
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٤]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه «١» على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا وألق الألواح، وجرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء، ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذى طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة. وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة: ولما سكن عن موسى الغضب، لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهمزة، وطرفا من تلك الروعة. وقرئ: ولما سكت. وأسكت:
أى أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه وتنصله، والمعنى: ولما طفئ غضبه أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها وَفِي نُسْخَتِها وفيما نسخ منها، أى كتب. والنسخة فعلة بمعنى مفعول كالخطبة لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ دخلت اللام لتقدم المفعول، لأن تأخر الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً. ونحوه لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ وتقول: لك ضربت.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٧]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)

وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أى من قومه، فحذف الجار وأوصل الفعل، كقوله:
ومنّا الّذى اختير الرّجال سماحة «١»
قيل اختار من اثنى عشر سبطا، من كل سبط ستة حتى تناموا اثنين وسبعين، فقال: ليتخلف منكم رجلان، فتشاحوا، فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع.
وروى أنه لم يصب إلا ستين شيخنا، فأوحى الله تعالى إليه أن تختار من الشبان عشرة، فاختارهم فأصبحوا شيوخا. وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين، ولم يتجاوزوا الأربعين، قد ذهب عنهم الجهل والصبا، فأمرهم موسى أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، ثم خرج بهم إلى طور سينا لميفات ربه، وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بنى إسرائيل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم: ادنوا، فدنوا، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجدا، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل.
ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه، فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم، فقالوا: يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فقال: رب أرنى أنظر إليك، يريد: أن يسمعوا الردّ والإنكار من جهته، فأجيب بلن تراني، ورجف بهم الجبل فصعقوا. ولما كانت الرجعة قالَ موسى رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ وهذا تمنّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية، كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة: لو شاء الله لأهلكنى قبل هذا أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا يعنى أتهلكنا جميعاً. يعنى نفسه وإياهم، لأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء، وهم طلبوها سفها وجهلا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أى محنتك وابتلاؤك حين كلمتنى وسمعوا كلامك، فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالا فاسداً، حتى افتتنوا وضلوا تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ تضلّ بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك، وتهدى العالمين
ومنا الذي اختير الرجال سماحة | وجوداً إذا هب الرياح الزعازع |

بك الثابتين بالقول الثابت. وجعل ذلك إضلالا من الله وهدى منه، لأن محنته لما كانت سبباً «١» لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام أَنْتَ وَلِيُّنا مولانا القائم بأمورنا وَاكْتُبْ لَنا وأثبت لنا واقسم فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً عافية وحياة طيبة وتوفيقاً في الطاعة وَفِي الْآخِرَةِ الجنة هُدْنا إِلَيْكَ تبنا إليك. وهاد اليه يهود إذا رجع وتاب. والهود: جمع هائد، وهو التائب. ولبعضهم:
يا راكب الذّنب هدهد | واسجد كأنّك هدهد «٢» |
وعدت، بإخلاص الضمة فيمن قال: عود المريض. وقول القول. ويجوز على هذه اللغة أن يكون هُدْنا بالضم فعلنا من هاده يهيده عَذابِي من حاله وصفته أنى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ أى من وجب علىّ في الحكمة «٣» تعذيبه، ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة. وأمّا رَحْمَتِي فمن حالها وصفتها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتي. وقرأ الحسن: من أساء، من الإساءة. فسأكتب هذه الرحمة كتبة خاصة منكم يا بنى إسرائيل للذين يكونون في آخر الزمان من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون، لا يكافرون بشيء منها الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الذي نوحى إليه كتاباً مختصاً به وهو القرآن النَّبِيَّ صاحب المعجزات الَّذِي يَجِدُونَهُ يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بنى إسرائيل مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ...... وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة، كالشحوم وغيرها. أو ما طاب في الشريعة والحكم، مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح، وما خلى كسبه من السحت وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به أو ما خبث في الحكم، كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيئة. الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه، أى يحبسه من الحراك لثقله
(٢). للزمخشري، شبه ملازمته للذنب بملازمة الراكب للمركوب. وهاد يهود، إذا تاب ورجع. وهد: أمر منه، وكرر للتوكيد. ثم قال: واسجد كأنك هدهد، فشبهه به لكثرة ما يطرق برأسه إلى الأرض لا في السرعة، فالمعنى: اسجد كثيراً.
(٣). قوله «أى من وجب على في الحكمة» هذا عند المعتزلة. وأما أهل السنة فلا يجب على الله تعالى عندهم شيء. (ع)