
منافعها ومضارها، فتلزم بعض ما تبصره. وهؤلاء، أكثرهم يعلم أنه معاند، فيقدم على النار. وأيضا: الأنعام قد تستجيب لراعيها، وإن لم تفقه كلامه، بخلاف هؤلاء، وأيضا: إنها تفعل ما خلقت له، إما بطبعها، وإما بتسخيرها، بخلاف هؤلاء، فإنهم خلقوا ليعبدو الله، ويوحدوه، فكفروا به وأشركوا أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ أي عن تلك الكمالات والنقائص، ليهتموا لتحصيلها ودفعها، اهتمامهم لجر المنافع الدنيوية، ودفع مضارّها.
تنبيه:
قال أبو السعود: المراد بهؤلاء الذين ذرئوا لجهنم، الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة، لكن لا بطريق الجبر، من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إلى ذلك، بل لعلمه تعالى بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق أبدا، بل يصرّون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر. فبهذا الاعتبار جعل خلقهم مغيّا بها، كما أن جميع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطريّ للعبادة، وتمكنهم التام منها، جعل خلقهم مغيّا بها. كما نطق به قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦]. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٠]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
روى مقاتل أن رجلا دعا الله في صلاته، ودعا الرحمن. فقال بعض المشركين: إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربّا واحدا، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فنزلت الآية
. و (الحسنى) تأنيث (الأحسن).
والمعنى: لله الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها، لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أي يميلون عن الإقرار بها ويجحدونها، ويعدلون عنها كفرا بها. كقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً [الفرقان: ٦٠] أي زادهم ذكر الرحمن نفورا. ولذا قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: ١١٠]، وقوله تعالى: سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني في الآخرة، من جحدهم إياها ونفورهم عن الإيمان بها.

تنبيهات
الأول- قال السيد محمد بن المرتضى اليمانيّ في (إيثار الحق) : مقام معرفة كمال هذا الرب الكريم. وما يجب له من نعوته وأسمائه الحسنى، من تمام التوحيد، الذي لا بد منه، لأن كمال الذات بأسمائها الحسنى، ونعوتها الشريفة. ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم. ولذلك عدّ مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها، من أعظم مكائدهم للإسلام. فإنهم عكسوا المعلوم عقلا وسمعا. فذموا الأمر المحمود ومدحوا الأمر المذموم، القائم مقام النفي والجحد المحض. وضادّوا كتاب الله ونصوصه الساطعة. قال الله جل جلاله وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى... الآية. وقال قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: ١١٠] الآية- فما كان منها منصوصا في كتاب الله، وجب الإيمان به على الجميع، والإنكار على من جحده، أو زعم أن ظاهره اسم ذم لله سبحانه. وما كان في الحديث وجب الإيمان به على من عرف صحته. وما نزل عن هذه المرتبة، أو كان مختلفا في صحته، لم يصح استعماله. فإن الله أجل من أن يسمى باسم لم يتحقق أنه تسمى به. انتهى.
الثاني:
روى الشيخان «١» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله تسعة وتسعين اسما، من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر».
وفي رواية: من أحصاها
. قال البخاري «٢» : أحصيناه: حفظناه وأخرجه الترمذيّ «٣» وزاد سوق الأسماء معدودة: ثم قال: ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث.
ورواه ابن ماجة «٤» أيضا. فسرد الأسماء بزيادة ونقصان.
قال الحافظ ابن كثير: والذي عول عليه جماعة من الحفاظ، أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعانيّ عن زهير بن محمد بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك. أي أنهم جمعوها من القرآن. كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي. انتهى.
وأخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث رقم ٥ و ٦.
(٢) أخرجه في: التوحيد، ١٢- باب إن الله مائة اسم إلا واحدا.
(٣) أخرجه الترمذي في: الدعوات، ٨٢- باب حدثنا يوسف بن حماد البصري. [.....]
(٤) أخرجه ابن ماجة في: الدعاء، ١٠- باب أسماء الله عز وجل، حديث ٣٨٦٠ و ٣٨٦١،.

وقال النووي: اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى. وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما المقصود من الحديث الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصرها. ولهذا جاء في الحديث «١» الآخر: أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك. وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي عن بعضهم، أن لله ألف اسم. انتهى.
وقال السيد اليمانيّ في (إيثار الحق) : عادة المتكلمين أن يقتصروا هنا على اليسير من الأسماء، ولا ينبغي ترك شيء منها، ولا اختصاره! فإن ذلك كالاختصار للقرآن الكريم. ولو كان منها شيء لا ينبغي اعتقاده ولا ذكره، ما ذكره الله تعالى في القرآن العظيم. وعادة بعض المحدثين أن يوردوا جميع ما ورد في الحديث المشهور في تعدادها، مع الاختلاف الشهير في صحته. وحسبك أن البخاري ومسلما تركا تخريجه مع رواية أوله. واتفاقهما على ذلك يشعر بقوة العلة فيه، ولكن الأكثرين اعتمدوا ذلك تعرضا لفضل الله العظيم في وعده، من أحصاها، بالجنة كما اتفق على صحته. وليس يستيقن إحصاؤها بذلك إلا لو لم يكن لله سبحانه اسم غير تلك الأسماء. فأما إذا كانت أسماؤه سبحانه أكثر من أن تحصى، بطل اليقين بذلك، وكان الأحسن الاقتصار على ما في كتاب الله، وما اتفق على صحته بعد ذلك، وهو النادر وقد ثبت أن أسماء الله تعالى أكثر من ذلك المرويّ بالضرورة والنص. أما الضرورة، فإن في كتاب الله أكثر من ذلك. وأما النص،
فحديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «٢» :«ما قال عبد أصابه همّ أو حزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل فيّ قضاؤك. أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكان حزنه فرحا» - رواه أحمد، وأبو عوانة في (صحيحه) وأبو يعلى والبزار.
ثم أخذ اليمانيّ يذكر ما وجده من الأسماء منصوصا، غير معرّج على التقليد.
فانظره في (إيثار الحق) فإنه جوّد البحث بمنزع شريف.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١/ ٣٩١. والحديث رقم ٣٧١٢.