آيات من القرآن الكريم

وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ

المهتدون والمكذبون من أمة الدعوة الإسلامية
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨١ الى ١٨٦]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
الإعراب:
وَيَذَرُهُمْ بالرفع على تقدير مبتدأ، وتقديره: هو يذرهم. ويقرأ بالجزم بالعطف على موضع الفاء في فَلا هادِيَ لَهُ وموضعه الجزم على جواب الشرط، أي أن الرفع على سبيل الاستئناف، والجزم عطف على محل ما بعد الفاء.
وَأَنْ عَسى أي في أنه عسى، وأن: مخففة من الثقيلة، والأصل: وأنه عسى، على أن الضمير ضمير الشأن، والمعنى: أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث، عسى أن يكون أجلهم قرب، ولعلهم يموتون عما قريب، فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق قبل مفاجأة الموت والعقاب. وقوله:
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ متعلق بقوله: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ.
المفردات اللغوية:
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ هم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث المتواتر «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق... ». ويهدون: يرشدون الناس إلى الحق والخير وَبِهِ يَعْدِلُونَ أي وبالحق يحكمون وكما عند الشيخين عن المغيرة بالعدل دون ميل لأحد الجانبين المتخاصمين.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا القرآن، من أهل مكة سَنَسْتَدْرِجُهُمْ سنأخذهم قليلا قليلا،

صفحة رقم 179

وننزلهم درجة بعد درجة إلى دركات العذاب، وندنيهم من الهلاك شيئا فشيئا وَأُمْلِي لَهُمْ نمهلهم ونؤخرهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي إن تدبيري الخفي شديد قوي لا يطاق.
ما بِصاحِبِهِمْ محمد صلّى الله عليه وآله وسلم مِنْ جِنَّةٍ جنون نَذِيرٌ مُبِينٌ بيّن الإنذار، والإنذار:
التعليم والإرشاد مع التخويف مَلَكُوتِ ملك مِنْ شَيْءٍ بيان لما، فيستدلوا به على قدرة صانعه ووحدانيته قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ قرب أجلهم، فيموتوا كفارا، فيصيروا إلى النار، فيبادروا إلى الإيمان مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مجموع العالم فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ الحديث: كلام الله، وهو القرآن، وبعده: بعد القرآن وَيَذَرُهُمْ يتركهم فِي طُغْيانِهِمْ الطغيان: تجاوز الحد في الكفر والشر والظلم يَعْمَهُونَ يترددون تحيرا.
سبب النزول: نزول الآية (١٨٤) :
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا:
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن قتادة بن دعامة قال: ذكر لنا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قام على «صفا» فدعا قريشا، فجعل يدعوهم فخذا فخذا، يا بني فلان، يحذرهم بأس الله ووقائعه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوت «١» إلى الصباح، أو حتى أصبح، فأنزل الله تعالى:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ.
المناسبة:
أخبر الله تعالى في الآيات السابقة أنه خلق لجهنم كثيرا من الخلق لأنهم أهملوا طاقات المعرفة لديهم من العقل والحواس، ثم أرشد إلى ما يصلح الناس ويقوي إيمانهم من الدعاء بأسمائه الحسنى، ثم ذكر هنا انقسام أمة الدعوة المحمدية فريقين: فريق المهتدين الذين يقضون بالحق والعدل، وفريق المكذبين الضالين. ولفت النظر إلى وجوب التفكر والنظر في عالم السموات والأرض، للتوصل إلى فهم الأمور الدالة على وحدانية الله وصدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.

(١) وفي رواية: «يهوّت».

صفحة رقم 180

التفسير والبيان:
من بعض الأمم أمة قائمة بالحق قولا وعملا، يرشدون الناس ويدعونهم إليه، ويعملون بالحق، ويقضون بالعدل، دون ميل ولا جور، وهم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، بدليل ما جاء في الأحاديث الكثيرة التي منها:
ما رواه الشيخان في الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة»
وفي رواية «حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك».
ومنها:
ما قاله الربيع بن أنس في قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ... قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن من أمتي قوما على الحق، حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل».
ومنها:
ما أخرجه ابن جرير الطّبري وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان عن ابن جريج في قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ قال: ذكر لنا النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «هذه أمّتي بالحقّ يحكمون ويقضون، ويأخذون ويعطون».
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال في هذه الآية: بلغنا أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا قرأها: وهذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها:
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ.
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان عن علي بن أبي طالب قال: لتفترقنّ هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النّار إلا فرقة، يقول الله: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ، وَبِهِ يَعْدِلُونَ فهذه هي التي تنجو من هذه الأمّة.
والخلاصة: لما ذكر تعالى في قصّة موسى قوله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ثم أعاد الله تعالى هذا الكلام، حمله أكثر المفسّرين

صفحة رقم 181

على أنّ المراد منه أمّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، بدليل ما روي عن ابن عباس وقتادة وابن جريج وغيرهم.
هذا هو الفريق الأوّل من أمّة الدّعوة المحمّدية، ثمّ ذكر تعالى الفريق الثّاني بقوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا... أي والذين كذبوا بالقرآن وهم أهل مكة نتركهم في ضلالهم، ونستدرجهم إلى العذاب من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، ونقرّبهم إلى ما يهلكهم، بإمدادهم بالنّعم، وفتح أبواب الرّزق والخير، وتيسير سبل المعاش، كلّما ارتكبوا ذنبا أو فعلوا جرما، فيزدادون بطرا وانغماسا في الفساد، وتماديا في الغي، وتدرّجا في المعاصي، بسبب متابعة تلك النّعم والخيرات، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٥٥- ٥٦]، وقال تعالى أيضا:
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام ٦/ ٤٤- ٤٥]، وروى الشيخان عن أبي موسى:
«إنّ الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته».
وقد تحقّق ذلك بكفار قريش الذين هزموا في بدر والخندق وفتح مكة وغيرها من المعارك، وأظهر الله رسوله عليهم.
قال عمر لما حملت إليه كنوز كسرى: «اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا، فإني سمعتك تقول: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ».
وَأُمْلِي لَهُمْ، أي سأملي وأطوّل لهم ما هم فيه وأمهل هؤلاء المكذّبين المستدرجين، إنّ مكري أو تدبيري الخفي شديد قوي.
والخلاصة: إنّ الإمداد بالنّعم والخيرات والأرزاق ليس دليلا على صلاح الإنسان، وإنما قد يكون استدراجا كما يستدرج العدو إلى مكان للقضاء عليه،

صفحة رقم 182

فالظالم إذا لم يعاقب فورا، عليه ألا ينخدع بذلك، فقد يكون تركه طعما للتّعرّف على المزيد من بغيه وجوره، كما تفعل أجهزة الأمن اليوم في كثير من حالات مراقبة تحرّكات المشبوهين، ثم يقع ذلك الظالم في قبضة الحكام لعقابه الدّنيا، أو تنزل به المصائب والدّواهي، ثم يعاقبه الله بالعذاب الشديد الآخرة. والاستدراج: هو الإدناء قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم.
وبعد أن هدّد الله المعرضين عن آياته، عاد إلى الجواب عن شبهاتهم، فقال:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا... أي أولم يتفكّر هؤلاء المكذّبون بآياتنا ما بصاحبهم يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم من جنون، فقد كانوا يقولون: شاعر مجنون، مع أنهم يعرفون حاله من بدء نشأته، ويعلمون حقيقة دعوته، ودلائل رسالته، فهو رسول الله حقّا، دعا إلى حقّ. والتّعبير: بِصاحِبِهِمْ للتّذكير بأنهم يعرفون سيرته معرفة كاملة في سنّ الصّبا وعهد الشّباب والكهولة وبعد النّبوة.
إنهم إن تفكّروا في شأنه، وتجرّدوا عن عصبيّتهم وأهوائهم، عرفوا الحقّ، وأدركوا صدقه، وأنه ليس مجنونا ولا شاعرا، كما حكى القرآن افتراءهم:
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير ٨١/ ٢٢]، قُلْ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ، بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ ٣٤/ ٤٦]، أَمْ يَقُولُونَ: بِهِ جِنَّةٌ، بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٧٠]، وَقالُوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر ١٥/ ٦]، وَيَقُولُونَ: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصّافات ٣٧/ ٣٦].
إنه ليس بمجنون، بل هو منذر ناصح، ومبلّغ أمين، فهو ينذركم ما يحلّ بكم من عذاب الدّنيا والآخرة إذا لم تؤمنوا بدعوته.
وبعد أن حكى الله عن هؤلاء المكذّبين موقفهم، فذكر: أكذّبوا الرّسول، ولم

صفحة رقم 183

يتفكّروا في شأنه وشأن دعوته؟ لفت نظرهم إلى ما يدعوهم إلى الإيمان بوحدانية الله، فقال: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا أي أكذّبوا الرّسول، ولم ينظروا في عالم السموات والأرض، ففي ملكوت السماء والأرض دلائل على وجود الصانع الحكيم القديم، والملكوت: من صيغ المبالغة ومعناه: الملك العظيم، فإذا نظر هؤلاء المكذّبون بآياتنا في ملك الله وسلطانه ونظامه البديع في السموات والأرض، وفي كل ما خلق الله من كبير وصغير، لأداهم النّظر الصحيح إلى وجود الله تعالى ووحدانيته، وألم ينظروا في احتمال مجيء الموت فربّما يموتون عمّا قريب، فليسارعوا إلى النّظر وطلب الحقّ قبل مفاجأة الأجل وحلول العقاب، وليؤمنوا برسول الله، وينيبوا إلى طاعته.
وقوله: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ تنبيه على أن دلائل التوحيد غير مقصورة على السّموات والأرض، بل كلّ ذرة من ذرأت الأجسام والأرواح التي خلقها الله برهان قاهر على التّوحيد.
وقوله: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ معناه: أو لم ينظروا في أن الشّأن والحديث عسى أن يموتوا عما قريب أي لينظروا في آجالهم التي ربّما اقتربت، وهذا ترغيب شديد في الإتيان بهذا النّظر والتّفكر، وتحذير لهم أن تكون آجالهم قد اقتربت، فيهلكوا على كفرهم، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه. والخلاصة: لعلّ أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل فوات الأوان. قال ابن عباس: أراد باقتراب الأجل يوم بدر، ويوم أحد.
فبأي كلام أو حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به؟ وبأي تخويف وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وترهيبه الذي أتاهم به من عند الله في كتابه، يصدّقون إن لم يصدّقوا بهذا الحديث الذي جاءهم به محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من عند الله عزّ وجلّ؟ وبأي حديث أحقّ من القرآن أن يؤمنوا به؟

صفحة رقم 184

ثم قال تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ... مقرّرا لما سبق، ومعلّلا له، وهو أنّ من يضلّه الله فلا هادي له، أي أنّ من فقد الاستعداد للإيمان بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم والعمل بالقرآن، فإن الله يتركه متردّدا في ضلاله، حائرا في سبيله، بسبب تجاوزه الحدّ في الظّلم والطّغيان والفجور، ولن يجد لنفسه هاديا أو مرشدا آخر غير الله.
وليس معنى إضلال الله لهم أنه أجبرهم على الضّلال، بل المقصود أنهم لما تأصّل الكفر في قلوبهم، وأسرفوا في طغيانهم، فقدوا باختيارهم ما يدعوهم إلى الهدى والإيمان، وأصبحت نفوسهم غير متهيّئة لدعوة الحقّ، وخلقهم الله على هذا النحو الذي علمه منهم قبل إيجادهم فكانوا هم الضّالين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أخبر الله تعالى في هذه الآيات عن أمة الدّعوة المحمّديّة، وجعلهم كغيرهم من أقوام الأنبياء فريقين: فريق المؤمنين المهتدين، وفريق الضّالين المكذّبين.
أما المهتدون فوصفهم الله بأنهم يرشدون الناس إلى الحق، ويقضون بالحق والعدل، وهذا كما وصف بعض قوم موسى بالوصفين ذاتهما، وفي ذلك غاية التّجرّد والموضوعيّة والحياد وإنصاف الحقائق.
ودلّت الآية- كما ذكر القرطبي- على أنّ الله عزّ وجلّ لا يخلّي الدّنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحقّ.
وأما المكذّبون بآيات الله وقرآنه وهم أهل مكة: فقد أخبر تعالى أنه سيستدرجهم بإدنائهم وتقريبهم إلى ما يهلكهم، ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، عن طريق إمدادهم بالنّعم والخيرات والأرزاق، كلما أتوا بجرم، أو أقدموا على ذنب.
وأنه سيطيل لهم المدّة، ويمهلهم مع إصرارهم على الكفر، ولا يعاجلهم

صفحة رقم 185

بالعقوبة، وإنما يؤخّر عقوبتهم، لإعطائهم فرصة للعودة إلى الحقّ، والاستجابة لدعوة الإيمان، وتصديق النّبي المصطفى عليه الصّلاة والسّلام. وفي فترة إمهالهم أنذرهم أنهم إن داموا على المعصية والكفر، فإن كيد الله، أي تدبيره شديد قوي محكم.
قيل: نزلت في المستهزئين من قريش، قتلهم الله في ليلة واحدة، بعد أن أمهلهم مدة، كما قال تعالى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً [الأنعام ٦/ ٤٤].
وتضمّنت آية أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا دعوة المكذّبين إلى إصدار الأحكام بالاعتماد على العقل والتّفكير والموازنة والنّظر إلى واقع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم وسيرته، فهو ليس كما تقوّلت ألسنتهم بمجنون، وإنما هو داعية حقّ، ونذير خير، وناصح أمة، ومرشد قوم إلى ما فيه صلاحهم ونجاتهم.
ثم دعاهم الله تعالى إلى إعمال فكرهم وتسديد نظرهم في ملكوت السموات والأرض، وفي المخلوقات والأشياء العديدة، وفي آجالهم التي عسى أن تكون قد قربت، للتّوصّل إلى معرفة الإله الحقّ، والإيمان بوجود الصانع الحكيم القدير القديم، الذي لا ندّ له ولا شريك ولا نظير، ومعرفة كمال قدرته. وإذا لم يؤمنوا بالقرآن، فبأي قرآن غير ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلم يصدّقون؟! وفي هذا دلالة على أن القرآن هو مصدر الهداية.
وقد استدلّ العلماء بآية أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وأمثالها الكثيرة في القرآن الكريم «١»، على وجوب النظر في آيات الله، والاعتبار بمخلوقاته. وقد ذمّ الله تعالى من لم ينظر، وسلبهم الانتفاع بحواسهم، فقال:
لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها... الآية [الأعراف ٧/ ١٧٩]، قال الجصاص: في

(١) نحو قوله تعالى: قُلِ: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها، وقوله: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وقوله:
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ.

صفحة رقم 186

قوله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا حثّ على النّظر والاستدلال والتّفكر في خلق الله وصنعه وتدبيره، فإنه يدلّ عليه وعلى حكمته وجوده وعدله «١». وذلك يدلّ على أنّ التّقليد في العقائد غير جائز، ولا بدّ من النّظر والاستدلال.
واتّجه أكثر العلماء إلى أن النّظر والاستدلال أوّل الواجبات على الإنسان.
وذهب بعضهم إلى أنّ أوّل الواجبات الإيمان بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به، والإيمان: هو التّصديق الحاصل في القلب، الذي ليس من شرط صحته المعرفة، ثم النظر والاستدلال المؤدّيان إلى معرفة الله تعالى، فيتقدّم وجوب الإيمان بالله تعالى على المعرفة بالله. وقالوا- ومنهم القرطبي «٢» -: هذا أقرب إلى الصواب وأرفق بالخلق لأن أكثرهم ومنهم العامة والمقلّدون لا يعرفون حقيقة المعرفة والنّظر والاستدلال.
ولأن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر الذي رواه أصحاب الكتب الستّة عن أبي هريرة قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:
لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك، عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها، وحسابهم على الله»
.
ومن الطّريف أن العلماء قالوا: لا يكون النّظر والاعتبار في الوجوه الحسان من المرد والنّسوان، فذلك متابعة الهوى، ومخادعة العقل، ومخالفة العلم، ولم يحلّ الله النّظر إلا على صورة لا ميل للنّفس إليها، ولا حظّ للهوى فيها.
وإنما النظر يكون في المخلوقات والجمادات، أما المخلوقات فكثيرة، ينظر في السموات كيف بنيت وزيّنت من غير شقوق، ورفعت بغير عمد، وفي الأرض كيف وضعت فراشا، ووطئت مهادا، وفي أصناف المخلوقات والحيوانات في البر والبحر، وفي البحار التي هي أعظم المخلوقات عبرة. وأما الجمادات فينظر في أصنافها واختلاف أنواعها وأجناسها.

(١) أحكام القرآن: ٣/ ٣٦.
(٢) تفسير القرطبي: ٧/ ٣٣١- ٣٣٣.

صفحة رقم 187

وهل التّفكّر أفضل أو الصّلاة؟
يرى الصّوفيّة: أنّ الفكرة أفضل، فإنها تثمر المعرفة، وهي أفضل المقامات الشّرعيّة.
ويرى الفقهاء: أن الصّلاة والذّكر أفضل، لما روي في ذلك من الحثّ والدّعاء إليها، والتّرغيب فيها.
وتوسّط ابن العربي، فرأى أن التّفكر أفضل للعالم المفكّر القوي النّظر، القادر على الاستدلال، وأما غيره فالأعمال أقوى لنفسه، وأثبت لشأنه «١».
ودلّ قوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ... على أن الهدى والضّلال من الله، بمعنى أن الله هو الخالق لأفعال العباد، سواء في حال الخير أو في حال الشّر، وأنه جعل القرآن أعظم أسباب الهداية للمتّقين، لا للجاحدين المعاندين. وفي ذلك ردّ على القدريّة الذين يقولون: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه، والمعاصي لا يريدها الله. وهي ردّ أيضا على المعتزلة أيضا الذين يقولون: إنّ العبد خالق لأفعاله، ولكنهم نزّهوا الله عن العجز، فقالوا: إن هذا بقدرة أودعه الله إياها وخلقها.
ولا إجبار من الله على الضّلال، وإنما نسب الضّلال إلى الله في الآية من قبيل النّسبة إلى النّظام الذي وضعه والسّنّة التي قضى بها في خلق الإنسان، وربط أعماله بأسباب تترتّب عليها مسبباتها، فإذا اختار العبد الضّلالة، فلن يجد غير الله هاديا له، ولا يهديه أحد سوى الله. ومن سنّته تعالى أنه يترك هؤلاء الضّالّين يتردّدون حيرة في متاهات ضلالهم، ولا يجدون سبيلا للخروج مما هم فيه. فكما أن من اختار أصل الهداية يزيده الله هدى ويوفّقه لمتابعة طريق الهدى، ويمكّنه

(١) أحكام القرآن: ٢/ ٨٠٧.

صفحة رقم 188
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية