
المنَاسَبَة: لما حكى تعالى عن بني إسرائيل عصيانهم وتمردهم على أوامر الله، حكى هنا ما عاقبهم به من اقتلاع جبل الطور وسحقهم به إن لم يعملوا بأحكام التوراة، ثم ذكر تعالى مثلاً لعلماء السَّوْء في قصة الذي انسلخ عن آيات الله طمعاً في حطام الدنيا وضرب له مثلاً بالكلب اللاهث في حالتَيْ التعب والراحة، وكفى به تصويراً لنفسية اليهود في تكلالبهم على الدنيا وعبادتهم للمال.
اللغَة: ﴿نَتَقْنَا﴾ النتق: الجذب بقوة قال أبو عبيدة: أصل النتق قلعُ الشيء من موضعه والرمي به ﴿ظُلَّةٌ﴾ الظلةُ: كل ما أظلّك من سقفٍ أو سحابةٍ أو جناح حائط والجمع ظُلُلً وظِلاَل ﴿وظنوا﴾ علموا أو أيقنوا ﴿انسلخ﴾ الانسلاخُ: الخروجُ يقال لكل من فارق شيئاً بالكلية انسلخ منه وانسلخت الحية من جلدها أي خرجت منه ﴿أَخْلَدَ﴾ مال إلى الشيء وركن إليه وأصله اللزوم يقال أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإِقامة به ومنه الخلود في الجنة ﴿يَلْهَث﴾ قال الجوهري: لهثَ الكلبُ يَلْهَثُ إذا أخرج لسانه من التعب أو العطشِ ﴿ذَرَأْنَا﴾ خلقنا ﴿يُلْحِدُونَ﴾ الإِلحاد: الميلُ عن القصد والاستقامة يقال ألحد في الدين ولحد فهو ملحد لانحرافه عن تعاليم الدين.
التفسِير ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ﴾ أي اذكر حين اقتلعنا جبل الطور ورفعناه فوق رءوس بني إسرائيل ﴿كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ أي كأنه سقيفة أو ظلة غمام ﴿وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ أي أيقنوا أنه ساقط عليهم إن

لم يمثتلوا الأمر قال المفسرون: روي أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطور على رءوسهم وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلاّ ليقعنَّ عليكم فلما نظروا إلى الجبل خرَّ كل واحد منهم ساجداً خوفاً من سقوطه ثم قال تعالى ﴿خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ﴾ أي وقلنا لهم خذوا التوراة بجد وعزيمة ﴿واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي اذكروا ما فيه بالعمل واعملوا به لتكونوا في سلك المتقين ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ قال الطبري: أي واذكر يا محمد إذْ استخرج ربك أولاد آدم من أصلاب آبائهم فقرّرهم بتوحيده وأشهد بعضَهم على بعض بذلك قال ابن عباس: مسح الله ظهر آدم فاستخرج منه كلَّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة. ﴿وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ﴾ أي وقرّرهم على ربوبيته ووحدانيته فأقروا بذلك والتزموا ﴿أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ﴾ أي لئلا تقولوا يوم الحساب إنا كنا عن هذا الميثاق والإِقرار بالربوبية غافلين لم ننبه عليه ﴿أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾ أي ولكيلا تقولوا يوم القيامة أيضاً نحن ما أشركنا وإنما قلدنا آباءنا واتبعنا منهاجهم فنحن معذورون ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون﴾ أي أفتهلكنا بإشراك من أشرك من آبائنا المضلّين بعد اتباعنا منهاجهم على جهلٍ منا بالحق؟ ﴿وكذلك نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي وكما بينا الميثاق نبيّن الآيات ليتدبرها الناس وليرجعوا عما هم عليه من الإِصرار على الباطل وتقليد الآباء ﴿واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا فانسلخ﴾ أي واتقل يا محمد على اليهود خبر وقصة ذلك العالم الذي علمناه علم بعض كتب الله فانسلخ من الآيات كما تنسلخ الحية من جلدها بأن كفر بها وأعرض عنها ﴿مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشيطان فَكَانَ مِنَ الغاوين﴾ أي فلحقه الشيطان واستحوذ عليه حتى جعله في زمرة الضالين الراسخين في الغَواية بعد أن كان من المهتدين قال ابن عباس: هو «بلعم بن باعوراء» كان عنده اسم الله الأعظم وقال ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى إلى ملك «مَدْيَنَ» داعياً إلى الله فرشاه الملك وأعطاه المُلْك على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ففعل وأضل الناس بذلك ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ﴾ أي لو شئنا لرفعناه إلى منزل العلماء الأبرار ولكنه مال إلى الدنيا وسكن إليها وآثر لذتها وشهواتها على الآخرة واتبع ما تهواه نفسه فانحط أسفل سافلين ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾ أي فمثله في الخسة والدناءة كمثل الكلب إن طردته وزجرته فسعى لَهَث، وإن تركته على حاله لَهَث، وهو تمثيل بادي الروعة ظاهر البلاغة ﴿ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ أي هذا المثل السيء هو مثلٌ لكل من كذّب بآيات الله، وفيه
صفحة رقم 447
تعريضٌ باليهود فقد أوتوا التوراة وعرفوا صفة النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة ﴿فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي اقصص على أمتك ما أوحينا إليك لعلهم يتدبرون فيها ويتعظون ﴿سَآءَ مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ أي بئس مثلاً مثلُ القوم المكذبين بآيات الله ﴿وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾ أي وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتعداها ﴿مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون﴾ أي من هداه الله فهو السعيد الموفق، ومن أضله فهو الخائب الخاسر لا محالة، والغرضُ من الآية بيان أن الهداية والإضلال بيد الله ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس﴾ أي خلقنا لجهنم ليكونوا حطباً لها خلقاً كثيراً كائناً من الجن والإِنس، والمراد بهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ أي لهم قلوب لا يفهمون بها الحق ﴿وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا﴾ أي لا يبصرون بها دلائل قدرة الله بصر اعتبار ﴿وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ﴾ أي لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاذ، وليس المراد نفي السمع والبصر بالكلية وإنما المراد نفيها عما ينفعها في الدين ﴿أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ أي هم كالحيوانات في عدم الفقه والبصر والاستماع هم أسوأ حالاً من الحيوانات فإنها تدرك منافعها ومضارها وهؤلاء لا يميزون بين المنافع والمضار ولهذا يُقْدمون على النار ﴿أولئك هُمُ الغافلون﴾ أي الغارقون في الغفلة ﴿وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا﴾ أي لله الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها لإِنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها فسمّوه بتلك الأسماء ﴿وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ﴾ أي اتركوا الذين يميلون في أسمائه تعالى عن الحق كما فعل المشركون حيث اشتقوا لآلهتهم أسماء منها كاللات من الله، والعُزَّى من العزيز، ومناة من المنّان ﴿سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي سينالون جزاء ما عملوا في الآخرة ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ أي ومن بعض الأمم التي خلقنا أمة مستمسكة بشرع الله قولاً وعملاً يدعون الناس إلى الحق وبه يعملون ويقضون قال ابن كثير: والمراد في الآية هذه الأمة المحمدية لحديث
«لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خَذَلَهم ولا من خَالفَهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» وهذه الطائفة لا تختص بزمان دون زمان بل هم في كل زمان وفي كل مكان، فالإِسلام دائماً يعلو ولا يُعلى عليه وإن كثر الفُسَّاق وأهل الشر فلا عبرة فيهم ولا صَوْلة لهم، وفي الحديث بشارة عظيمة لهذه الأمة المحمدية بأن الإِسلام في علوّ شرف وأهله كذلك إلى قرب الساعة ﴿والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي والذين كذبوا بالقرآن من أهل مكة وغيرهم سنأخذهم قليلاً وندنيهم من الهلاك نم حيث لا يشعرون قال البيضاوي: وذلك بأن تتواتر عليهم النعم، فيظنوا أنها لطف من الله تعالى بهم فيزدادوا بطراً وانهماكاً في الغيِّ حتى تحق عليهم كلمة العذاب ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ أي وأمهلهم ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر كما في الحديث الشريف «إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته» ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ أي أخذي وعقابي قوي شديد وإنما سمّاه كيداً لأن ظاهره إحسانٌ وباطنه خذلان ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ﴾ أي أولم يتفكر هؤلاء المكذبون

بآيات الله فيعلموا أنه ليس بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جنون بل هو رسول الله حقاً أرسله الله لهدايتهم، وهذا نفيٌ لما نسبه له المشركون من الجنون في قولهم ﴿ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي ليس محمد إلا رسول منذر أمره بيّن واضح لمن كان له لبُّ أو قلبٌ يعقل به ويعي ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض﴾ أي أولم ينظروا نظر استدلال في ملك الله الواسع مما يدل على عظم الملك وكمال القدرة، والاستفهام للإِنكار والتعجب والتوبيخ ﴿وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ﴾ أي وفي جميع مخلوقات الله الجليل فيها والدقيق فيستدلوا بذلك على كمال قدررة صانعها وعظم شأن مالكها ووحدة خالقها ومبدعها؟ ﴿وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ﴾ أي وأن يتفكروا لعلهم يموتون عن قريب فينبغي لهم أن يسارعوا إلى النظر والتدبر فيما يخلصهم عند الله قبل حلول الأجل ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ أي فبأي حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به وهو النهاية في الظهور والبيان ﴿مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ﴾ أي من كتب الله عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد ﴿وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي ويتركهم في كفرهم وتمردهم يترددون ويتحيرون.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾ فيه التفات من المتكلم إلى المخاطب والأصلُ وإذْ أخذنا والنكتة في ذلك تعظيم شأن الرسول بتوجيه الخطاب له، ولا يخفى أيضاً ما في الإِضافة إلى ضميره عليه السلام ﴿رَبُّكَ﴾ من التكريم والتشريف، وفي الآية البيانُ بعد الإِبهام والتفصيل بعد الإِجمال ﴿فانسلخ مِنْهَا﴾ أي خرج منها بالكلية انسلاخ الجلد من الشاة قال أبو السعود: التعبير عن الخروج منها بالانسلاخ للإيذان بكمال مباينته للآيات بعد أن كان بينهما كمال الاتصال ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾ فيه تشبيه تمثيلي أي حاله التي هي مثلٌ في السوء كحال أخسّ الحيوانات وأسفلها وهي حالة الكلب في دوام لهثه في حالتي التعب والراحة فالصورة منتزعة من متعدد ولهذا يسمى التشبيه التمثيلي ﴿أولئك كالأنعام﴾ التشبيه هنا مرسل مجمل.
فَائِدَة: روي عن ابن عباس في قوله تعالى ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ أنه قال: لو قالوا نعم لكفروا، ووجهه أن «نَعَمْ» تصديقٌ للمخبر بنفيٍ أو إيجاب فكأنهم أقروا أنه ليس ربهم بخلاف «بلى» فإنها حرف جواب وتختص بالنفي وتفيد إبطاله بلى أنت ربنا ولو قالوا نعم لصار المعنى نعم لستَ ربنا فهذا وجه قول ابن عباس فتنبه له فإنه دقيق.
تنبيه: في الحديث الشريف «إنّ لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة» رواه الترمذي قال العلماء: معناه من حفظها وتفكر في مدلولها دخل الجنة وليس المراد حصر أسمائه تعالى في هذه التسعة والتسعين بدليل ما جاء في الحديث الآخر «اسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» وقد ذكر ابن العربي عن بعضهم أن لله تعالى ألف اسم.