آيات من القرآن الكريم

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ

منهم جوابهم اشتد غضبه عليهم «وَأَلْقَى الْأَلْواحَ» المسطور عليها التوراة، وضرب المثل: (ليس الخبر كالمعاينه) ينطبق هنا لأن الله أخبره بأن قومه عبدوا العجل ولم يلق الألواح بل استمر على سماع المناجاة، وفي مجيئه لم ير زيادة على ما أخبره به ربه، ولكن الرؤية لها وقع شديد وتأثير بليغ لهذا اشتد غضبه عليه السلام فترك الألواح «وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ» لزيادة موجدته، ولأنه لم يرسل إليه خبرا بفعلهم هذا ليرجع ويتلافى الأمر، فاعتذر إليه هرون بقوله الذي قصه الله الَ يَا بْنَ أُمَّ»
لم يقل يا ابن أبي أو يا أخي مع أن أباهما واحد أيضا طلبا لترقيقه عليه ولأن أمه هي التي قاست بتربيته ما قاست من أجله، فلعله أن يرحمه بسائق رحمة أمه له، لهذا استعطفه بذلك ليرق قلبه عليه ثم أوضح له معذرته وسبب الإقامة معهم وعدم لحوقه ليخبره بصنيعهم بقوله «إِنَّ الْقَوْمَ» بعد ذهابك يا ابن أمي قد «اسْتَضْعَفُونِي» فلم يلتفتوا لقولي ولم يصغوا إلي «وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي» حينما شددت عليهم بالمنع من عبادة العجل «فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ» بما
توقعه بي فتسرهم بما ينالني من مكروه (والشماتة الفرح ببلية العدو) «وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٢٥٠» أنفسهم بعبادة العجل والتشويق لعبادته، ولا تؤاخذني بعدم إخبارك لأني لما أردت ذلك هددوني بالقتل ولم أقدر أن أنفكّ عنهم،
ولما سمع موسى من أخيه معذرته وعلم أنه تعدى عليه «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي» ما فعلناه بأخي لأنه من أجلك وتبين لي أنه لم يستوجب جزاء ما «وَلِأَخِي» اغفر أيضا لعدم قدرته على منعهم وعدم تقصير في نصحهم وعدم تركهم له لإخباري «وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ» الواسعة لمثل ما وقع منا وأعظم «وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ٢٥١» فاشملنا برحمتك يا إلهنا واغمرنا بعفوك الضافي، ثم قال تعالى مخاطبا لأولئك الظالمين اعلم يا موسى «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ» وعبدوه من دوني «سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ» في الآخرة إن لم يتوبوا وتقبل توبتهم «وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أيضا بأن يعترفوا بخطيئاتهم ذليلين حقيرين، يعلوهم الصغار بإسلام أنفسهم للقتل «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ١٥٢» علينا، وهذا مما أخبر الله به موسى أثناء

صفحة رقم 428

المناجاة بدليل صرف الاستقبال في سينالهم بالنسبة لوقت الإخبار. وقد أخبرنا الله عن كيفية توبتهم في الآية ٥٤ من سورة البقرة في ج ٣، وهذه من الأمور الشاقة المبينة في الآية ١٥٦ الآتية المخصصة بشريعة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، لأن التوبة تقبل قولا وتتم بحسن النية، أما اليهود فلا تقبل توبتهم إلا باستئذان من الله ولا تكون إلّا فعلا، فيا حسرتهم لم يؤمنوا به ولم يتبعوه كي يستفيدوا من هذا التخفيف، وان أسلافهم الكرام، لما أخبرهم موسى بقبول توبتهم على أن يقتل بعضهم بعضا رضوا بحكم الله فقتل بعضهم بعضا حتى أن الأب صار يقتل ابنه والابن أباه والأخ أخاه، وهكذا حتى ماتوا شهداء تائبين رحمهم الله، ولا يتصور بعد هذا أن ينالهم غضب وذلة لأن الحد مزيل للعقوبة ومطهر منها ولا حد أكبر من القتل ولا أفظع منه بالصورة المذكورة، والله تعالى أكبر من أن يجعل على عباده عذابين، وخاصة بعد أن خضعوا لأمره وأنابوا لمراده وهذا أحسن وجه للتفسير، وما قاله ابن جريح من أن الغضب والذّلة لمن مات على عبادة العجل أو فر من القتل وجيه، ولكن المفسرين على خلافه، ولذلك جرينا على أن الغضب لمن لم يتب منهم ولم تقبل توبته، أي بأن كان حال يأس، ومن قال ان المراد بهم اليهود الذين في زمن المصطفى صلّى الله عليه وسلم ومن قال ان المراد بهم أولاد الذين عبدوا العجل على عهده صلّى الله عليه وسلم، وفسر الغضب بعذاب الآخرة مطلقا والذلة بالجزية. ومن قال أن الآية على حذف مضاف أي سينال أولادهم ذلك يأباه سياق التنزيل، ولا يوجد ما يؤيده من أمارة أو دليل، لأن هذه الآية مكية بالاتفاق ولم يوجد في مكة بين الرسول واليهود أخذ، وردّ، وإنما هذا من جملة ما قصه الله على رسوله من أخبار الماضين، وهذه الأقوال ناشئه من عدم النظر إلى ترتيب نزول السور قال أبو قلاية هذه الآية جزاء كل مفتر الى يوم القيامة بان يذله الله في الدنيا ويغضب عليه في الآخرة، وقال سفيان بن عينية هي في كل مبتدع إلى يوم القيمة. وقال مالك بن انس: مامن مبتدع الا وهو يجد فوق رأسه ذلة، ثم قرأ هذه الآية، قال والمبتدع مفتر في دين الله.

صفحة رقم 429

مطلب عظيم عفو الله وتكسير الألواح:
ومما يؤيد ما اخترناه لتفسير هذه الآية على الوجه المار ذكره، قوله تعالى «وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ١٥٣» لأن حكمها عام يدخل فيه عبدة العجل وغيرهم مهما عظمت جنايتهم، وهي من أعظم البشارة للمذنبين التائبين، لأن الذنوب مهما عظمت فعفو الله أعظم وما أحسن ما قيل:

أنا مذنب أنا مسرف أنا عاصي هو غافر هو راحم هو عافي
قابلتهن ثلاثة بثلاثة وستغلبن أوصافه أوصافي
وقول أبي نواس:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بان عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
وقوله أيضا:
إذا كنت بالميزان أوعدت من عصى فوعدك بالغفران ليس له خلف
لئن كنت ذا بطش شديد وقوة فمن جودك الإحسان والمن واللطف
ركبنا خطايانا وعفوك مسبل وهلا لشيء أنت ساتره كشف
إذا نحن لم نهفو وتعفو تكرما فمن غيرنا يهفو وغيرك من يعفو
وقول الشافعي رحمه الله:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
قال تعالى مبينا بقية ما وقع لموسى مع قومه «وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ» أي سكنت ثورته استعاد السكوت للسكوت لأنه بمعناه وقرأ معاوية ابن قرة سكن وهي تصحيف أيضا «أَخَذَ الْأَلْواحَ» التي القاها على الأرض حال شدة الغضب عند مشاهدة طائفة من قومه عاكفين على عبادة العجل «وَفِي نُسْخَتِها» المكتوب عليها التوراة «هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ

صفحة رقم 430

يَرْهَبُونَ ١٥٣»
يخافون من شدة عذابه، قالوا انها لم تتكسر حين ألقاها أولا حال الغضب، إذ لم يوجد حديث صحيح أو خبر صادق يمكن الاحتجاج به على تكسيرها، والقول بأنها تكسرت ثم عادت في لوحين بعد أن كانت في سبعة الواح، وبعد أن صام أربعين يوما، ننقله على علاته، إذ لم نقف على ما يؤيده، وكذلك القول، بأنها تكسرت ولم تعد، وأن النسخ في الآية من شذاذها المكسرة، وأحسن هذه الأقوال القول ببقائها نفسها لم يطرأ عليها شيء حين الإلقاء، وبليه القول بانها عادت بعد التكسير لحالتها الأولى لموافقته ظاهر القرآن إذ يقول الله تعالى (أَخَذَ الْأَلْواحَ) بلام التعريف بما يدل على أنها هي نفسها لأن المعرفة إذا أعيدت تكون غير الأولى، بخلاف النكرة كما بيناه في سورة الانشراح المارة والمراد بنسختها ما نسخ في اللوح المحفوظ منها وكتب فيها، فالفعلة هنا بمعنى المفعول كالخطبة ومن قال انها تكسرت استند لهذه الآية إذ قال في آية أخذ الألواح المارة عدد ١٤٥ (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وفي هذه الآية الكائنة بعد الإلقاء قال وفي نسختها هدى ورحمة فقط ولهذا قالوا إنها كانت سبعة أسباع، واحد فيه الأحكام والحدود المعبر عنها بالرحمة والهدى للخلق لتعلقها في مصالحم وهي الباقية، والستة التي فيها تفصيل كل شيء من بداية الخلق لنهايته تكسرت ووضع رذاذها في التابوت، وإليه الإشارة في الآية ٢٤٦ من سورة البقرة في ج ٣، وعلى هذا فالعلوم التي أوحاها الله لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم مما هو خاص بنفسه لم يبثها، أما الذي هو خاص بالبشر فبلغه إليهم والله أعلم. ثم إن بني إسرائيل لما رجعوا وتابوا لم يعرف عليه السلام مناط قبول توبتهم وكيفيتها فلهذه الغاية ولقبول اعتذار هارون عليه السلام ومن كان معه الذين لم يحولوا بين العجل وعابديه ولم يخبروا موسى بالأمر.
مطلب الميقات الثاني الذي وقته الله لموسى:
أوحى الله إلى موسى ما ذكره بقوله «وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا

صفحة رقم 431

لِمِيقاتِنا»
فيها حذف الجار واتصال الفعل بالمجرور، والأصل من قومه وهذا من باب الحذف والإيصال، وعليه قول الفرزدق:

منا الذي اختير الرجال سماحة وجودا إذا هبّ الرياح الزعازع
والمراد بالميقات هنا الميقات الثاني الذي خصصه به ربه لمناجاته من توبة التابعين للسامري واعتذار المعتذرين المذكورين، وقد استصحب هذا العدد المختار من قومه معه وتوجه لمناجاة ربه بخلاف ذهابه للميقات الأول الذي ذهب به لأجل استلام التوراة التي وعده بها كما مر ذكره في الآية ١٤١، وهؤلاء المختارون كلهم ممن كان مع هرون ولم يعبد العجل، وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ثم دخل بهم في الوقت الذي وقته له ربه ما بين الغمام والجبل في طور سيناء وقال لهم أدنوا مني فدنوا حتى دخلوا كلهم فسجد وسجدوا معه وسمعوا كلام الله لموسى، فطمعوا وقالوا (أرنا الله جهرة) حتى نؤمن لك فما أتموا كلامهم حتى أخذتهم الصاعقة ورجف بهم الجبل فماتوا جميعا، وهذا أصح ما قاله المفسرون في هذه الآية، كما سيأتي تفصيلهم في تفسير الآية ٥٥ من سورة البقرة في ج ٣ إن شاء الله «فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» ورآهم موسى جثثا هامدة «قالَ» وقد أخذته الدهشة لموتهم «رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ» خروجهم معي إلى ميقاتك هذا حين فرطوا في النهى عن عبادة العجل ولم يفارقوا عبدته حين إصرارهم على عبادته «وَإِيَّايَ» أهلكت أيضا قبل أن أخرج بهم إليك. وهذا تواضع منه إلى ربه وتسليم إليه، أي وأهلكتنى أيضا حين طلبت منك الرؤية التي أدت إلى طلبهم إياها وكان لحقه وهم من أن يتهمه بنو إسرائيل بقتلهم لأنهم قوم بهت ظنّان، وصار يتضرع إلى ربه ويبكى ويقول «أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ» عبدة العجل الظالمون «مِنَّا» دون رضا واختيارنا، لا يا رب لا تفعل ذلك ولا تأخذنا بذنب غيرنا وأنت لا تقاصص أحد إلا بما اقترفه، وصار يردد أقوالا كهذه، وهو يعلم أن البلاء يعم الصالح والطالح لأن الصالح إذا لم يردع الطالح يكون راضيا بعمله فيستحق الجزاء من هذه الحيثية ولهذا البحث صلة في الآية ٢٤ من سورة الأنفال في ج ٣، لأن المسبب للذنب

صفحة رقم 432

والحاث عليه والمهيء أسبابه يعاقب كالفاعل في شريعته، وفي شريعتنا يعاقب لكن ليس كالفاعل، ولهذا دأب يتحنّن ويستعطف ربه بإحيائهم حتى أحياهم له جميعهم بمنه وفضله، ولما اطمأن بحياتهم وقد أخذ منه الخوف مأخذه قال في حال شدته وارتعاده «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ» اختبارك وما افتتن أولئك الجهال إلا بمحنتك وابتلائك لعبادك وهذه الفتنة «تُضِلُّ بِها» عن طريقك السوي «مَنْ تَشاءُ» إضلاله فيضل وفاقا لما هو في علمك الأزلي «وَتَهْدِي بها مَنْ تَشاءُ» هدايته فيهتدي طبقا لما هو مكتوب في أزلك «أَنْتَ وَلِيُّنا» لا ولي لنا غيرك ولا مرجع لنا في كشف مصابنا إلاك «فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ١٥٥» فضلا منك، وغيرك قد لا يغفر إلا لغرض ولا يعفو إلا لعوض، وذلك بمحض اللطف منك، والناس لطلب السمعة والرياء ونشر الصيت أو لدفع ضر حاضر أو لأمل مستقبل، طلب عليه السلام المغفرة له لإقدامه على الحضرة المقدسة بقوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) ولقومه لجرأتهم على طلب الرؤية، وقد سمعوا ما وقع عليه من أجلها «وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً» بالحياة الطيبة فيها «وَفِي الْآخِرَةِ» حسنة أيضا وحذفت من الثانية لدلالة الأولى عليها وقد تقدم مثله في الآية ١٧ من سورة ق المارة وبعدها كثير، ومن هنا فما بعد أكثر أي المثوبة الحسنى وهي الجنة «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» تبنا توبة نصوحا من أن نسألك ما لا ترضى وما لا يجوز طلبه، مشتق من هاد إذا رجع وتاب قال:

إني امرؤ مما جنيت هائد ربي اغفر إني إليك عائد
ولهذا ومنذ ذلك اليوم سمو يهودا، وقيل كانوا يدعون بأسباطهم، وما قيل أن منهم من اسمه يهوذا كان ملكا وسموا باسمه، فهو بعد هذا لأنهم قبله كانوا عبيدا «قالَ» تعالى يا موسى قل لقومك هذا الحكم الذي فضيته عليهم بقبول التوبة هو «عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ» لا اعتراض لأحد عليّ فيما أفعل، ولا راد لحكمي فيما أحكم، وفيه إشارة إلى غلظ عقوبة عابدي العجل، لأنه القتل كما سيأتي في الآية المنوه بها آنفا من سورة البقرة. واعلم يا موسى كما أن عذابي شديد فإن عفوي ت (٢٨)

صفحة رقم 433

عظيم «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» وفيها إعلام بشمول رحمته قبول عذر المعتذرين وفي نسبة العذاب بصيغة المضارع، ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات، والعذاب مقتضى معاصي العباد، والمشيئة معتبرة فى جانب الرحمة أيضا. أما عدم التصريح بها فقيل تعظيما لأمر الرحمة، وقيل إشعار بغاية ظهورها، ولما نزلت هذه الآية بلفظها العام قال إبليس عليه اللعنة! أنا شيء أيضا يريد بذلك شموله بالرحمة، أخزاه الله، وتطاولت نفسه الخبيثة إليها فنزع ذلك من وهم قوله تعالى «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» الكفر وللفواحش «وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» لعيالي، وخص الزكاة بالذكر مع دخولها في معنى التقوى تعريضا لقوم موسى لأن إنفاق المال عليهم شاق لشدة حرصهم ومزيد حبهم للدنيا «وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ ١٥٦» لا يجحدون شيئا منها أبدا، فأيس الخبيث من هذه الرحمة، ثم طمحت نفوس أهل الكتابين فقالوا نحن نتقي ونزكي ونؤمن بالله فنزع الله منهم هذا الظن بقوله «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ» محمدا بدليل وصفه في قوله «النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ» ولا نبي أمي غيره.
مطلب تخصيص الأمة المحمدية بالرحمة والأمور الشاقة على أهل الكتابين:
ثم أكد وصفه بقوله «الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» سأبين تعريفه وما يتعلق به في الآية ١٠٤ من سورة آل عمران في ج ٣ ليعملوا به «وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» ليجتنبوه وسيأتي تفسير هناك أيضا «وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ» من كل ما استطابته النفس عدا ما نص على تحريمه، وهو عام في كل طيب، والمراد هنا لحوم الإبل وشحوم الغنم والمعز والبقر لأهل الكتاب، والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام للعرب، وتشمل كل ما حرموه على أنفسهم مما هو في التوراة والإنجيل وما هو من عندياتهم ومفترياتهم وسيأتي تفصيل هذا في الآية ١٣٦ من سورة الأنعام في ج ٢ والآية ١٠٢ من المائدة والآية ٩٣ من آل عمران في ج ٣ «وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ» كالميتة والد ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله والربا والرشوة والخمر والميسر، وكل ما خبث

صفحة رقم 434

من الفعل والقول والعمل «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ» التكاليف الشاقة، كقطع عضو المذنب في غير السرقة، وعدم قبول التوبة إلّا بالقتل، وقطع الثوب المتنجس، وإحراق الغنائم، وتعيين القصاص في الخطأ، وعدم قبول الدية، وعدم قبول العفو، وعدم جواز الصلاة إلا في الكنائس، ومؤاخذة المتسبب كالفاعل، وتحريم العمل يوم السبت والأحد، وعدم التطهير بغير الماء، وحرمة أكل الصائم بعد النوم، ومنع الطيبات عنهم بما اكتسبوا من الذنوب، وغير ذلك «وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» المتقدم ذكرها، المقيدين بها الموجودة في التوراة لأن الإنجيل لا أحكام فيه غير تحليل بعض ما حرم على اليهود لقوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) في الآية ٥٠ من آل عمران في ج ٣، ولهذا فإن النصارى تابعون في الأحكام إلى التوراة، قال عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلّوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعا لله تعالى وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية ليحبس نفسه على العبادة وذلك قوله تعالى «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ» بهذا الرسول الموصوف بالأوصاف المذكورة وهو لا شك محمد صلّى الله عليه وسلم «وَعَزَّرُوهُ» عظموه ووقروه «وَنَصَرُوهُ» على أعدائه وعلى إقامة ما جاء به من الدين «وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ» وهو القرآن العظيم منور القلوب والأخلاق، وإنما قال معه لأنه أنزل مع النبوّة مع جبريل عليه السلام إليه صلّى الله عليه وسلم «أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ١٥١» الفائزون بكل خير، الناجون من كل شر، وهذه الرحمة الموصوفة يفوز بها كل مؤمن بالله متبع رسوله سواء كان من بني إسرائيل أو غيرهم ولا يمكن تخصيصها فيمن كانوا على زمن موسى إلى إرسال عيسى لأنه لا يجوز أن يتبعوا شرائع نبي لم يبعث بل يجوز أن يعتقدوا نبوته حسبما وصفه الله في التوراة، كما أنه من المعلوم أن الإنجيل لا وجود له حسا في ذلك الزمن، فيكون المراد منه أمة عيسى الذين سيجدون نعته صلّى الله عليه وسلم مكتوبا في الإنجيل الذي سينزله الله عليهم، إذ من المحال أن يجدوه قبل نزوله. وذكره قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم والقرآن الكريم قبل مجيئهما.

صفحة رقم 435

مطلب وصف الرحمة وصفة الرسول في الكتب القديمة:
أما اللاحقون زمانه في هاتين الأمتين فلا تكتب لهم هذه الرحمة إلّا باتباعه بأن يؤمنوا به وينصروه ويعظموه ويتبعوا ما جاء به، وقد وصفه الله بأنه الرسول أي الواسطة بينه وبين خلفه لتبليغ أوامره ونواهيه وشرائعه، وبأنه النبي المخبر عن الله وهو من أعلى المراتب وأشرفها وصفا، وأنه الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وهذا من أسنى التعظيم وصفا لإتيانه بالقرآن العظيم بأفصح اللغات، ومن أكبر البراهين على رسالته لأنه لو كان يقرأ ويكتب لاتهم بأنه تعلمه من الغير وكتبه عنهم وقرأه عليهم، وهذه النسبة أحسن من النسبة لأم القرى أو إلى الأم بحيث لم يخرج عما ولدته عليه أمه لقوله صلّى الله عليه وسلم: نحن أمة أمّية لا نكتب ولا نحسب.
واعلم أن الأمّية كمال مادي يعود نفعه على المعاش وليست بكمال روحي، ولهذا فإنها بحق الرسول كمال لتنزهه عن الصنايع العملية التي هي من أسباب المعاش، أما بحقنا فنقص لاحتياجنا لذلك، ولهذا البحث صلة في الآية ٤٧ من سورة العنكبوت في ج ٢ فراجعها تجد تفصيله بصورة أوسع. روى البخاري عن عطاء بن يسار قال:
لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفات رسول الله في التوراة، فقال أجل إنه موصوف في التوراة ببعض صفته بالقرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب (كثير الصياح) في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء (الكافرة لأن الاعوجاج ضدّ الاستقامة) بأن تقول لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عمياء، وآذانا صما وقلوبا غفلا، (لا يصل إليها شىء ينفعها، كأنها في غلاف عن سماع الحق) ومثله في رواية البخاري وغيره. وجاء من حديث أخرجه ابن مسعود وابن عساكر من طريق موسى بن يعقوب الربعي عن سهيل مولى خيثمة قال:
قرأت في الإنجيل نعت محمد صلّى الله عليه وسلم، أنه لا قصير ولا طويل، أبيض، ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم، لا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحلب الشاة، ويلبس

صفحة رقم 436

قميصا مرقوعا. ومن فعل ذلك فقد بريء من الكبر وهو يفعل ذلك، وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد. وفي الزبور أيضا راجع الآية ١٠٤ وسورة الأنبياء في ج ٢، وإنما لم يذكره الله هنا لأن بني إسرائيل سابقا ولا حقا يقرأون التوراة والإنجيل فقط، لذلك اقتصر عليهما، ولأن الزبور خلو من الأحكام مقتصر على الأمثال والأدعية، والتنزيه، وجاء من خبر أخرجه البيهقي في الدلائل عن وهب ابن منبه قال: إن الله تعالى أوحى في الزبور: يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، لا أغضب عليه أبدا، ولا يغضبني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة، أعطيتهم من النوافل مثلما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتي يوم القيامة، ونورهم مثل نور الأنبياء. وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الأنبياء قبلهم، يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلها، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم: لا اؤاخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم جعلته لهم أضعافا مضاعفة، ولهم عندي أضعاف مضاعفة، وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا، أو قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجبت لهم فإما أن يروه عاجلا وإما أن أصرف عنهم سوءا وإما أن أدخره لهم في الآخرة. يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي، ومن لقيني وقد كذب محمدا وبما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صبا وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار. وإلى غير ذلك من الأخبار الناطفة بأنه صلّى الله عليه وسلم مكتوب نعته في الكتب السماوية قبل أن يطرأ عليها التبديل والتغيير، ومن راجع الآية ٤٧ من سورة العنكبوت في ج ٢ يجد ما يغنيه عن غيرها.

صفحة رقم 437

مطلب عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم:
قال تعالى «قُلْ» يا أكمل الرسل لقومك وللخلق أجمع «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ» وحده «وَرَسُولِهِ» محمد «النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ» مما نزل عليه منها ومما نزل على الأنبياء قبله من أسفار وصحف وكتب، وقرأ بعضهم (كلمته) وأراد بأنها عيسى بن مريم تعريضا باليهود، وتنبيها على أن من لم يؤمن به ويعتقد بأنه من روح الله وأمه صدّيقة طاهرة عذراء لا يعتبر إيمانه، بل هو كافر لأن من لم يؤمن به على هذه الصفة لم يؤمن بالقرآن ومحمد صلّى الله عليه وسلم، وان جاحدهما لا شك بكفره. وهذه القراءة جائزة لأنها من حيث الرسم موافقة، وغاية ما فيها قصر الميم، والقراءة إذا لم يكن فيها نقص حرف أو زيادته لا بأس بها «وَاتَّبِعُوهُ» جميعكم عربكم وعجمكم يهودكم ونصاراكم مجوسكم وصابئتكم، على اختلاف مللكم ونحلكم وأجناسكم وألوانكم والسنتكم «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١٥٨» بهديه إلى طريق الصواب. تشير هذه الآية بوضوح لا مزيد عليه بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم رسول من الله مرسل إلى البشر كافة رسالة عامة، لعموم اللفظ المخاطب به، والأمر فيها للوجوب، مما يدل على صحة دعواه عموم الرسالة للإنس والجن أيضا، راجع تفسير أول الفرقان الآتية والآية ٢٨ من سورة سبأ في ج ٢ والآيتين ١٥ و ٦٩ من سورة المائدة في ج ٣ تعلم بأنه مرسل لمن على الأرض على الإطلاق، لا خصوص العرب كما يقوله بعض أهل الكتاب والمبتدعة والزنادقة وغيرهم ممن لا نصيب لهم في معرفة كتاب الله ولا حظ لهم في الآخرة، وتعلن أيضا بأن الذي أرسله هو مالك الملك والكون ومدبره الإله الواحد الذي لا شريك له القادر على الإحياء والإماتة، ومؤكدة لزوم الإيمان به أولا لأنه الأصل ثم برسوله الموصوف بوصف يميزه عن غيره، ويخصصه بأنه محمد بن عبد الله لا غيره، لأن الإيمان به فرع عن الإيمان بالله، وملزمة عامة الخلق باتباعه فيما يأمر

صفحة رقم 438

وينهى، رجاء الوصول إلى الرشد والصواب، وهذة المتابعة واجبة بالأقوال كلها أما بالأفعال فيفعل ما كان يفعله الرسول من واجبات لم يخص بها نفسه، أما ما خص به نفسه كصوم الوصال والتزوج بأكثر من أربعة وعدم الوجوب عليه في القسم وما شاكل ذلك فلا، راجع الآية ١٤٤ المارة، وأن يتابعه على طريق الندب بما يفعله أيضا مما لم يختص به ويتأدب بآدابه. روى البخاري ومسلم عن جابر قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من الأنبياء قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة. وفي رواية وبعثت إلى الناس عامة بدلا من كل أحمر وأسود. والمراد بالأحمر العجم وبالأسود العرب أو الإنس والجن. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: فضلت على الأنبياء بسته أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون. وعليه فقد ثبت عموم رسالته بالقرآن والحديث قال تعالى «وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ» جماعة عظيمة وطائفة طاهرة مؤمنة «يَهْدُونَ» الناس «بِالْحَقِّ وَبِهِ» أي الحق «يَعْدِلُونَ ١٥٩» بين الناس في أحكامهم.
مطلب ما قضى به صلّى الله عليه وسلم والمراد من قوم موسى:
وهؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية إمّا قوم متمسكون بدين موسى قبل تبديله وتغييره وماتوا عليه، وإما أن تكون بحق من أسلم منهم وحسن إسلامه على عهد محمد صلّى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وعلى هذا تكون هذه الآية من قبيل الآيات المغيبة أي إخبار حضرة الرسول بغيب لم يقع قبل وقوعه، لأن وقت نزول هذه الآية لم يكن عبد الله ولا غيره مسلما من اليهود، والأول أوجه لشموله كل من مات قبل بعثة محمد على دين موسى وعيسى الحقيقيين، والله أعلم، لأن لفظ الآية يدل على الكثرة، وعبد الله وأصحابه فليلون، وما قيل بجواز إطلاق

صفحة رقم 439

الكثرة عليهم بسبب إخلاصهم في الدين على حد قوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) الآية ١٢٠ من سورة النحل في ج ٢ فوجيه، أما ما قيل بأن أحد الأسباط الذين لم يشترك بقتل الأنبياء كان يتبرأ من بقية الأسباط الذين اشتركوا في قتلهم، وسأل الله أن يبعده عنهم، ففتح الله نفقا عبروا منه إلى ما وراء الصين أو هم قوم بأقصى الشرق على نهر يسمى الأردن، وأن رسول الله رآهم ليلة الإسراء وأبلغوه سلام موسى عليه السلام ووصفوهم بأوصاف كاملة وأن الرسول أقرأهم عشر سور من القرآن وأوصاهم بالصلاة والزكاة وبالجمعة وترك السبت، فلم يرد به نقل صحيح، وفيه ما ينفيه لأن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة، وكذلك الجمعة لم تقم إلا هناك، وغير معقول أن يأمرهم بشيء لم يؤمر به بعد وكان نزول أكثر من عشر سور فكيف يقتصر على تعليم عشر فقط وهو مأمور بأن لا يكتم من وحي الله شيئا على أحد، وهذا كاف لبطلان هذا القول والنقل، ومما يدل على عدم صحته أنه صلّى الله عليه وسلم لم يذكر شيئا عن هؤلاء الجماعة في جملة ما ذكره مما رآه ليلة الإسراء لأن هذا أيضا من جملة العجائب، فلو كان لذكره لقومه لهذا لا عبرة به، لأنه من نقل الأخباريين والقصّاص فهو أضعف من الضعيف لا يلتفت إليه البتة، وإنما نقلناه ليطلع عليه القارئ ويردّ على من تكلم به ويفنده له والله أعلم.
قال تعالى «وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً» قبيلة من اثنى عشر ولدا وهم أولاد يعقوب عليه السلام المبينين في تفسير الآية ٩ من سورة يوسف في ج ٢، والسبط ابن الولد ويقال له حفيد كما في الآية ٧٢ من سورة النحل في ج ٢ ولم تتكرر في القرآن، والسبط جاء في سورة البقرة أيضا فقط، والاستعمال الجاري بين الناس أن الحفيد ابن الابن والسبط ابن البنت «أمما» جماعات وطوائف وهو بدل من اثنى عشر والمميز ماعدا العشرة يكون مفردا فعلى القاعدة النحوية يقتضي أن يكون سبطا ولكنه لما كان بمعنى القبيلة وهو المراد هنا والقبيلة أسباط لا سبط واحد وضع أسباط موضع القبيلة «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ» بالتيه لأنهم عطشوا وليس لديهم ماء وفسر الإيحاء بقوله «أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ

صفحة رقم 440
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية