأن مدة حركة الثوابت على ما نقل عن بطليموس في كل برج ألفان ومائة واثنتان وستون سنة وثمانية أشهر وستة عشر يوما وتسع عشرة ساعة، وإذا ضرب ذلك في اثني عشر عدّة البروج خرج مدة قطعها الفلك كله وهو أقل مما ذكره بكثير، ولعل المراد بدور البرج ما أريد بسلطانه من حكم تأثيره والتأثر العادي على ما يفهم من بعض كتب القوم بحكم الأصالة للبرج وهو الذي يفيض على الكواكب النازل فيه، وكل ذلك مما لم ينزل الله تعالى به سلطانا، والحق الذي لا ينبغي المحيص عنه القول بحدوث العالم حدوثا زمانيا ولا يعلم أوله إلا الله تعالى، وكذلك عمر الدنيا وأول النشأة الإنسانية ومدة بقائها في هذا العالم وقدر زمان لبثها في البرزخ كل ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى، وجميع ما ورد في هذا الباب أمور ظنية لا سند يعول عليه لأكثرها، ووراء هذا أقوال لأهل الصين وغيرهم هي أدهى وأمر مما تقدم، وبالجملة الباقي من عمر الدنيا عند من يقول بفنائها أقل قليل بالنسبة إلى الماضي من ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة ما هناك قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي لا أملك لأجل نفسي جلب نفع ما ولا دفع ضرر ما.
والجار والمجرور كما قال أبو البقاء إما متعلق بأملك أو بمحذوف وقع حالا من نفعا. والمراد لا أملك ذلك في وقت من الأوقات إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي إلا وقت مشيئته سبحانه بأن يمكنني من ذلك فإنني حينئذ أملكه بمشيئته، فالاستثناء متصل وفيه دليل كما قال الشيخ إبراهيم الكوراني على أن قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى ومشيئته، وقيل:
الاستثناء منقطع أي لكن ما شاء الله تعالى من ذلك كائن، وفيه على هذا من إظهار العجز ما لا يخفى، والكلام مسوق لإثبات عجزه عن العلم بالساعة على أتم وجه، وإعادة الأمر لإظهار العناية بشأن الجواب والتنبيه على استقلاله ومغايرته للأول وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي الذي من جملته ما بين الأشياء من المناسبات المصححة عادة للسببية والمسببية ومن المباينات المستتبعة للمدافعة والممانعة لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أي لحصلت كثيرا من الخير الذي نيط بترتيب الأسباب ورفع الموانع وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ أي السوء الذي يمكن التفصي عنه بالتوقي عن موجباته والمدافعة بموانعه وإن كان منه ما لا مدفع له وكأن عدم مس السوء من توابع استكثار الخير في الجملة، ولذا لم يسلك في الجملة الثانية نحو مسلك الجملة الأولى، والاستلزام في الشرطية لا يلزم أن يكون عقليا وكليا بل يكفي أن يكون عاديا في البعض. وقد حكم غير واحد أنه في الآية من العادي، وبذلك دفع الشهاب ما قيل: إن العلم بالشيء لا يلزم منه القدرة عليه ومنشؤه الغفلة عن المراد.
وحمل الخير والسوء على ما ذكر هو الذي ذهب إليه جلة المحققين. وفسر بعض الأول بالربح في التجارة والفوز بالخصب. والثاني بضد ذلك بناء على ما روي عن الكلبي أن أهل مكة قالوا: يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري فنربح، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل منها إلى ما قد أخصب فنزلت.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأول بالربح في التجارة والثاني بالفقر، وقيل: الأول الجواب عن

صفحة رقم 126

السؤال والثاني التكذيب، وقيل: الأول الاشتغال بدعوة من سبقت له السعادة، والثاني النصب الحاصل من دعوة من حقت عليه كلمة العذاب.
وقيل: ونسب إلى مجاهد وابن جريج المراد من الغيب الموت، ومن الخير الإكثار من الأعمال الصالحة، ومن السوء ما لم يكن كذلك، وقيل: غير ذلك، والكل كما ترى ومنها ما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل، وقدم ذكر الخير على ذكر السوء لمناسبة ما قبل حيث قدم فيه ذكر النفع على ذكر الضر وسلك في ذكرهما هناك كذلك مسلك الترقي على ما قيل: فإن دفع المضار أهم من جلب المنافع، وذكر النيسابوري أن أكثر ما جاء في القرآن إذ يؤتى بالضر والنفع معا تقديم لفظ الضر على النفع وهو الأصل لأن العابد إنما يعبد معبوده خوفا من عقابه أولا ثم يعبده طمعا في ثوابه ثانيا كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة: ١٦] وحيث تقدم النفع على الضر كان ذلك لسبق لفظ تضمن معنى نفع كما في هذه السورة حيث تقدم آنفا لفظ الهداية على الضلال في قوله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ إلخ وفي الرعد تقدم ذكر الطوع في قوله سبحانه: طَوْعاً وَكَرْهاً [آل عمران: ٨٣، الرعد: ١٥] وهو نفع، وفي الفرقان تقدم العذب في قوله جل وعلا: هذا عَذْبٌ فُراتٌ [الفرقان:
٥٣، فاطر: ١٢] وهو نفع، وفي سبأ تقدم البسط في قوله تبارك اسمه: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد:
٢٦] وليقس على هذا غيره، وابن جريج يفسر النفع هنا بالهدى والضر بالضلال، وبه تقوى نكتة التقديم التي اعتبرها هذا الفاضل فيما نحن فيه كما لا يخفى.
واستشكلت هذه الآية مع ما صح أنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر بالمغيبات الجمة وكان الأمر كما أخبر، وعد ذلك من أعظم معجزاته عليه الصلاة والسلام، واختلف في الجواب فقيل: المفهوم من الآية نفي علمه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك بالغيب المفيد لجلب المنافع ودفع المضار التي لا علاقة بينها وبين الأحكام والشرائع وما يعلمه صلّى الله عليه وسلّم من الغيوب ليس من ذلك النوع وعدم العلم مما لا يطعن في منصبه الجليل عليه الصلاة والسلام.
وقد أخرج مسلم عن أنس وعائشة رضي الله تعالى عنهما أنه صلّى الله عليه وسلّم مر بقوم يلقحون فقال: عليه الصلاة والسلام «لو لم تفعلوا لصلح فلم يفعلوا فخرج شيصا فمر بهم صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما لقحتم؟ قالوا: قلت كذا وكذا قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم»
وفي رواية أخرى له أنه عليه الصلاة والسلام قال حين ذكر له أنه صار شيصا: «إن كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان من أمر دينكم فإلي»
وقد عد عدم علمه صلّى الله عليه وسلّم بأمر الدنيا كمالا في منصبه إذ الدنيا بأسرها لا شيء عند ربه.
وقيل: المراد نفي استمرار علمه عليه الصلاة والسلام الغيب، ومجيء كان للاستمرار شائع، ويلاحظ الاستمرار أيضا في الاستكثار وعدم المس. وقيل: المراد بالغيب وقت قيام الساعة لأن السؤال عنه وهو عليه الصلاة والسلام لم يعلمه ولم يخبر به أصلا، وحينئذ يفسر الخير والسوء بما يلائم ذلك كتعليم السائلين وعدم الطعن في أمر الرسالة من الكافرين، وقيل: أل في الغيب للاستغراق وهو صلّى الله عليه وسلّم لم يعلم كل غيب فإن من الغيب ما تفرد الله تعالى به كمعرفة كنه ذاته تبارك وتعالى وكمعرفة وقت قيام الساعة على ما تدل عليه الآية.
وفي لباب التأويل للخازن في الجواب عن ذلك أنه يحتمل أن يكون هذا القول منه عليه الصلاة والسلام على سبيل التواضع والأدب، والمعنى لا أعلم الغيب إلا أن يطلعني الله تعالى عليه ويقدره لي، ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله تعالى على الغيب فلما اطلعه أخبر به، أو يكون خرج هذا الكلام فخرج الجواب عن سؤالهم ثم بعد ذلك أظهره الله تعالى على أشياء من المغيبات ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة نبوته صلّى الله عليه وسلّم انتهى، وفيه تأمل وكلام بعض المحققين يشير إلى ترجيح الأول.

صفحة رقم 127
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية