آيات من القرآن الكريم

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ

القول في تأويل قوله: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما رجع موسى إلى قومه من بني إسرائيل، رجع غضبان أسفًا، لأن الله كان قد أخبره أنه قد فتن قومه، وأن السامري قد أضلّهم، فكان رجوعه غضبان أسفًا لذلك.
* * *
و"الأسف" شدة الغضب، والتغيظ به على من أغضبه، كما:-
١٥١٢٤- حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا عبد السلام بن محمد الحضرمي قال، حدثني شريح بن يزيد قال، سمعت نصر بن علقمة يقول: قال أبو الدرداء: قول الله: "غضبان أسفًا"، قال: "الأسف"، منزلة وراء الغضب،

صفحة رقم 120

أشدُّ من ذلك، وتفسير ذلك في كتاب الله: ذهب إلى قومه غضبان، وذهب أسفًا. (١)
* * *
وقال آخرون في ذلك ما:-
١٥١٢٥- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "أسفًا"، قال: حزينًا.
١٥١٢٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا"، يقول: "أسفًا"، "حزينًا"، وقال في "الزخرف": (فَلَمَّا آسَفُونَا) [سورة الزخرف: ٥٥]، يقول: أغضبونا= و"الأسف"، على وجهين: الغضب، والحزن.
١٥١٢٧- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا سليمان بن سليمان قال، حدثنا مالك بن دينار قال، سمعت الحسن يقول في قوله: "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا"، قال: غضبان حزينًا.
* * *
وقوله: "قال بئسما خلفتموني من بعدي"، يقول: بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم وأوليتموني فيمن خلفت ورائي من قومي فيكم، وديني الذي أمركم به ربكم. يقال منه: "خلفه بخير"، و"خلفه بشر"، إذا أولاه في أهله أو قومه ومن كان منه بسبيل من بعد شخوصه عنهم، خيرًا أو شرًّا. (٢)
* * *
وقوله: "أعجلتم أمر ربكم"، يقول: أسبقتم أمر ربكم في نفوسكم، وذهبتم عنه؟
* * *

(١) الأثر: ١٥١٢٤ - ((عبد السلام بن محمد الحضرمى))، يعرف ب ((سليم))، مترجم في التهذيب، وقال: ((وقد ذكره البخاري فلم يذكر فيه جرحاً))، وابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٤٨، وذكره ابن حبان في الثقات. و ((شريح بن يزيد الحضرمى))، ((أبو حيوة))، لم يذكر فيه البخاري جرحاً، ووثقه ابن حبان. ممترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/٢٣١.
و ((نصر بن علقمة الحضرمى))، ((أبو علقمة))، وثقه دحيم وابن حبان، ولم يذكر فيه البخاري جرحاً. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/١٠٢، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٤٦٩، وروايته عن أبي الدرداء مرسلة.
(٢) (١) انظر تفسير ((خلف)) فيما سلف ص: ٨٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.

صفحة رقم 121

يقال منه: "عجل فلان هذا الأمر"، إذا سبقه = و"عجل فلانٌ فلانًا"، إذا سبقه = "ولا تَعْجَلْني يا فلان"، لا تذهب عني وتدعني= و"أعجلته": استحثثته.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وألقى موسى الألواح.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في سبب إلقائه إياها.
فقال بعضهم: ألقاها غضبًا على قومه الذين عبدوا العجل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٢٨- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا، فأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، وألقى الألواح من الغضب.
١٥١٢٩- وحدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا ابن عيينة قال، قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما رجع

صفحة رقم 122

موسى إلى قومه، وكان قريبًا منهم، سمع أصواتهم، فقال: إني لأسمع أصواتَ قومٍ لاهين: فلما عاينهم وقد عكفوا على العجل، ألقى الألواح فكسرها، وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
١٥١٣٠- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أخذ موسى الألواح، ثم رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا، فقال: (يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا)، إلى قوله: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [سورة طه: ٨٦-٨٧]، فألقى موسى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه= (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) [سورة طه: ٩٤].
١٥١٣١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما انتهى موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، ألقى الألواح من يده، ثم أخذ برأس أخيه ولحيته، ويقول: (مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [سورة طه: ٩٢، ٩٣].
* * *
وقال آخرون: إنما ألقى موسى الألواح لفضائل أصابها فيها لغير قومه، فاشتدّ ذلك عليه.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٣٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "أخذ الألواح"، قال: رب، إني أجد في الألواح أمةً خيرَ أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون= أي آخرون في الخلق= السابقون في دخول الجنة، (١) رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد!

(١) (١) في المطبوعة: ((الآخرون السابقون = أي: آخرون في الخلق، سابقون في دخول الجنة))، وأثبت ما في المخطوطة.

صفحة رقم 123

قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرأونها،= وكان من قبلهم يقرأون كتابهم نظرًا، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئًا، ولم يعرفوه. قال قتادة: وإن الله أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئًا لم يعطه أحدًا من الأمم = قال: ربِّ اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فضول الضلالة، حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم، ثم يؤجرون عليها= وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه، بعث الله عليها نارًا فأكلتها، وإن ردَّت عليه تركت تأكلها الطير والسباع. قال: وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم= قال: رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة، رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها، فإذا عملها كتبت عليه سيئة واحدة، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفَّعون والمشفوع لهم، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: وذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد! قال: فأعطي نبي الله موسى عليه السلام ثنتين لم يعطهما نبيٌّ، قال الله: (يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي)، [سورة الأعراف: ١٤٣]. قال: فرضي نبي الله. ثم أعطي الثانية: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [سورة الأعراف: ١٥٩]، قال: فرضي نبي الله ﷺ كل الرضى.
١٥١٣٣- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: لما أخذ موسى الألواح قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم خير الأمم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد، ثم ذكر نحو حديث بشر بن معاذ= إلا أنه قال في حديثه: فألقى موسى عليه السلام الألواح، وقال: اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليهما.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك، أن يكون سبب إلقاء موسى الألواح كان من أجل غضبه على قومه لعبادتهم العجل، لأن الله جل ثناؤه بذلك أخبر في كتابه فقال: "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه".
* * *
وذكر أن الله لما كتب لموسى عليه السلام في الألواح التوراة، (١) أدناه منه حتى سمع صريف القلم.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٣٤- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي عمارة، عن علي عليه السلام قال: كتب الله الألواح لموسى عليه السلام، (٢) وهو يسمع صريف الأقلام في الألواح.
١٥١٣٥-.... قال حدثنا إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد

(١) (١) في المطبوعة: ((وذلك أن الله لما كتب))، والصواب في المخطوطة.
(٢) (٢) في المطبوعة: ((لما كتب الله الألواح))، والصواب حذف ((لما)) كما في المخطوطة.

صفحة رقم 124

بن جبير قال: أدناه حتى سمع صريف الأقلام. (١)
* * *
وقيل: إن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى موسى الألواح تكسرت، فرفع منها ستة أسباعها، وكان فيما رفع "تفصيل كل شيء"، الذي قال الله: "وَكَتَبْنَا لَهْ فِي اْلألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ" وبقي الهدى والرحمة في السبع الباقي، وهو الذي قال الله: (أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)، [سورة الأعراف: ١٥٤].
* * *
وكانت التوراة فيما ذكر سبعين وَقْر بعير، يقرأ منها الجزء في سنة، كما:-
١٥١٣٦- حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن خالد المكفوف قال، حدثنا عبد الرحمن، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس قال: أنزلت التوراة وهي سبعون وَقْر بعير، يقرأ منها الجزء في سنة، لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى بن عمران، وعيسى، وعزير، ويوشع بن نون، صلوات الله عليهم.
* * *
واختلفوا في "الألواح".
فقال بعضهم: كانت من زُمرد أخضر.
* * *
وقال بعضهم: كانت من ياقوت.
* * *
وقال بعضهم: كانت من بَرَد.
* * *
* ذكر الرواية بما ذكرنا من ذلك.
١٥١٣٧- حدثني أحمد بن إبراهيم الدَّورقي قال، حدثنا حجاج بن محمد،

(١) (١) الأثر: ١٥١٣٥ - وضعت النقط في هذا الخبر، للدلالة على أن هذا الإسناد ملحق بالإسناد السالف، وصدره هكذا: ((حدثني الحارث قال، حثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل....)).

صفحة رقم 126

عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ألقى موسى الألواح فتكسرت، فرفعت إلا سدسها= قال ابن جريج: وأخبرني أن الألواح من زبرجد وزمرد من الجنة.
١٥١٣٨- وحدثني موسى بن سهل الرملي، وعلي بن داود، وعبد الله بن أحمد بن شبويه، وأحمد بن الحسن الترمذي قالوا، أخبرنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كانت ألواح موسى عليه السلام من بَرَد. (١)
١٥١٣٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن أبي الجنيد، عن جعفر بن أبي المغيرة قال: سألت سعيد بن جبير عن الألواح، من أي شيء كانت؟ قال: كانت من ياقوتة، كتابة الذهب، كتبها الرحمن بيده، فسمع أهل السموات صريف القلم وهو يكتبها.
١٥١٤٠- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا عبد الرحمن، عن محمد بن أبي الوضاح، عن خصيف، عن مجاهد أو سعيد بن جبير قال: كانت الألواح زمردًا، فلما ألقى موسى الألواح بقي الهدى والرحمة، وذهب التفصيل.
١٥١٤١- قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا الأشجعي، عن محمد بن مسلم، عن خصيف، عن مجاهد قال: كانت الألواح من زمرد أخضر.
* * *
وزعم بعضهم: أن الألواح كانت لوحين. فإن كان الذي قال كما قال، فإنه قيل: "وكتبنا له في الألواح"، وهما لوحان، كما قيل: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ) [سورة النساء: ١١]، وهما أخوان. (٢)
* * *

(١) (١) الأثر ١٥١٣٨ - انظر الأثر رقم ٩١٤، والتعليق عليه.
(٢) (٢) انظر ما قال في الجمع، والمراد به اثنان فيما سلف ٨: ٤١ - ٤٤، ومعاني القرآن للفراء ١: ٣٩٤.

صفحة رقم 127

أما قوله: "وأخذ برأس أخيه يجره إليه"، فإن ذلك من فعل نبي الله ﷺ كان، لموجدته على أخيه هارون في تركه أتباعه، وإقامته مع بني إسرائيل في الموضع الذي تركهم فيه، كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل موسى عليه السلام له: (مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) ؟ [سورة طه: ٩٢، ٩٣]، حين أخبره هارون بعذره فقبل عذره، وذلك قيله لموسى: (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)، [سورة طه: ٩٤]، وقال: "يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء"، الآية:
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: "يا ابن أم".
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض أهل البصرة: (يَا ابْنَ أُمَّ) بفتح "الميم" من "الأم".
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: (يَا ابْنَ أُمِّ) بكسر "الميم" من الأم.
* * *
واختلف أهل العربية في فتح ذلك وكسره، مع إجماع جميعهم على أنهما لغتان مستعملتان في العرب.
فقال بعض نحويي البصرة: قيل ذلك بالفتح، على أنهما اسمان جعلا اسمًا واحدًا، كما قيل: "يا ابن عمَّ"، وقال: هذا شاذ لا يقاس عليه.
وقال: من قرأ ذلك: "يا ابن أمِّ"، فهو على لغة الذين يقولون: "هذا غلامِ قد جاء؟ "، جعله اسمًا واحدًا آخره مكسور، مثل قوله: "خازِ باز". (١)
* * *

(١) (١) ((الخازباز))، هو ضرب من الذبان، و ((خاز)) و ((باز)) صوتان من صوت الذباب، فجعلا واحداً، وبنيا على الكسر، لا يتغير في الرفع والنصب والجر.

صفحة رقم 128

وقال بعض نحويي الكوفة: قيل: "يا ابن أمَّ" و "يا ابن عمَّ"، فنصب كما ينصب المعرب في بعض الحالات، فيقال: "يا حسرتا"، "يا ويلتا". قال: فكأنهم قالوا: "يا أماه"، و"يا عماه"، ولم يقولوا ذلك في "أخ"، ولو قيل ذلك لكان صوابًا. قال: والذين خفضوا ذلك، فإنه كثر في كلامهم حتى حذفوا الياء. قال: ولا تكاد العرب تحذف "الياء" إلا من الاسم المنادَى يضيفه المنادِي إلى نفسه، إلا قولهم: "يا ابن أمِّ" و"يا ابن عمِّ"، وذلك أنهما يكثر استعمالهما في كلامهم، فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا "الياء" فقالوا: "يا ابن أبي" و"يا ابن أختي، وأخي"، و"يا ابن خالتي"، و"يا ابن خالي". (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إذا فتحت "الميم" من "ابن أم"، فمرادٌ به الندبة: يا ابن أماه، وكذلك من "ابن عم". فإذا كسرت فمرادٌ به الإضافة، ثم حذفت "الياء" التي هي كناية اسم المخبر عن نفسه. وكأن بعض من أنكر تشبيه كسر ذلك إذا كسر ككسر الزاي من "خاز باز"، (٢) لأن "خاز باز" لا يعرف الثاني إلا بالأول، ولا الأول إلا بالثاني، فصار كالأصوات.
وحكي عن يونس الجرمي تأنيث "أم" وتأنيث "عم"، (٣) وقال: لا يجعل اسمًا واحدًا إلا مع "ابن" المذكر. قالوا: وأما اللغة الجيدة والقياسُ الصحيح، فلغة من قال: "يا ابن أمي" بإثبات "الياء"، كما قال أبو زبيد:
يَا ابْنَ أُمِّي، وَيَا شُقَيِّقَ نَفْسِي أَنْتَ خَلَّفْتَني لِدَهْرٍ شَدِيدِ (٤)

(١) (١) هذه كلها مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ٣٩٤.
(٢) (٢) في المطبوعة والمخطوطة:
((من أنكر نسبته كسر ذلك ))، وصواب قراءته ما أثبته ((تشبيه)).
(٣) (٣) ((يونس الجرمى))، هكذا جاء هنا أيضاً، وانظر ما سلف ١٠: ١٢٠، تعليق: ١، ثم ١١: ٥٤٤، تعليق: ٣، وما سيأتي ص: ١٣٨.
(٤) (٤) أمالي اليزيدي ٩، جمهرة أشعار العرب: ١٣٩ واللسان (شقق)، وشواهد العينى (هامش خزانة الأدب) : ٤: ٢٢٢، وغيرها. من قصيدة مختارة، يرثى ابن أخته اللجلاج، ويقال: يرثى أخاه اللجلاج، ويروى البيت: يَا ابْنَ خَنْسَاء، شِقَّ نَفْسِيَ يَا لَجْلاجُ، خَلَّيْتَنِى لِدَهْرٍ شَدِيدِ وأما هذه الرواية، فهي رواية النحاة جميعًا في كتبهم في باب النداء. يقول فيها:
كُلَّ مَيْتٍ قَدِ اغْتَفَرْتُ، فلا أُو جع مِنْ وَالِدٍ وَلا مَوْلُودِ
غَيْرَ أَنَّ اللَّجْلاجَ هَدَّ جَنَاحِي يَوْمَ فَارَقْتُهُ بِأَعْلَى الصَّعِيدِ
فِي ضَرٍيحٍ عَلَيْهِ عِبْءٌ ثَقِيلٌ مِنْ تُرَابٍ وجَنْدَلٍ مَنْضُودِ
عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ عِنْدَ صَدٍ حَرَّ انَ يَدْعُو بِاللَّيْلِ غَيْرَ مَعُودِ
صَادِيًا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ وَلَقَدْ كَانَ عُصْرة المَنْجُودِ
وقوله: ((شقيق)) تصغير ((شقيق))، وهو الأخ.

صفحة رقم 129

وكما قال الآخر: (١)
يَا ابْنَ أُمِّي! وَلَوْ شَهِدْتُكَ إِذْ تَدْ عُو تَمِيمًا وَأَنْتَ غَيْرُ مُجَابِ (٢)

(١) (١) هو غلفاء بن الحارث، وهو معد يكرب بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندى، وهو عم امرئ القيس بن حجر إمام الشعراء. وسمى ((غلفاء))، لأنه كان يغلف رأسه بالمسك. ويقال: هو أول من فعل ذلك.
(٢) (٢) النقائض: ٤٥٧، ١٠٧٧، الوحشيات رقم: ٢١٣، الأغاني: ١٢: ٢١٣، من قصيدة يرثي بها أخاه شرحبيل بن الحارث، قتيل يوم الكلاب الول (انظر خبر ذلك في النقائض، والأغاني)، يقول قبله، وهو أول الشعر: ...................... يَا ابْنَ أُمِّي................
إِنَّ جَنْبِي عَنِ الفِرَاشِ لَنَابِي كَتَاجَافِي الأسَرِّ فَوْقَ الظِّرَابِ
مِنْ حَدِيثٍ نَمَى إلَيّ فَلا تَرْ قَأُ عَيْنِي، وَلا أُسِيغُ شَرَابِي
مُرَّةٌ كَالذِّعَافِ أكْتُمُهَا النَّا سَ، عَلَى حَرِّ مَلَّةٍ كالشِّهَابِ
مِنْ شُرْحَبِيلَ إِذْ تَعَاوَرُه الأرْ مَاحُ فِي حَالِ لَذَّةٍ وشَبَابِ
لَتَرَكْتُ الحُسَامَ تَجْرِي ظُبَاهُ مِنْ دِمَاءِ الأعْدَاءِ يَوْمَ الكُلابِ
ثُمَّ طَاعَنْتُ مِنْ وَرَائِكَ حَتَّى تَبْلُغَ الرُّحْبَ، أو تُبَزَّ ثيَابي
وقوله: ((الأسر))، هو البعير تخرج في كركرته قرحة لا يقدر معها أن يبرك إلا على مستو من الأرض. وفي ((الظراب)) : جمع ((ظرب)) (بفتح ثم كسر)، وهو من الحجارة ما كان ناتئاً في جبل أو أرض خربة، وكان طرفه الناتئ محدداً. و ((الملة)) (بفتح الميم) : الرماد الحار.

صفحة رقم 130

وإنما أثبت هؤلاء الياء في "الأم"، لأنها غير مناداة، وإنما المنادى هو "الابن" دونها. وإنما تسقط العرب "الياء" من المنادى إذا أضافته إلى نفسها، لا إذا أضافته إلى غير نفسها، كما قد بينا. (١)
* * *
وقيل: إن هارون إنما قال لموسى عليه السلام: "يا ابن أم"، ولم يقل: "يا ابن أبي"، وهما لأب واحد وأم واحدة، استعطافا له على نفسه برحم الأم. (٢)
* * *
وقوله: "إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني"، يعني بالقوم، الذين عكفوا على عبادة العجل وقالوا: "هذا إلهنا وإله موسى"، وخالفوا هارون. وكان استضعافهم إياه: تركهم طاعته واتباع أمره= (٣) = "وكادوا يقتلونني"، يقول: قاربوا ولم يفعلوا. (٤)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: "فلا تشمت".
فقرأ قرأة الأمصار ذلك: (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ)، بضم "التاء" من "تشمت" وكسر "الميم" منها، من قولهم: "أشمت فلان فلانًا بفلان"، إذا سره فيه بما يكرهه المشمت به.
* * *
وروي عن مجاهد أنه قرأ ذلك: (فَلا تَشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ).
١٥١٤٢- حدثني بذلك عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال حميد بن قيس: قرأ مجاهد: (فَلا تَشْمِتْ بِيَ الأعَدَاءُ).
١٥١٤٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن حميد قال: قرأ مجاهد: (فَلا تَشْمِتْ بِيَ الأعَدَاءُ).
١٥١٤٤- حدثت عن يحيى بن زياد الفراء قال، حدثنا سفيان بن عيينة،

(١) (١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٩٤.
(٢) (١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٩٤.
(٣) (٢) انظر تفسير ((استضعف)) فيما سلف ص: ٧٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) (٣) انظر تفسير ((كاد)) فيما سلف ٢: ٢١٨.

صفحة رقم 131

عن رجل، عن مجاهد، أنه قال: (لا تُشْمِتْ). (١)
* * *
وقال الفراء: قال الكسائي: ما أدرى، فلعلهم أرادوا: فلا تشمت بي الأعداءُ، فإن تكن صحيحة فلها نظائر. العرب تقول: "فَرِغت وفَرَغت"، فمن قال: "فَرغت"، قال: "أنا أفرُغ"، ومن قال: "فرِغت"، قال: "أنا أفرَغُ"، وكذلك: "ركِنت" "وركَنت"، و"شمِلهم أمرٌ" (٢) "وشمَلهم"، (٣) في كثير من الكلام. قال: "والأعداء" رفع، لأن الفعل لهم، لمن قال: "تشمَت" أو "تشمِت". (٤)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز القراءة إلا بها، قراءةُ من قرأ: (فَلا تُشْمِتْ) : بضم "التاء" الأولى، وكسر "الميم" من: "أشمتُّ به عدوه أشمته به"، ونصبِ "الأعداء"، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليها، وشذوذ ما خالفها من القراءة، وكفى بذلك شاهدا على ما خالفها. هذا مع إنكار معرفة عامة أهل العلم بكلام العرب: "شمت فلان فلانًا بفلان"، و"شمت فلان بفلان يشمِت به"، وإنما المعروف من كلامهم إذا أخبروا عن شماتة الرجل بعدوِّه: "شمِت به" بكسر "الميم": "يشمَت به"، بفتحها في الاستقبال.
* * *
وأما قوله: "ولا تجعلني مع القوم الظالمين"، فإنه قولُ هارون لأخيه موسى. يقول: لا تجعلني في موجدتك عليَّ وعقوبتك لي ولم أخالف أمرك، محلَّ من عصاك فخالف أمرك، وعبد العجل بعدك، فظلم نفسه، وعبد غيرَ من له العبادة، ولم أشايعهم على شيء من ذلك، كما:-

(١) (١) الأثر: ١٥١٤٤ - رواه الفراء في معاني القرآن ١: ٣٩٤، وقال عند قوله: ((عن رجل)) :((أظنه الأعرج))، يعني: ((حميد بن قيس المكى)) المذكور في الإسنادين السالفين.
(٢) (٢) في المطبوعة والمخطوطة: ((ركبت وركبت))، والصواب في معاني القرآن للفراء.
(٣) (٣) في معاني القرآن: ((وشملهم شر)).
(٤) (٤) معاني القرآن للفراء ١: ٣٩٤.

صفحة رقم 132
جامع البيان في تأويل آي القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري
تحقيق
أحمد شاكر
الناشر
مؤسسة الرسالة
الطبعة
الأولى، 1420 ه - 2000 م
عدد الأجزاء
24
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية